جناية العقل الفقهي على العلم (1-2)
عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن
-
العدد: 2999 - 2010 / 5 / 8 - 15:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جناية العقل الفقهي على العلم (1-2)
لقد جرت معارك ضارية بين العقل الكهنوتي والعقل العلمي في أوروبا، فكانت قيادة العقل الكهنوتي بيد رجال الفقه في الدين المسيحي، وقيادة العقل العلمي بيد رجال العقل والبحث العلمي من أمثال غاليلو وغيره، واسفرت تلك المعارك عن قتل وحرق وتكفير مجموعة من العقلاء الذين تأسست الحضارة الغربية على نظرياتهم المعرفية والفلسفية، والتي بدورها حجمت من سطوة رجال الكنيسة على شؤون الدولة والشأن العام، وحصرت دور رجال الدين في الجانب الروحي والوعظي. ومنذ انتصار العقل العلمي في أوروبا على العقل الكهنوني الفقهي كانت الابداعات والاختراعات العلمية والمعرفية والتكلولوجية تتوالى وتنتشر ليس في أوروبا فقط وإنما على مستوى الكرة الارضية قاطبة، ولعل العاقل الناظر في منتجات العقل العلمي الاوروبي من خلال اختراعاته الطبية أو الهندسية أو الفلكية أو القانونية لا يجد بد من احترام وتقدير العقل العلمي ومنتجاته المعرفية والعلمية والاستكشافية.
وقبل الولوج في صلب الموضوع وطرح الاشكالات المعرفية حول جناية العقل الفقهي على الأمة المسلمة، لابد من التأكيد على أن المعركة بين العقل العلمي والعقل الفقهي في تاريخ الاسلام قد دارت رحاها قبل صراع العقل العلمي والكهنوتي في أوروبا بمئات السنين، حيث اسفرت تلك المعارك الضارية عن انتصار العقل الفقهي ( التسليمي ) على العقل العلمي ( الاستكشافي )، وبالتالي حرمت الأمة والبشرية مبكرا من الاستفادة من نظريات العقل العلمي في عمليات استكشاف سنن الكون وقوانين العلوم الانسانية، ولكن وللآسف الشديد عاشت الأمة ردحا من الزمان بدون معرفة قوانين الجاذبية، ولا موارد الطاقة ... الخ وذلك ببركة انقيادها وتسليمها زمام أمرها للعقل الفقهي !!
ضرورة التفريق بين العلماء والفقهاء.
بادي ذي بدء لابد من التفريق بين مصطلح العالم والفقيه؛ فالعالم هو من يدرس العلم – أيا كان هذا العلم - ثم ينتقده ويضيف إليه الجديد. أما الفقيه أو المدرس هو الذي يدرس المادة ويحفظ عناوينها ومفرداتها ومضامينها دون نقدها والاضافة إليها، وقد أصاب العقل الفقهي حينما اطلق اسم الحافظ على أئمة المذاهب والتخصصات الفروعية كالإمام الحافظ، والحافظ العدل، والحافظ الحجة، وكان رحمه الله يحفظ ألف ألف ألف حديث وفي ذات الوقت لا يعلم الناسخ والمنسوخ من الحديث، ولا العام من الخاص، ولا المطلق من المقيد، ولا المحكم من المتشهابه وهكذا دواليك. ومن هنا صار- ولا زال- الحافظ عند العقل الفقهي يتمتع بلقب العالم والعلماء والائمة، وهذا لمجرد حفظه للمعلومات والمتون والمنظومات واستذكارها كما حفظها بدون نقص ولا زيادة (=عقل حافظ استذكاري). يؤكد الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: للحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا، وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم، والمعرفة بالتجريح والتعديل.....( النكت، لابن حجر)، وذكر الحافظ السيوطي في مقدمته لتدريب الراوي: أن من جمع هذه الثلاث كان فقيها محدثا كاملا، ومن انفرد باثنين منها كان دونه، إلا أن من اقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف، لاحظ له في اسم الفقيه، كما أن من انفرد بالأول فلاحظ له في اسم المحدث، ومن انفرد بالأول والثاني فهل يسمى محدثا. فيه بحث؟. ( تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي)
بينما وصف العالم عند العقلاء من الأمم لا تطلق على من يحفظ المعلومة ويستذكرها (= عملية اجترار المعلومة) وإنما على من درس المعلومة ثم وضعها تحت البحث العلمي دون تقديس ولا تدنيس، ثم أضاف إليها الجديد سواء بالحذف أو الزيادة أو التعديل. فمثلا من يدرس مادة الكيمياء أو الفلسفة لمدة أربعين سنة بحيث يحفظ كل مفردات الكيمياء أو الفلسفة ويستذكرها متى طلب منه، فهذا المدرس عند العقلاء من الأمم لا يطلق عليه لقب العالم الكيميائي ولا العالم الفيلسوف، وإنما يتمتع باحترام الجميع ويطلق عليه لقب مدرس الكيمياء أو معلم الفلسفة، ولكن مجرد تحول هذا المدرس أو المعلم من دائرة الحفظ والاستذكار إلى دائرة النقد والاضافة يصبح من حقه التمتع بلقب العالم الكيميائي أو العالم الفيلسوف. كذلك يصدق على من يحفط ويدرس العلوم الدينية من أصول وفقه ومتون وشروح دون نقد وإضافة أنه مدرس أو معلم أو حافظ لذلك الفن أو التخصص ولكنه لا يصدق عليه لقب العالم ولو درس تلك المادة أربعين سنة، ولكن وللاسف أن من يحفظ المعلومة ويستذكرها كما هي يصبح عند المسلمين من العلماء الذين يلجأ إليهم عند الشدائد وسلوك سبل النهضة والتقدم والتجديد !!
بداية المعركة بين الفقهاء والعلماء.
يحلو للعقل الفقهي( التمجيدي ) بمختلف مذاهبه السنية والشيعية في مناظراته وحواراته مع الغير أن يتترس باغلوطة تاريخية معروفة مفاداها؛ إن علماء المسلمين قد سبقوا الغرب في سباق العلوم والمعارف والتقدم؛ ويستدل العقل التمجيدي على تلك الاغلوطة بابن سينا، والكندي، والفارابي، وابن رشد، وابن الهيثيم، وابن النفيس، وابن مرداس، والرازي، وابن حيان وغيرهم من الاسماء العلمية المعروفة في تاريخ الحضارة الشرقية والغربية، ولكن استدلاله بهذه الاسماء على اعتبار أنها من علماء المسلمين هنا تكمن الاغلوطة والاشكال، لأن هذه الاسماء وغيرها تعد في قاموس العقل الفقهي والإيدلوجي من الزنادقة الكافرين المارقين من ربقة الاسلام، وبالتالى يصبح ضم تلك الاسماء العلمية إلى علماء الاسلام كضم غاليلو وفولتير وغيرهم إلى علماء الكنيسة، ومن المعلوم أن معركة تكفير وقتل العلماء كغاليلو كانت بقيادة الكنيسة وبفتاوى العقل الكنهوتي ولكن العقل العلمي انتصر على العقل الكنهوتي والكنيسة لدرجة تقييد سلطة الكنيسة وحملها على أن تعيد النظر في نصوصها المقدسة وتفتح المجال أمام العقلاء لقراءات متعددة للكتاب المقدس وتأويل تفسيرات رجال الدين القديمة بما يناسب قيم النهضة من حريات وحقوق إنسان، وبتلك الدفعة من قبل العقل العلمي ومفكري عصر الأنوار خرج العقل الأوروبي من الانسداد التاريخي والانسداد الافقي إلى رحابة الحاضر وسعة المستقبل في إطار قيم الحرية والعقلانية واحترام الانسان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
أدوات العقل الفقهي في معركته مع العلماء.
يعتمد العقل الفقهي في معركته مع العقلاء على الخطاب الوعظي العاطفي، ويتمحور حول تثوير عواطف العوام واستدرار مشاعرهم باسم الدين وحماية الدين من أعدائه خاصة الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ثم الاستعانة بسيف السلطان، فمثلا العقل الفقهي في معركته مع الفلاسفة والعلماء من أمثال ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد، لا يطرح مناقشة الافكار والنظريات العلمية لهؤلاء – ولعله لا يفهم لغتهم- وإنما يقدم هؤلاء على أساس أنهم كفار أخذوا علوم الكفر واتبعوا الشيطان وعبدوا غير الرحمن. وهذا ما حصل مع ابن سينا الذي استفادت من نظرياته النهضة الأوروبية، فقد قدم للعوام والحفاظ على أساس أنه لا يعبد إلها، ولا يؤمن برسول، ويشرب الخمر، ويزنى، ثم أنه من القرامطة الكفار، ومعلوم أن ابن سينا له كتب عدة في إثبات الإلهيات، ورسالة في إثبات النبوات يثبت فيها النبوة والوحي والملائكة والغيبيات، ويبدو أن هذه الكتب كلها لا قيمة لها في أجواء المعركة والخوف على المصالح وضياع المكانة الاجتماعية، وبالتالى استطاع العقل الفقهي بتلك التوظيفية الانتصار لمصالحه الآنية وتفويت مصلحة الامة من الاستفادة من هؤلاء العلماء وإحداث النقلة النوعية في سبيل النهضة والتحرر. نحاول عرض نموذجين لإثبات جناية العقل الفقهي على مصالح الأمة وتدمير العقل الابداعي فيها- وللآسف لا زال يمارس جنايته إلى الآن-، النموذج الأول ابن سينا، والنموذج الثاني ابن رشد.
-النموذج الأول: ابن سينا: هو الحسين بن عبد الله البلخي ثم البخاري، الطبيب الفيلسوف، ولد ( 370هـ) وتوفي (428). ترك مكتبة ضخمة ومتنوعة في مجالات متنوعة في الحكمة، والطب، والمنطق، والرياضيات، والميتافيزيقا، والنبوة، والسياسة. ويعرف في المؤسسات العلمية في الغرب باسم ( Avicenne) .
قال عنه الحافظ ابن القيم الحنبلي في إغاثة اللهفان في المجلد الثاني، إن ابن سينا:...كان من أهل دعوة الحاكم؛ فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى، وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول، وهو وأهل بيته برآء منهم نسبا ودينا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، ولا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا....
وبعد هذه المقدمة العاطفية التي تكفي بتنفير الناس من ابن سينا، يصدر ابن القيم حكمه النهائي فيقول: ابن سينا إمام الملحدين. ( انظر إغاثة اللهفان المجلد الثاني) وقد سبقه إلى هذا الحكم شيخه الحافظ ابن تيمية حين قال: ابن سينا وأمثاله هؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب. (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية)
وأكد الحافظ الذهبي الحنبلي على ذلك بقول: ابن سينا أن له كتاب الشفاء وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال.... وهو رأس الفلاسفة الإسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله. فالحمد لله على الإسلام والسنة. ( انظر سير أعلام النبلاء، للذهبي، المجلد السابع عشر)
ولم يفوت الحافظ ابن حجر الشافعي تنفير اتباعه من هؤلاء العلماء بذات الطريقة العاطفية التوظيفية فقال: قال ابن أبي الحموي الفقيه الشافعي... وقد اتفق العلماء على أن ابن سينا كان يقول بِقِدَمِ العالَم ونفي المعاد الجسماني، ونقل عنه أنه قال إن الله لا يعلم الجزئيات بعلم جزئي بل بعلم كلي، فقطع علماء زمانه ومن بعدهم من الأئمة - ممن يعتبر قولهم أصولا وفروعا- بكفره وبكفرِ أبي نصر الفارابي من أجل اعتقاد هذه المسائل وأنها خلاف اعتقاد المسلمين. ( لسان الميزان، لابن حجر ، المجلد الثاني)
أثر ابن سينا في نهضة أوروبا.
بكل وضوح وصراحة فإن العقل الفقهي قد سعى في إلغاء ابن سينا وعلومه، وبالتالي قد حرم الأمة من الاستفادة جهوده العلمية، ولكن بعد مئات السنين يأتي العقل العلمي الحديث الأوروبي ويكتشف كتابات ابن سينا ونظرياته العلمية ويحتفي به إيما احتفاء من حيث الاحترام والتقدير، والاستفادة من تنظيره في الجوانب المعرفية والعلمية، وبلغت مكانته درجة التأثير في مفكري القرون الوسطى خاصة ألبرتو الكبير، وتوما الإكويني، كما ذكر غسان فنيانوس في مقاله تأثير العرب في نهضة الفكر الغربي حيث قال:....وابن سينا الفيلسوف عالم أيضا في الرياضيات والجيولوجيا والنبات والحيوان وعلم النفس والموسيقى. ولعلمه أثره وصداه في تاريخ العلم العربي بعامة والغربي بخاصة. وقد قدّر روجي باكون والبرتو الكبير موقف ابن سينا حق قدره من تلك القضية الخاطئة التي شاعت في التاريخ القديم والمتوسط لدى بعض الكيميائيين الذين كانوا يزعمون أنّ في الإمكان تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة. وقد أنكر ابن سينا هذا إنكارا تاما، واستطاع أن يُصحِّح مسار البحث الكيميائي وأن يُمهِّد لعلم الكيمياء الحديث. وقال ابن سينا أيضا، مع بعض المفكرين السابقين، بكروية الأرض، فمهّد لأمثال كوبرنيك ( المتوفى عام 1543) وجالايلي (المتوفى عام 1642) وحاول في الجيولوجيا أن يوضح كيفية تكوين الصخور والجبال، وساعد على وضع نظرية البراكين التي عرفت في القرن السابع عشر. ولم يفت فيلسوف اللغة العربية أن يستعين في بحوثه العلمية بالملاحظة والتجربة، ويمكن أن يعد بهذا من بناة المنهج التجريبي، وربما كان هذا من عوامل القربى بينه وبين روجي باكون .
كما لا يخفى فإن ابن سينا طبيب، وهو يعد من كبار الأطباء العالميين. وكتابه القانون أكبر موسوعة طبية وصلت إلينا من القرون الوسطى. ولم تكن شهرته عظيمة في الشرق فحسب.... بل تجاوزته إلى الغرب فترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر وظل أثره في أوروبة دون منافس حتى في القرن السابع عشر. وقد جاء في المجلة التي يصدرها اليونسكو " بريد اليونسكو " تشرين الأول 1980 أن كتاب القانون بقي يدرس في جامعة بروكسل حتى في عام 1909.
بل لم تجد الباحثة الفرنسيّة Goichon في ختام كتابها La philosophie d’Avicenne et son . influence en Europe médiévale (فلسفة ابن سينا وأثرها في أوربة الوسيطية) من التأكيد على دور ابن سينا الريادي في نهضة أوروبا حيث قالت: لا توجد أية دراسة حول مفكر من مفكري القرون الوسطى لا تبحث علاقاته مع فلسفة ابن سينا. وبقدر ما تكون هذه الدراسات عميقة، نرى أن ابن سينا لم يكن فقط مصدرا استمد منه مفكرو القرون الوسطى معلوماتهم ومعارفهم، وإنّما هو أيضا أحد مُلهمي أفكارهم. ولو لم يكن ابن سينا موجودا، فلا أحد يدري ما سيكون عليه الفكر في القرون الوسطى.
ولأهمية ابن سينا هذه من الأسباب التي حملت روجي باكون على القول إنّ المعرفة قد انتقلت إلى العالم مرتين بشكل تام باللغة العبريّة، الأولى عن طريق الأنبياء، والثانية عن طريق سليمان الحكيم؛ ومرتين أخريين بشكل غير تام، الأولى عن طريق أرسطو وباللغة اليونانيّة، والثانية عن طريق ابن سينا وباللغة العربيّة. ( للمزيد انظر: موسوعة دهشة، بتصرف لطول المقال)
والمفارقة الغريبة تكمن في هذا الاحتفاء والاحترام والاستفادة من قبل العقل العلمي الأوروبي الذي يؤكد على مركزية فكر ابن سينا في نهضته كما جاء على لسان الباحثة الفرنسية... ولو لم يكن ابن سينا موجودا، فلا أحد يدري ما سيكون عليه الفكر في القرون الوسطى. بينما العقل الفقهي يتنكر لمجهودات ابن سينا المعرفية بالادانة والتجريم والتحريق؛ بل يخر ساجدا شكرا لله على استأصال شفة ابن سينا واضرابه كما قال الذهبي: ....لم يأت بعد الفارابي مثله- أي مثل ابن سينا-. فالحمد لله على الإسلام والسنة. وهكذا تتجلى جناية العقل الفقهي على الأمة مبكرا وللآسف لا زالت جنايته مستمرة إلى يومنا هذا.
يتبع (1-2)