|
الفكر النسوي الليبرالي
رجا بهلول
الحوار المتمدن-العدد: 900 - 2004 / 7 / 20 - 06:48
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
** مقدمة
تتناول هذه الدراسة قضيتن هامتين من القضايا العديدة التي لاقت اهتماما متواصلا من المفكرين والكتاب العرب، منذ بداية عصر النهضة الحديثة وحتى الآن، هاتان القضيتان هما قضية المرأة وقضية الديمقراطية.
لا يماري أحد في أهمية قضية الديمقراطية، ولا ينكر أحد أهمية قضية المرأة، كما لا يستطيع أحد القول إن الواحدة منهما أو الأخرى لم تلق نصيبها من الدراسة والبحث والكتابة، فقد كتب الكثيرون عن الديمقراطية، وكتب الكثيرون عن قضية المرأة، ولكنهم كتبوا كل على حدة، بمعنى أن الكتابات المتعلقة بقضية المرأة لم تقم بمعالجة مفاهيم الديمقراطية ومبادئها بشكل مفصل، كما أن الكتابات المتعلقة بقضية الديمقراطية لم تتوقف طويلا عند قضايا المرأة، ولم تركز على وجهات النظر النسوية في المواضيع السياسية عموماً، هذا في حين أننا لا نزال بحاجة إلى مناقشات متكاملة تأخذ بعين الاعتبار العلاقات الكثيرة والبالغة التعقيد التي تربط قضية الديمقراطية وقضية المرأة بعضهما ببعض، كما تربطهما بقضايا أخرى.
هذا ما تحاول هذه الدراسة أن تعالجه، ذلك أنه لم يعد ممكنا في الوقت الحاضر أن نكتفي بالحديث عن الديمقراطية من وجهة نظر عامة، قائلين إن تحقيق الديمقراطية يضمن تحقيق العدل والمساواة ونيل الجميع حقوقهم (مع الافتراض غير المعلن بأن "الجميع" يشمل المرأة) فلو كان الأمر على هذا القدر من البساطة لما كان بوسع أحد أن يفسر هذه الحقيقة، ألا وهي وجود عدد كبير من المفكرات والمفكرين الذين باتوا ينتقدون الفكر الديمقراطي الليبرالي، والمفاهيم السياسية والاجتماعية التي يستند إليها، من وجهة نظر ترى في هذا الفكر ومفاهيمه نقائص كبيرة، وتحيزات متأصلة ضد المرأة.
لا نحتاج فقط للحديث عن الديمقراطية من وجهة نظر المرأة، نحن أيضا بحاجة للحديث عن قضية المرأة من وجهة نظر فلسفية لم نعتد عليها بعد، فهناك الكثير من الأسئلة الأساسية التي يجب أن يتم طرحها قبل أن يكون بالامكان اتخاذ موقف محدد بخصوص الفلسفة السياسية والاجتماعية التي من شأنها أن تساعدنا في رسم معالم النظام السياسي والاجتماعي الذي يأخذ مصالح المرأة وحقوقها وقدراتها بعين الاعتبار، من هذه الأسئلة ما يتعلق بطبيعة الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما، وما إذا كان الرجل والمرأة "أفرادا" بنفس المعنى، ومنها ما يتعلق بالافتراضات السائدة حول طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، حول الفروقات والتماثلات بينهما، وحول الحدود التي تسمح الطبيعة بالتحرك في إطارها، ونحن إن لم نتحدث عن هذه المسائل الفلسفية المتعلقة بـ "النوع الاجتماعي" (gender) فإننا لن نكون على بينة من أمرنا بخصوص إمكانية التوصل إلى فلسفة سياسية إجتماعية تعبر عن رؤية الانسان (رجلا كان أم امرأة) للنظام السياسي الاجتماعي الأمثل، وما إذا كانت الديمقراطية (أو غيرها من الأيديوجيات المعاصرة) تشكل ذلك التعبير.
هناك أيضا قضايا أخرى تستحق التوقف عندها في سياق الحديث عن المرأة والديمقراطية، وهي ذات طابع خاص، حيث لا تتعرض لها جميع النقاشات المتعلقة بالمرأة والديمقراطية في كل زمان ومكان، هناك على سبيل المثال مسألة "الأصالة والمعاصرة"، التي تطرح في المجتمعات التقليدية التي لم تتطور فيها الافكار الديمقراطية والنسوية بمعزل عن التفاعل مع الغرب الحديث، وهناك أيضا قضايا التحرر الوطني وأولويات المجتمع (أو الناطقين باسمه) في العمل، إما من أجل التحرر الوطني، أو الديمقراطية، أو البناء الاقتصادي، كل هذه الأمور مرتبطة ببحث الأدوار التي ينبغي على الرجال والنساء أن ينهضوا بها على الأصعدة الاجتماعية المختلفة، وهي تختلف من بلد إلى بلد، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، ونحن بالطبع في البلدان العربية بأمس الحاجة إلى مناقشتها، لأنها مثابة السياق التاريخي والاجتماعي الذي تدور فيه نقاشاتنا (وصراعاتنا) حول قضايا المرأة والديمقراطية.
قد يقول البعض إن الواقع العربي بخصوصياته الثقافية والتاريخية والسياسية الراهنة لا يعطينا مجالا للحديث عن المرأة والديمقراطية بالصورة التي طرحناها أعلاه، ذلك أنه يظهر أن جزءاً هاما من النقاش سوف يجري تحت عناوين مثل "النوع الاجتماعي" أو "وجهة نظر نسوية" في هذا الأمر أو ذاك، في حين أننا نحيا في أجواء ثقافية وتاريخية وسياسية طالما عودتنا على الظن بأن الرجل لا ينطق باسمه فقط، وانما باسم كل من "يعتمدون" عليه أيضا، بمن فيهم النساء والاطفال، وغيرهم، هذا بالاضافة إلى الفكرة الشائعة التي تقول إن النقاشات الفكرية والنظرية لا تثير الاهتمام لدى المرأة، ولا تقع ضمن حقل اختصاصها، وحتى أولئك الذين يعتقدون بأن المرأة يمكنها أن تشارك في مثل هذه النقاشات كثيراً ما يظنون أن المرأة التي تجد حاجة للتعبير عن الرأي، والتي تتوفر لديها القدرة والفرصة والقبول الاجتماعي اللازم لهذا الغرض، لن تفكر، ولن تتكلم بطريقة تختلف عن الرجل، فهمومها ومفاهيمها وأولوياتها سوف تكون مثل هموم ومفاهيم وأولويات الرجل.
لهذه الأسباب مجتمعة قد يحار الانسان في المعنى والمغزى الذي يكمن وراء الحديث عن "النوع الاجتماعي" أو "وجهة النظر النسوية" في الأمور المختلفة، ومنها الأمور السياسية على وجه التحديد، وفي الحقيقة لا بد من الاعتراف بأن بعض المفاهيم والرؤى الفلسفية التي نتعرض لها في مراحل مختلفة من هذا البحث سوف تبدو غير مألوفة، ومنها ما يطرح تحديات جذرية لمفاهيم ومعتقدات تكاد تكون بدهية بالنسبة للكثير من الناس، وتظهر غرابتها بصورة بسيطة بقدر ما هي مفاجئة عندما يقارن الانسان المطالب النسوية التي يقوم مفكرون ومفكرات عرب بتقديمها على استحياء، بمثيلاتها عند المفكرين والمفكرات النسويات في الغرب. فكأن المرأة العربية والرجل العربي اللذين يدافعان عن حقوق المرأة العربية في اللحظة الحاضرة يبدآن حيث بدأ مناصرو حقوق المرأة في الغرب قبل قرنين من الزمان. ينطبق هذا على المطالب التي يتم طرحها من قبل المفكرين والمفكرات العربيات، بقدر ما ينطبق على الانتقادات التي يقدمونها: ذلك أن هذه الانتقادات النسوية العربية تعكس في معظمها رغبة في الوصول إلى مرحلة سياسية إجتماعية بدأت المرأة الغربية ترى بعض نواقصها على الأقل منذ خمسينات هذا القرن الذي يشارف على الانتهاء.
ولكن في الوقت ذاته لا يمكننا أن نتخذ من "الغرابة"، أو عدم ألفتنا ببعض المفاهيم والرؤى الفلسفية التي يرد ذكرها في هذه الدراسة ذريعة لرفض الاستماع إليها والاستفادة منها، وذلك لسببين على الأقل: أولهما أن مثل هذا الموقف هو سمة الناس الذين يخلطون بين "غير المألوف" وغير الصحيح، كأن كل ما هو جديد كاذب، وكل ما هو قديم صادق. ولو كنا نريد الاصرار على رفض التعامل مع مفاهيم مثل "النوع الاجتماعي" أو "رؤية نسوية"، لكان يتوجب علينا منذ زمن طويل أن نرفض التعرف على مفاهيم مثل "الطبقة" أو "التحليل الطبقي"، أو "الانتقاء الطبيعي" أو "اللاوعي" وغيرها من المفاهيم التي تعرف العرب عليها في القرون الحديثة، على أثر الاحتكاك بالغرب، ولكنّ أحداً لا يستطيع اليوم أن ينكر أن الكثير من المفاهيم الاجتماعية التي دخلت إلى جدول مفرداتنا الفكرية من الماركسية وغيرها من النظريات والعلوم الاجتماعية التي تطورت في الغرب في القرون الأخيرة، هي في كثير من الأحيان ضرورية ومفيدة في التفكير حول قضايانا، وقضايا العالم الذي نعيش فيه، بغض النظر عن قناعتنا الكاملة (أو عدم قناعتنا) بالنظريات (أو الرؤى) الاجتماعية التي صدرت عنها هذه المفاهيم، وهكذا هي الحال بالنسبة للمفاهيم المرتبطة بالفكر النسوي المعاصر، يجب أن نتعرف على هذه المفاهيم، فهي بصدد إحداث ثورة كبرى تذكر بالثورات التي أحدثتها أفكار ماركس وداورين وفرويد وغيرهم في العلوم الاجتماعية، وفي نظرة إنسان القرن العشرين للحياة، وسواء وجدنا في الأفكار النسوية قيمة كبيرة أو لم نجد، فإن الاصرار على تجاهلها لا يعدو كونه إصراراً على تجاهل ما يدور في عالم الفكر من حولنا.
أما السبب الثاني الذي ليس من شأنه أن يسمح لنا برفض التعامل مع المفاهيم الجديدة غير المألوفة، فهو أنها ليست في الحقيقة دائما "غير مألوفة"، ذلك أنه (كما سنرى لاحقاً) من غرائب الأمور المتعلقة بالفكر النسوي المعاصر في الغرب أن الكثير من المنطلقات والقيم التي تنادي بها بعض المفكرات في معرض نقدهن لبعض جوانب الحياة الغربية والفكر الغربي المعاصر، تلتقي مع بعض الانتقادات التي يعبر عنها المجتمع التقليدي من خلال ثقافته التقليدية، حتى لو لم تكن طريقة التعبير الدارجة عند هذا الأخير على نفس الدرجة من اللين أو الفطنة والحذاقة، ويوشك الانسان أحيانا أن يقول إن المفكرين والمفكرات في الغرب (بعضهم على الأقل) يودون لو كانت قيمهم الاجتماعية المتعلقة بالفرد والمجتمع وأسلوب الحياة مثل قيمنا، وأنهم يريدون الوصول إلى حيث نحن الآن[1].
ربما كان هناك شيء من المبالغة في هذا الوصف لما يريده البعض في الغرب (يمكن تأجيل الحكم إلى حين الاطلاع على بعض جوانب الموضوع بدرجة من التفصيل)، ولكن الأمر الذي لا شك فيه على أية حال هو وجود قدر معين من التشابه في جوانب كثيرة من قضايا المرأة والرجل هنا وهناك، في الغرب وفي الشرق، وهذا التشابه (في المشاكل والحلول) لا يمكن تفسيره إلا من منطلق أن البشر، رجالا ونساء، في التحليل الأخير، هم "أبناء آدم وحواء" (حتى وإن أدى النقاش إلى وضع بعض التحفظات على بعض جوانب هذه القصة)، وأن الفروقات التاريخية والثقافية بينهم، مهما اتسعت، لا تجعل منهم مخلوقات مختلفة لا تتشابه في مشاكلها، ولا تستطيع أن تستفيد من تجاربها المختلفة، وعليه ليس هناك مبرر للنفور من الخوض في مسائل سبقنا إليها الآخرون، أو أتوا فيها بطروحات قد نجدها غريبة بعض الشيء.
هناك مسألة أخيرة يجب أن نذكرها قبل أن نختتم هذه المقدمة بعرض قصير لما تحتويه الفصول الخمسة التي تتكون منها هذه الدراسة، قلنا للتو أن البشر جميعا، رجالا ونساء، هم في التحليل الاخير "أبناء آدم وحواء" وأن الفروقات بينهم (مهما اتسعت) لا تجعل منهم مخلوقات مختلفة، قد يعترف الجميع بهذه الحقيقة على مستوى معين، دون أن يمنعهم هذا من التراجع عنها بطرق مختلفة، وفي مراحل مختلفة من النقاش، كاشفين بذلك عن درجة معينة من التردد في قبول هذه الفكرة.
في سياق البحث الحالي الذي يتمحور حول الفكر النسوي وتفاعل المفاهيم والمبادئ الديمقراطية مع قضايا المرأة بشكل خاص، يمكن أن يظهر التردد المذكور أعلاه بصيغة تساؤل حول قدرة وشرعية قيام الرجل بنقاش هذه المسائل، هل يستطيع الانسان، أي إنسان، أن يفهم القضايا والمطالب النسوية على حقيقتها دون أن يكون قد رأى العالم واختبره من جميع نواحية من وجهة نظر المرأة؟ وهل يستطيع الانسان أن يشخص المشاكل ويقترح الحلول دون أن يكون قد عاش نفس الظروف التي تعيشها المرأة؟ من هذه المنطلقات قد يقول قائل إن الابحاث التي يقوم بها الرجل عن المرأة تفتقر إلى المصداقية (من الناحية المعرفية) كما تفتقر إلى الشرعية (من الناحية المنهجية)، لأن الرجل، وللأسباب الواضحة والمعروفة، لا يمكن أن يعيش الحياة أو أن يختبرها بنفس الطريقة (أو الطرق) المتاحة للمرأة، بحكم تكوينها البيولوجي والاجتماعي والتاريخي.
لسوء الحظ ليس هناك جواب قصير على التحديات التي تطرحها هذه الاسئلة، من الواضح أنها تقوم على أساس الكثير من الافتراضات المعقدة وبالغة الاهمية، والتي تحتاج إلى نقاش جاد. هناك افتراضات تتعلق بمعرفتنا بطبيعة ومدى الفروقات بين الرجل والمرأة، ماهي بالضبط؟ وما الدليل على وجودها؟ وما مدى أهميتها؟ وهناك بالاضافة إلى ذلك أسئلة منهجية: هل هناك علاقة (وما هي إن وجدت) بين النوع الاجتماعي للباحث أو الباحثة، والمعارف التي يمكن التوصل اليها؟ هل يمكن التمييز( وهل هناك مبرر للتمييز) بين الظروف والخبرات الحياتية للباحثين من جهة، وصدق (أو كذب) النتائج التي يتوصلون اليها من جهة أخرى؟ وأخيرا (وليس آخرا) هناك الكثير من الاسئلة العملية والسياسية الملحة التي لا ينبغي تجاهلها: هل يمكن أن يكون هناك توظيف ايديولوجي (إستعمال/سوء إستعمال) للتوجه الفكري الذي يسعى للتركيز على "خصوصية الوجود الأنثوي" (من قبيل القول أنه لا يفهم المرأة إلا المرأة)؟ ما هو (إن وجد)، وكيف يجب أن يكون موقفنا منه؟.
من السذاجة بمكان الظن أن الناس يتفقون في إجاباتهم على هذه الأسئلة، أو أن قسما منهم يمتلك الأجوبة الصحيحة، تاركا الآخرين في ضلال مطبق بشأن الحقيقة، لذا لا يجوز لأحد أن يطرح تساؤلات حول قدرة وشرعيه قيام الرجل بالبحث في قضية المرأة بلهجة "الأسئلة الانشائية" التي تفترض أجوبة محددة ومعروفة سلفاً، هنالك نظريات فلسفية ومدارس فكرية نسوية (وغير نسوية) تقدم أجوبة مختلفة على هذه التساؤلات، ومن هذه المدارس النسوية اثنتان تلقيان اهتماما خاصا في هذه الدراسة: النسوية الليبرالية (liberal feminism)، التي هي موضوعنا الأساسي في هذا البحث، والمدرسة التي تعرف أحيانا بالنسوية الراديكالية (radical feminism).[2] وسوف نرى في الفصول المقبلة الأجوبة المختلفة التي تقدمها كل منهما على هذه الاسئلة، ولن يمضي وقت طويل قبل أن يبدأ القارئ والقارئة بالتعرف على الموقف المعارض الذي تتخذه النسوية الليبرالية من فكرة "تخصص" المرأة بالكتابة حول قضايا المرأة، (وما قد يتبعها من فكرة "تخصص" الرجل بالكتابة عن قضايا الرجل)، والكاتب الحالي لا يمانع في ربط موقفه من هذه المسائل بموقف النسوية الليبرالية نفسها: فاما أن ينجح الاثنان معاً أو يفشلا معاً، والحكم في نهاية الأمر متروك للقراء، بعد الاطلاع على النسوية الليبرالية من جوانبها المختلفة في الفصول التالية من هذه الدراسة.
في الفصل الأول نقوم باستعراض أهم المفاهيم والمبادئ التي يرتكز عليها الفكر الليبرالي عموماً، بـ "الفكر الليبرالي" نقصد نمطا من التفكير لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليشتمل على فلسفة (أو ميتافيزيقا) اجتماعية معينة، بالاضافة إلى الارتباط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق والقيم الاجتماعية وفلسفة العلم، أما السبب الذي يدفعنا لاستعراض الجوانب المختلفة للفكر الليبرالي فهو أن الديمقراطية (كما نفهمها في هذا البحث)، أو الديمقراطية الليبرالية (liberal democracy)، كما تسمى في بعض الأحيان[3]، بصفتها نسقا من المعتقدات والقيم السياسية وطريقة للتصرف بالسلطة السياسية، تتضمن إشارات إلى توجهات ابستمولوجية وأخلاقية وميتافيزيقية محددة، كما أنها تتلقى دعماً وتفسيراً من خلال هذه التوجهات، وليس من الغريب أن نجد أن تلك المدرسة في الفكر النسوي المعاصر، والتي تتخذ من الديمقراطية (الليبرالية) إطاراً عاماً في سعيها لتحقيق إنجازات في مجال حقوق المرأة تسمى بـ "النسوية الليبرالية" (liberal feminism)، مع أنه كان من الممكن تسميتها بـ "النسوية الديمقراطية"، ولكن الاسم الأول أفضل، لأن المعتقدات السياسية التي تنتصر لها وبها النسوية الليبرالية تتصل بمعتقدات ومفاهيم أخرى ليست ذات صبغة سياسية بحتة.
من أجل وضع الديمقراطية في إطارها الفكري الأوسع، سوف نتحدث في الأقسام الأربعة الأولى من الفصل الأول عن مبادئ ميتافيزيقية وأخلاقية وسياسية وابستمولوجية يستند إليها الفكر الليبرالي، ليست هناك أسباب قاهرة لغرض مرتكزات الفكر الليبرالي بهذه الطريقة، ولا يستطيع الانسان القول إن كل ما يجري الحديث عنه في هذا الاطار من المرتكزات أو ذاك يستحيل الحديث عنه في إطار آخر، أو تحت عنوان آخر، ولكن الكثير من الاعتراضات والنقد الذي يوجه للفكر الليبرالي، سواء من قبل مفكرات نسويات أو من قبل خصوم الليبرالية عموما، يمكن إدراجه في إطار نقاش المبادئ والافتراضات اللييرالية في المجالات الأربعة المذكورة سالفاً، الأمر الذي يجعل من المناسب لنا التعريف بالفكر الليبرالي من هذه الزوايا بالذات.
نختتم الفصل الأول باستعراض الجوانب البارزة في الفكر الليبرالي العربي الحديث (عصر النهضة) والمعاصر، لا يجد الانسان مختلف جوانب الفكر الليبرالي ممثلة عند مفكري عصر النهضة، الذين تركز اهتمامهم على الجوانب السياسية والاجتماعية من الفكر الليبرالي[4]. ولكن على الرغم من التركيز المستمر على الجوانب الظاهرة والقريبة من الفكر الليبرالي، إلا أن بعض المفكرين المعاصرين قد باتوا يكتبون بطريقة تبرز الجوانب الميتافيزيقية والابستمولوجية من الفكر الليبرالي، وهذا يدعونا إلى القول إن الفكر الليبرالي، على وجه العموم، قد تم "تعريبه" ، على الأقل على مستوى الفكر والمفردات، وإن لم يكن على مستوى الممارسة.
لا تبرز في عرض مرتكزات الفكر الليبرالي أية أفكار أو مفاهيم ذات بعد نسوي صريح العبارة أو واضح المعالم، ولكن تحديد العلاقة بين النسوية والليبرالية هو العبء الذي يأخذه على عاتقه الفكر النسوي الليبرالي، والذي نعرض له في الفصل الثاني من هذا البحث، يجري النظر إلى الفكر النسوي الليبرالي باعتباره محاولة متكاملة لإبراز حقيقة أن الفكر الليبرالي بحد ذاته لا يميز بين الرجل والمرأة، وأن الأخذ بالفكر الليبرالي وتطبيق مبادئه بالصورة الموضوعية التي تنص عليها مرتكزاته الابستمولوجية، من شأنه إلغاء التمييز الاجتماعي لمصلحة الرجل في الجوانب المختلفة في الحياة، لذا نرى المفكرات النسويات الليبراليات دوما يطالبن الفكر الليبرالي بإصرار أن يعني ما يقوله عند الحديث عن "الفرد" بمعنى "الانسان بغض النظر عن الجنس"، وهن يكتشفن خطأ جسيماً (مقصوداً أو غير مقصود) يتمثل في جعل "الفرد" مرادفا لـ "الرجل" في الكثير من الأحيان، ولكن هذا الخطأ (بالنسبة لهن) ليس خطأ حتمياً، كما أنه ليس من النوع غير القابل للتصحيح، لذا فإن برنامجهن السياسي لإنهاء القهر اللاحق بالمرأة يتلخص في تطبيق المبادئ الليبرالية بصورة جدية.
في الأقسام الأربعة الأولى من الفصل الثاني نعرض للفكر النسوي الليبرالي في مجالات الإبستمولوجيا والأخلاق الاجتماعية والسياسة والميتافيزيقا، على نحو ما قمنا به في تناولنا للفكر الليبرالي الصرف في الفصل الأول، ونخصص القسم الخامس والأخير من الفصل الثاني للحديث عن الفكر النسوي العربي في مراحله الأولى، حيث ظهرت فيه جوانب ليبرالية بشكل واضح وقوي (على شكل مطالب بحقوق سياسية واجتماعية للمرأة، ونقد للايديولوجيا والفلسفات القائمة على الاعتقاد بقصور المرأة الذهني والروحي) أما المراحل اللاحقة في الفكر النسوي العربي (التي سوف نتعرف عليها في الفصول التالية) فقد شهدت ظهور توجهات نقدية متعددة، من هذه التوجهات ما يتعرض بالنقد للإبستمولوجيا والقيم الاجتماعية الليبرالية، الأمر الذي يُدخلها في معسكر الفكر النسوي غير الليبرالي (ولو لدرجة معينة)، ومنها ما ينتقد القيم والايديولوجيات الاجتماعية السائدة بطريقة تبرز أهمية القيم والمفاهيم الليبرالية الأساسية.
نستعرض في الفصل الثالث الانتقادات التي تواجهها الليبرالية والنسوية الليبرالية، مجتمعتين أو كل على حدة، تتعدد مصادر النقد ما بين اشتراكية وراديكالية ومحافظة وتقليدية، منها ما ينطلق من منطلقات نسوية بحتة، معتبرا أن الفكر النسوي الليبرالي يمثل "خيانة" لقضية المرأة، لأنه يتبنى قيما ومعتقدات "ذكورية" تعكس خبرات الرجل وطريقة تعامله مع العالم، ومنها ما يتجنب التأكيد على خصوصية "كون الانسان امرأة"، على اعتبار أن المشكلة الأساسية لا تكمن في النوع الاجتماعي، وإنما في النظام الاقتصادي أو غيره، منها ما يسمح للأفكار التقليدية أن تتخذ منه "رفيق درب"، ولو لمرحلة معينة، ومنها ما هو محافظ دون أن يكون بالضرورة تقليدياً، ولكن هذه الانتقادات جميعها تنم عن توجهات فلسفية ورؤى اجتماعية تطرح نفسها كبديل عن الجوانب غير المرضية في الفكر الليبرالي، لا نقوم بمناقشة هذه "البدائل" في هذا الفصل، بل نكتفي بتقديم الاعتبارات التي من شأنها أن تكشف عن نقاط الضعف في الفكر الليبرالي.
في الفصل الرابع نختزل الانتقادات التي يتم توجيهها إلى (النسوية) الليبرالية إلى ثلاثة أنواع: منهجية، ميتافيزيقية، وأخلاقية-إجتماعية، كما نحاول اتخاذ موقف بشأنها (الأمر الذي يمكن ترجمته إلى محاولة للوصول إلى قناعة محددة بخصوص الليبرالية كفلسفة إجتماعية عامة). نناقش أوجه الانتقاد المذكورة سالفا، وننتهي إلى "تبرئة" ساحة (النسوية) الليبرالية من أوجه النقص المنهجية والميتافيزيقية، مع تقديم بعض التنازلات في مجال الأخلاق الاجتماعية (ذات الصلة الوثيقة بالفلسفة السياسية).
في الفصل الخامس، نتناول النسوية الليبرالية من منظار الوضع الخاص (أو الأوضاع الخاصة) للمرأة العربية والرجل العربي، يتم هذا من خلال التطرق إلى الفكر النسوي الليبرالي في علاقته مع قضية "الأصالة والمعاصرة" (القسم الأول من الفصل) وقضايا التحرر الوطني والتنمية (القسم الثاني).
وأخيرا، وفي خاتمة البحث، نتوقف عند بعض الاعتبارات الخاصة بوضعنا في البلدان العربية، والتي يجب أن تحكم موقفنا من (الانتقادات التي تتعرض لها) مفاهيم وقيم النسوية الليبرالية.
** الهوامش
[1] من أكثر الامثلة التي قد تثير استغراب المثقفين المتأثرين بمفاهيم وافكار الثقافة الغربية الحديثة، والذين ينظرون بإزدراء إلى بعض المفاهيم الاجتماعية التقليدية السائدة في بعض مجتمعات العالم الثالث مقال:
Peter Berger, "On the Obsolescence of the Concept of Honour", in Michael Sandel (ed.), Liberalism and its Critics (New York: New York University Press, 1984), p. 149.
يشعر المؤلف بالاسى لانقراض مفهوم "الشرف" في الحضارة الغربية المعاصرة، ولأن "الاهانة" لم تعد تحسب ضررا حقيقيا يستوجب المقاضاة.
[2] يتم توضيح المقصود بالنسوية الليبرالية في بداية الفصل الثاني من هذه الدراسة، من أجل تعريف مختصر بالنسوية الراديكالية أنظر الفصل الرابع، قسم أ.
[3] يتم توضيح المقصود بمصطلحات "الليبرالية" و"الديمقراطية" و"الديمقراطية الليبرالية" في بداية الفصل الأول.
[4] انظر: جورج جقمان، "الديمقراطية في القرن العشرين: نحو خارطة فكرية"، في: حول الخيار الديمقراطي: دراسات نقدية (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 1993)، ص 26.
#رجا_بهلول (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
إعلامية كوميدية شهيرة مثلية الجنس وزوجتها تقرران مغادرة الول
...
-
اتهامات بغسيل رياضي وتمييز ضد النساء تطارد طموحات السعودية
-
جريمة تزويج القاصرات.. هل ترعاها الدولة المصرية؟
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|