|
الجسد العراقي بين التأليه والإذلال
يحيى الشيخ زامل
الحوار المتمدن-العدد: 1952 - 2007 / 6 / 20 - 07:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الجسد العراقي أيقونة كتب على وجهها تاريخ الكون منذ أن وضع الجسد الأول رجله على هذه الأرض ، وإلى هذه الساعة التي أكتب بها هذه السطور، ذاكرة عملاقة تتزاحم فيما بينها بفن تشكيلي متنوع الرؤى والأفكار والشخوص في جوانبها المضيئة والمظلمة التي تضفي بعداً زمكانيا يمتد إلى تلك الجذور ،إلى تلك العناصر الأربعة المهمة في بنائه وتكوينه وتنشئته . ببليوغرافيا كبيرة من الأوجاع والأسى ولدّها الحزن الجسدوي المكتوب على تضاريسه البضة والمنبسطة والتي تتراكم في داخله المعارف الخالدة لإتمام الموت الإرادي ليتحدد مفهوم السعادة من خلال قدرته على التحرر من الجسد الظاهري وتسخيره للسيطرة على العوارض النفسانية أياً كان شكلها ومنشأها ، والموت الإرادي يختلف عن الموت الطبيعي ( أو الخرمي ) والذي يعني أن تفارق النفس الجسد، فالموت الإرادي يعتمد على قدرة واستعداد الإنسان لاستخدام أرادته والسيطرة على نوازعه وأهوائه ، ( والإنسان من عجائب الطبيعة التي خلق فيها ، وهو يحتوي على أمور كثيرة يتكون من مجموعها ويرتبط مع النبات والحيوان بقوى متعددة كالقوة الغاذية والقوة الحاسة والقوة الخيالية ، إلا أنه يتميز عنها بالقوة الناطقة التي تخصه وتوجد حصراً له ، وكما يقول أرسطوا : ( الإنسان حيوان ناطق مدني بالطبع ) ( الملامح الاجتماعية الدكتورة لاهاي عبد الحسين /ص186 )) . وتماحك في جسد العراق نازعين كلاهما بدأ من نقطة واحدة ،ولكن باتجاهين مختلفين ، الأول كان مدعاة لتأليه الجسد ظاهراً وباطناً ليجعله في مصاف الآلهة أو أبناء الآلهة ، كما في الطغاة الذين زينوا قصورهم وحواضرهم بتماثيلهم وجدارياتهم وهم يدعّون صنع الحضارة والتقدم والازدهار في بلدانهم ويبنون المدارس والمكتبات العلمية لتخلد أسمائهم وألقابهم ومحكياتهم ، لتمتد تلك المحاكاة إلى زماننا لتمثل في جداريات وصور لمختلف الأوضاع والأشكال والأزياء للرئيس ،لتضفي عليه القداسة والتأليه والألهام والضرورة ، ولعل بعض الشعارات المتساوقة في الأعلام والمهرجانات ( من نبوخذ نصر ....... إلى ......) هي أحدى جوانب هذه المجايلة القافزة فوق بنى التاريخ الريالزمي وفق نمط سوريالي محض لتضليل الرأي العام وإضفاء القداسة والخلود على الشخصانية الجسدية حتى لو أنتسب زوراً لسلسة المقدسين الأنبياء، كما أدعّى زوراً رأس النظام السابق أنتسابه إلى الرسول المصطفى ( ص) وإلى أهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) ، فيما يندفع الأتجاه الأخر من إذلال الجسد وقهره وفناءه على يد أتباع المدرسة الأولى في مخاصمة تاريخية مورست منذ أن جلس أحدهم على حجراً وقال : ( هذا لي !! )ومنذ الخطيئة الأولى لأبونا آدم وقتال ولديه قابيل وهابيل ، وهما مدرستان متعاكستان في الرؤى والأفكار والفعل ،وحين قام قابيل بقتل الجسد ( الهابيلي ) وعجز عن أكمال تلك النوازع المتزاحمة في نفسه وموارته تحت الثرى ليحمله فوق ظهره يجوب به الفيافي والقفار خجلاً من مجتمعه ومحيطه . وتواصلت تلك المدرستين ، مدرسة تأليه الجسد، ومدرسة إذلال الجسد في صراعهما الأبدي عبر القرون والعصور بين مد وجزر ، بين قتل الجسد ( الإله) وسحله في الطرقات في مدة قصيرة ، وبين إذلال الجسد ( الإنسان )الطويل ليعود يفلت الزمام مرة أخرى لموازنة المعادلة المرتبكة حتى أتهم الجسد العراقي منذ زمن بعيد بأنه يختلف عن غيره من الشعوب في ممارسة العنف بإفراط وأنه متطرف في كل شيء ، في الحب والكراهية في الوفاء والغدر في القسوة والرأفة في الكرم والبخل في سرعة الغضب والانتقام ، أما مدرسة الوسط فقد توارت خلف هذين المشهدين المتعاكسين أو أختفت ، أو قل أن دعاة الوسطية ينالون ما ينال الجسد المُذل من نصيب . وفي مقال ( العنف في العراق ) الذي نشرته جريدة البيان للكاتب طاهر فرج الله ،والذي يذكر فيه مشاهدة في الطب العدلي لجسدين ذكرين وأنثى ، أما الذكرين فقد كانت لجسد أب وقد حفر صدره ووضع رأس أبنه المقطوع فيه، وأما الأنثى فقد قلعت عيناها وربطت بـ ( البراغي ) على كفيها . أن تلك الصورتين هي انعكاس لما يجري في الساحة العراقية أو هي امتداد تاريخي جُبل عليه الكثيرين حينما تتقلص قوة السلطة أو تتنامى ، فكلاهما له الأثر الكبير في تزايد مشاهد العنف واستمراره ، وكما يقول ( فردريك أنجلز ) : ( مستحيل أن يتصرف شعب مضطهد بلياقة ) ، وحينما تسقط السلطة تظهر للوجود الجماعات المسلحة التي تروم الوصول إلى مكان سابقتها بمختلف الوسائل والطرق لتمارس عملية الإذلال في الأماكن العامة والأسواق والمدارس وترميهم إلى قارعة الطريق لعجزها عن أخفائهم وحجزهم كما تفعل الحكومات الجائرة حينما تمارس القتل الجماعي الخفي تحت جنح الظلام وبعيداً عن وسائل الأعلام والصحافة والفضائيات . كما أن هناك مشهداً أخر يرويه الكاتب حسن العاني في عموده دغدغات في جريدة الصباح وتحت عنوان ( الذنب الوحيد ) ، عن أحدهم وقد قتل أمام باب داره من قبل أشخاص غير ملثمين في سيارة حديثة ، وإثارة تلك الحادثة الضجة في محلته، حول سبب اغتياله ، وأنهم عجزوا عن أيجاد السبب الحقيقي وراء هذه التصفية الجسدية، حيث لم يكن القتيل من المهمين أو المتعصبين لطائفة أو دين أو عرق أو حزب أو منظمة سياسية أو غيرها ، وأنه كان طيباً وأجتماعياً ولا يتدخل في شؤون الأخرين ، فما هو سبب قتله يا ترى ؟ فأعطى كل رأيه ولكنه بدا غير مقنعاً للأسباب السابقة ، فأنبرى أحدهم ليحسم نزاع القوم ويقول : يا جماعة ثقوا أن المرحوم لم يقتل لدينه أو مذهبه أو قوميته أو عشيرته فقد رأيتم بأننا أقرب الناس أليه ولا نعرف له عصبية لدين أو مذهب أو قومية أو حزب .......وذنبه الوحيد أنه عراقي ، ويستدرك الكاتب ليقول .... وعجباً كيف لم ننتبه إلى هذه البديهية التي باتت أوضح من عين الشمس . وأخيراً لو هيئ لأحدنا أن ينقل الجسد العراقي بديمغرافيته من جغرافيته ومحيطه ، كما فعل قابيل بأخيه هابيل ، ونقله إلى أحدى بقاع العالم بعيداً عن حواضن الإرهاب ومن الذين يريدون تناول وجبة شهية مع الرسول ( ص) وعن البقية الباقية من أتباع الألهة ، فهل يتماثل للشفاء ؟ أم نحن الذين يجب علينا أن نشد الرحال إلى بقاع العالم لعلاج أنفسنا ؟؟
#يحيى_الشيخ_زامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص قصيرة جداً / أنا وظلي
-
إلى مظفر النواب
-
أنفسنا
-
أنا بيكاسو
-
الاستعمار الثقافي العربي بين القصدية والاعتباطية
-
التجربة الصينية
-
باب أول ..... باب ثاني
-
قصيدة : موطني
-
السيميائية ....... و ثقافة ( الصك
-
أسماءنا بالمجان .... ولكن بعضها غير جميل !!
-
الشاعر علي قاسم مهدي ....... ودفء الوطن
-
لوحات تشكيلية على أبواب المستنصرية
-
أنا أقرأ أذن أنا موجود
-
مفهوم الإعلام الحديث ... وصناعة الخبر
-
أستحضار أبليس وخطوات الشيطان
-
العراق بين محطات الأستبداد والمحطات الفضائية
-
الرئيس بوش و (الحجّام )
-
مخيم البارد ......هل أصبح ساخناً فجأة
-
الطائفية ...وتراب الصف
-
نصب التحرير ......أول نصب عراقي بأيد عراقية
المزيد.....
-
تصعيد روسي في شرق أوكرانيا: اشتباكات عنيفة قرب بوكروفسك وتدم
...
-
روبيو يلتقي نتانياهو واسرائيل تتسلم شحنة القنابل الثقيلة
-
مئات يزورون قبرالمعارض نافالني في الذكرى السنوية الأولى لوفا
...
-
السيسي يلتقي ولي العهد الأردني في القاهرة
-
بعد حلب وإدلب.. الشرع في اللاذقية للمرة الأولى منذ تنصيبه
-
إيمان ثم أمينة.. ولادة الحفيدة الثانية للملك الأردني (صور)
-
السعودية تعلق على الأحداث في لبنان
-
إسرائيل تتسلم شحنة من القنابل الثقيلة الأمريكية بعد موافقة إ
...
-
حوار حصري مع فرانس24: وزير الخارجية السوداني يؤكد غياب قوات
...
-
واشنطن وطوكيو وسول تتعهد بالحزم لنزع نووي كوريا الشمالية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|