|
بصريات الجسد في الطقس المسرحي
فاضل سوداني
الحوار المتمدن-العدد: 1947 - 2007 / 6 / 15 - 06:40
المحور:
الادب والفن
يعتبر التعامل مع الجسد وتحولات الأشياء في العرض المسرحي الذي بدأ في بداية القرن الماضي، كمفردة بصرية ديناميكية لخلق الصورة المعبرة في فضاء الطقس، فن بصري معاصر. لذا فإن الكثير من الدراسات والعروض والتيارات والتجارب المسرحية الأوروبية أكدت ومازالت على تحقيق الجانب البصري في أداء الممثل أو الرؤيا الإخراجية أو سينوجرافيا الفضاء المسرحي، كلغة جديدة في الإخراج المسرحي، بدءاً من تجارب أنتونين آرتو وجوردن كريج وراينهاردت، ومايرهولد وأدلف آبيا ومخرجي مسرح الطليعة الفرنسيين وانتهاء بتجارب بيتر بروك وجوزيف شاينا وروبرت ولسن وليباج وكانتور وبينا باوش ويوجين باربا وأريان منوشكين والياباني تاداشي سوزوكي وكل ما يرتبط بتجارب مسرح الصورة الأوروبي وبعض تجارب المسرح البصري العربي. ولهذا فإن دعوتنا لتحقيق البعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي البصري، تخلق عرضاً مسرحياً يستند على النص البصري، وديناميكية الأشياء والجسد المتوهج في الفضاء بذاكرته الذاتية ـ المطلقة، والرؤيا الإخراجية البصرية التي تعتمد التأثير بالصورة البصرية والحركة الديناميكية والوسائل البصرية الأخرى. والبعد الرابع هو رؤيا بصرية في الفضاء المسرحي من خلال المرادفات التطبيقية والعملية الإخراجية والرؤيوية، يعني الكشف عن سر الحاضر والمستقبل اللذين يقلقاننا، أما الماضي فيخدم ذاكرة جسد الممثل المثيولوجية والذي بالضرورة يرتبط بالحاضر، لذا فإن الممثل الفنان هو القادر على كشف أسرار فنه بواسطة الذاكرة التعبيرية لجسده والرؤيا الإخراجية البصرية من أجل عدوى الجمهور والأشياء المعبرة في الفضاء والعناصر الفنية الأخرى التي تحقق الطقس البصري من أجل عدوى الجمهور والأشياء المعبرة في الفضاء والعناصر الفنية الأخرى التي تحقق الطقس البصري ضمن مفهوم البعد الرابع. وبما أنّ المسرح تاريخياً قد وجد المخرج ـ الدراماتورج فإن الضرورة الآن تحتم أن يوجد المؤلف للنص البصري. ولهذا فإن البعد الرابع هنا يهتم بإعادة خلق الفضاء المسرحي بصرياً ومخاطبة الجمهور بلغة الصورة والرموز والإحالات والتأويل واللغة البصرية بعيداً عن اللغة الأدبية. فالنص ضمن مفهومنا هذا يُكتب للمشاهدة وليس للقراءة، وهذا يعني أن يمتلك المؤلف رؤيا بصرية من خلالها يفهم إيقاع الصورة والحدث على خشبة المسرح وليس على الورق. إن النص هنا لا يقتصر على الكلمة كدلالة ولغة سمعية فقط وإنما أن تكون هنالك مساحة أكبر للوسائل البصرية، ومن خلالها يتحقق الخطاب المسرحي. وبمعنى أن يكفّ المؤلف عن الاستمرار في تحقيق فعل الكتابة الأدبية التقليدية فقط، ليتحول إلى كاتب للنص البصري ومع المخرج يخلقان العرض البصري. وبالتأكيد إن مثل هذا النص المسرحي سيكون ضد الأدب. أما الجانب الفكري في هذا المسرح فيعالج الواقع والحياة بحركتها الديناميكية التي تتداخل فيها الأزمنة الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل للوصول إلى الزمن الإبداعي الرابع. إضافة إلى فرض مفهوم العلاقة السرية التفاعلية التي تحدد وظيفة الجمهور المتفاعل فيمتلك تأويله التفاعلي لأنه المتفاعل النموذجي في الزمن الإبداعي لفضاء الطقس المسرحي البصري، لهذا فهو ليس جمهوراً ولا متلقياً وإنّما هو متفاعل، ويتفاعل هذا المتفاعل مع السؤال المصيري المستقبلي الذي يعالجه الطقس المسرحي البصري. ومثل هذا الجمهور لا يتفاعل مع الدلالات السمعية فقط، وإنّما مع تلك الأحداث والصور والأشياء والأفكار التي تؤثر على السمع والبصر والبصيرة. ومفهومنا هذا غير منقطع الوشائج والخبرات المشتركة مع تجارب مخرجي ومنظري المسرح التجريبي الأوروبي (الحداثي وما بعد الحداثي) التي تمس رؤيتنا هذه وتلتقي معها. فالنص الذي أبدعه كتاب الطليعة مثل بيكيت، يونسكو، جان جينيه مثلاً، هو النص الذي نعتبره قريباً من رؤيتنا المسرحية حول النص الرؤيوي ـ البصري .. ولهذا فإن مثيولوجية الجسد والمسرح البصري والبعد الرابع تشترك مع كل رؤيا تعتمد لغتها التعبيرية على الوسائل البصرية ودلالاتها السميولوجية وكذلك ترتبط بمسرح الصورة في الكثير من المبادئ. الصورة البصرية وحلم الإنسان الأبدي ويمكن ملاحظة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها مسرح الصورة الأوروبي بما فيها تجارب مسرح الدول الاسكندنافية والذي بدأ في فترة الستينيات ومازالت الكثير من هذه التجارب اليوم تكتشف الإمكانيات الجديدة في اللغة المسرحية للوصول إلى أساليب عمل غير مكررة. حيث يمكن وبسهولة تأشير بعض المسارح التي مازالت تقدم تجاربها المسرحية المتميزة والمبنية على الطاقة التعبيرية للجسد والصورة في الفضاء الإبداعي، بالرغم من اختلاف اتجاهاتهم والتسميات التي يطلقونها على تجاربهم المسرحية، كمسرح Oden Theatre ومخرجه يوجين باربا، ومسرح KANTABLA 2 ومخرجه Nullo Facchini ومسرح Kom de Bagfra ومخرجه Beter Halmgo. ومسرح Hotel Pro Forma والمخرجة Kresten Dolholm ومسرح Ten Box ومخرجه Kim Eden. ولكن Billedstofteater (مسرح الصورة الدنماركي) الذي تأسس عام 1976 من قبل Per Flink Base و Kresten Dolholm لعب دوراً أساسيّا في تثبيت الكثير من أسس مسرح الصورة في الدول الاسكندنافية. ويكتب الناقد الدنمركي Morten Skriverإن المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه مسرح الصورة هو وضع عدة عناصر وأشكال مختلفة أساسًا بصورة متعاقبة أو دمج دلالاتها أو تناقضها لإنتاج معنى جديد. وتتميز حركة هذه العناصر والأشكال بإيقاعها البطيء، مما يجعل هذه العروض تحفر في الذاكرة. ويعتمد هذا المسرح على الممثلين غير المحترفين في بعض العروض للوصول إلى العفوية في الحركة والصورة. ويستخدم فضاء المكان اللامسرحي، كالمتحف، المسبح، الشارع، المكتبات العامة، قاعات المعارض التشكيلية وأماكن العروض التقليدية مع تغيرها وتحويلها الى أماكن غير تقليدية من خلال التوسع وإطلاق ذاكرة المكان وإيقاع الأشياء والكتل في الفضاء وإغناء البعد الفلسفي الماورائي لحركة الجسد، ويعمد إلى استخدام فضاء المدينة ويكفيه للعرض أيضًا. ففي عرض TOHUNDREDE تم جزء من الحدث في البحر حيث بدأ الممثلون مسيرتهم الطقوسية - يصاحبهم الجمهور وهو جزء من سيناريو العرض- ودخلوا جميعا بكامل ملابسهم في البحر وكأنهم قوم وسحرة قدموا من كوكب آخر ليتطهروا في مياه بحار عالمنا. إن الآفاق الفكرية لمسرح الصورة تطمح في أن تغترف من ثقافات أخرى مازالت توحي بالحكمة والفلسفة والغنى الروحي. ومن هذا المنطلق يُعتبر هذا المسرح مسكونًا بذاكرة وطقوس هذه الشعوب وخاصة الشرقية منها للوصول إلى معادل فكري ومشهدي ـ بصري ـ تطبيقي في تركيب الحدث أو الصورة، ولكن الشيء الجوهري هو إبراز البعد الميتافيزيقي واللامرئي في حلم الإنسان الأبدي. غير أن الموت في عروض مثل هذا المسرح يرفرف دائماً كطائر أسطوري فوق رؤوس الممثلين والجمهور ومكونات المشهد، ومن الممكن أن ينقض في أيّة لحظة ليمارس وجوده العبثي. ومن خلال عناوين المسرحيات والسيناريوهات والصور البصرية، يمكن للمرء أن يستنتج بأنها عروض رؤيوية تعالج الواقع بديناميكيته غير المرئية، فتدلل على المنهج الفكري والفني والفلسفي لمبدعيها.. مثل: مسرحية هذا اليوم، سبعة، دخل الغرباء المدينة، الموكب الأزرق، أغنية التحول، نسيت أن أتحدث، لعب، مئتان، وأنا وذاتي، أنت وأنتم، يرقصون لوحدهم، البحر، صورة الثلج الأبيض، أورفيوس، وغيرها من العناوين المركبة من كلمات متناقضة المعاني. فناء ذات الممثل في اللانهائية عند تحليلنا لمسرحية هذا اليوم وهي إحدى تجارب مسرح Kom de Bagfra للمخرج Beter Halmgo يمكن أن نكتشف الهاجس الوجودي الحقيقي الذي يقلق الفنان في علاقته بالأشياء المحيطة التي تكون وجودها المكثف، وكذلك علاقته بالعالم. ولكن العرض ورؤية التناول هي التي تساعدنا على أن نراها من جديد، عند ذلك فقط تثير هذه الأشياء الغرابة لدينا. وهنا يمتزج الواقع بالحلم والكابوس، فيدخلنا جو العرض (الذي نحن بصدد تناوله الآن) منذ البداية في متاهة الحياة التي تمتلك زمنها وقانونها الإبداعي، وخاصة عندما تشكل الإنارة الخابية موجودات الفضاء أمامنا بضبابية ولا يمكن أن نتبينها إلا بصعوبة، تصاحبها تلك الموسيقى التي توحي بضرب عنيف لمطارق حديدية، وبهذا فإنها تمتلك وجودها ليس السمعي فحسب. أو إنها تتحول إلى موسيقى حية من خلال ضرب درع حديدي كبير يشغل منتصف خلفية المسرح. ومع الصفائح الحديدية التي يحملها الممثلون، وهم يتحركون بعشوائية، تتراءى تكوينات حركية وكتل تشغل فضاء المسرح الذي يقطعه الضوء المنعكس من الصفائح، ومن خلال الإيقاع الموسيقي والحركي المتسارع يبدأ الممثلون بضرب الارض بتلك الصفائح أو يستخدمونها كأجنحة للطيران، ويدورون بدون هدف ليشكلوا معركة حقيقية. إنها معركة الصراع البشري اللا مجدي والفلتان في لحظات غياب العقل. وكل هذا يوحي بأنه جلد للذات وغضب عارم يصدر من هذه الشخصيات الغريبة التي تتسارع لحمل آلات بلاستيكية تشبه (خرطوم الماء) يستخدمونها كالأسلحة للتعبير بسخرية هائلة عن تنوع أشكال الدمار في عالمنا. وبعد هذا الضجيج يصمت كل شيء فجأة حينما يتحرر الممثلون من كل ما يحملونه بما فيه الصفائح الحديدية التي يرمونها كالقاذورات في فتحات تشبه القبور المصنوعة من الصفائح فيغيب الممثلون في ظلامها أيضاً. وعندما تنكشف الرؤيا من جديد نرى في الجانب الآخر أشكالا بلاستيكية معلقة توحي وكأنها حيوانات هلامية تشبه خلايا النحل تهتز ببطء في فضاء العرض، لكن الممثلين ينسابون منها وكأنهم يولدون بعسر. وعندما يتنفسون الحياة، يسقطون مباشرة في جحيم فضائنا أو ينغمسون بطين عالمنا اللزج وقد أوحى لي هذا المشهد بالجو العام لعروض المخرج البولوني جوزيف شاينا. (انظر مسرح جوزيف شاينا لكاتب التحليل في الحياة المسرحية السورية). وفي القسم الثاني من العرض نرى في الظلام رايات من القماش الأبيض تخفق في الفضاء المضطرب، كأنها أشرعة يسحبها الممثلون على إيقاع الموسيقى العنيف المنبعث من ضرب الصنوج أو الآلات الصوتية الأخرى، تضيئها إنارة تبرق خاطفاً توحي بعالم جحيمي ملون، وكل هذا كأنه آهة الروح الاخيرة، وفي ذات الوقت يشكل ضجيج الحياة التي يعشيها جمهور العرض. ومما يزيد هذه الصورة غرابة هو انبثاق إنسان أحدب طويل غريب وجامد القسمات يسير ببطء فيثير الضجر. يتجه نحو زاوية من المسرح وقف فيها شاب وحيد مرتبك النظرات أحيانًا، أو يبدو وكأنه ينتظر قدر ما في أحيان أخرى وسط الموسيقى التي تضرب رؤوس المتفرجين كأنها اللعنة. وفجأة تهطل سماء المسرح مطراً حقيقياً يمزق ملابس الشاب الورقية، مما يؤكد على سهولة تعرية الذات الهشة عندما تعيش في عالم غير متماسك.. إن هذه الصورة أكدّت على الفكر الإخراجي غير المتوقع في مسرح الصورة. وعندما ينعكس ظل الأحدب في الخلفية يبدأ شيء يشبه المخاض، ليخرج إنسان عار من حدبته. وقد بدا لي وكأنه يهوذا النادم. أو كأنه شيطان انبثق من العدم أو العالم الأسفل ملتاث غاضب يهتز بعنف فوق أكتاف الأحدب. ويزداد إيقاع جنونه فينتزع أمعاءه التي تتكون من الحبال والخيوط وقطع القماش الملون حتى يفرغ معدة الأحدب. (هذا هو التشابه الثاني مع عرض دانتي للمخرج جوزيف شاينا). ومن جانب آخر تتوالى الأفكار والدلالات والتأويل والصور الإخراجية التي تشكلها الحركات الميكانيكية للمخلوقات الثلاث اللزجة التي تشبه الدعاميص والتي خرجت للتو من خلاياها البلاستيكية، تتحرك كلاً شنات المائية بإيقاع موسيقي ضاج، وتمر أمام الشاب الذي مازال ينتظر مفكراً ومشدوهاً وملابسه مازالت تتمزق تحت المطر وببطء تجد هذه المخلوقات طريق خروجها. أمّا يهوذا الملتاث الهائج فيتعلق بحبل قد تدلى من أعلى المسرح، ويصعد به قمة الحائط العالي الذي غطى الخلفية متصارعاً مع ذاته أو قدره حتى يختفي في هوة هناك في الأعلى محاولاً تمزيق جسده، يعذبه الضوء الجحيمي الأحمر ليحترق بنوره وذاته تتشوف إلى الفناء فنسمع صخب موسيقى اللانهاية. إن طموح الفكر الإخراجي والقيمة الفلسفية لعروض مسرح Kom De Bagfra والمخرج Beter Halmgo (وكذلك مجمل عروض مسرح الصورة الدنماركي) هو معالجة مشكلة الإنسان في الواقع اليومي، وسأمه من روتينية الحياة وتأكيد آلية الانسان والبعد الميكانيكي في الحياتي واليومي في الواقع الأوروبي.. ولكن المعالجة الفنية والغنى الروحي والفكري للفنان المبدع، يمنح الواقع بعداً ميتافيزيقيا إبداعيًّا عندما يأخذ مداه في العرض المسرحي. والتيار المسرحي الآخر هو مسرح ما بعد الحداثة الأوروبي والذي يشكل تجربة مهمة في المسرح المرئي. وقد أفاضت جاكلين مارتن في الكتابة عن أهم مميزات هذا الاتجاه المسرحي المعاصر في كتابها «Voice in Modern Theatre» والذي يشترك مع مسرح الصورة في الكثير من أساسيات العرض المسرحي بالرغم من أنه يرفض كل القواعد والأشكال السابقة واستقلالية الفنون المختلفة. فإذا كان العمل الحداثي Modernist كما جاء في كتاب Nick Caye ما بعد الحداثية والفنون الأدائية ترجمة د. نهاد صليحة هو عمل يسعى واعياً إلى تحديد هويته ( أي عمل يناهش النتاج الفني للماضي القريب ويتجاوزه سعياً إلى تأسيس قواعده الخاصة واكتشاف شروطه الفنية المتفردة التي تؤسس شرعيته) فإن مسرح ما بعد الحداثة يعتبر تجاوزا، التجاوز كما في New Formalism والتجارب الشكلية لكل من ريتشارد فورمان، ومايكل كيربي، وروبرت ولسن. العلاقة الهذيانية بين الجسد والأشياء فإن الممثل باستخدامه المطلق لأسرار جسده التعبيرية وعلاقته بالفضاء المادي المحيط به يعتبر حالة مثيرة واستثنائية أثناء تحقيقه للفعل والرؤيا في العرض. ولهذا فهنالك علاقة بين الكتلة، والمادة ـ الجسد والشيء تنتج معنى دلالياً للتعبير عن الحدث والفكرة من خلال الرؤى والإيقاع الموسيقي المميز لحركة الجسد في علاقته بالمادة. وهذا يفرض لغة تعبيرية هي لغة الجسد في الفضاء والزمن الإبداعي ويفرض أيضًا علاقة وإشعاعات إبداعية سرية بين الممثل وبين المادة أو الشيء وكذلك يفرض معاني ودلالات فكرية ومعرفية على الجمهور. إن هذيان الجسد التعبيري بذاكرته الذاتية والمطلقة يؤدي إلى هذيان الأشياء المحيطة، فيعددها ويحدث نوعاً من التحول في وجود الأشياء التي يتعامل معها الممثل. وعندما تدخل هذه الأشياء في العملية الفنية أو في المملكة التعبيرية للمخرج وللممثل فإنها تفقد وظائفها الحياتية الواقعية وتتغير ماهيتها وديناميكية وجودها. وتحققت ذاكرة الأشياء وديناميكية مثيولوجيا جسد الممثل أيضًا في مسرحيتي الرحلة الضوئية ـ تأليفاً واخراجاً ـ على مسرح Terra Nova Teatre في كوبنهاجن، وهي طقس رؤيوي عن وجد الفنان فان كوخ حيث تحول حوض الاستحمام منذ البداية إلى تابوت وقبر عندما يشاهد الجمهور فان كوخ ميتاً فيه، ومن خلال طقوس تقديم زهور عباد الشمس وطقوس اللطم الجسدي يقوم فان كوخ من موته ليبدأ تقديم أسرار وجده أما مرضى المصحة النفسية التي سجن فيها وأمام الجمهور، إنها القيامة التي تكشف عن السر، وتعلن عن خلود الفنان. فمن خلال طقوس الحضور المكثف التي تقوم بها المرأة المليئة بالأسرار لمساعدته على أنجاز رحلته الضوئية المصيرية ـ حتى يستطيع تحويل اللون الأصفر إلى نور ـ، بهدف أن يصبح ملكها في النهاية، تعبث بمصيره ما تشاء. لكن بهذا الذات امتلك فان كوخ خطوته الضوئية للعبور نحو المستحيل او اللمبو او الفردوس الإبداعي. ومن جانب آخر فإن المرأة الأخرى. المرأة الملاك عندما تقوم بعملية تطهيره حتى تتوسع رؤياه في رحلته الضوئية ليرى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والارض، فإنها تعمد إلى تطهيره بالضوء وبزهور عباد الشمس المنقوع بالماء المقدس.. الماء الزلال، الماء، جوهر الحياة الذي يحيل ظلام البصيرة إلى رؤيا. وبمعنى آخر إن الحوض فقد وظيفته الواقعية عندما تعامل الممثل معه تعاملاً مختلفاً أنتج معنى جديداً، وكذلك الحال مع زهور عباد الشمس. وأيضًا فإن شخصيات مثل صديقه جوجان وأخوه ثيو كانو تماثيل حجرية لها توترها ووجودها في فضاء العرض. ولكن تعامل الممثل (فان كوخ) معها منحها حياة وحيوية في ذاكرة ووعي الجمهور بمساعدة ذاكرة الأشياء وجسد الممثل. أما المرايا التي استخدمت في زمنها الميتافيزيقي الإبداعي، فأنها لم تعكس وجه الإنسان، وإنما دواخله وذاته ايضاً، إنها عكست تلك الهوة بين الإنسان ومرآته الداخلية. فان كوخ: فترة حقا أنت تشبهني، لم ألحظ هذا من قبل. هو: الوجوه تتشابه عندما تحلم ملامح موتها. أنت إنسان غريب في عالم وحشي. ولأنك أكثر حساسية من الآخرين سيكون عذابك عظيماً. فان كوخ: إذن كانت رحلتي عبثاً؟ هو: كلا.. كن كالقديسين. خذ.. خذ هذه الزهور لكي تساعدك على الرؤيا. (يناوله زهور عباد الشمس) وعندما تعود من المكان الذي أتيت، استيقظ مبكراً ليلة سقوط القمر عند بوابات البحر، واستحم بزبد أمواجه وادهن جسدك وعينيك بهذه الزهور، حينذاك سترى الغابة البنفسجية المعلقة بين السماء والأرض تذكر ليلة سقوط القمر.. عندما يتحول إلى ظلام، ظلام، ظلام. (وهو يختفي) أيّها الإنسان الحر دائماً ستحب البحر «البحر، البحر، البحر. داتا.. دايا.. داميانا) (من مسرحية الرحلة الضوئية). وبالرغم من وجود بعض التجارب المسرحية العربية لمسرح الصورة والتي تحاول أن تنحى منحا بصرياً، إلا أن الكثير منها يعد تقليداً مباشراً للمسرح الأوروبي. لذا يحتاج مسرح الصورة العربي إلى أن يكتشف أساليبه التعبيرية النابعة من نصوصه المسرحية البصرية ومن الرؤى الإخراجية التي تتعامل مع الواقع بعيداً عن وجوده الساكن الذي يفرضه الزمن الواقعي وإنما ضرورة التعمق في ماورائية هذا الواقع ووجوده في ديناميكية الزمن الإبداعي الميتافيزيقي وهذا الزمن بالذات هو الذي يشكل شمولية ذات الفنان الواعية والمبدعة لخلق صورة العرض المسرحي. إضافة إلى أن الملاحم والأساطير وقصص المثيولوجيا العربية والشرقية بالرغم من كونها تراثاً حكائياً للكلمة فيه المكانة الاولى إلا أنها ايضاً تراث للصورة البصرية المعبرة والفانتازيا الخارقة والمبنية على خارج الزمن أو الزمن الأسطوري، وكل هذا يمكن أن يشكل الرؤى الجوهرية لمسرح الصورة العربي، ولكن تجارب فاضل الجعايبي ومحمد ادريس والجبالي ومعظم تجارب المخرجين التونسيين، وكذلك الفنانة سهام ناصر من لبنان والفنان حميد محمد جواد ومسرحية المتوهة بالفلسفة والسؤال الوجودي، ود. صلاح القصب من العراق وغيرهم تعد تجارب لها علاقة مباشرة بمسرح الصورة البصري. وخلاصة القول إن المخرج في الطقس البصري يتعامل مع الممثل كجسد له قدرات وذاكرة مثيولوجية وتاريخية تعبيرية تنتج لغة بصرية للتواصل مع الجمهور. وجسد الممثل بذاكرته المثيولوجية وأسراره التعبيرية التي تشكل علاقته السرية بمكونات الفضاء الإبداعي يعتبر أحد المصادر الحقيقية للخلق في الرؤيا البصرية المسرحية للبعد الرابع للزمن والفضاء في الطقس المسرحي
#فاضل_سوداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكرى عنادل العمارة ( ميسان) المهاجرة
-
رسائل تشيخوف يقرأها المخرج بيتر بروك دراميا
-
عروض مسرحية عن همس الحواس و ذاكرة الاشياء
-
عرض مسرحية حدّ ث ودلالات الفكر الاخراجي في المسرح
-
فن التشكيل البصري في زمن العولمة
-
البعد الرابع لغة فن التشكيل البصري
-
البعد الرابع لغة الفن البصري
-
الممثل في مسرح البعد الرابع البصري
-
هل مازال العراق يلتهم أبناؤه
-
الموسيقى ومجزرة حلبجه
-
زهور المدينة المدللة في الزمن الهني
-
فان كوخ .... رحلة ضوئية باللون والجسد للتطهير من العنف
-
طنجة .... برزخ الابداع والمنفى
-
أسطورة النار المقدسة في الأزمنة المنسية
-
الجسد والحضور الميتافيزيقي للشعر البصري
-
عبد الرزاق المطلبي واحلام كانت مرمية في الطريق) سر التجسد)
-
تعاويذ الحب وتوهج الجسد في بهو النساء
-
الحضور الابداعي للكتابة عن المسرح
-
باشلار و ظاهراتية الصورة الشعرية
-
منفى المثقف في شمال الكوكب
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|