خسارة السويد كبيرة في وزيرة الخارجية التي كانت تتصدى لما تشاهده من انحطاط سياسي عالمي.
( المقالة كتبت صباحا وقبل الاعلان عن وفاة الوزيرة آننا ليند )
قبل حوالي سنتين كتبت مقالا بعنوان "آننا ليند الضمير الحي"، حيث نشر في أسبوعية "فصل المقال" ونقل عنها لينشر في بعض مواقع الانترنت الإعلامية والصحافية. وكتبت يومها عن الموقف الحي والبطولي الذي اتخذته الوزيرة السويدية ضد غباء الرئيس الأمريكي جورج بوش وسياسته الحمقاء، التي تشكل أكبر خطر على وجود البشرية والسلم والأمن في العالم، وبخاصة مواقف بوش العدوانية والغبية من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. هذا وكانت الوزيرة الاشتراكية الديمقراطية صاحبة الشخصية القوية، قد رفضت أن تقدم أي اعتذار للرئيس الأمريكي وإدارته، وأصرت على موقفها السابق ولم تبدله بالرغم من تراجعها عن إطلاق تصريحات جديدة شبيهة بذاك التصريح.
وهذا لا يعني أنها استسلمت لمشيئة أمريكا، بل قد يكون توقف لإعادة تأمل الحقائق والواقع في زمن علت فيه راية الكذب والتزوير والنفاق وبيع المواقف وشراء العقول والذمم ورمي المبادئ في سلال المهملات وعلى مزابل الشركات والحكومات.
وفي زمن يسود فيه التخلف السياسي والظلم العالمي، والجهل الأعمى والتعصب الاستعلائي العنصري، حيث أن الإدارة الأمريكية الحالية تعتبر طليعة الانحطاط الفكري والسلمي والتعايشي بين الدول والشعوب والحكومات والأمم والبلاد والمجتمعات.
فبينما كانت الوزيرة ليند تسير وحدها، كما هي العادة المتبعة في المجتمعات الأسكندنافية المسالمة والهادئة، وذلك في متجر كبير وسط العاصمة السويدية ستوكهولم، فاجئها أحد الإرهابيين المجرمين حين قام بلكمها وطرحها أرضا، ومن ثم قام بطعنها بسكين عدة طعنات في أنحاء جسدها. لقد كانت الطعنات تلك كما القنابل المدوية إذ أنها هزت السويد كلها من الشمال إلى الجنوب ومن الغرب إلى الشرق.هذا الحادث المروع هز فعلا المجتمع السويدي، وكذلك المجتمعات الاسكندنافية، لأنه حادث غريب، وعمل حقير لا تعرفه هذه الأمم، وهو بمثابة صفعة قوية للهدوء الذي تتمتع به حياة الناس من القادة ألى البسطاء في هذه البلاد المسالمة، وقد أعاد الحادث المذكور للأذهان عملية اغتيال أولف بالمه رئيس الوزراء السويدي سنة 1986، وذلك أثناء عودته من مشاهدة فيلم في إحدى قاعات السينما، وحصلت عملية الاغتيال على رصيف أحدى المدن السويدية، حيث كان يسير برفقة زوجته وبلا حراسة أو مرافقة ، بالرغم من أنه رئيس وزراء لمملكة السويد العريقة. قتل بالمه ولازال قاتله مجهول الهوية وحرا طليقا حتى يومنا هذا، وكذلك فأن المجرم الذي هاجم الوزيرة ليند لاذ بالفرار ولازال مجهول الهوية ويتمتع بالحرية.
كل هذا يحدث في ظل نظام ديمقراطي يؤمن بالعقل والحرية والرأي و الرأي الآخر، وقد استغل المجرم المذكور الذي يبلغ طوله حوالي المترين، وسويدي المظهر، هذه المساحة الكبيرة من الحرية والديمقراطية ليشن هجومه الإجرامي على امرأة مسالمة، ذنبها أنها تقول ما يدور في خلدها وتعمل بقناعتها ولا تحب بوش وسياسته الغبية العدوانية.
لقد اعتبر رئيس الوزراء السويدي غوران بيرسون الاعتداء، هجوما على مجتمع السويد المنفتح واعتداء على الديمقراطية، وذكر فورا بعملية اغتيال أولف بالمه في العام 1986. وذكرت مصادر في وزارة الخارجية السويدية أن الوزيرة ليند لم تكن في عمل رسمي بل كانت في المتجر بصفة شخصية، كما أنها لم تكن تقوم بحملة لصالح الاستفتاء الذي سيقرر يوم الأحد القادم، إن كانت السويد ستدخل منطقة اليورو أم لا. ومعروف أن الوزيرة ليند من أكبر المشجعين لدخول السويد منطقة اليورو، مع العلم أن هناك معارضة شعبية سويدية كبيرة للدخول في تلك المغامرة، واحتراما لموقف الوزيرة الموجودة في المستشفى والتي تعالج من الجراح والطعنات، التي تسبب بها الاعتداء، قال رئيس الوزراء بيرسون أنه قد يتم تأجيل الاستفتاء المذكور حتى إشعار آخر.
تعتبر آننا ليند من القيادات الحيوية للحزب الديمقراطي الاشتراكي السويدي الذي يحكم البلاد، وعينت وزيرة للخارجية سنة 1998 بعدما كانت عملت سابقا في عدة وزارات أخرى، ويعتبرها المراقبون المرشحة الأقوى لرئاسة وزراء السويد مستقبلا، وخلفا لغونار بيرسون، رئيس الوزراء الحالي. وتمتع ليند بشعبية جيدة بين مؤيدي الحزب ومشجعيه وفي المجتمع السويدي، كما أن لها حضور سياسي قوي في الاتحاد الأوروبي، ولها مكانة محترمة ومرموقة بين قادة العالم.وقد كافحت وناضلت بجهدها وذكاءها حتى وصلت لموقعها الحالي في الحزب والدولة وأوروبا والعالم. وسوف لن يكون هناك رجال بعد اليوم في الاتحاد الأوروبي لأن الرجل الأقوى بين وزراء خارجية أوروبا كانت آننا ليند، التي تقول ما تريد ولا تأتمر بإمرة شارون وبوش. نتمنى للوزيرة الشفاء والعودة لممارسة عملها الطبيعي خاصة أن العالم بحاجة هذه الأيام للعقلاء لا للأغبياء، فهو يعيش اليوم ذكرى الثلاثاء السوداء التي غيرت مجرى العالم وسيرت التاريخ وفق مشيئة أخرى، فكانت الطائرات التي اصطدمت بالأبراج بمثابة رسالة للعالم أجمع، أراد الذين أرسلوها توجيه أنظار الدنيا نحو مشاكل العالم العالقة والتي ليست الإدارة الأمريكية سوى أحد أهم أسبابها ووجودها واستمرارها.
****************
آنا ليند , الضمير الحيٍٍٍ ..
بقلم : نضال حمد / أوسلو
هل ستكون آنا ليند, وزيرة الخارجية السويدية, أول من يقرع خزان الصمت الدولي وأول من يوقظ أوروبا النائمة ومن خلفها العرب العائمة في بحور من الظلام والصمت الرهيبين؟
هل ستدخل هذه المرأة الجريئة كتاب التاريخ الجديد في عالمنا المستجد بعد إحداث الثلاثاء العصيبة في سبتمبر أيلول من العام الماضي؟
آنا ليند قالت ببساطة ما عجز عن قوله الملوك والرؤساء والزعماء في عالمنا المستظل بمظلة أمريكا وسياستها العمياء.
قالت لعديم الوعي أنه عديم الوعي ولا يفقه من علم السياسة سوى الحماقة.
والسيد بوش, عديم الوعي والتجربة والأسلوب والإرادة والمنتقص الموهبة السياسية والحنكة، يحتاج لدورة علوم سياسية وعلاقات عامة ودبلوماسية حتى يتمكن من التعامل مع الأمور المحلية والعالمية، و حتى يجنب العالم حروبا جديدة هو بالأصل في غنى عنها وبحاجة ماسة لإنهاء الموجود منها.
عندما تقول الوزيرة الشجاعة والجريئة في اجتماع وزراء الخارجية الأوروبيين وللإذاعة السويدية من بروكسل عاصمة الإتحاد الأوروبي أنها تعتبر تصريحات واشنطن عن ياسر عرفات "حمقاء وتفتقر إلى الموضوعي، وتعتبرها سياسة خطيرة جدا من شأنها فقط مكافأة عنف شارون في الشرق الأوسط"، فإن هذا يدل على أن الكيل قد طفح، وأن السكوت على سياسة شارون الإجرامية و دعم بوش والإدارة الأمريكية لتلك السياسة التي ستقود المنطقة كلها الى حرب قد تمس أمن أوروبا وكذلك مصالحها في المنطقة. لم يعد يحتمل،كما أن العين لم تعد تستطع رؤية الجنود الإسرائيليين وهم يمارسون أبشع أنواع الإرهاب الإستعماري ولا أحد يقول لهم توقفوا أو كفاكم تقتيلا وتنكيلا.
الأوروبيون يعرفون أن انعكاسات الصراع في فلسطين كانت دائما تجد لها ميادين مفتوحة في أوروبا، بسبب القرب الجغرافي والعلاقات والمصالح المشتركة.
قد تكون آنا ليند البادئة في وضع النقاط على الحروف لأنها سئمت عجز الرجال عن رفع أيديهم وتوجيه أصبع الاتهام للقاتل و قول كلمة حق في حق العدالة الإنسانية المنتقصة،ما دامت حكومة إسرائيل تمارس الاغتيالات والفظائع في المناطق الفلسطينية المحتلة.
كما أنها أحست بالعار والخيبة من تصريحات بوش ومن خلفه مسؤولي أدارته الذين أظهروا عدم كفاءتهم في التعامل مع مشاكل العالم ،وخاصة مع القضية الفلسطينية التي تعتبر أهم قضية دولية لازالت بلا حل بعد التغييرات العظيمة التي عصفت بالعالم أجمع.
الوزيرة السويدية بكلامها الصريح والجريء والقوي عن عجز بوش وحماقته أنما تقول للعالم أن هذا الرجل وهذه الإدارة بهذه السياسة الحمقاء سوف تزيد الأمور تعقيدا وصعوبة في منطقة الشرق الأوسط وقد تجر الأطراف كلها الى حروب جديدة،المنطقة والعالم بغنى عنها.
قد تكون كلمات الوزيرة السويدية بداية الفرز بين موقف اوروبا الحرة واوروبا التابعة لأمريكا والملتزمة موقف اسرائيل والتي يمثلها رئيس وزراء إيطاليا بيرليسكوني.
كلنا يذكر كلمات بوش بعد عمليات 11 ايلول في امريكا عندما قال:
"إنها حرب صليبية جديدة"، ومن ثم تسمية حربه على افغانستان والقاعدة "بالعدالة المطلقة" وكأنه يريد بهذا الكلام أن يقول للعالم إننا في امريكا وحدنا من يعرف الناس ويقسمهم الى ارهابي وغير ارهابي،مسالم وغير مسالم ،تابع وغير تابع،متحضر ومتخلف، وجدير بالحياة وغير جدير بها.
هذا منطق بوش غير المنطقي ويشاركه فيه السيد بيرليسكوني الذي قال بعد 11 ايلول انه: "صراع الحضارات والإسلام ديانة غير حضارية". هذان الرئيسان الغربيان لم يعجبهما بيان وزراء خارجية اوروبا بالرغم من كل تحفظاتنا عليه.
ترى هل سترقى البلدان العربية الصامتة في موقفها لموقف اوروبا التي خرجت عن صمتها بعد سبات طويل؟
الجواب برسم صانعي القرار والسياسة في بلادنا وكذلك برسم الإجتماعات العربية في بيروت والقمة العربية القادمة في شهر آذار مارس المقبل.
ليس بوسعنا سوى أن نحيي الموقف الأنساني والسياسي النبيل الذي وقفته السيدة آنا ليند،وكذلك وزير خارجية بلجيكا الذي تكلم بلسان فصيحة وبلغة واضحة عبرت عن رفضها لما يقوم به شارون وجيشه من أعمال اغتيالات ودمار ومخالفات لكل مواثيق حقوق الأنسان،وندد بالموقف الأمريكي من عرفات وأعمال اسرائيل.
الوزير البلجيكي كان في العام الفائت، وأثناء زيارة قام بها لمخيم خان يونس الذي دمرته دبابات وجرافات شارون، قد وصف ما رآه بالمأساة التي تذكره بما فعله النازيون باليهود في اوروبا.
تحية للوزيرين اللذين قالا ما عجزت عن قوله العرب، لأنهما أصبحا مثالا على قول الحقيقة في زمن النفاق وتزوير الحقائق.