هو الميلاد المتجدد للعطاء المتأصل في كيان طاقات باقية بقاء الدهر والوطن ..! اين كنا سنجد لوننا الانساني في عصر التشوه هذا ؟؟ في عصر الاستقطاب المشحون بالحقد والنذالة تحت ستار مواجهة الارهاب .. يا معضلة ينفذها بعض السخفاء طوعاً في سياق استفحال عهد المعلوماتية , خدمة لرب واحد هو رب رأس المال ورأس الحرب ورأس الثروة .!!
الا ان شعباً امتلك برتقال يافا , وسنابل البروة وزيتون الجليل .. وبقاعاً وارفة الظلال , ينابيعاً وسماء صافية من الحب والايمان .. بالارض والانسان , ليس بوسعه , رغم ما حل به من نكبات وويلات ومجازر , الا ان يكون شعباً عاشقاً للحياة .!! وهذه هي تمام الاكحل , ابنة بيارات يافا , ابنة رمال شواطئها , وزرقة بحرها الممتد على طول ساحل فلسطين .. ها هي تحمل الوان العشق الازلي للحياة , لفلسطين , وتذهب الى هناك .!!
الى بلدة ربما اقل من اعتيادية , تقع في ايطاليا , في الجنوب الشرقي منها .!! اذاً ليست هي روما , وبالطبع لن تكون فينسيا .! اذ لا يقطنها سوى اربعمائة شخص فقط , ويرجع تاريخها الى بضع قرون خلت .. والمدهش ان اهلها يؤثرون الحفاظ عليها كما هي , بازقتها , بساحتها القديمة , بكنيستها , بقناطر بيوتها الباقية .. حفاظاً على ما كان في وجه تحديات الزمان ! وقد اتاحوا لابنائها ومحبيها ان يقيموا احياء جديدة تبعد بضع كيلومترات عن مسطحها ومساحات الالوان الخضراء الممتدة حولها ..!
اسمها "سكونتروني" .. حفرته على صفحات الحضارة المعاصرة باحرف من ذهب خالص .! ليس لشيء , سوى لانها اقامت ثاني متحف لفن المراة في العالم , اطلقت عليه اسم "المتحف الدولي لإبداعات المرأة في الفنون" (Museo Internazionale delle Donne nell’ Arte) , وقد وجد متحفاً وحيداً آخر في العالم يقع في "واشنطن" ويدعى المتحف الوطني للمرأة في الفن" (The National Museum of Women in The Arts) .. اما الثالث فلا يزال قيد الانشاء في احدى المدن الاوروبية .!
وموجز الفكرة يلخص بان هذه القرية اعتمدت فكرة إنشاء هذا المتحف فقامت بتوفير المكان له. وقومت جدرانه بالاعمال النسوية من خلال طلب التبرع بلوحات ذات أهمية وقيمة فنية, التي استطاعت ان تجمع بعضها من قبل مقتني الفنون, من أهل البلدة ومن البلدات المجاورة ومن ارجاء ايطاليا بشكل عام . وقد اتاح هذا التوجه الشمولي لفن المرأة تبني إقامة معرض سنوي , تدعى إليه فنانات من شتى انحاء العالم ، تشارك الواحدة منهن بأربع من اعمالها وتتبرع بعمل منهم كهدية للمتحف, يمكن اعتبارها تعويضاً على ما تقدمه البلدة الوادعة من ضيافة ومساهمة في تدعيم هذا التوجه الحضاري والانساني .
فاعلمي يا جحافل الاحتلال الارعن , وعلى الرغم مما ترتكبينه من قتل وتدمير وابادة .. ان هنا في هذا الحدث المميز تشارك فلسطين ايضاً !! بصرح من صروح حركتها التشكيلية, اسمه تمام الاكحل !! ذلك الى جانب مشاركات مبدعات عربيات هن .. زينب خليل وهدى مراد من مصر,سعاد العطار من العراق, فتحية جاروشي من ليبيا, كما اخريات من انكلترا, أمريكا, أستراليا, ألمانيا, فرنسا, اسبانيا, بولندا, الأرجنتين, البرازيل, رومانيا, وغانا ..! فحسبنا ان هذا هو عطائنا الى الامم والزمان , في عهد يُقتل فيهِ ابناء فلسطين ليس من خلال مواجهة في ساحة حرب اعتيادية .. انما من خلال ارهاب دولي تمارسه ترسانة من الذخيرة الامريكواسرائيلية .. تحت غطاء الصمت العربي القذر .!!
لم يأتي الافتتاح بمراسيم باريسية الاضواء والصخب , الا انه جاء متجانس مع جدران البيوت المحاذية لساحة البلدة القديمة هذه , مفعم بغناء كلاسيكي ادته ابنة تلال تلك الربوع برفقة عزف على البيانو .. ذلك بحضور عدد من المدعوين من ابناء البلدة والمدن المجاورة , اضافة الى شخصيات تمثيلية على مستوى الدولة . تكلم في الحفل ممثل وزارة الثقافة الايطالية , منظم المعرض ورئيسة البلدية .. بكلمات ترحيبية لا تتعدى اللياقة الادبية , ومن ثم عاد منظم المعرض ليعرف الحضور على الفنانات المشاركات , فدعى كل واحدة بدورها ليقول على الملأ ما دونه تاريخها الابداعي , وبعده افسح المجال لكل فنانة بالرد على هذا التكريم بكلام تختاره لهذه المناسبة .!! وبهذه المناسبة ايضاً قدمت رئيسة البلدية هدية تذكارية , عبارة عن قطعة فنية من الانتاج المحلي, لكل واحدة من الفنانات المشاركات. والجدير بالذكر ان معرض هذا العام جاء تحت عنوان "اختيار الورد" (Rose’s Choice) .. وقد صاحبه اصدار كراس هو عبارة عن " دليل المعرض " , جائت صفحاته المائة وعشر, ممتلئة بصورة شخصية لكل مشاركة مع نبذة عن تاريخها, وعمل من الاعمال المشاركة لها في هذا المعرض .
شاركت الفنانة الفلسطينية تمام الاكحل في هذا الحدث الفني الدولي, من خلال دعوة ارسلت لها من قبل القائمين على المتحف , وقد وصل الثنائي شموط الى روما في 18 تموز الفائت , حيث كان باستقبالهما اثنان من بلدة "سكونتروني" , وفنانتين تشكيليتين من مصر هن زينب خليل وهدى مراد دعيتا للمشاركة ايضاً في هذا الحدث .. وقد استغرق السفر الى البلدة البعيدة عن روما مسافة 200 كم , ما يقارب ثلاث ساعات . وصل الركب الى "سكونتروني" مع ساعات الليل الاولى , لتكون في انتظارهم امراءة على قسط وافر من الحسن, تخطو على مهل سنوات ربيع العمر, هي (العمدة) اي رئيسة البلدية .!! اسمها "باتريشيا" وكان بصحبتها عدد من مساعديها, اضافة الى لفيف من الاديبات والفنانات الواتي حضرن من ايطاليا ومن اماكن مختلفة من العالم .
لطالما استوقفتني اعمال الفنانة القديرة تمام الاكحل , فكلما التقت عيناي بزاوية الفن التشكيلي التي تحتل جزءاً لا باس به من مكتبتي , وجدتني المح خيوط الوان ومساحات فلسطين , من خلال ما احتفظ به من البومات لاعمال لها ولرفيق دربها , العائلية والفنية والكفاحية .. الاستاذ اسماعيل شموط .!! وكم من المرات التي تصفحت بها هذه الاعمال لساعات طوال , ولم ارتوي رغم انني احفظ الكثير من ملامح تلك الاعمال عن ظهر قلب .!! تنتمي اعمال تمام الى المدرسة التعبيرية الواقعية , الا انها ضمنتها شيئاً خاصاً تميزت بها اعمالها, وذلك من خلال التعمق في المضمون والابتعاد بقوة وذكاء عن التفاصيل الدقيقة, التي يمكنها في كثير من الاحيان, ان تسلب المتلقي وتبعده ان الشعور العام الذي تحمله اللوحة .
لقد كتب عن اعمالها الاستاذ عماد عبد الوهاب في مجلة الهدف الصادرة في دمشق يوم 8.7.1985 ما يلي : " ان اعمال الفنانة تمام الاكحل اتت لتعالج موضوعات لها صبغة غير مباشرة , لكنها في الحقيقة شكلت قفزة نوعية بكل المقاييس ووضعت الفنانة في اطار خاص ومميز , وربما متفرد ايضاً . فهي التي تدرجت من الواقعية الى المحاولات التجريدية التي تعتمد على الزخارف الفلسطينية باسلوب يبتعد عن التزينية التي وقع ضحيتها الكثير , واقتربت من المعالجة التشكيلية المحكمة عبر التركيز على انسجام التكوين , بفراغاته واشكاله وانسجام اللون , والاهم هو استثمار الزخارف الفلسطينية الهائلة وتوظيفها بشكل يحمل الصفة الابداعية "
تمام يا تمام .. يا رسولة اللون الفلسطيني الارجواني , المتسربل بروح العشق المعتق للحياة .! يا سنبلة عطاء لا يجف .. يا برتقالة يافاوية حملت رائحة الليمون في رئتيها الى بقاع الارض .! يا صهيل خيول تعدوا نحو الشمس والحرية .. حسب فلسطين انك ابنتها الوفية .. وحسبك انك انت هي ايضاً .