أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد ليالي هبوط الغجر















المزيد.....


المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد ليالي هبوط الغجر


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1938 - 2007 / 6 / 6 - 10:36
المحور: الادب والفن
    


يوّثق محنة قرية غجرية مُحاصرة لأنها تمتهن الرقص والغناء والمتاجرة بالجسد

دأب مهرجان الفيلم العربي في روتردام كل عام أن يُسبق الأيام العادية للمهرجان ويلحقها ببعض البرامج والأنشطة السينمائية التي تتضمن غالباً محاور فنية على قدر كبير من الأهمية كأن تكون دورة الأحياء في مدينة روتردام ذاتها، أو دورة المدن حيث تتنقل بعض الأفلام في عدد من المدن الهولندية المهمة مثل أمستردام ولاهاي وأوتريخت ونايميخن وخروننجن وسواها من المدن الأخرى الكبيرة. أما هذا العام فقد قرر القائمون على المهرجان، وعلى رأسهم د. خالد شوكات والاستاذ إنتشال التميمي، أن يكون برنامج " كرافان السينما العربية- الأوروبية " هو الإنطلاقة المبكرة لفاعليات هذا المهرجان وإرهاصاته الأولى حيث قررت اللجنة المنظمة للمهرجان عرض " 12 " فيلماً روائياً ووثائقياً طويلاً وقصيراً خلال المدة من 18 مايو " أيار " الجاري ولغاية العشرين منه في صالات سينما " كرايتيريون " في أمستردام. وقد تابعت مجمل العروض الروائية والوثائقية. وفي المقال الآتي دراسة نقدية عن فيلم المخرج هادي ماهود المثير للجدل " ليالي هبوط الغجر ".
تكمن أهمية الفيلم الوثائقي القصير " ليالي هبوط الغجر " للمخرج هادي هادي في اصطياد ثيمة حساسة، ومثيرة للجدل، ولا مُفَكَّر فيها من قبل، خاصة في الظرف الإشكالي الراهن الذي يمر فيه العراق منذ سقوط بغداد في 9 أبريل " نيسان " 2003 وحتى الآن. وعلى رغم من التصفيات الجسدية، والقتل العشوائي المنظّم على الهوية، والتهجير القسري لأكثر من ثلاثة ملايين مواطن خارج حدود العراق، ونحو مليوني داخل العراق، إلا أن المخرج هادي ماهود، المعروف بذكائه السينمائي، وحسه الإنساني المرهف قد ترك هذه الكوارث والمصائب والمحن كلها، وتوجّه الى " غجر الجنوب " حيث ركّز على قرية غجرية نائية من قرى محافظة الديوانية. وقد تعمّد المخرج عدم ذكر إسمها ألبتة، وكأنها لا أهمية لها، أو لا إسم لها في إشارة واضحة الى هامشيتها، وإحتمال زوالها من الخارطة في أية لحظة من لحظات التاريخ العراقي القار، والرجراج، وغير المُتعين. وحينما يتحدث رجل الدين المتعصب عنها فهو يكتفي بمفردة " القرية " مُجردة من إسمها الحقيقي، بل أن بعض النسوة الغجريات قد اكتفين بوصف هذه القرية بالعبارة الآتية " خلونا عايشين بهذه الترابة " والمقصود بها من دون شك " المنطقة المُتربة النائية عن التجمعات السكانية في العراق ". وأعتقد أن حجب الإسم الصريح لهذه القرية المنكوبة قد أمدها بشيء من الغموض، كما منحها الفرصة لأن تكون رمزاً للقرى الغجرية المبثوثة في شمال العراق ووسطه وجنوبة. ويجب تذكير القارئ الكريم بأن المخرج قد حجب أسماء المتحدثين من رجال الدين أيضاً لأنه يخشى على حياته، وهذا حق طبيعي ومشروع، ولكن المشاهد الحصيف سيعرف من دون شك الجهة التي تقف وراء هذا العدوان السافر على قرى عراقية آمنة يعتقد السلفيون من وجهة نظرهم أن هؤلاء الغجر طارئون على الحياة العراقية، ويجب اقتلاعهم من الجذور، ونفيهم خارج حدود المدن العراقية " المقدسة " في الأقل!
التهجير القسري
تفادى المخرج هادي ماهود اللغة المباشرة التي تشير صراحة الى إدانته لحزب أو تيار إسلامي محدد، فالمتحدثون من رجال الدين هم الذين يكشفون عن عناوينهم، وهوياتهم، وأحزابهم السلفية المتشددة، سواء تلك التي نشأت وترعرت في إيران، أو تلك التي انبثقت بشكل عشوائي غير منظّم في العراق، وظلت على إضطرابها، وتشوشها، وغوغائيتها الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا! قال رجل الدين الأول الذي سيتكرر ظهوره غير مرة وهو ينتمي من دون شك الى " التيار الصدري " " نحن نوّهنا حتى في صلاة الجمعة أننا كأهالي محافظة نأسف أن تكون الديوانية مرتعاً للرذيلة. " ثم يمضي الى القول متسائلاً: " لماذا تُقصَد كربلاء والنجف والكاظمية كمناطق مقدسة للزيارة، بينما تُقصَد الديوانية لممارسة الرذيلة؟ ". ويبدو أن هذا الأصولي لا يعرف بأن محافظة الديوانية تحتضن أربعة مراقد مقدسة بالنسبة للعراقيين في الأقل وهذه المراقد كما أوردتها موسوعة ويكيبيديا الحرة هي " مرقد الإمام أبو الفضل ابن الإمام موسى ابن جعفر، مرقد النبي أيوب، مرقد السيد محمد، مرقد السيد محمد بن الكاظم"، إضافة الى شواخص مدينة نفَّر الأثرية الواقعة قرب مدينة عفك. فالناس تقصد الديوانية لأسباب دينية وحضارية أيضاً، وهم لا يقصدونها فقط لممارسة الرذيلة أو الترويح عن مكبوتاتهم الجنسية. ولكي يضفي هذا الرجل المتشدد الصفة القانونية على ما تفعله الأحزاب الدينية في قصف الأحياء الغجرية، وتدميرها، وتهجير أهلها وسكانها البسطاء، فقد أردف قائلاً: " سبق وأن قلت بأن العمل الذي قام به مكتب السيد الشهيد الصدر " قدّس الله سرَّه الشريف " مطابق للقانون، إذ تمَّ التنسيق مع الأجهزة الأمنية الموجودة في المحافظة. " وهو يريد القول بأن قصف هذه القرية الغجرية بقنابل الهاون، وتقويض بيوتها هو عمل " شرعي " غير خارج على القانون الذي سنّه الدستور العراقي الجديد. يؤكد رجل الدين جازماً على " أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، ولا يسمح الدستور العراقي الجديد بسَّن أي قانون يتعارض مع ثوابت الشريعة الإسلامية المقدسة. " وهو يرى أن بقاء الغجر في هذه المحافظة، وممارسهتم لعادات وتقاليدهم وطقوسهم اليومية، هو تعارض حقيقي مع ثوابت الشريعة الإسلامية، غير أن هذا الرجل نسي أو تناسى بأن الدستور قد ضمن سلفاً حقوق الأديان الأُخَر المتعايشة في العراق منذ آلاف السنين، كالمسيحية، واليهودية، والصابئة المندائية.
وجوب دعم القائمة الأقوى
ومما يزيد الطين بلِّة هو الحديث الصريح لرجل دين آخر يكشف سراً طالما شكَّك فيه العراقيون. وهو دعم السيد السيستاني العلني للقائمة " 555 " قائمة الإئتلاف العراقي الموحد حيث قال: " إن موقف السيد " السيستاني " واضح في دعم القائمة الأقوى في هذه الانتخابات، بل بالعكس أوجب وجوباً عينياً على الرجال والنساء المشاركة بهذه الإنتخابات. وأكد على عدم تشتيت الأصوات. وهذه إشارة واضحة، وإن كانت تلميحية، ولكن قد يكون تلميحاً أقوى من تصريح. وأكد على دعمه وتأييده وتأكيده على انتخاب القائمة الأقوى " 555 " قائمة الإئتلاف العراقي الموحد.". وعوداً على رجل الدين " الصدري " الأول الذي نصّب نفسه قاضياً على الناس البسطاء حتى وإن لم يكن موظفاً في أروقة الدولة كما إعترف بعظمة لسانه، بأنهم " أي رجال الدين " لا يقتحمون على الناس منازلهم، ولا يمنعونهم من الغناء ضمن فضاءات بيوتهم حيث قال: " الآن يستطيع أي مطرب أن يغني في بيته. نحن لا نريد أن نضع أجهزة تنصت، ولا نريد أن نراقب الناس في بيوتهم، ونقحتم عليهم منازلهم، ونقول لهم لماذا تغنون، أو لماذا تفعلون هكذا؟ " وهو يريد القول من دون شك بأن الغناء العلني في المناطق العامة محرَّم، ولا يجوز القيام بهذه الظاهرة لأنها تتعارض، من وجهة نظره، مع ثوابث الشريعة الإسلامية!
محاصرة القرى الغجرية المحرّمة
ورغم أن هذا الرجل يدعي بأنه ليس موظفاً في أروقة الدولة إلا " أنه التقى مع السيد قائد الشرطة، وبعض الأجهزة الأمنية، وأحاطوا المنطقة بسياج ترابي، وفتحوا مفرزة شرطة بحيث تمنع وصول الناس من غير سكنة هذه المنطقة أصلاً. " وما لم يرصده هذا الفيلم الوثائقي هو أن جماعة التيار الصدري كانت تجلد الناس الذين يترددون على مضارب الغجر " 80 " جلدة بتهمة ممارسة الزنى، والتردد على المناطق المحرّمة. يتصور رجل الدين هذا، بأن هناك مهمة إصلاحية ملقاة على عاتقه تتجسد في تهجير الغجر وإقتلاعهم بطريقة قسرية من الديوانية كي تصبح هذه المحافظة مقدسة من وجهة نظره، ولا شأن له إن ترك هؤلاء الغجر العراقيون " الذين يحملون الجنسية العراقية " منعزلاتهم، وتوزعوا في أحياء المدن العراقية. وكجزء من عمله الإصلاحي فقد قاموا بإرسال أحد رجال الدين لكي يؤمهم في الصلاة يوم الجمعة، غير أن هذا الإمام قد تعرّض لإطلاق نار من قبل مجهولين ولاقى قدره المحتوم. وهم يعتبرون هذا الحادث مدبراً بهدف إفشال هذه الخطوة الإصلاحية. يلقي رجل الدين اللائمة على القوات الأسبانية التي وسعت الأمر بحيث وقعت مواجهات بين جيش المهدي من جهة والقوات الأسبانية من جهة أخرى، وهو يرى بأن القوات الأسبانية قد لعبت دوراً أساسياً في تأجيج الموقف وجر الغجر للمواجهة مع قوات المهدي في تلك الفترة. وفي سياق متصل تحدث رجل دين ثالث قائلاً: " إن القضية وما فيها، هي أن القوات المحتلة قامت باقتحام بيت الاستاذ أحمد عبد الكاظم، الذي يمثل مكتب السيد الشهيد الصدر، كما دهمت المكتب لعدة مرات، ثم ضربته برمانة يدوية أو رمانتين. . . " في إشارة الى أن القوات المحتلة تؤجج روح المواجهة، وتجبر الناس على التصدي لهم. كما طالب هؤلاء الناس الحكومةَ العراقيةَ بالتدخل لكي يحدوا من استفزاز القوات المحتلة، ويمنعونهم من دخول المدينة، لأنهم يعتقدون بأنه لا يوجد أي مبرر للعبث بهذه المدينة أو الإساءة الى مكتب الصدر الذي يعتبره رجل الدين خيمة لكل العراقيين، وأنهم على استعداد لأن يموتوا من أجل هذا المكتب.
العزل الاجتماعي
يشدد رجل الدين على أن الغجري يظل كائناً غريباً ومغترباً عن الشعب العراقي، وحتى " لو أراد أن يستقر في المدينة فإنه يواجه هذه المشكلة لأنه غجري " معزول ومنبوذ اجتماعياً " والمجتمع لا يتعامل معه لأنه إنسان لديه ممارسات خاطئة، وغير صحيحة، ولذلك يظل غريباً " وكما هو معروف لدى الجميع أن هذه الممارسات الخاطئة تنحصر في " الرقص والغناء والمتاجرة بالجسد " والتيارات الدينية المتشددة التي انبثقت بعد سقوط بغداد تمنع منعاً باتاً مزاولة هذه المظاهر تحديداً. وهم لا يقبلون بالمقولات التي تؤكد بأن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب على رغم من اقرارهم بها على مضض. يقول رجل الدين الصدري ذاته الذي تكرر ظهوره عدة مرات " مسألة أن العراق بلد متعدد الديانات، متعدد المذاهب. . لا شك في ذلك، هناك قوميات متعددة لكن هل تحسب وجود " 500 " نفر، أو " 1000 " فرد قومية، وتريد أن يمارس هؤلاء الألف فرد عاداتهم وتقاليدهم بما يستفز مشاعر %98 من الشعب العراقي؟، بطبيعة الحال هذا ليس عدلاً. " ولا أدري كيف حسب رجل الصدري هذه المسألة، وكيف قرأها من وجهة نظره الضحلة والمُضلِلة؟ فالعراق فيه أربع قوميات رئيسة وهم العرب والكرد والتركمان والكلدوآشوريون، وفيه الإسلام والمسيحية وبعض اليهود والصابئة المندائيون، وفيه أيضاً الغجر الذين يعتبرون أنفسهم عراقيين، ويحملون الجنسية العراقية، ويدعي بعضهم أن إستقر في العراق منذ القدم، وجاء مع الموجات الغجرية التي هاجرت من الهند الى بلدان الشرق الأوسط وأوروبا. وهم يشكلون، في واقع الحال، نسبة غير قليلة، وهناك قرى وأحياء كبيرة تحتضنهم في الوسط والجنوب لعل أبرزها " كنعان "، " الكمالية "، " الفجر "، " الفوار "، " حي الطرب " وما الى ذلك من أحياء ومنعزلات خاصة بالغجر. والغجر، كما هو معروف في العراق، يتحدثون اللغة العربية في وسط وجنوب العراق إضافة الى لغتهم الأصلية " الغجراطية " وهي لغة هندية قديمة. وقد آثروا على أنفسهم أن يكونوا جزءاً من هذا المكوِّن الواسع للشعب العراقي وهم العرب، وقد تبنوا الإسلام ديانة، بل أن أغلبهم يدين على وفق تعاليم المذهب الشيعي. وأن ما يكشفه الفيلم من عبادات وطقوس لهو دليل على اعتزازهم بالمذهب الجعفري. فكل الشخصيات التي توقف عندها مخرج الفيلم تقول بالفم الملآن بأنها مسلمة، تتمسك بالدين الإسلامي، وتمارس شعائره وطقوسه. ولعل المشهد الأخير من الفيلم يكشف بما لايقبل الشك بأن الغجر متشبثون بأداء الطقوس العاشورائية. فالنساء يجهزن الطعام، بينما ينهمك الرجال بقراءة العزاء الحسيني وما ينطوي عليه من لطم على الصدور، وضرب بالزناجيل على الظهور، وتطبير للرؤوس بالنسبة للرجال، فيما تمعن النساء باللطم على الصدور والرؤوس، والضرب على الزنود وما الى ذلك من شعائر يعرفها المواطن العراقي عن كثب.
عاطلون عن العمل والأمل
توقف المخرج عند عدد من الشخصيات الغجرية التي شهدت القصف وتضررت من جرائه. فإحدى الفتيات تقول " سقط صاروخ وهز البيوت هزاً. انهزمنا من القرية، ثم سمعنا أحدهم ينادي بالسماعات تعالوا شيلوا موتاكم " ثم تواصل هذه الفتاة سرد قصة تدمير البيوت، وتقويضها، ونهب ممتلكاتها. أحد الغجريين قال بأن ثمن كل بيت كان يساوي " 100 " مليون دينار عراقي. هذا إضافة الى نهب الأثاث والممتلكات الخاصة بالغجر. هكذا أصبح الغجريون بين ليلة وضحاها مشردين، لا منازل تأويهم، مجردين من المال والأثاث والذكريات، كما تحولوا الى أناس عاطلين عن العمل والأمل. فقد كان إحياء حفلات الرقص والغناء، وممارسة البغاء هي مهنتهم الرئيسة. أما الآن فلا " شغل لهم ولا عمل " حتى أن مهنهم الثانوية قد ذوت وانحسرت مثل مزاولة السحر، وقراءة الكف والطالع، وبيع الخواتم والأقراط وأسنان الذهب وبقية أدوات الزينة النسائية. فلا أحد يجرؤ على المجئ الى هذه المضارب المنعزلة والمُحاصَرة والتي باتت هدفاً للأحزاب الدينية المتشددة التي آلت على نفسها مهمة تنظيف العراق من بؤر الفساد ومراتع الرذيلة ".
تعذيب الغجر وابتزازهم
كنت أتمنى على المخرج هادي ماهود أن يتأنى في التصدي لهذا الموضوع الخطير، ويجمع عنه مادة توثيقية كبيرة. فلقد نشرت بعض الصحف العراقية أخباراً مفادها أن غجر الوسط والجنوب قد تعرضوا للتعذيب على أيدي المليشيات الدينية المتشددة مما دفع بعض شيوخهم الى اللجوء الى المرجعيات الدينية في النجف طالبين حمايتهم من حملات التشريد والتعذيب والإبادة الجماعية. فقد صرّح السيد بزاي البارودي، وهو شيخ قبيلة غجرية، الى وكالة رويتر قائلاً: " إن الأحزاب الدينية عذبتنا " وأوضح كيف أن ظروفهم الحياتية قد تحسنت في ثمانينات القرن الماضي، وكيف أصبح حالهم بعد القصف والتشريد، والهروب الجماعي الذي جعلهم يبدؤون حياتهم من الصفر. وأضاف البارودي " نحن مسلمون وبشر، ونتمتع بالجنسية العراقية، ولا نريد سوى العيش بسلام ". لقد أوردت بعض هذه الملاحظات من خارج سياق الفيلم لأنني موقن أن هادي ماهود هو مخرج موهوب قادر على أن ينجز فصولاً لاحقة لهذا السفر البصري الإنساني، والإشكالي، والمثير للجدل. أضاف أحد الرجال الغجر الذين دُمرت منازلهم قائلاً: " بأنه لا يعرف مصدر الصواريخ والقنابل التي هدمت بيوت القرية برمتها حتى بدت وكأنَّ زلزالاً مدمراً قد ضربها، فلم يبق جداراً واقفاً فيها، إذ أصبحت مثل الأطلال الدارسة. ثم أضاف بأنه أمه قد ماتت جراء هذا القصف، بينما جرحت أخته الشابة التي إلتقاها المخرج وهي تخيّط فستاناً لأختها الصغيرة، وتزينه بالخرز الملونة. وقد بدت الفتاة الغجرية معوّجة اليد، علماً بأنها قدمت شكوى الى الحكومة، لكن هذه الأخيرة لم تفعل شيئاً إزاءها، وأزاء كل عمليات القتل والتفخيخ والتفجير التي اجتاحت البلاد من أدناها الى أقصاها. انبرت غجرية أخرى للحديث عن محنتها، وكيف أنا تجاوزت بعض هذه المحنة بالوقوف الى جانب زوجها، ومساعدته في الظرف الصعب الذي يمر به، فهي تقف بدلاً عنه في المحل وتبيع الثلج والخضراوات وبقية المستلزمات التي يحتاجها أناس القرية. حمام القرية قد توقف هو الآخر عن العمل بسبب شحة النفط، لذلك إتجه أطفالهم الى السباحة في المستنقع القريب من القرية الأمر الذي عرضهم للإصابة بالطفح الجلدي، والثآليل، والجذام. تشكت امرأة غجرية بالقول " إحنا " الكاولية " ما طلع من عندنا ذنب. شو تبهذلنا حيل. لو تجي صواريخ وتمردنا إحنا وحياطينّا أحسن من هذه البهذلة " ولا شك في أن كلام هذه السيدة الغجرية ينطوي على ألم ممض، فهي تفضل أن تطحنهم الصواريخ هم وبيوتهم على أن تعيش هذه الحياة المليئة بالقمع والبؤس والمرارة والمذلة.
فتحت عيني فوجدت نفسي غجرياً
أضافت امرأة غجرية أخرى قائلة " إحنا من وعينا للدنيا شفنا إرواحنا هيجي شغلتنا " وهي تقصد أنها مذ جاءت الى الدنيا، وفتحت عينيها، وجدت نفسها غجرية تمارس البغاء، وتمتهن بيع الجسد مهنة لها، وهي لا تراها مهنة معيبة، فهي وسيلة لتحصيل الرزق الحلال ربما من وجهة نظرها. وتتساءل هذه المرأة قائلة: هل يصح لنا أن نلوم أهلنا الكبار؟ وتجيب في الوقت ذاته، كلا لا نلومهم. وعزز هذا الرأي شاب غجري آخر حينما قال " آني غجري. ما لك علاقة بي. آني مو سوِّي نفسي غجري. آني ما لي ذنب. الذنب ذنب أمي وأبوية ". تؤكد كل هذه الآراء بأن الغجري حينما فتح عينيه أول مرة وجد نفسه غجرياً، وهو لا يجد في ذلك ذنباً أو إثماً قد اقترفه. كما أنه لا يجد ضيراً في مهنة البغاء التي يتعاطها، ويروجها في مضاربه. فبعض الفتيات الغجريات يصرحن للمخرج بأن عدد الوافدين لهذه القرية قليل جداً بسبب حملات القمع والمطاردة والتهجير القسري، هذا إضافة الى مفارز الشرطة التي نصبتها الأحزاب الدينية بالتعاون مع مديرية الشرطة في الديوانية حيث تجلد الوافدين إليها بـ " 80 " جلدة وربما أكثر. أما شيخ قبيلة الغجر فقد ناقش وجهة نظر موفد التيار الصدري، وقال بأنهم يطلبون منا أن نتوقف عن ممارسة هذه المهنة، ويعني حفلات الرقص والغناء، ومزاولة البغاء العلني. وقد وافق على هذا الطلب، ولكنه حاججهم في كيفية الحصول على الرزق. فهم منبوذون اجتماعياً، ولا يستطيعون العيش في المدن العراقية. وهم محاصرون الآن في منعزلاتهم، لا أحد يخرج منهم، ولا أحد يستطيع الدخول اليهم. فمن أين تأتي مصادر أرزاقهم؟ الشيخ الغجري طالبهم بتأمين عمل لرجالهم وشبابهم حتى " يستقيموا " على حد وصفه ولا يموتوا من الجوع. امرأة متوسطة السن ناشدت المخرج بأن يتركوهم في المنطقة المتربة، فحتى لو انتقلوا الى المدينة فإن المصير الذي ينتظرهم هناك لا يقل تراجيدية عن المصير المفجع الذي لاقوه في هذه القرية النائية. امرأة غجرية شابة تجلس خلف ماكنة الخياطة تقول بما معناه " إذا كنا غير عراقيين، فدعهم يبحثون لنا عن مكان يسفروننا إليه" ثم كشفت إدعاءاتهم الزائفة، ووعودهم الكاذبة حينما جاء أحدهم من التيار الصدري وقال بأنه سيفتح للنساء معملاً للخياطة، ويوظفهن فيه. لقد مرت بضعة شهور ولا أثر له ولا لمعمله الموعود. وقد أكدت هذه الغجرية الخيّاطة بأنها تتبنى عملية تعليم الفتيات الغجريات على الخياطة في هذه القرية البعيدة. أما بصدد تعيينهم في معمل خياطة النجف فهي كذبة أخرى لأنهم لا يستطيعون الذهاب الى المدن غير المقدسة فكيف يستطيعون الذهاب الى المناطق المقدسة بحسب التسميات الدارجة في العراق.
حي العامل .. منطقة مقدسة! "
يمضي المخرج الى متابعة بعض العوائل التي شردت قسراً من منعزلها وذهبت الى حي العامل في بغداد، لكنها تعرضت الى الإبتزاز والتهجير القسري ثانية لأن " حي العامل " من وجهة بعض التيارات الدينية المتطرفة هو " أرض مقدسة أيضاً " ولا يجوز للغجر السكن أو الإقامة المؤقتة فيها ريثما تستقر الأمور، فلقد سطوا على مصوغاتها الذهبية، وأخذوا نقودها، وهددوها بالقتل إن لم ترحل عن بغداد. وخشية من أن يغتصبوا ابنتها اليافعة قررت هذه الغجرية أن ترحل عن بغداد. ولعل أطرف ما طرحته هذه المرة المنكوبة حينما خاطبت عصابات السلب والنهب بما معناه " الى أين نذهب، ألسنا مسلمين، ألسنا جزءاً منكم؟ هل نحن يهود؟ " وحينما جاؤوا بحاوية للنفط، وهددوها بحرق العائلة قررت الرحيل حتى وإن ظلت هائمة على وجهها في البراري حفاظاً على ذريتها. ثمة طفل غجري آخر كان يقرأ للمخرج قصاصة ورق مكتوب عليها " الجمهورية العراقية "، لكنه ترك الدراسة لأن بقية الطلاب يعيِّرونه بأصلى الغجري ويقولون له بأنه " كاولي " ولا محل لـ " للكاولية " في المدن والتجمعات السكانية الثابتة.
ربما يكون رد المخرج واضحاً وصريحاً حينما قرر إنهاء الفيلم بمشهد العزاء الحيسني الذي يكشف عن تعلّق هذه الشريحة المهمشة بالإسلام ديناً، وبالمذهب الشيعي على وجه التحديد، فها هم يحزنون، ويلطمون، ويطبّرون الرؤوس بالسيوف حتى تتلطخ ملابسهم بالدماء الحمراء القانية تعبيراً عن حزنهم العميق لفجيعة كربلاء التي تتكرر طقوسها كل عام في عراق الرافدين.
الأغاني الغجرية
تشكل الأغنية الغجرية رافداً مهماً من روافد الأغنية العراقية، بل أن المطربين الغجر هم رديف للمطربين الريفيين، ويندر أن يُحيا أي حفل ترفيهي من دون أغنية غجرية، ولا داعي لذكر الأسماء لأنها محفورة في ذاكرة العراقيين، وراسخة في وعيهم الجمعي، بل أن بعضهم لا يعرف أن أصل هذه الأغاني الترفيهية غجرية لأنه يظنها جزءاً من التراث الغنائي الريفي في الأقل. انتقى المخرج هادي ماهود أغنيتين غجريتين مهمتين أسمعنا إياها بطريقة " الفويس أوفر " وكانتا منسجمتين مع الجو العام للدمار والخراب الذي لحق بهذه القرية الغجرية حيث تقول مطلع الأغنية الأولى " معقولة القلب ينسى هواكم / أنتو أحباب قلبي ما نساكم " بينما تتحرك الكاميرا لترصد لنا أطلال القرية المُدمَرة. أما الأغنية الغجرية الثانية فقد كانت بعنوان " كل شي ما كتبنا " وهي أغنية تتمحور حول التعب الذي يبذله الناس سواء أكانوا آباءً أو عشاقاً فهم لم يجنوا من الحياة شيئاً سوى هذا الخراب المريع. أتمنى على المخرج هادي ماهود أن يتوسع في تناول موضوعة الغجر. فغجر العراق كما هو معروف متحدرون من أصول هندية، وأسبانية وثمة دئلائل تعزز هذا الإنحدار. كما أن الباحثين العراقيين أمثال د. مصطفى جواد، و د. حميد الهاشمي، والأستاذ لطفي الخوري، والأستاذ خليل الشيخ لهم أراء قيمة فيما يتعلق بعلم الغجريات، هذا إضافة الى الآراء والأبحاث المهمة التي أوردها باحثون عالميون أمثال وول ديورانت وهوارد غرينفيلد وغيرهم الكثير. كما كان للمخرج هادي ماهود إمكانية عقد مقارنة بين " غرف الغار " التي زج فيها هتلر نحو %75 من غجر ألمانيا وبين التعذيب والتهجير القسري الذي يتعرض له غجر العراق. كما كان بإمكانه أيضاً أن يعرّج على السبب الحقيقي الذي يكمن وراء كراهية الأوروبيين للغجر لإعتقادهم بأن الشخص الذي صنع الصليب الذي صلب عليه السيد المسيح كان غجرياً.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيت من لحم فيلم جريء لرامي عبد الجبار ينتهك المحرّم والمحجوب ...
- فيلم - 300 - للمخرج الأمريكي زاك سنايدر
- الروائي الأمريكي كورت فَنَغوت يستعين بالسخرية والكوميديا الس ...
- فاضل العزاوي على غلاف مجلة -بلومسبوري ريفيو-: دعوات ودواوين ...
- كوبنهاغن، مثلث الموت - نص توثيقي، وسيرة مدينة بامتياز
- متابعات صحفية
- معجبة تعثر على رواية مخطوطة لجينيت ونترسن وتعيدها لدار نشر ب ...
- بريطانيا تودِّع أبرز كتاب الرواية البوليسية وأدب الجريمة
- طارق هاشم في فيلمه الجديد www.Gilgamesh.21 مقاربة في تسخير ا ...
- في شريطه الجديد - ماريا / نسرين -: محمد توفيق ينجز السيرة ال ...
- تقنية - البوتو - في مسرحية - الراقص - لحازم كمال الدين: تثوي ...
- مونودراما - أمراء الجحيم - إدانة مباشرة لثقافة التطرّف والظل ...
- في المعرض الشخصي الجديد للفنان آراس كريم: كائنات متوحِّدة تس ...
- كاظم صالح في شريطه الجديد - سفر التحولات-: محاولة لتدوين الس ...
- ظلال الصمت - لعبد الله المحيسن وإشكالية الريادة الزمنية: هيم ...
- الخبز الحافي- لرشيد بن حاج: قوة الخرق والإنتهاك للأعراف الإج ...
- الشاعر العراقي كريم ناصر ل - الحوار المتمدن -: الشعر يستدعي ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: يجب أن أخرج بقارئي من المألوف المع ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: أدلِّل النص و- أدلَِعه - مثلما أدل ...
- صباح الفل - لشريف البنداري: الإمساك بالمفارقة الفنية عبر رصد ...


المزيد.....




- مخرج يدافع عن فيلم كتبه الذكاء الاصطناعي بعد رفض عرضه
- تحديث:قصيدة مهداة الى النقاومة الفلسطينية ،بعنوان(صديقى المق ...
- الغاوون ،قصيدة مهداة الى النقاومة الفلسطينية ،بعنوان(صديقى ا ...
- الفنانة كندة علوش تكشف عن مبادرة إنسانية من النجم محمد صلاح ...
- الفنانة كندة علوش تكشف عن مبادرة إنسانية من النجم محمد صلاح ...
- حاول الاستعمار طمسها.. هل تستعيد اللغة العربية مكانتها في غر ...
- “المؤسس عثمان Kurulus Osman الموسم 6” موعد عرض مسلسل قيامة ع ...
- إذاعة أولى حلقات مسلسل محمد الفاتح الموسم الثاني مترجمة للعر ...
- شاومينج بيغشش.. تسريب امتحان اللغة الأجنبية الثانية ثانوية ع ...
- تابع HD.. أحداث مسلسل قيامة عثمان الحلقة 165 مترجمة للعربية ...


المزيد.....

- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - المخرج هادي ماهود في فيلمه الجديد ليالي هبوط الغجر