حنا مينا
الحوار المتمدن-العدد: 68 - 2002 / 2 / 18 - 15:36
المحور:
الادب والفن
ستون عاماً في مسيرة الثقافة العربية
((الطريق)) قلبنا المشتعل
أن نقول مجلة ((الطريق))، فكأننا نقول ((جامعة الطريق))، ذات الكليات المتعددة، وأهمها كلية الآداب وكلية العلوم السياسية، في شقيها المعرفي النظري، والعملي التطبيقي، اي ان هذه الجامعة، العريقة والمتفردة بامتياز، لم تكن تقدم لنا، نحن طلابها، ما يبقى سابحا في ملكوت التنظير، الشاغل فضاء ما بين الارض والسماء، بل إنها، وهذا هو الأهم، كانت تحول ما هو نظري الى تطبيقي، من خلال الواقع المعيش، ومجريات الحياة الشهرية، وتقدم لنا الغذاء الفكري الذي نقتاته نوراً، يكشف لنا، خلال ظلمات المشاكل المحلية والعربية والعالمية، السبيل الى فهم هذه المشاكل، وفي ضوئها فهم ما ينبغي علينا، في النضال لأجل التحرر والتقدم، ان نفعله، وكذلك لأجل العدالة الاجتماعية، والغد الافضل أبدا.
في كتابه ((مولد إنسان)) يتحدث مكسيم غوركي عن ذلك الشاب الشجاع، الذي تقدم شعبه، في انتقاله عبر غابة كثيفة مظلمة، للخروج من متاهة السهب الى اندياح فسحة الأمل والعيش، فلما اشتد إظلام الغابة، وتسلل الشك، الى قلوب من يقودهم، في الخلاص والنجاة، شق صدره، وانتزع قلبه الملتهب، جاعلا إياه مشعلا يبدد الظلمة وينير الطريق للسائرين.
ان المناضل الشيوعي الكبير، والمهندس المعماري اللبناني الشهير، أنطون تابت، حين أسس مجلة ((الطريق))، وأصدرها قبل ستين عاما من الآن، كان شأنه شأن الشاب صاحب القلب الملتهب، الذي رفعه عاليا للهداية، وقد صار قلب أنطون تابت، بدوره، مشعلا للهداية المعرفية، ما بين أدب وفن وفكر وفلسفة وتنظير وتطبيق، وفي هذه المفازة، وبالعزم والايمان نفسيهما، رفع الذين جاؤوا بعده، من رئيف خوري، وجورج حنا، الى حسين مروة، ورضوان الشهال، ومهدي عامل، وكامل عياد، وجميل صليبا وأعضاء رابطة الكتّاب العرب الذين تعاقبوا بعدهم، رافعين قلوبهم مشاعل لكي تبقى جامعة ((الطريق)) متوهجة، مشعشعة، تواصل أداء رسالتها في النهضة والوحدة والكفاح التحرري والتقدم الاجتماعي، من دون ان يُصابوا بالاحباط من جراء زلزال سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي سابقا، ومن دون ان تروّعهم الاحداث الجسام التي عرفها الوطن العربي الكبير، ومن غير ونى او ضعف في مناصرة نضالات العرب، من دمشق الى بيروت والقاهرة وكل العواصم العربية الاخرى، الى مواكبة المقاومة العظيمة للشعب العربي الفلسطيني، في كل انتفاضاته، والاخيرة منها خصوصا، التي قدمت الشهداء قوافل ولا تزال، في وجه المجرم السفاح شارون، هذا الذي أتى به صقور إسرائيل الطغاة، ليجلب الامن للاسرائيليين المحتلين، فباء بالفشل، وصار الآن في مأزق لا يعرف الوسيلة الكفيلة بإخراجه منه!
نعم، رفع كل الشغيلة الفكريين، في جامعة ((الطريق))، قلوبهم مشاعل لإنارة السبل أمام المكافحين لتحرير الاراضي العربية المحتلة، من فلسطين الى الجولان الى جنوب لبنان، وأخص، هنا، بالذكر، الصديقين: كريم مروة، ومحمد دكروب، هذين المناضلين الرائعين، في مجال جمع التبرعات لتواصل ((الطريق)) مشوارها، ومجال تحرير ((الطريق)) واستنهاض همم الأدباء والمفكرين العرب للاسهام في تغذيتها بنتاج أقلامهم الجريئة والشريفة.
إنني أشعر باحترام صادق، بمناسبة ((العيد الستيني للطريق))، أمام القلبين المنيرين فيها: قلب كريم مروة وقلب محمد دكروب، اللذين هما مشعلان يتقدمان الرَّكْب، للخروج به من ظلمة غابة الشر، الى رحابة الخير والحق والجمال.
ولقد كان لي، أنا الحلاق الفقير في مدينة اللاذقية، شرف الانتساب الى جامعة ((الطريق)) حين نشرت لي، ولأول مرة عام 1945، قصتي القصيرة ((طفلة للبيع)) التي تتحدث، باختصار شديد، عن فلاح معدم من جبال اللاذقية، نزل المدينة ليبيع طفلته الصغيرة لمن يشتريها، أجيرة لمدة عشر سنوات، والصغيرة تبكي متعلقة بأذيال والدها، كيلا يبيعها وهو منفطر القلب، وكي يعيدها الى أمها وأخوتها في البيت البائس المعوز، الذي تفضله الطفلة على أي قصر لأي غني ستكون خادما عنده.
قلت، وأعيد، انني ولدت بالخطأ، ونشأت بالخطأ، وكتبت بالخطأ، والخطأ الأول كان في ((جامعة الطريق)) التي فتحت لي أبوابها، لأدخل بصليبي وأسمالي إليها، مستشفة، في وقت مبكر، موهبة مطمورة في تراب أيامي، أنا الذي أضعت طفولتي بالشقاء، وشبابي بالسياسة، من دون ان أستفيد، كالعادة، من أي منهما. ولولا ((الطريق)) لما كان حنا مينا، وربما غيره الكثيرون، الذين تخرجوا من جامعتها، ولا يزالون يتتابعون.
من عطر الغوطة، وألق تربة قاسيون، ورجوة بردى بالمطر ليتعافى، أبعث الى ((الطريق)) بوافر شكري، وعميق حبي، وأتطيب بغاليتها، كعهدي منذ ان أمسكت أناملي قلمي هذا.
نص نشر في العدد الخاص لمجلة ((الطريق)) (كانون الثاني شباط 2002)
©2002 جريدة السفير
#حنا_مينا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟