صلاح سرميني
الحوار المتمدن-العدد: 1930 - 2007 / 5 / 29 - 05:42
المحور:
الادب والفن
بعد الإعلان عن الأفلام التسجيلية, والروائية القصيرة المُشاركة في المُسابقة العربية لمهرجان دبيّ السينمائي الدولي/2006, وخلال فترة انعقاد المهرجان نفسه, وجّه لي بعض الأصدقاء السينمائييّن انتقادات مُستغربة عن اختيار الأفلام المصرية الروائية القصيرة, ومنها (قطط بلدي) لمخرجه (تامر البستاني) .
وفي الوقت الذي يمتلك كلّ واحد منّا ذوقاً شخصياً, وأسباباً خاصةً تجعله يميل إلى هذا الفيلم, أو ذاك, لم أستطع في وقتها الدفاع عن موقفي, فقد شاهدتُ الفيلم مرةً خلال اختيارات الدورة الثامنة لبينالي السينما العربية/2006, ولم يحظى على أصوات الأغلبية, ومن ثم مرةً ثانية خلال اختيارات الدورة الثالثة لمهرجان دبيّ السينمائي, وتمّ اختياره, وعلى الرغم من نسيان الكثير من تفاصيله, فقد بقيت أجواءه عالقةً في ذهني, ومع التحضير لتظاهرة (سينما الطريق), والتي سوف تنعقد في إطار الدورة السادسة لمُسابقة أفلام من الإمارات في (أبو ظبي) خلال الفترة من 7 وحتى 13 مارس, شاهدتُ الفيلم للمرة الثالثة, ولم يعدّ لديّ أدنى شكّ من إعجابي, ورغبتي بالدفاع عنه.
بدايةً, بررت ذلك بمطابقة الكثير من أحداثه, وشخصياته الرئيسية مع ما حدث لي بالضبط في القاهرة, وأيامي الأخيرة فيها : دراستي للسينما, حبّ مجهضّ, قطةً منزلية, سيارة فولكس حمراء, .... وحتى سفري إلى إيطاليا, ومن ثمّ فرنسا, ومع كلّ هذا التشابه, فإنني لم أكن وحدي في لجنة اختيار الأفلام التسجيلية, والقصيرة لمهرجان دبيّ, فقد ضمّت في عضويتها أيضاً كلّ من :
قيس الزبيدي من العراق(مخرج, مونتير, وباحث سينمائي), محمد رضا عباسيّان من إيران (مخرج سينمائي), كاتارينا بيترز من ألمانيا الاتحادية(مخرجة سينمائية), أيمن صالح من البحرين (ناقد سينمائي, مؤلف, ومترجم).
فهل وجد هؤلاء الأربعة أنفسهم في أحداث الفيلم, وشخصياته ؟, لا أعتقد ذلك, مما يؤكد بأنه يمتلك جاذبيةً خاصّة بالمُقارنة مع غيره من الأفلام القصيرة المُرشحة للمُسابقة, وهنا, سوف أحاول الكشف عنها, بدون ادعاء ذائقة سينمائية(مطلقة) لا تحتمل النقاش, والجدل.
في (قطط بلدي), وحالما نشاهد امرأةً ما تسير في طريق ليلاً, تصاحب خطواتها موسيقى تعلو تدريجياً, وتختلط بمواء قطط أليفة تلتف حول يدّ حانية تقدم لها طعاماً, نفهم السبب الذي جعل (تامر البستاني) يُهدي فيلمه إلى روح الفنان (عزّ الدين ذو الفقار), وفيلمه الأشهر (امرأة في الطريق)/1958, بطولة : رشدي أباظة، هدى سلطان، شكري سرحان، زكي رستم.
تفوح من تلك اللقطة الافتتاحية استعارةً أدبيةً واضحةً تربط ما بين القطط الشاردة في شوارع القاهرة(والمعهود بأنها وسخة, وشرسة), وامرأة هائمة ليلاً تبحث عن رزقها, ولكن, ما هو مُفاجئٌ, تلك الألفة التي منحها (البستاني) لقططه, والعاهرة على السواء, هذه الصفة التي سوف ينضح بها الفيلم لاحقاً بكلّ ما يتضمّنه من شخصيات, وحيوانات, وأشياء, وديكورات طبيعية, واصطناعية, وهنا, فإنني أميل إلى تحديد زمن الفيلم في الماضي, مع أن أحداثه تجري في الحاضر, القاهرة اليوم, وأتخيّل بأنّ (البستاني) تردّد كثيراً قبل تصويره بالألوان, وكان يرغب صورةً بالأبيض, والأسود.
ومع ذلك, تهيم روح الماضي في أجواء الفيلم, وتمنحه جاذبية, وسحر الأفلام الرومانسية التي ظهرت في تاريخ السينما المصرية فترة الخمسينيّات, والستينيّات من القرن المنصرم, بدون أن تفقده معاصرته.
وفي اللقطة العامة البانورامية التالية من الفيلم, تسترخي القاهرة على ضفتيّ النيل, فتزداد حلاوةً, وهكذا, فإنها لا تبدو كما هي حالياً, ولكن, كما يريدها المخرج أن تكون, وهو بالضبط ما يعبر عنه (أمير) في مونولوج داخلي يصاحب لقطات أخرى للسماء, والمياه, والنخيل, ...
ـ القاهرة, ليه محلوّة في عينيّ ؟ يا ترى كل الناس شايفاها حلوة كده, ولاّ أنا بسّ عشان ح أسيبها بعد بكرة.
هاهو السيناريو يُعلن على لسانه عن رحلة مُرتقبة, تتأكد عندما يقود سيارته الفولكس الحمراء في شوارع القاهرة, ويتحدث تلفونياً مع والده, يخبره عن عدم رغبته اللحاق به في دبيّ, ونيته الأكيدة بالسفر إلى روما ليدرس السينما هناك, وفي الوقت الذي نستشعر من صوت الأب بعض الخيبة, والمرارة, تعلو الموسيقى مبتهجةً .
لقطات رومانسية للشوارع, هادئة, ساكنة, أليفة, ووديعة, إنها قاهرةٌ جميلةٌ فعلاً كما يشعر بها (أمير) قبل أن يغادرها, هو يراها هكذا, تصاحبها موسيقى حانية, تنضح بالشجن, وتثير الذكريات, هي الأحاسيس التي ترتسم على وجهه, وفي عينيه الحزينتين, وملامح ابتسامته الهاربة.
وليسَ من قبيل الصدفة أن تطول المدة الزمنية لهذه اللقطات, وتتداخل مونتاجياً بصحبة الموسيقى حتى تنتهي لتُصاحب عناوين الفيلم.
يغادر (أمير) سيارته الحمراء, ويمشي قليلاً كي تلتقي عيناه بملصق فيلم (امرأةٌ في الطريق), وفيه (رشدي أباظة) عاري الصدر, تستعدّ شفتاه لالتقاط شفتيّ (هدى سلطان).
(أمير) مغرمٌ إذاً بشاعر السينما المصرية (عزّ الدين ذو الفقار), وأبطاله, والسينما بشكلّ عام, لا يتردّد بمشاهدة الفيلم في إحدى الصالات(ولكن, أيّ واحدة في القاهرة تعرض هذا الفيلم اليوم ؟).
تلك الأجواء الحلميّة ـ إن صحّ التعبيرـ تجعلني أتغاضى عن هذا التساؤل, ولكنها, تؤكد فكرتي عن ميل المخرج لأن تكون أحداث فيلمه في الماضي.
ومن هضبة عالية بمحاذاة الأهرامات, يتطلع (أمير) إلى القاهرة المُنبسطة أمامه على مدى البصر:
ـ عمري ماحسّيت إني بحبّ المدينة دي قدّ اللحظات اللي أنا بعيش فيها دي .
ومن الطبيعي بأن يتعاطف المتفرج معه, والمدينة, وهو يجول فيها, ويراها كما يتمنى(ونتمنى) أن تكون .
تتضافر معها لقطاتٌ أخرى, وتدعمها في نفس السياق, الشوارع, محل صغير لبيع الفول, والطعمية, مقهى شعبي, نارجيلة, وشلة أصدقاء.
هو يقول : ح توحشوني.
واحدٌ منهم ينفعل : ياعم إنت رايح إيطاليا, رايح لقطط روما.
وبوحشة يردّ : ولوّ هو في زيّ قطط بلدي.
يدٌّ حانيةٌ تقدم قطع اللحم لقطط شاردة, وبين مواء, وغرغرة, يقتحم الصورة ساقا امرأة, وتنخفض الموسيقى محذرةً, وكأنّ هذه الشخصية المُفاجئة/أو المُتوقعة سوف تغيرّ من مجرى الأحداث.
كانت قدما المرأة تتوجهان نحو مقهى, وكأنها على موعد مسبق مع (أمير) لتختطفه من وحدته, بينما تختلط الموسيقى مع إيقاعات طبلة, وضربات حذاء مدببّ فوق الأرضية الصلبة, هذه المرأة التي قلبت أحداثاً في أفلام مصرية كثيرة, فهل أرسلها القدر كي تغير من مجرى حياة (أمير)؟ لحسن الحظ, لا, إنها امرأةٌ عابرة, وسوف تشكل ذكرياته الأخيرة في القاهرة, وتجعله قريباً جداً من القطط البلدي التي يحبها, ويُطعمها بيديه.
عينا (أمير) تلاحقها, وتصوبا سهام الرغبة نحو صدرها العامر بالأنوثة.
وهنا, يستخدم (البستاني) استعارةً شهوانيةً (من الماضي) عندما يقدم لقطةً كبيرةً لثدييّن يختبئان خلف فستان من الدانتيل, وكأس بيرة يمتلئ, وتنسكب رغوته فوق الطاولة.
لقاء صدفة ينتشل (أمير) من لحظات الحنين الأخيرة, ويشدّه إلى الحاضر, إلى قطة بلدية حقيقية من قططها الليلية, اسمها (دنيا), ونعرف, كما يعرف (أمير) بأنه اسمٌ مستعار.
لا ينتظر السيناريو كثيراً, ولا (أمير) كي تعلن (دنيا) عن ال500 دولار, وفوراً, ثمناً لهذه المتعة.
فكرةٌ ذكيةٌ بأن نسمع مُفاصلةً غريبةً بينهما في مونولوج داخلي, وهما في طريقهما إلى بيت (أمير), وهي لا تريد أن تقارن نفسها بـ(نفيسة, بتاعة الفيلم إياه التي رضيت بخمسة صاغ اللي ترمى لها من شباك التاكسي).
يبدو بأن (أمير) لا يعاني من أيّ أزمة مادية, سيارة فولكس حمراء جديدة, شقة جميلة, أبّ يعمل في دبيّ يستطيع الإنفاق على ابنه, وسينماه, وهو بدوره قادرٌ على الاستمتاع بقطة بلدية بـ500 دولار.
بعد ليلة يختصرها (البستاني) بمشهد مركز, وفيه تدور الكاميرا حول السرير دورات خفيفة, ولا تفارقه, وبمزج متتالي ما بين اللقطة الواحدة, بحيث تظهر نفس الصورة فوق بعضها مع فارق بسيط يمنحها اهتزازات طفيفة, وهو ما أكدته الإضاءة المُستخدمة .
بينما تسيطر الآهات (الجريئة نسبياً في السينما المصرية) على شريط الصوت, وتُذكرنا بقوة بمواء القطط في مشهد سابق.
وليس صدفة أيضاَ بأن تظهر في ذلك المشهد قطةٌ شعرت بوحدتها, فبدأت تموء غيرةً من تلك الدخيلة, وهي تتجول في غرفة النوم, فنشاهد جهاز عرض سينمائي كجزء من الديكور, وصورةً كبيرةً لـ(عزّ الدين ذو الفقار), وكتاب (أولاد حارتنا) قيّد القراءة, وعندما تسأله (دنيا) : مين ده, باباك ؟ يبتسم (أمير), ويردّ : أيوه هوا.
تلك إذاً المرجعية الأدبية, والسينمائية لـ(تامر البستاني) نفسه, قصص, وحكايات,(نجيب محفوظ), وكل ما يمكن أن يُذكرنا بالحارة, وأهلها, وناسها,.... والمخرج الراحل(عز الدين ذو الفقار), والأفلام الرومانسية, والسينما بشكل عام.
جهاز العرض يُذكرنا برحلة (أمير) إلى إيطاليا, ويجعلنا نعتقد بأن الفيلم هو نسيج خيالاته قبل السفر, وهو جزء من علاقته مع المدينة التي شاهدنا صوراً منها في البداية, خيالاتٌ, أو سيناريو قيّد الكتابة, أو فيلمٌ داخل الفيلم, فهو يرجعنا إلى السينما دائماً,
لقد استغرب بأن تعيد له نقوده فهي لا تريد أن تتعامل معه كعاهرة, هي بدورها استمتعت بمذاق (المانجة)..., لقد تخطت علاقتهما من عاهرة, وزبون, وهي تنتهج مساراً رومانسياً يتأكد مع رغبة الطرفين بقضاء وقت ممتع في نزهة ليلية مثل عاشقين.
والقاهرة دائماً جميلة, في الليل, كما في النهار, شوارعها, جسورها, أحياءها الراقية, أزقتها الشعبية, منطقة الحسين, خان الخليلي, أكلة فطير مشلتت, لعبة طاولة, وقبلات في سيارة فولكس حمراء مكشوفة, ...(ألا تُذكرنا كلّ هذه اللقطات بمثيل لها من أفلام الماضي), وعودةٌ إلى البيت, واحتضاناً على مقربة من صورة (عزّ الدين ذو الفقار) ـ الأبّ الروحي ـ, وغيرة القطة مواءً.
تتسلل الفتاة من أحضان (أمير), وتخرج من منزله, يودعها من الشباك, يكتشف بأنها استعادت ال500 دولار التي أرجعتها في الليلة السابقة, ولم يبقَ له غير ضحكات منتشية, تختلط مع ضربات الحذاء المُدببّ للمرأة فوق إسفلت الطريق, ومواءٌ حادّ لقطّة, وموسيقى شجية.
* قطط بلدي : إنتاج, وإخراج (تامر البستاني), سيناريو: تامر البستاني, هـ. العيتاني، عن قصة (قبيّل الرحيل) من مجموعة (بيت سيئ السمعة), 18 دقيقة, إنتاج عام 2005.
بطولة: خالد أبو النجا، رولا محمود.
* ولد (تامر البستاني) في القاهرة عام 1969 , درس الإخراج السينمائي في روما، وعمل مخرجاً مساعداً في العديد من الأفلام الطويلة بين عامي 1997 و2004، وأخرج عدداً من
الأفلام القصيرة : لعبة الحرب/1994, أجنحة الحرية /1995, وداعاً يا حبي /1996
#صلاح_سرميني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟