صلاح سرميني
الحوار المتمدن-العدد: 1926 - 2007 / 5 / 25 - 10:34
المحور:
الادب والفن
في الفيلم الروائي القصير(طفلةُ السماء) لمخرجه السعودي (علي حسن محمد الأمير), تتوسّع فجوةٌ عميقةٌ بين صياغة سينمائية مُثيرة للاهتمام, وسيناريو مُتهالك يُرتكز بشكل أساسيّ على مونولوج داخلي نسمعه طوال المدة الزمنية للفيلم تقريباً, يشرح, ويفسّر المعاناة الخاصة, والعامة للطفلة (ديما), وهي خواطر, ومذكرات يومية تكتبها بلغة لا تتناسب أبداُ مع عمرها البالغ 9 سنوات بالضبط (كما جاء في ملخص الفيلم).
وكما حال معظم الأفلام الخليجية(وقبلها الإيرانية), يلجأ (علي حسن محمد الأمير) عن قصد, أو بدونه إلى الطفولة, ويُقصي دور المرأة بمختلف أعمارها, فالحالة التي تعيشها (ديما), بافتقادها للحبّ, والحنان العائلي, وتعرضها للعنف المعنوي, والجسدي من طرف الأبّ, يمكن إسقاطها بسهولة على حياة فتاة في مختلف مراحل عمرها, أكانت أختاً, ابنةً, قريبةً, أو زوجة,... ومع ذلك, لم يتناسى السيناريو التلميح إلى عدوانية مماثلة عاشتها الأمّ قبل موتها, وكشف عن موتها مقتولة,
في أفلام أخرى (أكثر مصداقيةً), سوف نجد الأبّ يقضي (على الأقل) سنوات كثيرة من عمره وحيداً في زنزانة, أو مستشفى للأمراض العصبية, ولكنّ سيناريو(طفلة السماء) كان رحيماً معه إلى أقصى درجة, فقد تخيّر بأن يُكمل حياته السابقة بدون عقاب, أو ندم, وكأنّه لم يرتكب أيّ جريمة, فهل تمنح القوانين القضائية السعودية الرجل الحقّ بقتل زوجته, لأنها خرجت من البيت بدون إذنه, فذهبت شكوكه بعيداً ؟ , ويبدو بأنه وحشٌ بشريٌّ لم يستيقظ ضميره بعد, فزاد عدوانيةًَ, وساديةً مع ابنته الصغيرة.
وبما أن المخرج كتب سيناريو فيلمه عن قصدّ, وتصميم, وحدد مسارات شخصياته بوعيّ تامّ (ولم يكن ثملاُ كحال الأبّ عندما قتل زوجته), ألا يمكن اعتبار موت الأم(في هذه الحالة) حجةً مُصطنعةً كي تغيب عن الفيلم, ويصبح متواطئاً (ضمنياً) مع الأبّ ؟.
وكما الغياب, أو التغييّب للمرأة في الأفلام السعودية, يتقلص بشكل ملحوظ (وغريب) عدد أفراد الأسرة, وكأنّ الأحداث تدور في مجتمعات غربية مقتنعةً بفكرة تحديد النسل, ومنسجمةً مع العلاقات العائلية المحدودة, والمختلفة تماماً عن طبيعة مجتمعاتنا العربية, والخليجية منها خاصةً.
وتكشف هذه الإشكالية عن تناقضات فكرية خطيرة :
لقد تصالح المجتمع السعودي, والخليجيّ بشكل عام مع الصورة (المُحرّمة), وبدأ يشاهدها في كلّ أشكال حريتها, ومنذ سنوات, بدأت رؤوس الأموال السعودية تتنافس في إنتاجها تلفزيونياً, ولكنها لم تكن بالضرورة تعبيراً عن صورة المجتمع الذي انطلقت منه, لقد كانت (وما تزال) إنتاجاً لصورة الآخر, ولا ضيّر من مشاهدتها, واستهلاكها كأيّ سلعة متوفرة بغزارة في الأسواق السمعية/البصرية.
ومنذ ثلاث, أو أربع سنوات, بدأت محاولات شبابية لإنتاج صورة فيديوية تعبر باستحيّاء عن مجتمع تسامح مع الصورة (الوافدة), وتساهل مع (المحلية) بدون أن يتهاون مع ظهور المرأة فيها, والتي بقيت على حالها (صورةً مُحرّمة) .
ومع أن القيّم الدينية تعتبر صوت المرأة (عورةً), نجد بأن الأفلام السعودية (القليلة العدد على أيّ حال) قد حجبت (صورتها), وكشفت عن (صوتها), وهي ملاحظةٌ تتجسد عملياً في بداية فيلم (طفلة السماء) ذات الصبغة (التسجيلية), فهل من قبيّل الصدفة مثلاً بأن نستمع إلى تعليقات صوتيةً لامرأتين (أعتقد بأن واحدةً منهما هي أمّ المخرج نفسه) فوق شاشة سوداء, تعبران عن رفضهما للعنف الذي يتعرض له الأطفال, وتتساءلان عن غياب ضمير المجتمع, وحقوق الطفولة؟.
ومن ثمّ يقودنا السيناريو سريعاً إلى الجانب الروائي, مع بدايةً سينمائية مُتقنة جداً : صورةٌ بالأبيض, والأسود, كاميرا في زاوية منخفضة, تتقدم ببطء, وحذر نحو باب مغلق, موسيقى تختلط بآهات, تستمر الكاميرا في اقترابها حتى تصل إلى جثة طفلة يسيل الدم من رأسها, يتبعها عنوان فرعيّ (في اليوم السابق) كإشارة للعودة إلى الماضي.
وتبدأ قصة تلك الطفلة التي تلهو وحدها في البيت مستغرقةً بألعاب الفيديو العنيفة, ولا تسمع دقات جرس الباب, هذه الغلطة التي سوف تكلفها حياتها.
لقطاتٌ كبيرةٌ جداً لا تسمح بعد بالتعرّف على الطفلة, حتى يدخل الأب قابضاً بكفه على زجاجة خمر, ويتعمّد المخرج بأن لا نراه كاملاً, ربما تعبيراً عن غيابه المُستمر عن البيت, والمسافة التي تفصله عن ابنته, هو أيّ أبّ سكير, عنيف, قاس, لا صورة محددة له.
منذ اللحظات الأولى يتجسّد العنف, فالأب غاضبٌ جداً لأن طفلته لم تسمع جرس الباب, ولكن, ما الفائدة بأن تسمعه, وهناك خادمةٌ في البيت ؟ .
وفي الوقت الذي يُعلن السيناريو عن بعض تهالكه, تتضح عنايةٌ فائقةٌ في اختيار أحجام اللقطات, وزوايا التصوير: الطفلة (ديما) تنظر إلى أبيها الجاثم فوق رأسها, وعلى الرغم من صغر سنها, وحجمها, هي كبيرةٌ على الشاشة, مُسيطرةٌ في نظراتها, وضبط أعصابها, مستاءةٌ من حالة والدها, وتعنيفه المجاني لها, وهو غائبٌ عن الصورة(غياب سينمائيّ مبرر), إلاّ من يده, وزجاجة الخمر, نصفه السفلي فقط, أبّ متشظي, أو متجزئ, وهي واعيةٌ لخطورة إدمان والدها, وتتمنى بأن يتخلص منه .
لقد أخرجها عن هدوء أعصابها عندما يقول لها : روحي شوفي ريحتك زبالة.
وهي تردّ واثقةُ : أقول ريحتك انت الأول.
وهنا يثور الأب, ويجرّ ابنته إلى الحمام, وبذكاء شديد, يربط (علي حسن محمد الأمير) مونتاجياً ما بين تلك اللقطات, وأخرى تُظهر قتالاً عنيفاً بين شخصيتيّن افتراضيتيّن على شاشة الكمبيوتر.
ومثل معظم الأفلام الخليجية, تتكرر في (طفلة السماء) إشكالية القطيعة بين الموسيقى الغربية المُصاحبة للأحداث, والصورة نفسها(هل يستخدم مخرجٌ أجنبي, مهما كانت جنسيته, موسيقى شرقية في فيلمه ؟), وأيضاً اللجوء إلى حيل صوتية قديمة, ومستهلكة : المونولوج الداخلي/المُذكرات/التعليق المباشر/الشرح, والتفسير...
ـ ليست هذه المرة الأولى التي يضربني فيها,..
ومنذ تلك اللحظة, يتخيل لنا بأن الطفلة (ديما) قد تحولت إلى فتاة ناضجة, أو ربما الزوجة نفسها:
ـ إنه الخوف الذي دمّر روحي,...لكن, مع الأسف الشديد أشفقتُ عليه, لأنه يكون في وقتها سكيراً,...
وعلى عكس إنشائية المُذكرات, يُتقن (علي حسن محمد الأمير) طريقة إرجاعنا إلى الماضي, عندما تتذكر الطفلة (بالأبيض, والأسود) اللحظات الأخيرة من حياة أمها.
بناءٌ سينمائيٌ مدروسٌ بعناية, لقد كانت الطفلة شاهدةً على تلك الواقعة التي دارت أحداثها في الحمام أيضاً, والأب يضرب الأمّ بعنف شديد لأنه عاد إلى البيت, وكانت غائبةً عنه .
وعندما ركضت الطفلة نحو أمها, ونادتها بأن تنهض, كانت الكاميرا تنتظر خلف الباب, وتهبط بعدستها تدريجياً نحو أرضية الغرفة لأنها لم تحتمل مشاهدة الزوجة مقتولة, أو خجلاً مما حدث, تماماً كما يحني شخصٌ ما برأسه نحو الأسفل عاجزاً عن مواجهة الآخر.
ـ كنتُ في أمسّ الحاجة إلى صديقة, ولكنني كنتُ أحارب تلك الرغبة, تعلمتُ منها أن الحياة ومصائبها تترك الآثار الجسيمة في شخصيتنا, لكنّ تلك التشوهات لن تقتل الحقيقة,...
لماذا كانت الطفلة تحارب رغبة الصداقة, هل هي ممنوعةٌ أيضاً ؟, وعندما تلتقي بصديقتها, بالقرب من الشاطئ, تتحدثان معاً بلغة تكبر عمريّهما (هي لغة المخرج المكتوبة في السيناريو) :
الصديقة : إلى متى انتي ح تستحملي العيشة اللي انتي عايشة فيها ؟ ما طفشتي ؟
ديما : قوليلي, طب ايش أقدر أسوي, ايش أقدر أغير في حياتي ؟
الصديقة : ايوه, تقدري تسويّ شي, تقدري تهربي,..انت ما انت رواية, وما انت كتابة على أوراق ,انت حقيقة.
ديما : خلاص, أنا مّليت, والله مليت.
الصديقة : بتعرفي ليش, لأنك إنت في مجتمع ما يبغوكي تختاري, إنت إيش عملتي عشان يسووا فيكي كدة ؟
وبغض النظر عن مصداقية حوار كهذا يدور بين طفلتيّن, والتساؤلات السطحية الذي يطرحه, فهو يقدم نصيحةً خطيرةً يمكن أن تكون لوحدها حجةً لقتل الطفلة, أو انحرافها, وسبباً جوهرياً للآباء كي يمنعوا أطفالهم من الصداقة مع آخرين, وذلك تجنباً لنصائح مدمرّة, أقلها (الهروب من المنزل) .
الطفلة (ديما) ـ على أيّ حال ـ أكثر عقلانيةً من صديقتها, فهي لم تهرب, ولجأت إلى دفتر مذكراتها كي تعبر فيه عن آلامها بأسلوب مفاجئ بالمُقارنة مع عمرها :
ـ هل أنا منهارةٌ إلى هذا الحدّ, تباً له من ذئب, فأخلاق الذئاب لا تتغير إلاّ إلى الأسوأ,...
ـ أبواب المنازل المُغلقة تخبئ خلفها الكثير من الفضائح في هذا المجتمع, فضائح لا حد لها,..
ـ هل أنتحر, لو أنني أعرف معنى الانتحار لانتهى عمري منذ زمن بعيد,..
ـ أبّ يعتدي على ابنته في منزلها,.. ؟
حسناً, إنها تُصور والدها بالذئب, لمَ اختارت هذا الحيوان عن غيره, وهل للذئاب أخلاق كي تتغير ؟
وكيف ترغب بالانتحار, وهي لا تعرف معناه ؟
وهل يعتدي أبٌّ على ابنته في مكان آخر, وما هي الغرابة في أن يكون الاعتداء في المنزل؟ ولكن, هل تقصد الطفلة (ديما) اعتداءً من نوع آخر نأى السيناريو من الإفصاح عنه ؟
الأكثر فظاظة في هذه المُذكرات التفسيريةّ, والتطهيرية, بأنها تتناقض تماماً مع اللقطات الأخيرة التي أظهرت قتل الأب لابنته, وانتحاره, فما هو مُبرر سماع صوت الطفلة فيما بعد, وهي تقول :
ـ لقد قتلوني, وأنا حيّة مع الأسف الشديد,...
ونشاهد الطفلة مرةُ أخرى تكتب مذكراتها مبتسمةً, حالمةً, يقظة,.. بينما موسيقى بيانو تصحبها آهات, ولقطة أخرى تنظر إلى الكاميرا بتحدي, والمونولوج مستمر,..
ـ إذا لم نكن آمنين في منازلنا, هل يمكن أن نعثر عليه في أيّ مكان آخر ؟
ولقطة أخيرة, جميلة, وموحية, (ديما) وسط غرفة المعيشة ترقص, ولن تفوتنا الدلالة المعنوية لهذه الحالة الحُلمية في التعبير عن رغبتها بالتخلص من قيود الأبّ, والمجتمع, والرغبة بالحركة, وربما تمردٌ يمكن أن يتحقق.
* طفلة السماء
إنتاج : المجموعة السعودية للأفلام المُستقلة
ميني د.ف, ملون, 21.30 دقيقة, 2006
إخراج, وإنتاج : علي الأمير
سيناريو : علي الأمير, محمد شلبي
تصوير : علي الأمير, عمار الأمير
صوت : حسن الأمير
الطفلة : سلمى نبيل ـ الصديقة : سارة محمد
مختارات موسيقية ل : ناتالي ميرشان, وآن دودلايّ
* علي حسن محمد الأمير : من مواليد 1981, منذ عام 1995 أخرج ثمانية أفلام قصيرة
(الانتقام، بطل إلى النار، المال والبنون، الرضى، الوريث، حديقة الموت، ثلاثون دقيقة).
#صلاح_سرميني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟