البرازيل بلد رئيسي في النظام العالمي. مساحته الشاسعة وعدد سكانه الكبير ودوره كقائد لأميركا اللاتينية وقوته كدولة شبه طرفية، كلها أمور تعني أن لكل ما يحصل في البرازيل أهمية كبيرة في ما يتعلق بالميدان الجيوسياسي وبنية العالم الاقتصادية. في العام 2002، وللمرة الأولى في تاريخ البرازيل، فاز مرشح يساري، لويز ايغناسيو دا سيلفيا (لولا) من حزب العمال، في الانتخابات، في خطوة بدت وكأنها مؤشر إلى ولادة جديدة لقوى اليسار في أميركا اللاتينية والجنوب بشكل عام. الآن، وبعد عشرة أشهر فقط، تبدو مراجعة المعلقين، البرازيليين منهم والأجانب، لتلك الفترة، مشوشة وبالغة التفاوت. مجددا، طرح السؤال: هل من الممكن دعم حكومة يسارية منتخبة تناضل من أجل تطبيق سياسة في مواجهة القوى النيوليبرالية في أحد بلدان الجنوب؟ أو بالأحرى هل الضغوط المقابلة التي تمارسها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي قوية جدا؟
علينا أولا أن ننظر إلى علاقات القوى حسبما كانت في الفترة التي انتخب فيها لولا الذي نال أغلبية عبر تحالف انتخابي مع أحزاب أخرى (معظمها من الوسط). فحزبه (حزب العمال) يشكل أقلية في برلمان البرازيل حيث التفاوت الداخلي يعد الأكبر تقريبا بين دول العالم. شريحة كبيرة من سكان الريف بلا أرض. البلد، المثقل بكم كبير من الديون في مقابل احتياط نقدي قليل نسبيا، مقيد باتفاقات أبرمها النظام السابق مع صندوق النقد الدولي. كان لولا مهددا بوضوح، خلال الأشهر الستة التي سبقت الانتخابات، بسحب هائل للاستثمارات وللدفق المالي في حال فشل في <<إعادة طمأنة>> رأسماليي العالم بأنه لن يتورط في إجراءات يعتبرونها عدائية. في المقابل، تولى منصبه بحماسة شعبية له شخصيا وللبرنامج المناهض للنيوليبرالية الذي يمثله وحزبه. تغلب الأمل على الخوف بالنسبة للولا والبرازيليين، خاصة الفقراء منهم.
هناك ثلاثة ميادين تهيمن على الاهتمامات السياسية للبرازيليين: السياسة الاقتصادية وإصلاح الأراضي والسياسة الخارجية. قررت حكومة لولا بوضوح التحرك أولا في ميدان السياسة الاقتصادية. أعطى لولا بعض الضمانات للرأسمال العالمي، حتى قبل تنصيبه رئيسا للبلاد. أصر على أن البرازيل ستستمر في التأكيد على مكافحة التضخم. عين هنريكي ميريللي، الذي كان يرأس بنك بوسطن، على رأس المصرف المركزي. في الواقع، لقد دعم ميريللي منافسي لولا خلال الانتخابات. أما باقي الطاقم الاقتصادي للرئيس البرازيلي فيتشكل أيضا من أشخاص تواقين إلى سياسات لن تثير عداوة رأس المال العالمي. قالت الحكومة، في دفاعها، إنها تسعى إلى إعادة التفاوض على عقودها مع صندوق النقد بطرق ستقلص العوائق أمام الاستثمارات في المجال الاجتماعي وفي البنى التحتية، أو حتى إبرام اتفاق جديد يحل محلها جميعا. اتخذ قرارين اقتصاديين كبيرين خلال الأشهر العشرة الماضية: حافظت الحكومة البرازيلية على قيمة فوائد مرتفعة جدا على سنداتها (برغم أنها خفضتها من 26 في المئة إلى 22 في المئة). كما أقرت إصلاحا لنظام الضمان الاجتماعي يخفض التقديمات الحكومية بنسبة كبيرة. يعتبر كلا الخيارين محافظا على المستوى المالي. جرى انتقادهما بشدة من قبل مثقفي اليسار، لكن أيضا من قبل بعض قطاعات الأعمال التي شعرت بأن قيمة الفوائد المرتفعة تجعل إمكانية توسيع دورها الاقتصادي (في مواجهة الدور الاقتصادي للمصارف الأجنبية وللشركات البرازيلية الضخمة المرتبطة بها) أمرا مستحيلا. سوق هؤلاء المثقفون اليساريون، في المقابل، <<الصدمة المثمرة>> عبر تخفيض جذري لقيمة الفوائد. تحدث أحدهم، امير صادر، عن <<خسارة الفرصة>> فقال إن الإحساس بنتائجها السلبية جدا سيحصل في المستقبل القريب.
كانت الحكومة، في الإصلاح الزراعي، أكثر حذرا من السياسة الاقتصادية. حتى هذه النقطة لم تفعل إلا القليل. لكن لولا قام بجهد للحفاظ على دعم <<حركة من لا أرض لهم>> (ام أس تي) التي تشكل دعامة تاريخية لحزب العمال والتي لا تزال تحظى بدعم قسم رئيسي من الكنيسة الكاثوليكية إضافة إلى تأييد جمعية <<كوورديناساو دوس موفيمانتوس سوسياهس>> (التي تضم عددا كبيرا من اتحادات النقابات والطلاب والمنظمات الكنسية).
تورطت ال<<ام اس تي>> في عملية مصادرة لأراض غير مستعملة (تمثل جزءا كبيرا من أراضي البرازيل القابلة للزراعة). موقف الحكومة الرسمي هو أن عليها شراء هذه الأراضي من مالكيها وتحويل ملكيتها إلى من لا أرض لهم. المشكلة هي أنها حقا لا تملك المال الكافي للقيام بذلك، وسياستها الاقتصادية ليست من النوع الذي يسمح بزيادة النفقات في المدى المنظور. في المقابل، لا تنتظر ال<<ام اس تي>>، وتواصل مصادرة الأراضي. تواجه بمقاومة، مسلحة في الغالب، من قبل مالكي الأراضي الذي ينظرون إلى ال<<ام اس تي>> على أنها حركة خطرة يجب القضاء عليها أو لجمها على الأقل. مالكو الأراضي هؤلاء ليسوا مستعدين حتى لبيعها، فكيف بالأحرى وهبها من دون تعويض.
طلبت ال<<ام اس تي>> مؤخرا مقابلة لولا، الذي استجاب لطلبها في 24 حزيران الماضي، وذلك للتعبير عن عدم الرضى العام من ملاك الأراضي. طلب لولا، خلال محادثاته مع قادة الحركة، أن يكونوا <<صبورين>> وأعاد التأكيد على <<الالتزام التاريخي والأخلاقي>> في الإصلاح الزراعي. قال خواو بولو، أحد هؤلاء القادة، إنهم لا يزالون يؤمنون بلولا لكنه حذره من أن عليه أن <<يجري تغييرات حقيقية>> خلال مهلة أقصاها نهاية العام 2003. علينا أن نرى إذا ما كان قادرا على القيام بذلك.
أخيرا، تحرك لولا في ميدان السياسة الخارجية، التي يوافق حتى نقاده من مثقفي اليسار على أنها أفضل عروضه، في اتجاهات متعددة لإظهار تنوعه. تقرب كثيرا من غيره من قادة أميركا الجنوبية، ليس فقط فنزويلا والأرجنتين، وإنما أيضا من البيرو التي زارها هذا الشهر، دافعا في اتجاه فكرة وجوب تقوية منظمة <<ميركوسور>>(1) وتوسيعها لتصبح قوة أساسية على الساحة الجيوسياسية العالمية. فال<<ميركوسور>> اليوم حالة جنينية لاتحاد اقتصادي يشمل أربع دول فقط خفضت التعرفة الجمركية بين بعضها البعض. قوتها هي من مستوى قوة الاتحاد الأوروبي عندما كان في بدايات تكونه قبل نحو 30 أو 40 عاما.
القضية الأساسية بالطبع هي في طبيعة العلاقة التي تقيمها <<ميركوسور>> مع منظمة التجارة الحرة للأميركيتين (FTAA) التي سوقتها الولايات المتحدة. تنظر واشنطن أساسا إلى ال<<ميركوسور>> على أنها شيء مزعج في أفضل الأحوال، وعدو في أسوئها. تريد اتفاقا للتجارة الحرة يفتح بلدان أميركا اللاتينية أمام مؤسساتها المالية ويضمن الملكية الفكرية. أما الأميركيون اللاتينيون فهم مهتمون بالقدرة على إيصال منتجاتهم إلى أسواق الولايات المتحدة. يأمل كل من الطرفين أساسا بنقض أو استبعاد المطالب الرئيسية للطرف الآخر عبر الإصرار على أن معالجة القضايا التي لا يرغبها أي من الطرفين، في إطار منظمة التجارة العالمية <<عوضا عن معالجتها ثنائيا>> حيث يعتقد كل منهما أنه يستطيع أن يجد الدعم.
في النهاية، يعتبر الانقسام الأميركي البرازيلي حول ال(FTAA) السبب الأساسي للنزاع. في حال حافظ لولا بقوة على موقفه، فسيجد أنه أحدث اختلافا كبيرا في الجيوسياسة العالمية وأن حكومة بوش، لذلك، لن تعطيه أي مأوى. وفي حال لم يفعل، فقد يكون لديه القليل لعمله خلال فترة بقائه في الحكم.
تجد البرازيل نفسها الآن، فعليا، في خضم المناورات الانتخابية. هناك انتخابات تشريعية في العام 2004 وانتخابات رئاسية في العام 2006. لقد حدد حزب العمال لائحة الأحزاب التي يرغب بالتحالف معها وتلك التي يريد مواجهتها مهما كان الثمن. قال لولا إنه لا يعرف ما إذا كان سيتنافس مرة أخرى (على منصب الرئاسة)، لكن أحدا لم يصدقه وشعبيته في الوقت الراهن، بحسب استطلاعات الرأي، جيدة. إنه شخصية كاريزمية ولا يوجد منافس ظاهر من مستواه.
أي صنف من الحكومات هي حكومة لولا؟ يقول مؤيدوه إنها حكومة يسار الوسط (بسبب التحالفات). أما هو فقد قال في آب، إنه لم يكن ولن يكون <<يساريا>> أبدا، برغم أن تصريحاته العامة في الماضي تناقض ذلك حيث إنه تحدث عن كونه جزءا من يسار أميركا اللاتينية مع نظرة اشتراكية. يقول بعض مثقفي اليسار في البرازيل حاليا إن حكومته يمينية ومع ذلك يقولون أيضا إنه لا يوجد حزب يساري لينافسه.
في الأرجنتين المجاورة، يطبق الرئيس كريشنار سياسة توقع كثر أو أملوا بأن يعتمدها لولا، ولم تكن متوقعة من كريشنار. لكن للولا وكريشنار <<قيودا>> ثقافية واجتماعية، كما ذكّرنا مؤخرا الناشر من الأوروغواي راؤول زيبيتشي: ففي الأرجنتين طبقة متوسطة خسرت مؤخرا دخلا معتبرا بينما في البرازيل طبقة متوسطة لا تزال تتحرك صعودا. هل يمكن للولا التحرك أكثر في الاتجاه الذي يمثله حزب العمال تاريخيا في البرازيل؟ هذا يعتمد جزئيا على مدى نجاحه مع ال<<ميركوسور>>. وكذلك يعتمد، مع أن قلة تقر بذلك، على حجم المشاكل التي سيجد جورج بوش نفسه في خضمها. إن هامش المناورة لحكومة مثل حكومة لولا سيزداد بشكل كبير طبقا لدرجة الصعوبات السياسية والاقتصادية في الولايات المتحدة. ستتضح الصورة أكثر في العام 2003.
ترجمة: إيلي شلهوب
() استاذ الدراسات المتقدمة في جامعة يال. تنشر <<السفير>> النص بالاتفاق مع الكاتب.
(1) السوق المشتركة الجنوبية التي تضم الأرجنتين والبرازيل والباراغواي والاوروغواي.
جريدة السفير