غزة – فلسطين
آب 2003
لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية ، النوعية المتدفقة ، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، في السياسة و الاقتصاد و التطور العلمي ، شكلت في مجملها تحولا تاريخياً معاصراً و رئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة ، في القرن الحادي و العشرين ، لم يعهدها من قبل ، و لم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسارعة أشد الساسة و المفكرين استشرافا أو تشاؤماً و أقربهم إلى صناع القرار ، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية و منظومة التحرر القومي من جهة ، و الانحسار أو التراجع المريع أيضاً ، و لكن المؤقت للبنية الأيديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية و التحرر القومي من جهة أخرى ، الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة و المصالح وفق مفاهيم و أسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة ، ووفر معظم مقومات بروز الأحادية القطبية أو العولمة ، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت –حتى اللحظة الراهنة- استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب ، بحكم ادعائها أنها المنتصر الوحيد ، و بالتالي صاحبة الحق الرئيسي في رسم و تحديد طبيعة و مسار العلاقات الدولية الراهن.
و في ضوء هذه المستجدات و المتغيرات العالمية، غير الاعتيادية، بمظاهرها و طبيعتها الأحادية القطبية، في السيطرة على مقدرات العالم بدواعي القوة و الإكراه، التي تفتقر –من الناحية الموضوعية- لمقومات الديمومة و الاستمرار، في هذا المناخ وجدت الإمبريالية الأمريكية المعولمة، فرصتها في التمدد و الهيمنة على كثير من مناطق العالم عموماً، و على منطقتنا العربية خصوصاً، لإعادة تشكيل خارطتها السياسية، والسيطرة على مقدراتها، وإخضاعها بكل وسائل القوة الغاشمة دون أي اعتبار لمواثيق وقوانين الشرعية الدولية أو قراراتها، وما يجري في العراق الشقيق اليوم لا يمثل سوى المرحلة الأولى من المخطط العدواني الأمريكي-الصهيوني الهادف إلى تكريس تبعية وتخلف بلداننا العربية من جهة، و إعادة هيكلتها و تكييفها بما يضمن إلحاقها كطرف هامشي، بالسياسة الأمريكية في المنطقة، التي تستهدف –بصورة يائسة لا مستقبل لها- تجديد الدور الوظيفي للعدو الصهيوني و دولته بما يتوافق مع مستجدات المصالح الأمريكية المعولمة الراهنة، بحيث تصبح إسرائيل "دولة مركزية" في المنطقة العربية و الإقليمية يحيطها مجموعات من "دول الأطراف"، المتكيفة –التابعة مسلوبة الإرادة، بما يضمن و يسهل عملية "التطبيع" و "الاندماج" الإسرائيلي في المنطقة العربية، سياسياً و اقتصادياً، بما يعيق ويعرقل استنهاض عوامل اعادة بناء حركة التحرر القومي الديمقراطي من جهة، و بما يعزز السيطرة العدوانية الإسرائيلية على كل الأراضي الفلسطينية –و العربية- المحتلة أو التحكم في مستقبلها من جهة أخرى.
إلا أن هذه الاستنتاجات –على مرارتها- ترتبط باللحظة الراهنة من المشهد العربي، و هي لحظة لا تعبر عن الحقائق و مقومات التغيير رغم كل المؤشرات التي توحي للبعض، أو القلة المهزومة، من أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، إن المشهد العربي المهزوم والمأزوم الراهن، يوحي بأن المطلوب قد تحقق، و أن الإمبريالية الأمريكية و صنيعتها و حليفتها الحركة الصهيونية و إسرائيل، قد نجحتا في نزع إرادة الأمة العربية، ذلك إن وعينا بأن المشهد الراهن –على سوداويته- لا يعبر عن الحقائق الموضوعية لهذه الأمة، في مسارها و تطور حركة جماهيرها الشعبية و تطلعها نحو التحرر و الديمقراطية و التقدم و العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية، الأمر الذي يؤكد، أن المطلوب أمريكياً و إسرائيلياً لم و لن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض و إخضاع شعوب هذه الأمة، التي صنعت ماضي و حاضر هذه المنطقة، و ليست جسماً غريباً طارئاً فيها، و لذلك فإن سكونها الراهن المؤقت هو شكل من أشكال كمون الحركة في داخلها، يقاوم كل محاولات تطويع إرادتها، تمهيداً للمشهد القادم، بعيداً عن السكون، مشهد الجماهير المنظمة، أو مشهد ما بعد الأزمة الراهنة الذي سيعيد لهذه الأمة دورها الأصيل في صياغة مستقبل هذه المنطقة.
إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعبنا أو الشعوب العربية كلها –في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أماني و مصالح هذه الأمة، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان و المكان دوراً رئيسياً و أحادياً فيها، بل يعني تفعيل و إنضاج عوامل و أدوات التغيير الديمقراطية الحديثة و المعاصرة، و البحث عن مبرراتها و أسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن، الذي لم يعد مجدياً لتغييره، كافة الأدوات و الرؤى و السياسات الرسمية الفلسطينية و العربية الهابطة، التي تعاطت منذ كامب ديفيد و مدريد و أوسلو ووادي عربة وشرم الشيخ وصولا إلى "خارطة الطريق" المرتبطة بالهجمة العدوانية على العراق الشقيقواحتلاله، لكي تبدأ بعد ذلك سيناريوهات الهزيمة والخضوع، عبر حلقات من التفاوض أو الحوار تتولاها أنظمة رسمية عربية فقدت- في معظمها - وعيها الوطني والقومي، ستقودنا إلى مزيد من التفاوض و مزيد من المصالح و الصداقات، و ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية و القومية، التي يكاد أن يصبح أمراً طبيعياً بعدها، أن تتغير الأهداف و جداول الأعمال و المطالب.
في مثل هذا الواقع، تنضح معطيات و مقدمات عملية التغيير، بصورة تراكمية، بطيئة أو متسارعة، و موضوعية أيضاً، ليس بالمعنى الذاتي –على أهميته- لهذا الحزب أو ذاك، و إنما بالمعنى الوطني و القومي العام كآليات أو إرهاصات فكرية تتمحور حول فكرة أو مجموعة أفكار توحيدية تعبر عن تطلعات كل الجماهير الشعبية العربية في التحرر و الانعتاق و الخلاص من كل أشكال المعاناة و الحرمان و الظلم الوطني و الطبقي.
إننا، حينما نتحدث عن نضوج العوامل الموضوعية، فإننا نعني بذلك، و بصورة مباشرة، هذا المشهد السوداوي الذي تعيشه أمتنا بصورة اكراهية و مؤقتة من جهة، و الذي أعاق حركة تطور شعوبنا العربية كلها، و أبقاها أسيرة لأحكام القرن الخامس عشر من جهة أخرى، بعيداً عن المرحلة الجديدة بمتغيراتها الهائلة في القرن الحادي و العشرين الذي نتعاطى معه بمفهوم الوجود في المكان فحسب، و بعيداً عن أي دور أو تفاعل إيجابي ومؤثر لنا في زمانه و مستجداته، رغم أن الإمبريالية المعولمة و أداتها الحركة الصهيونية و إسرائيل في بلادنا تضعنا أمام حالة صراع من نوع جديد يستهدف عبر الخصخصة و اقتصاد السوق و الليبرالية الجديدة، أو أيديولوجية العولمة، شطب إمكانية تجدد مشروعنا القومي التقدمي و إبقاءه مفككاً مشتتاً فاقداً لمقومات التحدي و النهوض.
إن الوضع الراهن، الذي تعيشه شعوبنا العربية، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط التي بدأت في التراكم منذ اتفاقية "سايكس بيكو" وتجزئتها لوطننا العربي عام 1916، ووعد بلفور عام 1917، والنكبة الأولى لشعبنا العربي الفلسطيني عام 1948، ثم انهيار الوحدة العربية بين مصر و سوريا في أيلول 1961، و تطورت بعد هزيمة حزيران 1967، و تعمقت و امتدت بعد كامب ديفيد 1979 ووادي عربة وأوسلو والحكم الإداري الذاتي وصولا إلى هذه الحالة من الخضوع الرسمي العربي وقبوله بتفكيك وإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العربية وفق المخطط الأمريكي الذي يجري تطبيقه اليوم في بلادنا، بحيث يمكن القول بأن الربع الأخير من القرن العشرين، والأعوام الأولى من القرن الحادي والعشرين، حملت معها صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر و النهوض الوطني و القومي، تحول هذا الوطن بدوله العديدة و سكانه إلى رقم كبير –يعج بالنزاعات الداخلية و العداء بين دوله-، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية، و تحولت معظم أنظمته و حكوماته إلى أدوات للقوى المعادية، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة و الفعل و المواجهة، في إطار عام من التخلف و التبعية على تنوع درجاتها و أشكالها السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية والثقافية و السيكولوجية، في ظروف فقدت فيها القوى و الأحزاب الديمقراطية الوطنية و القومية و اليسارية قدرتها –لأسباب ذاتية و موضوعية- على الحركة و النشاط و النمو، و تراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها.
و في مقابل هذا التراجع الرسمي العربي الذي يقف سداً مانعاً في وجه تطور و تجدد و صعود المشروع الوطني و القومي في بلدان الوطن العربي كله، تتجلى هيمنة العدو الصهيوني بصورة غير مسبوقة، لم يستطع تحقيقها في كل حروبه السابقة مع العرب، إلى جانب عمليات الترويض الأمريكي للنظام الرسمي العربي، في السياسة و الاقتصاد و الفكر و الثقافة التي لم تنجح في تغيير الموازين و المعايير العسكرية و السياسية في الصراع العربي –الصهيوني لصالح إسرائيل فحسب، بل نجحت في تغيير أسس ما يسمى بعملية التفاوض، في الساحة الفلسطينية، إلى الدرجة التي يجري التعامل معها الآن على قاعدة أن يعترف العدو الإسرائيلي بحقوقنا و ليس العكس، بمثل ما هو الأمر في عملية التفاوض مع العراق – قبل احتلاله المباشر - الذي وافق على كافة الاشتراطات الأمريكية لدرجة وصل معها إلى حالة تقترب من الاستسلام أو الهزيمة الفعلية دون طائل، ذلك أن المطلوب أمريكيا، المزيد من الخضوع الذي يجعل أمتنا العربية فاقدة لكل مقومات نهوضها ومستقبلها.
على أي حال، و مع إدراكنا لطبيعة هذه التراجعات في الوضع العربي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، لم تكن معزولة أبداً عما جرى و يجري في العلاقات الدولية المعولمة الراهنة المحكومة بمنطق ثقافة القوة العنصرية الراسمالية او بالصلف الامبراطورى الامريكي المهيمن على مركزها، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لولا هذه التراجعات العربية التي شكلت قاعدة و مناخاً عاماً عبر أدواتها السياسية و شرائحها الاجتماعية و طبقاتها القديمة والجديدة او المستحدثة الطفيلية، لما نجحت العولمة الأمريكية في فرض شروط الاستسلام على بلداننا، ذلك لأن ظاهرة العولمة الاحادية الامريكية ، إلى جانب ما تحمله من مخاطر شديدة و تحديات كبرى، خاصة على بلدان العالم الثالث عموماً و الوطن العربي خصوصاً، إلا أن هذه الظاهرة تحمل أيضاً كثيراً من الفرص و حوافز الصحوة و النهوض- كردة فعل نقيضة - لمن يمتلكون الإرادة، إذ لا يمكن اختزال العولمة – كظاهرة معاصرة - في المخاطر وحدها بعيداً عن فرص النهوض، كما لا يمكن اختزالها في أنها عولمة التحديات، أو عولمة الاستسلام، فكل منهما تمتلك مقوماتها و أدواتها و آلياتها الداخلية. و إذا كان صحيحاً أن العولمة –مهما اشتدت هيمنتها- لا تستطيع بأي حال من الأحوال، شطب هذا التنوع الحضاري و التاريخي و الثقافي و السياسي بين الأمم و القوميات، فإن ذلك لا يعني الصمت أو الركون و الاطمئنان، لأن الصراع المستمر و الحركة الصاعدة في إطاره، يشكلان القاعدة الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية اليوم أكبر بما لا يقاس مما كانت عليه في السابق، لذلك فإن عدم دخولنا –كعرب- إلى حلبة الصراع متسلحين بالرؤية أو الهدف القومي الوحدوي الاشتراكي ، و بالخطط اللازمة لتحقيقه و توفير مقوماتها و آليات تنفيذها، سيعني مزيداً من التبعية والتخلف و القهر لشعوبنا، و مزيداً من التراجع لبلداننا على هامش التاريخ أو خارجه لا فرق.
في ضوء ما تقدم، فإن شرط الحديث عن الوحدة العربية أو إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق، هو الانطلاق بداية من رؤية ثورية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث من جهة، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى، على أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض، و القيام بوظيفتها و مهماتها التاريخية فلا بد لها من امتلاك الوعي بالمحددات أو المفاهيم الجوهرية الأساسية التالية:-
1.أن تكون رؤية وحدوية تسعى إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية، و تعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي و الإنساني العام.
2.أن تسعى إلى استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة، و ما تضمنته من عقلانية علمية و روح نقدية إبداعية و استكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية و الديمقراطية السياسية والاجتماعية، و ما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية و سعيها إلى الحركة و التغيير والتقدم.
3.أن تعتمد الأيديولوجية الاشتراكية بمضمونها ومنهجها العلمي ووعيها وإدراكها، كركيزة أساسية و قاعدة و منطلقاً للرؤية القومية العربية الجديدة، بشرط تطوير هذا الوعي وتطبيقه على واقعنا بصورة معاصرة و متجددة، بما يؤدي إلى وضوح العلاقة الجدلية بين خصائص و مكونات واقعنا العربي بكل تفاصيله من جهة، و قوانين و منهجية الاشتراكية العلمية، كمرشد و دليل في عملية تغيير هذا الواقع و تجاوزه من جهة أخرى. إذ أن هذه العلاقة تمثل الشرط الوحيد لإعادة استنهاض اليات حركة التحرر القومي العربي في زمن الصراع المعولم الذي نعيشه الآن، ذلك أن عملية التحرر القومي كضرورة تاريخية لمجابهة تناقضات المجتمع العربي الحديث، لا يمكن تحققها أو ممارسة دورها كنقيض للواقع القائم، بدون الاشتراكية و برنامجها السياسي الاجتماعي و الاقتصادي، كضرورة تاريخية أيضاً لعملية التحرر القومي ذاتها، إذ أن جوهر تناقضاتنا الرئيسة مع الحركة الصهيونية و قوى العولمة الإمبريالية و توابعها المحلية يقوم على الصراع على استرداد الأرض و الموارد و الثروات المادية والبشرية العربية لإلغاء حالة النهب و الاستلاب و الارتهان و الاستغلال التي تعيشها شعوبنا العربية اليوم، و بالتالي فإننا نؤكد أن حل هذا الصراع لتحرير الأرض و الثروات و الموارد العربية لا يمكن تحقيقه بدون إنضاج الوعي الاشتراكي و برامجه التطبيقية الكفيلة بتغيير بنية العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية التابعة والمتخلفة و المشوهة الحالية، إلى بنية إنتاجية تنموية حضارية شاملة تضمن توليد علاقات اجتماعية ذات طابع جماعي تعاوني، يؤكد في جوهره على حق جماهيرنا الشعبية في ملكية هذه الثروات و الموارد عبر مؤسساتها الديمقراطية التي ترى في الحوافز الفردية و الدافعية الذاتية شرطاً للإبداع و البناء و ضمانة للتطور المتجدد و الاستمرار.
إن هذه العلاقة الثنائية الجدلية بين الرؤية القومية و أيديولوجية الاشتراكية العلمية ، و تطابقهما معاً في النظرية و الممارسة بأدوات أو آليات تنسجم مع روح هذا العصر و متطلباته ، هي الصيغة أو المنظومة الفكرية التي نعتقد أنها تشكل المدخل النظري الذي ندعو إلى الحوار العميق فيه من أجل بلورة أسسه و آلياته الفكرية أو المعرفية تمهيداً للوصول إلى آلياته الحركية ، أو مقوماته و أدواته التغييرية الديمقراطية المنظمة ، بصورة عصرية تتوافق مع طبيعة التحولات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية ، التي نتطلع إليها ، في سياق نضالنا من أجل التحرر القومي و التقدم الاجتماعي و مواجهة تحديات العولمة و المشروع الصهيوني و اشتراطاتهما المذلة .إذ لا يعقل أن نستمر في التعامل مع الفكرة القومية من منطلق أزليتها أو خلودها ، و هي ليست كذلك ، أو الركون إلى مكوناتها الأساسية ، اللغة ، و الجغرافيا أو الأرض ، والتاريخ والثقافة والتراث . فبالرغم من أهمية هذه العوامل كمنطلقات أولية و أساسية للفكر القومي العربي، إلا أنها تظل عاجزة وحدها عن التفاعل أو التكيف الإيجابي مع المتغيرات الإقليمية و العالمية المعاصرة نظراً لتعدد خصوصياتها القطرية وألوانها رغم تشابكها في لوحة تاريخية وجغرافية متصلة ، مما يجعلها –وفي الظروف الراهنة بالذات- فاقدة بآلياتها الذاتية المجردة ، القدرة على إنتاج الوعي القومي الاستنهاضي ، أو الفكرة التوحيدية الناظمة للجماهير الشعبية والمعبرة عن مصالحها ، و من هنا تتجلى الأهمية و الضرورة معاً للمحتوى الاقتصادي الاجتماعي التقدمي القادر على إنتاج الآليات النقيضة التي يمكن أن تتجاوز هذا الواقع المجزأ ، التابع ، المتخلف ، المشوه من جهة ، وادواته المتعددة القبلية، الكومبرادورية ،والطفيلية، والبيروقراطية الأحادية المستبدة ، من جهة أخرى .
إن هذه الحالة من السكون الظاهري أو الكمون العربي ، في مناخ تترعرع فيه كل عوامل الإحباط ، تجعل من الحديث عن المبادرة لانتاج و بناء منظومة معرفية قومية تقدمية تتناسب مع روح هذا العصر و مقتضياته ، ضرورة تاريخية استثنائية ملحة تعمل على نقل الواقع الشعبي العربي من حالة السكون أو الركود الراهنة إلى حالة الحركة و التجدد ، يقع عبئ صياغتها و تبنيها و تحمل مسؤولية فعلها و حركتها على عاتق المثقف العربي الديمقراطي التقدمي الملتزم كخطوة أولية ، لإعادة تكريس الوعي القومي بمضامينه و آلياته الحديثة و المعاصرة في التحرر و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية كأفكار توحيدية للجماهير ، تشكل المحتوى الحقيقي للواجهة العربية الخارجية المتمثلة في اللغة و الأرض و التاريخ و الثقافة ، بمثل ما تشكل أيضاً ، الأساس المادي للمشروع القومي الديمقراطي في الحاضر و المستقبل ، الذي يضمن كسر حلقات التخلف و التبعية و الإلحاق و التجزئة ، و يختصر الطريق إلى المعرفة العلمية و الحداثة من جهة ، و صياغة المشروع التنموي الاقتصادي المستند إلى مبدأ الاعتماد الجماعي العربي على الذات الذي يضمن تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية من جهة أخرى .
إننا ندرك حجم العقبات أو العوامل الموضوعية و الذاتية التي تشكل تحدياً حقيقياً في وجه تجدد المشروع القومي العربي، و التي تفاقمت طوال العقود الثلاثة الماضية، التي حملت صوراً من التراجع تخطت كثيراً من الثوابت و الحدود و الموانع، و ما زال رسمها البياني متجهاً في حركته نحو مزيد من التراجع و الهبوط حتى اللحظة، لم يصب بالضرر الجوانب السياسية الاجتماعية فحسب، و إنما أصاب أيضاً الأسس الفكرية أو المفاهيم العامة التي ارتبطت تاريخياً بحقيقة الوعي بمفهوم الأمة العربية، و مفهوم الوطن العربي مما دفع بقسطنطين زريق –أحد أهم رواد الفكر القومي العربي الحديث- إلى الإقرار بهذا التراجع في كتابه "ما العمل" –الصادر عام 1998- بقوله "عليَّ شخصياً أن أعترف أنني كنت في الماضي أتكلم و أكتب عن الأمة العربية ، فإذا أنا الآن أتجنب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش" و لجأ –حتى وفاته في صيف عام 2000-إلى استخدام تعبير "المجتمع العربي" بدلاً من "الوطن العربي" الذي لم يتطور بعد ليصبح وطناً عربياً لأمة عربية ، و لم يكن ذلك موقفاً يائساً من مفكرنا الراحل ، بقدر ما كان تعبيراً عن قلقه على مستقبل هذه الأمة ، و عن ضرورات خلق عوامل التحدي الدائم لمواجهة كل أشكال حياتها و ظروفها المعقدة الراهنة ، لتطوير مفهوم القومية العربية و إخراجه من سياقه الرومانسي المألوف أو المتحجر إلى رحاب الواقعية العقلانية الحديثة ، فالقومية الحقة –كما يراها قسطنطين زريق- ليست دعوة سياسية فحسب ، إنما هي حركة علمانية شاملة لحياة الشعب ، تعمل على مواجهة العوامل الرئيسية في أزمة المجتمع العربي حاليا ، والتي لخصها فيما يلي :-
-غياب الشعوب عن المسرح العربي .
-غياب القضايا الكبرى في المجتمع العربي ، وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص .
-غياب العقلانية والنهج العلمي في فهم المشكلات وحلها .
-غياب القيم الاجتماعية الإيجابية ، وانتفاء اعتمادها في السلوك العام والخاص .
-هذه العوامل نتج عنها غياب القدرة –في المجتمع العربي- على التحصن في وجه الانحرافات والمفاسد الداخلية أو في وجه العدوان الخارجي .
لذلك ، فإن حديثنا عن الضرورة التاريخية لصياغة منظومة معرفية قومية تقدمية معاصرة ، عبر رؤية وممارسة جديدتين ، يقع بالدرجة الأولى وفي المراحل الأولى على عاتق المثقف الديمقراطي الثوري العربي ، لاعتبارين هامين ، أولهما: أن هذا المثقف هو الوحيد القادر من الناحية الموضوعية على وضع الأسس المعرفية النظرية لهذه المنظومة وآفاقها المستقبلية. وثانيهما: أن طبيعة التركيب الاجتماعي/الطبقي المشوه لمجتمعنا العربي ، التي تتسم بتعدد الأنماط الاجتماعية القديمة والمستحدثة وتداخلها ، كما تتسم بالسيولة وعدم التبلور الطبقي بصورة محددة ، والتسارع غير العادي ، الطفيلي أو الشاذ أحيانا في عملية الحراك الاجتماعي ، إلى جانب وضوح وتعمق تبعية "البورجوازية" العربية للمركز الرأسمالي المعولم ، بحيث أصبحت –اليوم- واحدة من أهم أدواته وآلياته في بلادنا ، كل ذلك يجعل من المثقف العربي ، -بالمعنى الجمعي المنظم- بديلا مؤقتا ورافعة في آن واحد للحامل الاجتماعي أو الطبقي ، وما يعنيه ذلك من أعباء ومسئوليات بل وتضحيات في مجرى الصراع لتوليد معالم حركة التحرر العربي ومشروعها النهضوي القومي ونشره في أوساط الجماهير الشعبية العربية كفكرة مركزية أو توحيدية .
إننا ، لا نزعم أننا ننفرد بالدعوة إلى إعادة تجديد وتفعيل الفكر القومي ومشروعه النهضوي في بلادنا ، ذلك لأن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من القوى والأحزاب والمفكرين والمثقفين في إطار اليسار الديمقراطي على مساحة الوطن العربي كله ، وهي أيضا ليست دعوة إلى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة التي تتبدى في ثلاث مظاهر رئيسة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية) :-
أولا : المظهر السياسي للأزمة :-
لعل أبرز المتغيرات الدولية المعاصرة أو العوامل الخارجية ، التي دفعت بالبلدان العربية نحو المزيد من التداعي والتراجع ، و تزايد حجم التبعية والخضوع،تتجلى في استفحال الهيمنة الامبريالية المعولمة ، التي لن تتوقف عند احتلال العراق والسيطرة على نفطه ومقدراته فحسب ، بل ستتخطى ذلك صوب تفكيك بلدان وطننا واعادة تجزئة اقطاره ، اذا ما بقي هذا الواقع العربي المهزوم والمأزوم قائما دونما حراك سياسي نقيض .
على أي حال ، إن هذه المتغيرات لم تكن قادرة على التأثير ، بدون استكمال عوامل التبعية والتراجع الداخلي في مجمل النظام العربي ، وتراكماتها وتحولاتها النوعية السالبة التي تفاقمت خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين واستفحلت مع بداية القرن الحادي والعشرين، كان من أهم نتائجها ، هذه التحولات الخطيرة في الاستراتيجية السياسية العربية نحو مسار نقيض للمفاهيم والمصالح الوطنية والقومية ، فبعد أن كان جوهر الاستراتيجية السياسية العربية وقواعدها –للأنظمة الوطنية- في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، يرتكز على التناقض الأساسي التناحري مع النظام الإمبريالي وركيزته الحركة الصهيونية وإسرائيل ، كتناقض أو صراع وجودي وتاريخي وحضاري شامل ، تحول منذ اتفاقية كامب ديفيد 1979 وما تلاها من تراجعات، إلى شكل آخر يقوم على الاعتراف بإسرائيل ووجودها كدولة مشروعة في المنطقة العربية انسجاما مع حالة الخضوع للسياسات الأمريكية وشروطها.
في ضوء ما تقدم فإن العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة ، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها ، حيث انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي سابق ، إلى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد، بعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية القومية عموما ، والقضية الفلسطينية بالذات ، تمثل صراعا مصيريا لا يقبل المصالحة بين طرفيه : الإمبريالية العالمية وإسرائيل من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى ، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي-الأمريكي-الإسرائيلي ، أوصل النظام العربي إلى حالة تعبر عن فقدانه لوعيه الوطني وثوابته ومرجعياته سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية أو ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقومية في فلسطين والعراق ، ولم يكن غريبا في مثل هذه الحالة من التراجع والانكسار ، بروز التناقضات الرئيسة والثانوية الداخلية كما نلاحظ اليوم في بلداننا، لتبدأ دورتها في تفتيت الكيانات العربية ، في السودان بين الشمال والجنوب ، وفي الجزائر بين البربر والعرب من جهة ، وتنامي الحركات السياسية الدينية الأصولية غير المستنيرة من جهة أخرى ، وفي مصر عبر محاولات بث الانقسام والفرقة بين أبناء الشعب الواحد من مسلمين وأقباط ، و الانحراف بالصراعات الداخلية من طابعها السياسي الديمقراطي الاجتماعي في إطار الوطن الواحد إلى طابعها الديني الشوفيني المتعصب الذي تقوده أيضاً الحركات الدينية الأصولية بمختلف أنواعها و ارتباطاتها ، ثم محاولات خلق عوامل الفرقة و العداء بين سوريا و لبنان التي تقودها الحركات الشوفينية الانعزالية ، وأخيرا غزو العراق واحتلاله عبر دعم صريح أو صمت مريب من النظام الرسمي العربي كله .
لقد باتت إشكاليات الواقع العربي العديدة و المتنوعة إشكاليات عميقة ، بسبب اتساع حجم و قوة الضغوط العدوانية الأمريكية، التي تحاول تأسيس مقومات مشروع التوسع الامبريالي المعولم، ببعديه، السياسي والاقتصادي ، الهادف إلى اعادة تشكيل الجغرافيا العربية وتفكيك كل مقومات النهوض القومي الذاتي في بلدان وطننا العربي، لحساب "المشروع الحضاري الغربي" باسم الليبرالية الجديدة و الخصخصة و السوق الحر و تحرير التجارة و الانفتاح والتطبيع مع العدو الصهيوني.
و لكن رغم إقرارنا بحجم هذه الضغوط الخارجية ، و دورها كتناقض رئيسي ضد مصالحنا الوطنية و القومية ، إلا أن الأوضاع و الضغوط الداخلية العربية تشكل العامل الرئيسي الأول في نجاح أو فشل تلك الضغوط الخارجية فمن غير الممكن تحليل الأوضاع السياسية العربية ، و مسارها ، بمعزل عن مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي الداخلي باعتباره الركيزة الأولى و المدخل الفسيح لخضوع النظام العربي و تبعيته للمراكز الرأسمالية و ضغوطاتها، إذ أن التراكمات البطيئة و المتسارعة في الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي العربي ، و تحولاتها خلال الثلاث عقود الماضية، عبر سيطرة القوى الرأسمالية ، الطفيلية ، و البيروقراطية ، و التجارية ، و العقارية ، و المالية الكبيرة على مجمل البنية الاجتماعية و السياسية العربية في مناخ الاقتصاد الحر و الانفتاح ، أدت إلى تراكم و اتساع التناقضات الداخلية مع الجماهير الشعبية العربية وطموحها للوحدة القومية من جهة ، و إلى تطابق مصالح البنية الطبقية العليا الداخلية الحاكمة ، مع مصالح و شروط المراكز الرأسمالية الخارجية أو العولمة من جهة أخرى .
المسألة الثانية التي تؤكد على أولوية الأوضاع الداخلية العربية كعامل أساسي في تحديد شكل و طبيعة التعامل مع العوامل أو الضغوطات الخارجية ، يمكن إيضاحها عبر تطبيقات شروط العولمة على بلداننا العربية ، بكل صورها السياسية و المجتمعية و الاقتصادية التي لم تواجه أية عقبات أو صعوبات تعترض طريقها بحكم طبيعة و مكونات البنية الطبقية و السياسية الحاكمة في هذه البلدان التي تتباين أشكال أنظمتها السياسية و دولها بين الدولة القبلية أو المشيخة ، إلى الدولة –العائلة ، إلى نظام الدولة البيروقراطي ، الفردي ، أو الأوتوقراطي ، الأبوي عموماً بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي السائد فيه ، إلا أن مظاهر التفرد و الاستبداد و الفساد و الفقر و الفوضى و عدم الاستقرار تكاد تكون قاسماً مشتركاً من حيث الجوهر ، مع اختلاف درجاتها و أشكالها و نسبيتها في هذه الدولة أو تلك ، نلاحظ ذلك بوضوح في غياب التوازن بين الانفتاح و السوق الحر و حرية المنافسة و الخصخصة من جهة ، و بين ما تتطلبه هذه الآليات من حريات مزعومة أو تعددية سياسية أو ديمقراطية أحادية ، بما يعني استمرار هيمنة الدولة بكل أشكالها و مظاهرها القديمة و الحديثة ، و تمسكها بتطبيق مبدأ التعامل مع السلطة أو الدولة كمصدر للثروة ، في خدمة البنية الطبقية الفوقية أو الشرائح الاجتماعية العليا ، القديمة و المستحدثة التي تفرض على شعوبنا –عبر أجهزتها و مؤسساتها الإكراهية المتنوعة- أن تتحول إلى "خادم" للسلطة أو الدولة بدلاً من أن تكون هذه الأخيرة هي الخادمة لمصالح شعوبها ، و في هذه العلاقة يتجلى دور الدولة أو النظام أو السلطة كعامل داخلي متحكم في صياغة شكل العلاقة مع العوامل الخارجية ، حيث يتغيب الجزء الثاني من معادلة العولمة أو مفاهيم الليبرالية الجديدة والتعددية السياسية عند تطبيقها في بلادنا دون أن يعني ذلك أن الدولة في بلادنا تتخذ مساراً نقيضاً لشروط هذه العولمة ، بل بالعكس ، الموافقة عليها و الخضوع و التماهي مع شروطها ، الأمر الذي سيتطلب المزيد من الإجراءات و الوسائل الإكراهية في مواجهة القوى السياسية المعبرة عن مصالح الجماهير الشعبية ، و ردود أفعالها المحتملة ضد سياسات التوافق و الانسجام مع النظام الإمبريالي المعولم و ما يتطلبه ذلك من التطبيع مع العدو الصهيوني من جهة ، و للخلاص من مظاهر الحرمان و المعاناة الناتجة عن تزايد مساحات الإفقار و البطالة من جهة أخرى ، ففي مثل هذا المناخ تنمو التراكمات الداخلية التي تصل عند لحظة معينة إلى حدها أو سقفها النهائي الذي يعني القطيعة أو الانفصام بين هذه الدول و شعوبها ، و ما سينتج عن ذلك من شعور عميق لدى الجماهير الشعبية بالخوف من السلطة أو الدولة و العداء السافر أو الكامن ضد ممارساتها ، و هو شعور يعبر عن حاجة هذه الجماهير لمن يحميها من التسلط و الفقر و المرض و البطالة و الحرمان بكل أشكاله من جهة ، و يوفر لها فرصة العمل ، و المسكن و المأكل و العلاج في نظام ديمقراطي تحكمه سيادة القانون و العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، في اطار المشروع القومي التوحيدي العربي .
هذا هو جوهر الإشكالية أو الأزمة السياسية في النظام العربي الراهن ، ببعديهما التحرري على الصعيد الوطني و القومي ، و الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي المطلبي على الصعيد الداخلي ، اللذان لا يمكن تحققهما بدون توفر النظام السياسي المعبر عن ارادات و تطلعات و مصالح الجماهير الشعبية و يقوم على خدمتها .
و في هذا السياق ، فإن القضية التي يجب أن تستوقف القوى الديمقراطية و التقدمية الساعية إلى عملية التغيير ، تتلخص في السؤال الكبير التالي بدلالاته الخطيرة ، لماذا تميزت هذه القوى بامتلاكها لكثير من عناصر القوة سواء في بنيانها التنظيمي –أحزابها- أو في اتساع الحالة الجماهيرية بهذه النسبة أو تلك من حولها ، في مراحل الأربعينيات و الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي ، رغم عدم نضوج الظروف الموضوعية آنذاك ؟؟ و كيف تراكمت عوامل الضعف و الانهيار لهذه البنى التقدمية الديمقراطية بكل تنظيماتها في هذه المرحلة ، رغم تراكم و نضج الظروف الموضوعية بصورة لم يشهدها واقعنا السياسي الاجتماعي الاقتصادي العربي من قبل ؟ هذه الإشكالية أو المفارقة ما الذي يمنع أو يحول دون مواجهتها و حلها رغم وعي الجميع من المثقفين الطليعيين العرب بكل ملابسات و مخاطر هذه المرحلة من ناحية، ووعيهم –النظري- بدورهم من ناحية ثانية ؟ خاصة في ضوء فشل النظام العربي في حل الاشكالات أو التناقضات الداخلية أو حل تناقضاته الخارجية مع العدو الصهيوني و النظام الرأسمالي ، إلى جانب فشله في حل إشكالية الثنائية القطرية و القومية و تناقضاتها ، و لم يعد أمامه –كما يبدو بوضوح ساطع اليوم- سوى المزيد من الخضوع لشروط العولمة الجديدة ، على حساب المصالح الوطنية و القومية و على حساب الكثير من مظاهر السيادة الداخلية أيضاً ، و ليس لذلك سوى معنى واحد ، هو بقاء هذا الواقع المهزوم و المأزوم ، بل و استمرار صعود خطه البياني دون أية آفاق بما يعمق حالة الإحباط العام أو الانكفاء أو "الميل نحو الاستسلام" ضمن مناخ عام و أسباب كثيرة موضوعية متعددة الجوانب و المنطلقات ، مفتوحة على كافة الاحتمالات المنذرة بالسوء ، طالما بقيت القوى الديمقراطية التغييرية عاجزة عن تأطير نفسها و القيام بدورها وفق رؤية استراتيجية تقدمية – نظرية وعملية - واضحة ومحددة ومترابطة.
ثانياً : المظهر الاقتصادي للأزمة :-
ويتجلى في فشل السياسات الليبرالية الاقتصادية التي صاغها الصندوق والبنك الدوليين في ثمانينيات القرن الماضي ، والتي عرفت باسم برامج التثبيت والتكيف الهيكلي أو ما يسمى ببرامج التصحيح ، ولم يكن هذا الفشل مفاجئا للعديد من خبراء الاقتصاد في العالم الثالث ، بسبب أن هذه البرامج أو التوجهات الليبرالية الجديدة التي انساقت لتطبيقها غالبية دول العالم الثالث ، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد ، كل مصطلحات "التنمية" و"التحرر الاقتصادي" و"التقدم الاجتماعي" و"العدالة الاجتماعية" ، التي كادت أمام هذا الزحف الكاسح لمصطلح "برامج التصحيح والتكيف" التي رأى فيها المفكر الراحل د.رمزي زكي "أول مشروع أممي تقوم به الرأسمالية العالمية في تاريخها لإعادة دمج بلدان العالم الثالث في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من موقع ضعيف وإخضاعها لمقتضيات عودة الحيوية لتراكم رأس المال في المتروبلات (البلدان) الصناعية ، عن طريق ما توفره من آليات وشروط جديدة لنهب موارد هذه البلاد" .
والآن ، وبعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على استجابة بلدان العالم الثالث ، ومعظم بلدان الوطن العربي ، في تطبيق السياسات ، تحصد هذه البلدان ، مع بداية القرن الحادي والعشرين ، النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب ، بل أدت إلى تفاقم المديونية الخارجية والداخلية ، وعجز بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون إلى البنك الدولي صاحب تلك السياسات والبرامج ، كما أدت أيضا إلى تباطؤ وتراجع حركة النمو الاقتصادي ، وتزايد حالات الفشل والانكسارات في مسيرة الاقتصاد الوطني ، وأوقعت الاقتصاد والمجتمع في مآزق عديدة كما يؤكد الخبير الاقتصادي د.إبراهيم العيسوي :-
المأزق الأول : تخلت الحكومات عن مسئوليات التنمية ، لحساب القطاع الخاص –حسب شروط الصندوق والبنك الدوليين- الذي أثبت عجزه وعدم قدرته على سد الفراغ التنموي ، وذلك في تقديرنا أمر طبيعي حيث أن الهدف الوحيد للقطاع الخاص هو الربح فقط .
المأزق الثاني : العجز عن زيادة الادخار المحلي ، والفشل في اجتذاب الاستثمار الأجنبي .
المأزق الثالث : العجز عن التصدير ، مع فتح الباب لتسرب الموارد على نطاق واسع من خلال الاستيراد وخروج رؤوس الأموال .
المأزق الرابع : بالرغم من تراجع دور الحكومات –حسب شروط برامج التكيف- فقد عجزت عن تدبير الموارد لتمويل الإنفاق العام المحدود ، بسبب غياب الإيرادات التي توقعها أو افترضها الصندوق والبنك الدوليين .
المأزق الخامس: التغني أو المباهاة بالحديث المجرد فقط عن ما يسمى بالتنمية البشرية ، وهو مصطلح أو شعار من إنتاج خبراء البنك الدولي ، لم يحقق سوى الأوهام والمزيد من الفشل والعجز في إصلاح نظم التعليم والصحة ، إلى جانب العجز الذي أصبح مزمنا بسبب هذه السياسات ، في محاصرة تزايد الفقر والتفاوت المريع في توزيع الدخل والثروة .
المأزق السادس: بسبب هذه السياسات ، فقد تم تهميش دور التخطيط بعد أن أصبح دور الحكومات مقتصرا فقط على الإشراف أو التوجيه عن بعد ، وبالتالي غابت الأدوات الفعالة لتنفيذ الخطط التنموية وغيرها .
المأزق السابع : ثبت بالملموس ، أن الانفراج السياسي أو الديمقراطية الليبرالية وتطبيقاتها حسب توجيهات الصندوق والبنك الدوليين ، لم يكن سوى عملية مدروسة استهدفت تآكل القاعدة الاجتماعية للديمقراطية ، ونقصد بذلك الجماهير الشعبية الفقيرة ، بعد أن تعرضت لمزيد من التهميش والإفقار والمعاناة والحرمان بكل صورهما ، في مقابل فتح الباب على الغارب لسيطرة رأس المال الطفيلي البيروقراطي والكومبرادوري والشركات والوكالات الأجنبية على الحكم ومؤسساته والتحكم بقراراته السياسية الخارجية والداخلية .
إن هذه المآزق ، وغيرها الكثير من الأمثلة الفاضحة ،التي تشير بوضوح صارخ على حجم التراجعات والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية ، التي أودت بجماهيرنا الشعبية العربية إلى أشكال من الفقر والمعاناة والذل لم تعرفها من قبل ، عدا عما أوقعته هذه التطبيقات ، في بلادنا العربية ، وبلدان العالم الثالث من أزمات عميقة ، كشفت عمق التناقضات الجسيمة في بنية هذه السياسات الليبرالية الاقتصادية وأساليبها الهادفة إلى إضعاف دور الدولة وإلغاء الدعم المقدم منها للسلع الأساسية ، وإلغاء القطاع العام ، والتقليل المستمر للفائض الاقتصادي الذي تملكه الدولة ونقله للقطاع الخاص المحلي والأجنبي في إطار الانفتاح الليبرالي والخصخصة وآليات السوق الحر .
وفي ظل هذا التدهور الناتج عن الاستجابة لسياسات الصندوق والبنك الدوليين ، ومنظمة التجارة الدولية WTO ، إلى جانب عوامل أخرى داخلية وخارجية متنوعة ، كان لا بد لمجرى الأزمة الاقتصادية العامة أن يشق طريقه في صلب النظام العربي نحو مزيد من التراجع في الاقتصاد والتنمية والمجتمع والسياسة ، باعتباره المجرى أو الخط المهيمن في حركة الرسم البياني العربي حتى اللحظة ، والمؤشرات على ذلك كثيرة :-
1-استفحال مظاهر التبعية بكل أشكالها ، بما يستجيب لأهداف العولمة التي تسعى إلى نفي القاعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة القطرية العربية ، عبر تحطيم العلاقة بين الدولة والشعب ، بحيث يصبح المسار الرئيسي للدولة موجها في خدمة استحقاقات العولمة والسوق العالمي والشركات المتعددة الجنسية أو الديكتاتورية الجديدة . إن ما يعزز هذا الاستنتاج ، طبيعية التحولات النوعية السالبة التي أصابت معظم أقطارنا العربية وجعلت منها دولا رخوة بالمعنى السياسي والاقتصادي المعاصر .
2-تزايد حجم ومعدلات البطالة والفقر ، وما ينتج عنها من أزمات خانقة ، فالعمالة العربية ، كما نقدرها في هذا العام 2003 ، تبلغ حوالي 100 مليون عامل ، منهم 12 مليون عامل عاطل عن العمل ، أي بنسبة 12% من مجموع القوة العاملة العربية ، معظمهم في البلدان العربية غير النفطية ، بما يعني تزايد مساحات الفقر وانتشاره بحيث يزيد مجموع الفقراء ، ومن هم دون خط الفقر (أقل من دولار واحد للفرد يوميا) عن 90 مليون نسمة ، معظمهم في مصر والأردن والمغرب والسودان وسوريا وفلسطين واليمن .
3-استمرار تراكم عوامل العجز في توفير مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي ، فالمعروف أن الطلب على الغذاء ينمو بمعدل 6% سنويا في حين أن الإنتاج ينمو بمعدل 2% فقط ، فقد تجاوز العجز التجاري الزراعي العربي أكثر من 20مليار دولار عام 2001 واستمر على حاله في عام 2003 إن لم يزد ، كما تجاوز العجز التجاري الغذائي 18 مليار دولار. ومن المتوقع ارتفاع فاتورة الواردات العربية بدون زيادة الكميات خلال السنوات القليلة القادمة (حتى عام 2005 على أكثر تقدير) إلى ما يقرب من 25 مليار دولار بعد رفع الدعم عن المنتجات الزراعية في أوروبا والولايات المتحدة ، وما سينتج عن ذلك من ارتفاع في رغيف الخبز والسلع الغذائية الضرورية الأخرى ، وهبوط في مستويات المعيشة ، واتساع دائرة الفقر وما دونه بدرجات حادة .
4-تعرض التجارة البينية العربية لمزيد من التراجع والانخفاض ، علاوة على ضعفها المزمن منذ إعلان تأسيس السوق العربية المشتركة عام 1964 ، ففي ذلك العام كانت نسبة التجارة البينية العربية 4.6% من مجمل التجارة العربية ، وصلت بعد خمسة وثلاثين عاما من ذلك التأسيس إلى 3.4% ، وسوف تتعرض إلى مزيد من الهبوط بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة لرفع كافة القيود وتحرير التجارة والانفتاح الكامل عام 2005 حسب برنامج منظمة التجارة التجارة الدولية WTO ، والى جانب ذلك فإن 90% من الاستثمارات العربية –كما تشير معظم الدراسات في السنوات العشر الأخيرة- هي خارج البلدان العربية ، عدا عن تزايد حجم الإنفاق غير المبرر على الخدمات الترفيه والإنشاءات والطرق والمعدات والأسلحة –التي لم تستعمل قط (في السعودية ودول الخليج)- خلال العشرين سنة الماضية ، حيث بلغ حجم هذا الإنفاق 2 تريليون دولار ، بمعدل 100 مليار دولار سنويا ، تصرف لحساب الشركات الرأسمالية الكبرى المنتجة لهذه السلع والخدمات العسكرية وغيرها ، دون أي اعتبار للنمو الاقتصادي للفرد في البلدان العربية الفقيرة ، الذي بقي خلال العقدين الأخيرين يتراوح بين الصفر والسلبي حسب تقارير ألا وسكوا ، والتقرير الاقتصادي العربي الموحد .
5-هبطت مساهمة الناتج الإجمالي العربي في إجمالي الناتج الإجمالي العالمي من 3.1% (650 مليار $) سنة 1993 إلى 2,1% سنة 1997 (599 مليار $) و إلى 2,3% عام 2000 ، و 2001 ، ارتفعت الى حوالي 3.2% عام 2002.
6-إن هذه النتائج السالبة أو المؤشرات التي تدل على هبوط و تراجع الاقتصاد العربي و ارتهانه للآخر الأجنبي بصورة غير مسبوقة ، بسبب قبول بلدان النظام العربي لسياسات الصندوق و البنك الدوليين و شروط منظمة التجارة الدولية أو العولمة ، كانت –و ما زالت- السبب الرئيسي الأول لهذا الانهيار السياسي الذي نعيشه اليوم في صراعنا مع الولايات المتحدة و إسرائيل ، ففي الوقت الذي يتعرض فيه الاقتصاد العربي ، و السياسة العربية ، لهذه الضغوط و التراجعات المستمرة ، توالت بالمقابل ، مؤشرات الصعود و التقدم في الاقتصاد و السياسة الإسرائيلية عبر تراكمات و تحولات نوعية غير اعتيادية على أثر اتفاقيات كامب ديفيد 1979، و أوسلو 1993، ووادي عربة 1994، نورد فيما يلي بعض المؤشرات و الأرقام المقارنة بين العرب و إسرائيل كما في عام 2002 :
1. ارتفع عدد الدول المعترفة بإسرائيل من 62 دولة عام 1992 إلى 153 دولة.
2. حسب العديد من المصادر ، فقد وفّر إنهاء المقاطعة الاقتصادية ، العربية و الإسلامية ، لإسرائيل حوالي 45 مليار دولار سنوياً ، بعد إزالة كافة العقبات من وجه الشركات العالمية في التعامل مع إسرائيل ، و بعد أن نجحت إسرائيل في دمج اقتصادها بالاقتصاد العالمي عبر حرية حركة صادراتها ووارداتها دون أية قيود أو عوائق ، و هي تسعى الآن إلى أن تتحول إلى مركز إقليمي رئيسي في اقتصاد العولمة، بهدف تأكيد سيطرتها شبه المطلقة على المنطقة العربية، بعد "استكمال السيطرة" على العراق.
3. ارتفع الناتج الإجمالي السنوي لإسرائيل من 65 مليار$ عام 1993 إلى أكثر من 110 مليار$ عام 2002، بالرغم من اثار الانتفاضة الفلسطينية على اقتصاد العدو الاسرائيلي.
4. ارتفع دخل الفرد السنوي فيها من 12 ألف دولار عام 1993 إلى 19 ألف دولار عام 2000 (هبطت إلى 17 ألف دولار بسبب الانتفاضة الفلسطينية وتأثيرها) ، و المفارقة المذهلة – في هذا السياق - أن دخل الفرد في الضفة و القطاع لا يتجاوز 1000 دولار رغم توحد الأسعار لجميع السلع في السوق الإسرائيلي و السوق الفلسطيني.
5. تدفقت الاستثمارات الخارجية –بصورة غير عادية- على إسرائيل ، و التي لم تتجاوز 400 مليون دولار عام 1991 ارتفعت إلى 2,9 مليار دولار عام 1996 و إلى 3,6 مليار دولار عام 1997 ، ووصلت إلى الذروة عام 1999 حيث بلغت 8,3 مليار دولار ، ولم تتراجع في عامي 2000 و 2001 ،2002 ، في حين أن الاستثمارات المحلية و الخارجية في الضفة و القطاع لم تتجاوز 300 مليون دولار كمعدل عام منذ عام 1994 حتى عام ( 2000( عشية الانتفاضة ) أي حوالي 3,6% فقط من حجم الاستثمارات المتدفقة على إسرائيل ! ، و كذلك الأمر بالنسبة لدولة عربية مثل مصر فبالرغم من عقد معاهدة كامب ديفيد 1979 ، لم تتجاوز الاستثمارات العالمية فيها 700 مليون دولار فقط ، أما بالنسبة للاستثمارات الإسرائيلية في الدول العربية فلم تتجاوز 100 مليون دولار طوال السنوات الماضية .
لعل في هذه المؤشرات ما يستدعي المزيد من الوعي بالأزمة و تشخيصها من جهة ، للتأكد من علاقة الترابط بين العولمة و التبعية و التخلف والخضوع من جهة أخرى ، وصولاً إلى صيغة البديل القومي الديمقراطي العربي كطريق وحيد للخلاص من كل هذه القيود التي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده ، فبالرغم من أننا نعيش أزمة اقتصادية في الوطن العربي ، لكن هذه الأزمة -كما يقول المفكر العربي الشهيد مهدي عامل- غير كافية لتوليد أزمة سياسية تنتقل فيها المبادرة داخل الصراع الاجتماعي العام من الطبقة المسيطرة إلى الطبقات صاحبة المصلحة في البديل الديمقراطي ، فما دامت "الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة ، فإن هذه الطبقة ليست في أزمة سياسية بالرغم من أزمتها الاقتصادية و الأيديولوجية ، و لكي تكون الطبقة المسيطرة في أزمة سياسية فعلية ، فلا بد أن تكون السيطرة في الحقل السياسي للصراع الطبقي (إلى جانب الصراع الوطني والقومي) ، أي للممارسة السياسية الديمقراطية للطبقة النقيض ، فالأزمة التي تعاني منها حركة التحرر الوطني و الديمقراطي العربية في وضعها الراهن ليست فقط أزمة قيادتها البرجوازية التابعة ، بل هي أزمة البديل الديمقراطي لهذه القيادة .
إذن ، فالمسألة الأساسية الأولى على جدول أعمال "البديل الديمقراطي ، داخل القطر الواحد أو على الصعيد القومي العام ، هي مسألة كسر نظام الإلحاق أو التبعية الراهن –كما يقول المفكر العربي سمير امين - صوب الاستقلال الفعلي السياسي و الاقتصادي ، و التنمية المستقلة الهادفة إلى خلق علاقات إنتاج جديدة تقوم على مبدأ الاعتماد على الذات ، تنمية تهدف إلى رفع معدل إنتاجية العمل ، إذ أن هذا الشرط –كما يقول د.إسماعيل صبري عبد الله- هو "نقطة البداية ، فالمقياس الأشمل و الأكمل لأداء الاقتصاد القومي هو معدل ارتفاع إنتاجية العمل من سنة إلى أخرى ، على أن هذه الإنتاجية ترتبط بمفهوم الدافعية كمبدأ رئيس في عملية التنمية ، إذ أن المواطنين الأحرار الذين يعرفون أن بالإمكان تغيير الحاكم أو الرئيس من خلال الديمقراطية و الحياة الحزبية ، يعرفون بأن ثمار جهودهم تعود عليهم و على أولادهم ، و أن أحداً لن يستطيع سلبهم حقوقهم".
أما المسألة الثانية ، التي لا تنفصم عن الأولى ، بل ترتبط بها ارتباطاً جدلياً فهي تتلخص في إعادة تفعيل مشروع النهضة القومية الوحدوية العربية بأفقها التقدمي الديمقراطي ، كفكرة مركزية توحيدية في الواقع الشعبي العربي ، و نقلها من حالة السكون أو الجمود الراهنة إلى حالة الحركة و الحياة و التجدد ، و هي مهمة لا تقبل التأجيل يتحمل تبعاتها –بشكل مباشر – كما اكدنا من قبل - المثقف الديمقراطي التقدمي الملتزم في كل أقطار الوطن العربي ، انطلاقاً من أن الدولة القطرية العربية مهما امتلكت من مقومات ، فإنها ستظل عاجزة عن تلبية احتياجات مجتمعاتها ، و إن أية عملية تطوير سياسي أو تنموي داخل القطر الواحد ستدفع بالضرورة نحو استكشاف عمق الحاجة إلى التوجه نحو تواصل ذلك التطور عبر الإطار القومي الديمقراطي الموحد كمخرج وحيد من كل أزماتنا التي نعيشها اليوم و في المستقبل .
إن التحدي الذي تواجهه شعوب و بلدان الوطن العربي هو تحد حقيقي على جميع المستويات السياسية و الثقافية و الاجتماعية و غيرها ، لكنه قبل كل شيء تحدٍ اقتصادي في المقام الأول .
ثالثاً : الأزمة الاجتماعية :
الإشكالية الكبرى أن المجتمع العربي يتعرض اليوم لهذه الأحوال المأزومة بكل أبعادها ، في اللحظة التي انتقل فيها العالم من مرحلة تاريخية سابقة إلى المرحلة الجديدة أو العولمة ، بتسارع غير مسبوق ، و بمتغيرات نوعية تحمل في طياتها ، في الحاضر و المستقبل تحديات غير اعتيادية ، لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بامتلاك أدواتها العلمية و المعرفية أولاً عبر أحكام سيطرة الحي على الميت ، "فالاستلاب الأيديولوجي بشكليه السلفي و الاغترابي هو أبرز الآليات الداخلية التي تعيد إنتاج التأخر ، و تعيد إنتاج الاستبداد ، و تحافظ على البنى و العلاقات و التشكيلات القديمة ما قبل القومية ، فالعلاقة بين المستوى الأيديولوجي السياسي ، و المستوى الاجتماعي الاقتصادي ، هي علاقة جدلية ، تحول كل منهما إلى الآخر في الاتجاهين ، آخذين بالحسبان أيضاً أن المستوى السياسي محدد و محكوم بطابع الوعي الاجتماعي السائد"[1] .
بهذا المدخل ، نبدأ في الحديث عن أزمة المجتمع العربي التي نرى أنها تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش زمناً حداثياً أو حضارياً ، و لا تنتسب له جوهرياً ، و ذلك بسبب فقدانها ، بحكم تبعيتها البنيوية ، للبوصلة من جهة ، و للأدوات الحداثية ، الحضارية و المعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي و مساره و علاقته الجدلية بالحداثة و الحضارة العالمية أو الإنسانية ، وقبل كل شيء بمشروعه الوحدوي النهضوي .
فبالرغم من دخولنا القرن الحادي و العشرين ،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة ، أو في زمان "ما قبل الرأسمالية" ،رغم تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير ، بمنطلقاتها العلمية و روحها النقدية التغييرية ، و إبداعها و استكشافها المتواصل في مناخ من الحرية و الديمقراطية ، ففي غياب هذه السمات يصعب إدراك الوجود المادي و الوجود الاجتماعي و الدور التاريخي الموضوعي للقومية أو الذات العربية في وحدة شعوبها ، ووحدة مسارها و مصيرها ، إدراكاً ذاتياً جمعياً يلبي احتياجات التطور السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي العربي ، و لعلنا نتفق أن السبب الرئيسي لهذه الإشكالية الكبرى ، لا يكمن في ضعف الوعي بأهمية التنوير العقلاني ، أو ضعف الإدراك الجماعي بالدور التاريخي للذات العربية ، فهذه و غيرها من أشكال الوعي ، هي انعكاس لواقع ملموس يحدد وجودها أو تبلورها ، كما يحدد قوة أو ضعف انتشارها في أوساط الجماهير ، و بالتالي فإن الواقع العربي الراهن ، بكل مفرداته و أجزاءه و مكوناته الاجتماعية و أنماطه التاريخية و الحديثة و المعاصرة ، هو المرجعية الأولى و الأساسية في تفسير مظاهر الضعف و التخلف السائدة بل و المتجددة في مجتمعاتنا ، إذ أن دراسة هذا الواقع ، الحي ، بمكوناته الاجتماعية و الاقتصادية تشير بوضوح إلى أن العلاقات الإنتاجية و الاجتماعية السائدة اليوم في بلداننا العربية هي نتاج لأنماط اقتصادية /اجتماعية من رواسب قبلية و عشائرية و شبه إقطاعية ، و شبه رأسمالية ، تداخلت عضوياً و تشابكت بصورة غير طبيعية ، و أنتجت هذه الحالة الاجتماعية /الاقتصادية المعاصرة ، المشوهة .
فبالرغم من تطور بعض أشكال العلاقات ذات الطابع الرأسمالي في بعض المجتمعات العربية ، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عموماً ، و بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بشكل خاص ، إلا أن هذه العلاقات الرأسمالية الجديدة لم تستطع إزاحة العلاقات شبه الإقطاعية ، و القبلية السائدة ، و المسيطرة ، و بقيت حيازة و امتلاك الأراضي الزراعية ، مصدراً أساسياً للوجاهة و المكانة الاجتماعية و السلطة السياسية في بلدان الوطن العربي حتى منتصف القرن العشرين ، حيث "تدنت هذه المكانة ، بتدني أهمية ملكية و حيازة الأرض باعتبارها العمود الفقري للتكوينة الطبقية ، و ذلك بسبب تتابع الانقلابات العسكرية ( و أهمها ثورة 23 يوليو 1952 في مصر) في العديد من البلدان العربية … و قيام الأنظمة الوطنية و ما تبع ذلك من تصفية للإقطاع ، و تطبيق الإصلاح الزراعي من ناحية ، و بسبب اكتشاف النفط و بروز أهمية رأس المال (التجاري و الخدمي) في التكوين الطبقي"[2] ،من ناحية ثانية و أشكاله الجديدة التي تداخلت بدورها مع الأنماط القبلية ، شبه الإقطاعية السابقة ، بل إننا لا نبالغ في القول بأن هذه الأشكال أو التكوينات الطبقية شبه الرأسمالية الجديدة ، انبثقت في جزء هام منها من رحم التكوينات الاجتماعية القديمة ، وهذه بدورها استطاعت التكيف مصلحيا مع "العلاقات الرأسمالية الجديدة" ، من حيث الشكل أو التراكم الكمي الرأسمالي فقط ، دون أن تقطع علاقاتها مع جوهر التشكيلات الاجتماعية القديمة ، و موروثاته القيمية و المعرفية المتخلفة ، التي وجد فيها الاستعمار الغربي ، مناخاً مهيئاً و جاهزاً لتحقيق أهدافه و مصالحه في بلادنا ، فلم يتعرض لأي من هذه الموروثات و رموزها الطبقية ، التي شكلت في معظمها سنداً للظاهرة الاستعمارية و لرأس المال الأجنبي في عملية دمج بلداننا العربية و تكريس تبعيتها للنظام الرأسمالي العالمي أثناء و بعد الحرب العالمية الثانية و إلى اليوم ، دون أن نغفل بالطبع ، مرحلة النهوض الوطني و القومي في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي ، التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، منفرداً عبر شخصيته و دوره الكاريزمي و إيمانه الشديد بالمبادئ التحررية ، و القومية ، و لاحقاً بالاشتراكية ، دون الاستعانة بالمؤسسات الديمقراطية ، و التعددية الحزبية ، و تفعيل العمل السياسي في أوساط الجماهير التي عاش حياته من أجلها ، و لذلك كانت هزيمة حزيران 1967 بداية النهاية لمرحلة التحرر القومي الديمقراطي ، خلقت المناخ العام ، و المقومات اللازمة لإعادة إحياء التشكيلات و التكوينات الاجتماعية الطبقية القديمة و المستحدثة ، بصور و أشكال معاصرة ، تتوافق مع شروط الانفتاح و التحالفات السياسية العربية الرسمية التي تولت قيادتها أو توجيهها الأنظمة الأكثر رجعية و تخلفاً و تبعية في بلادنا .
و اليوم و نحن في مطلع العام الثالث من الألفية الثالثة ، تتعرض مجتمعاتنا العربية ، من جديد ، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد ، رغم مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح و الفئات الرأسمالية العليا ، بكل أشكالها التقليدية و الحديثة ، التجارية و الصناعية و الزراعية ، و الكومبرادورية و البيروقراطية الطفيلية ، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي ، و تحول دون أي تحول ديمقراطي حقيقي في مساره ، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة ، و تكريسها لمظاهر التبعية و التخلف و الاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى ، من خلال التكيف و التفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح و الخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، و بين النمط القبلي /العائلي ، شبه الإقطاعي ، الريعي ، الذي ما زال سائداً برواسبه و أدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث .
إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية و اتساعها الأفقي و العامودي معاً ، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة ، و أشكال "الثراء السريع" كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح و الخصخصة ، و الهبوط بالثوابت السياسية و الاجتماعية الوطنية ، التي وفرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب و أهل الثقة ، القائم على الصفقات و الرشوة و العمولات بأنواعها ، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي ، و هذه الظاهرة شكلت بدورها المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه في السياسة و الاقتصاد و الإدارة و العلاقات الاجتماعية الداخلية ، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة ، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب ، بعيداً عن أهل الكفاءة و الخبرة ، و دونما أي اعتبار هام للقانون العام و المصالح الوطنية أو لمفهوم العدالة الاجتماعية .
و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية ، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب ، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسار و طبيعة العلاقات الاجتماعية و السياسية في مجتمعاتنا العربية ، حينئذ تصبح "مؤسسة" الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك ، و توجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة ، و هنا ينتقل الحس بالمسؤولية إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني ، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية ، حسب تعبير المفكر الشهيد مهدي عامل –بحيث "تصبح الطبقة المسيطرة أو نظامها في تناقض بين السير في منطق الحركة التحررية الديمقراطية ، و هو منطق معادٍ لها و بين السير ضده (و النتيجة واحدة) ، حيث بات السير في منطق التحرر يضع هذه الطبقة (أو التحالف أو النظام) في تناقض مع مصالحها الطبقية ، فيقتضي بالتالي بضرورة زوال سيطرتها الطبقية ، و كذلك الأمر بالنسبة لسيرها ضد منطق الحركة التحررية حيث تفقد هذه الطبقة التي هي البورجوازية الكولونيالية كل مبرر لوجودها في موقع القيادة" [3] ، الامر الذي يدفعنا إلى النضال من اجل اعادة بناء المشروع القومي النهضوي الديمقراطي العربي صوب تحقيق عملية التحرر القومي للمجتمع العربي كله ، المجتمع الذي تقوم فيه دولة الوحدة القومية ، دولة المؤسسات الديمقراطية بالمعنى الحديث للمؤسسة : برلمان ، و انتخابات دورية ، و قضاء مستقل ، و أحزاب و نقابات و جمعيات و اتحادات في فضاء واسع من حرية المواطن و حرية المجتمع في إطار الالتزام الواعي لضرورات التداخل و الوحدة الجدلية بين مهمتي التحرر القومي و الديمقراطي معاً عبر التصدي للعدوانية الصهيونية –الإمبريالية على بلادنا من جهة ، و التحرر الديمقراطي الاجتماعي على قاعدة الاعتماد الجماعي العربي على الذات للخلاص من التبعية و التخلف و تحقيق العدالة الاجتماعية و تكافؤ الفرص من جهة أخرى .
بهذا التصور ، يصبح تعاملنا مع مفهوم الديمقراطية أو مفهوم المجتمع المدني بعيداً عن المشروع الرأسمالي و حرية السوق و الليبرالية الجديدة ، و بالقطيعة معها ، دون أن نتخطى أو نقطع مع دلالاتها المعرفية ، العقلانية، و المفاهيم الحداثية الأخرى و تكاملها مع أهدافنا في التحرر القومي و البناء الاجتماعي بآفاقه الاشتراكية كمخرج وحيد لأزمة مجتمعنا العربي المستعصية .
[1] جاد الجباعي –التبعية و إشكالية التأخر التاريخي- كتاب جدل – العدد الثالث-مؤسسة عيبال-قبرص-1992 –ص145 .
[2] د. محمود عبد الفضيل –التشكيلات الاجتماعية والطبقية في الوطن العربي- مركز دراسات الوحدة- بيروت-1988 - ص99 .
[3] مهدي عامل –النظرية في الممارسة السياسية-دار الفارابي-الطبعة الثالثة-بيروت-1990-ص356 .