لبنان اعطى النهضة العربية شيئاً من صلابة ارزه وعنفوان قلاعه التاريخية .. فانجب من صلب ترابه اليازجي والبستاني وجبران ونعيمة .. كما انجب الرحابنة وفيروز ووديع الصافي , ولم يبخل في الشعر والادب والسياسة, واهدى الزمان كل من سعيد عقل وخليل حاوي والياس خوري, كما شرف الشرق بكمال جمبلاط وجورج حاوي وحسين مروة والكثير من الاسماء الخالدة, التي لا يسطيع الانسان عند ذكرها ان ينسى "فارسها الجميل" زياد الرحباني .
وبحكم عشقي لواحات التشكيل ومسارات نبض عطائه الانساني , وجدتني التقي قبل عام من اليوم مع مقالة تتسأل صاحبتها من خلالها, عن دور الدولة في الحفاظ على تراث الفنان اللبناني مصطفى فروخ .. فشرعت ابحث عنه في سجلات الايام !! حيث استفزت مشاعري تلك الكاتبة , حين ذكرت ان سماسرة من الغرب يهربون اعمال فروخ ليبيعونها هناك باسعار خيالية .. ذلك بعد ان يحصلوا عليها من اناس في لبنان, لقاء مال بسيط .. ولقاء جهد لا يذكر .!! فإذ بي التقي ايضاً في هذه الايام باخبار تقول, ان نجل هذا الفنان , هاني مصطفى فروخ, يقيم معرضاً لذكرى والده في متحف آل سرسق في بيروت .. ليضم هذا المعرض زهاء 170 لوحة من اعمال والده , تمت استعارة بعضها من مقتنيِّها اللبنانيين , لتتشكل بذلك اول خطوة قي مواجه سطوة اللصوص والسماسرة .
كان ميلاد فنان لبنان الاول مصطفى فروخ في بيروت سنة 1901 , وقد نشأ فيها ودرس في معاهدها وجامعاتها .. ومنذ تفتق سنوات نضجه الاول احس بميوله الشديدة نحو الرسم , فذهب الى الفنان حبيب سرور ليتلقى اول دروسه في الرسم على يديه . بعدها غادر لبنان متجهاً نحو روماً وهناك التحق بكلية الفنون الجميلة , وتخرج بعد ان نال اول شهادة في الفنون التشكيلية منها سنة 1928 . من ثم غادر روما متوجهاً نحو باريس ليبقى فيها لمدة اربع سنوات متواصلة , ليمارس الرسم ويتعلمه على يد احد رواد الحركة التشكيلية الباريسية .. الفنان ب. شباس , والذي شغل في حينه منصب رئيس رابطة التشكيليين الفرنسيين .
استغل الفنان الشاب وجوده في باريس , فتردد على معظم متاحفها وصالات عرضها , لينهل من منابعها ما استطاعت قدراته الذاتية على حمله .. وليُكوّن من خلالها مخزوناً ثرياً مشبعاً بالاحاسيس والتجارب, التي لم تستيقظ الا على جدران باريس الحالمة .!! وليرتوي من عتبات الوانها واساليب فنانيها وتعدد مدارسها, بكل ما اوتيّ من رغبة وعشق للفن وافاقه الابداعية !!
اتجه فروخ منذ بداياته الى الاسلوب الكلاسيكي في تشكيل اللوحة , واتخذ التصوير الواقعي ليتناول من خلاله كافة موضوعات رسوماته .. متنقلاً في رحاب الواقعية من طبيعة لبنان الرائعة الى بيوتها واحيائها الريفية والمدنية .. ومن شواطئ بحره الى جباله الشماء, ومن الاودية والغدران الى السهول والغابات , متعمداً في كل ذلك الى ان يضع بصماته المتميزة على الوانها وفضائها, بصورة اقرب الى مخزونه التراثي المشبع بروح لبنان, الذي صهرته الطبيعة ما بين ثلوجه وايام القيظ الصيفية فيه .!
كل هذا لم يحجب عن ناظريه صورة الانسان وملامح ابعاده الروحية .. فوضع اعمالاً كثيرة تحمل وجوه الناس "بورتريت" من شتى الانتماءات الريفية والمدنية , الثقافية والسياسية , التاريخية والتراثية .. حتى غدت اعماله مرجعاً متحفياً يروي بالاحساس والمشاعر, كماً هائلاً من المعرفة لانسان لبنان وعلاقته بالتاريخ والارض . وجاءت ريشته لتتأنى في تشكيل انحناءات الجسد ومعالمه, كما تتريث في استقبال انعكاس نظرات الوجه, بذات التروي الذي ترسم فيه المكنسة والمجرود اليتيم عند حائط المصطبة.. كل ذلك لتتحول التفاصيل في كل اعماله الى عمل ابداعي يعطي القيمة المذهلة, حتى لأدق التوافه في حياة الناس اليومية والعادية جداً .
وجاءت " لوحته (معاوية يركب البحر) التي رسمها في العام ١٩٣٩ لتتصدر الصالة الرئيسية التي تواجه المدخل الرئيسي للمتحف, وقد استوحى فروخ موضوع هذا العمل انطلاقا من حدث تاريخي, وهو بناء اول اسطول عربي حوالي ٦٣٢ قاده معاوية لاجتياح قبرص". قال عنها .. " الفت موضوعا يمثل معاوية وزوجته على راس اسطوله يبحر من لبنان, يحيط بهما القواد والرجال ويظهر في استقبالهما وفد من كرام اللبنانيين, وقد نصبت فوقهما اقواس النصر ترفرف عليها الاعلام وتمتد تحت ارجلها السجاجيد .. نرى في هذه اللوحة الكبيرة جرأة معاوية في أول مغامرة بحرية وتضحيته كي يعطي المثل في قوة الارادة لجنده والمكانة السامية التي تحتلها المراة العربية في ابان نهضة العرب الماضية ."
قالت عنه الدكتورة زينات بيطار, استاذة مادة الفنون في الجامعة اللبنانية " مصطفى فروخ مدماك تأسيسي في تاريخ الفن اللبناني الحديث وقامة فنية شاهقة بشموليتها الابداعية, فالى جانب تميزه في فن التصوير والرسم والكاريكاتور, كان ناقدا فنيا ثاقب البصيرة ومؤرخا فنيا متعمقا في فنون الغرب والشرق معا"
وقد تم في هذا المعرض التذكاري, فرز اللوحات الى ثلاث مراحل, وهي 1) البدايات (1915-1930)‚ 2)النضج (1930-1940) 3)النهايات (1950-1956).. ووفقاً لهذا التقسيم التوثيقي يمكن قراءة لوحات فروخ على ضوء نظرة تحليلية عميقة‚ تشمل في احيان كثيرة أعمالاً يكشف النقاب عنها للمرة الاولى. نجد في البدايات ولادة حقيقية لمغامرة تبلورت بظهور سلسلة من لوحات الصور الشخصية, التي خلدت ذكرى رجال دين مسلمين راحلين ومعاصرين, ابتدء فيها من العام 1928 لتضم لوحات لوجوه مشايخ وأساقفة مسلمين ومسيحيين من رجال عصر النهضة العربية‚ وقد زينت في العام نفسه صالون فندق الشرق في بيروت, منها وجه جمال الدين الافغاني‚ والامام محمد عبده‚ والشيخ عبدالحميد زهراوي‚ والبطريرك غريغوريوس حداد.
وعلى هذا الاساس‚ ضم المعرض من خلال اعماله اكثر من سبعين لوحة محورها الوجه‚ مما منح رواده فرصة الاطلاع على اسرار تحولات هذا النمط من الفن في تجارب فروخ‚ من صورة مواجه لتخليد ذكرى الراحلين‚ الى نزوة التقاط المشاعر والهنيهات العابرة‚ الى وجوه الطلبيات وألبومات العائلات البيروتية ووجوه الصداقات المتعددة. وما بين الحركة الثابتة والهادئة ووقار الشخصيات ومكانتهم الاجتماعية‚ كانت لوحات الوجوه في نزعتها الكلاسيكية المحدثة اشبه بالشعر الموزون والمقفّى‚ وفي احيان كثيرة كانت لمساته الانطباعية المتحررة اشبه بسراب المشاعر التي تخترق الحجب.
وكان لوجه المرأة في فن فروخ معان كثيرة‚ فهناك اشراقات ابتسامتها, لوحة (المرأة السافرة - زيتية عام 1929) ونظراتها الحائرة (البيروتية الجميلة‚ لابسة المنديل‚ باستيل عام 1929)‚ حاول فروخ التعبير من خلالها عن مكانة المرأة العربية إبان النهضة الماضية‚ و سعى فروخ الى التعبير عن إعجابه بملامح الفلاحين التي حفلت بالقوة والعزم والتواضع‚ فقد آمن بالانتماء الى الأمكنة الارضية‚ كما يؤثر تسميتها‚ حيث كتب في جريدة «الاحرار» عام 1938 " ان الجبل الملهم يترجم شعورنا وكياننا وتقاليدنا "‚ وهذا ما يفسر سر رسمه لوحة ذاتية لوجهه معتمراً الكوفية (نحو العام 1938)‚ فرحلاته الى بلاد المجد المفقودة (مائياته الاندلسية‚ العام 1930) عمقت ارتباطه بجذوره اللبنانية والعربية.
لقد عمقت الرحلات التي قام بها فروخ ما يسمّى "فن البورتريت", المنظر والمنظر التاريخي والمنظر الرعوي في تجاربه التي انتقلت ما بعد العام 1932, الى رحلات الداخل او الى ما سمّاه امين الريحاني «قلب لبنان»‚ وقد آمن فروخ‚ بعد عودته من اوروبا واستقراره في بيروت‚ ان لوحة المنظر هي الاقرب الى الذوق المحلي لأنها تتفاعل في شكل تلقائي ومباشر مع احلام الناس ورغباتهم الصادقة بالارتباط بأرضهم وهويتهم‚ لذا راح يرسم على هواه ما يرى وما يريد وما يحس‚ في محاولة لمواجهة المنظور وما يكتنفه من عواطف وأسرار وأضواء وظلال وتموجات لونية ومناخ‚ فالرسوم السريعة التي كان ينفذها في الهواء الطلق كانت تقوده نحو مزيد من التناغم والتوازن‚ كانت مناظره دوماً تتسم بالطراوة والصلابة والاضاءة الصحيحة.
مات مصطفى فروخ عن 56 عام ذلك سنة 1957 .. تاركاً وراءه اعمالاً تشهد له ولتاريخ لبنان بعطائه الفني المميز .. ومجمل هذه الاعمال ينطبق عليها ما جاء على لسان بابلو بيكاسو في تحديده لوجهة نظر الباحثين حول اعماله ليقول " انا اعارض ان يكون هنالك ثلاثة الآف رأي وتفسير لأعمالي , يجب ان لا يكون اكثر من تفسير واحد , وعليه ان يتضمن , الى حد ما , الطبيعة, التي هي بعد كل ذلك , ليست سوى نبع الصراع الدائر ما بين الذاتي والموضوعي , الشخصي والعام , والذي هو اصلاً صراع ما بين ما يكمن في داخلي وما يحيط بي " .. وهكذا كانت اعمال فروخ ايضاً .
مراجع :
كتاب " اعلام الرسم " لدكتوره ليلى لميحه فياض
صيفة " الوطن " و " الشرق الاوسط " الصادرة في 15 كانون ثاني 2003