د. خالد يونس خالد- السويد
يعيش العقل العربي في المرحلة الراهنة حالة التذبذب الفكري والثقافي ونزعة الإستسلام القومي والوطني، إلى درجة يجد العربي نفسه غريبا عن تراثه، يهرب من نفسه ثم يرجع إليها صاغرا ثم يبتعد عنها فيثور ويتوقد ويتألم حين يجد فردا ينقد الحقيقة المرة. فالعقل العربي في مرحلة جذر، وأن النفسية العربية في نزعة إستسلام طبقي وسياسي. ويشعر العربي بالغبطة والسرور وهو يسمع المدح والثناء، راجعا إلى عقدة الأمبراطورية العربية الإسلامية. ويتساءل المرء كيف أن الأجداد صنعوا أعظم حضارة إنسانية في عصرهم من تقدم فكري وعلمي وثقافي وأخلاقي، إلى درجة أن الملايين من الناس في بقاع الأرض كانوا يتمنون أن يكونوا عربا أو أن يُحسبوا على العرب؟ فهل يفكر الأحفاد ما هم فيه من هزيمة تلو أخرى في عصر الذرة والإنترنت؟ مع قناعتي بأن العرب لا زالوا من أولئك الشعوب التي تمتلك تراثا لو تمكنوا من إستثماره لأصبحوا من أعظم الأمم واكثرها تقدما ومدنية.
يعيش العالم العربي اليوم مرحلة الإنخراط في سلك الجندية تحت قيادة أمريكية. يقابلها توجه نحو التطرف القومي الشوفيني. وعلى التضاد من ذلك تيار التطرف الديني لممارسة العنف والثأر من النظام الذي يضطهده أو من الظلم الذي يعانيه من الإحتلال والإستعمار. وبذلك فإن العقل العربي الذي كان أكثر العقول تسامحا في الدائرة الإسلامية النقية قد تحول إلى أكثر العقول عنفا في دائرة الإسلام السياسي المتحزب الذي جعل من النقاء الإسلامي أحزابا مشرزمة، وهي في هرج ومرج، وتنافس وتضارب، وقتل وثأر. وفي كل هذه الحالات يجد الفرد نفسه في معسكر يكون الأبرياء ضحايا ، ويكون الفرد بعيدا عن تحقيق طموحات الذات والطموحات الوطنية، لسبب بسيط وهو أن هذه المعسكرات تقف ضد بعضها البعض من أجل السلطة الدنيوية، والنتيجة هي هزيمة العقل العربية. فسواء قّتل العربي في سلك الجندية الأمريكية أو قُتل العربي القومي والعربي الإسلامي المتطرف فإن الرابح هو العدو.
العقلية العربية في العصر الحديث تتقبل الإستعمار لسبب بسيط ، وهو أن أكثر الأنظمة التي تحكم العالم العربي هي أنظمة إستبدادية، والعاملون في الأساس موظفون لدى الإدارة الأمريكية. نعم نقول بأن الإستعمار الكلاسيكي أو ما يُطلق عليه "الكولونياليزم" قد خرج من أوسع الأبواب بعد تنامي الحركات الوطنية. ولكن دخل الإستعمار بثوب جديد وهو ثوب الفكر والعولمة والإنترنت، وهو ماله من قدرة لإحتلال العقل الإنساني المهيأ لتقبله. فمن العرب قوم يتوجه نحو الأجنبي لحماية نفسه من العربي. ففي سنوات الحرب الأهلية اللبنانية منذ النصف الثاني من سبعينات وخلال ثمانينات القرن الماضي حصلت جماعات لبنانية الدعم العسكري والمالي من إسرائيل لتسعير أتون الحرب الأهلية بين اللبنانيين أمام أنظار الأنظمة العربية التي كانت هي الأخرى تدعم جماعات لبنانية أخرى لديمومة الحرب وتحت غطاء عشرات الإجتماعات الفارغة في الجامعة العربية. وفي الحرب العراقية الإيرانية لم يكن المشهد أفضل من ذلك لمدة ثماني سنوات. وبعد غزو القوات العراقية للكويت ، وتأييد بعض الأنظمة والقوى العربية لذلك الإحتلال البغيض ، سقط العرب إلى الحضيض. وهنا بدأ العقل العربي يتقبل العبودية تحت سماء الحرية الشكلية، ووجد العربي نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، وهو خيار تقبل القواعد الأمريكية ومراكز التجسس الأمريكية لحمايته من العدوان العراقي أو خيار قبول الذل والإستعباد للغزو العراقي. وفي هذا الوضع فالأنظمة العربية هي التي تدفع مصروفات عبودية شعوبها للأجنبي. فتحرير الكويت العربية من ظلم صدام العربي كلف العرب مئات المليارات من الدولارات وعشرات الآلاف من الضحايا. ولا زالت هناك نفسيات عربية تُباع وتُشترى للدفاع عن الظلم والقهر والتفرقة، وإعتبار المقابر الجماعية ذوبعة في فنجان.
والأمَرُ من كل ذلك أن الذين يمثلون الشعب رسميا من البرلمانيين العرب رفضوا إدانة المقابر الجماعية التي ضمت آلاف النساء والأطفال والشيوخ والشباب، بعد أن كشفت هذه المقابر التي أُرتُكِبت بحق أبناء الشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته من قبل العهد البائد. فهل هناك وصمة عار أعمق مما شاهدناها؟ أليس هذه المأساة إشارة إلى أن ألواقع الذي يعيشه الحاكم العربي في بؤرة الفساد السياسي معادي لتطلعات الشعب العربي الميئوس الذي إذا تفوه المواطن بكلمة ضد السلطان في بلده سيق إلى السجن الإنفرادي؟
المأساة شبه شاملة، والهزيمة أيضا، فقد إكتملت المسرحية حين رفضت جامعة الدول العربية أن تعترف بمجلس الحكم الإنتقالي في العراق. أليس الشعب العراقي الذي عانى ثلاث حروب متتالية، وعانى من الظلم والإستبداد بحاجة إلى دعم الجامعة؟ السيد أمين عام الجامعة العربية رفض في حينه إستقبال الوفد الرسمي لمجلس الحكم الإنتقالي لكنه يقبل السفارات الإسرائيلية في العواصم العربية. يتصافح رؤساء السيد الأمين العام مع كل الذين يحتلون الاراضي العربية، ويبارك الأمين العام الوجود الأجنبي في بلدانهم ، ويشرب الشمبانيا أمام مشاهد المقابر الجماعية لأطفال العراق. أي تناقض وعجز في الرؤية السياسية تعيشه جامعة الدول العربية؟
الإشكالية الأخرى هي عجز العقل العربي في إيجاد حل لمشكلاتها الأثنية والدينية في العراق والسودان والمغرب وسوريا ولبنان وغيرها. وهنا نأخذ قضية العراق بإعتبارها محورية وقضية الساعة. أين كانت الأمة العربية حين ضرب صدام حسين الشعب العراقي بأسلحة الدمار والفتك وهتك الأعراض بكل فئاته وطوائفه وأقلياته؟ لماذا عجزت العقلية العربية إستيعاب أسباب عدوان النظام العراقي بحق مواطنيه حتى شمل ذلك العدوان الكويت؟ لماذا هذا اليأس من الواقع؟ ولماذا خوف السنة من الشيعة وخوف الشيعة من السنة؟ أليس هذا أكثر مراحل الهزيمة العقلية، بتكفير كل جانب للجانب الآخر؟ أليس السنة والشيعة مسلمين ويرفعون لواء الوحدانية؟ أليس من الأفضل التعاون على ما يتفقون عليه، والتحاور والتفاهم على ما لا يتفقون؟
إستيقظ العرب متأخرين حتى وقعوا في الفخ الأمريكي. ولو لم يجد مجلس الأمن وبدعم الغرب تحالفا دوليا لتحرير الكويت وإيجاد منطقة آمنة للكرد في كردستان العراق ، وللشيعة في جنوب العراق عام 1991 لكانت تحدث كوارث إنسانية لا مثيل لها، ولتراجع العرب إلى عصر العبودية والجواري والغانيات. ولقد ظهرت بالفعل تجارة الرقيق ببيع نساء الشيعة والكرد والكويتتين في الأسواق بعد أن قتلت القوات العراقية أزواجهن وآباءهن وإخوانهن أمام أنظار النظام العربي الرسمي، وفي إطار الأمن العربي المنهار. فهل من هزيمة للعقل العربي بعد هذه الهزيمة؟
لقد وجد الكويتيون أنفسهم في خانة التعاون مع الغرب وامريكا، مثلما وجد الكرد أنفسهم مجبرين أن يتوجهوا نحو الغرب ، بينما تحالف الشيعة مع إيران، فأصبح العقل العربي محتلا. وازدادت هجرة الكويتيين وقبلهم وبعدهم العراقيين إلى الخارج حتى تجاوزت الخمسة ملايين ، ونظموا أنفسهم ، فوقع قسم منهم في شباك قوى أجنبية ، وقسم آخر يتحسر على وطنه الجريح ويجد له عملا يعيل به نفسه وأهله وينتظر العودة ، بينما تحول البعض الآخر إلى عملاء الأنظمة العربية والأجنبية الأخرى ووقعوا في الفخ، لا عفوا أعني في فخ النظام العربي الرسمي ليصبحوا أغنياء، بينما الأغلبية تحولت إلى مشردين وبائسين ومفقودين، وفي كل ذلك كان العقل العربي بعيدا عن فهم الواقع.
المشكلة الكبيرة هي تمسك القيادات العربية بكراسي الحكم على حساب الشعب. وفي هذا ليس للحاكم بُد إلاّ بالتعاون مع الإجنبي ، لحماية سلطته من الشعب ، فيدخل محور الشر إذا تمرد على الاجنبي، لإنه أصبح موظفا في إدارة أجنبية. ومهمة القوة العسكرية العربية هي لحماية الأنظمة من التمرد الشعبي.
المحور الأساسي لإستسلام العقل العربي هو ضعفه في مواجهة أي تحدي اجنبي ، مع قدرته في تحدي العربي للعربي. فالعقل العربي مهيأ بل ومساند لقبول التدخل. ومن المفارقات الغريبة خارج العالم العربي أن يفتح بعض الدول العربية مطاراتها وأجواءها الجوية أمام الجبروت الأمريكي، وتعقد إتفاقيات عسكرية وأمنية لحماية سلطانها، ولوعلى حساب الشعب العربي كله. والعقل العربي لا يُلام أن يفعل ذلك لأنه محكوم يأتمر بأمر الحاكم. فالمناورات العسكرية الأجنبية تجري على الأراضي العربية لتهيئة العقلية العربية أكثر فأكثر للغزو الأجنبي.
العقل العربي يتراوح بين العبودية والحرية، وهذه الحرية هي في أغلب الأحيان يتيمة ، لأنه لايمكن لأي إنسان أن يكون حرا حين يحجب الحرية عن نفسه وعن غيره، فالأنظمة العربية ليست حرة حين تسمح للقوات الأجنبية بإحتلال عقولها وأراضيها لضرب الأخرين اليوم ، بينما تحجب الحريات عن شعوبها.
صحيح أن أغلب العراقيين أيدوا تغيير النظام البعثي العراقي وعزل صدام من السلطة بمساندة أمريكية، وكان لابد للعراقيين أن يتعاونوا مع الأمريكيين لأن النظام العربي الرسمي الضعيف كان يؤيد جرائم النظام العراقي البائد ضمنا حينا ورسميا أحيانا أخرى. لكن هذا التغيير بدأ يواجه مقاومة النظام العربي لخوفه من أن تتغير أنظمة عربية أخرى. نعم التحرير تحول إلى إحتلال بإعتراف الأمم المتحدة نفسها، لكن كيف يمكن ترك الشعب العراقي يغرق بين الأمواج العاتية دون الأخذ بيده لتشكيل حكومة إنتقالية، والعمل على ترتيب الأمن وإشباع الحاجيات الأساسية للمواطنين للإسراع برحيل قوات الإحتلال؟ كيف يمكن للقوات الأمريكية أن تخرج من العراق اليوم والنظام معدوم في العراق، والإضطرابات السياسية والمسلحين في كل مكان والتناقضات لا زالت تحكم الوضع؟ الا يؤدي كل ذلك إلى حرب اهلية لا أول لها ولا آخر؟ ياللعار، الكل يبصق في النهر الذي يشرب منه. إننا نريد عراقا فدراليا تعدديا ديمقراطيا دستوريا يضمن الحرية للشعب العراقي كله. لقد عجزت العقلية العربية فهم المأساة العراقية، وأهمل نظام الأمن العربي معاناة الشعب فلم يكن من وسيلة لقوى المعارضة العراقية إلا أن تتعاون مع الولايات المتحدة ضمن نفس الأسس التي تعاملت معها الأنظمة العربية الأخرى، فحررت الجيوش الأمريكية والبريطانية أرض العراق من ظلم النظام البائد، مقابل إصطياد العقل العراقي لصالح امريكا بالإحتلال. ولكن حتى بعد إنهيار نظام صدام فإن العقل العربي لازال مشلولا أمام ذلك الوضع مثلما هو مشلوك أمام الواقع الفلسطيني حيث يتعرض الشعب الفلسطيني للقهر والإستغلال والإستعباد والقتل في ظل إحتلال إسرائيلي مقيت. إنه عهر ثقافي وحضاري في عالمنا اليوم.
وتعجز العقلية الدينية السياسية فهم التطورات الأخيرة على الساحة العراقية والأقليمية. فعلى الصعيد العراقي نجد بأن العقلية الدينية السياسية المتطرفة قد تحولت إلى مزاج بشري وسياسي بل وعسكري. فالسّنة ترفع شعارات سنية، والشيعة ترفع شعارات شيعية، والعرب والكرد والتركمان والكلدو آشوريين يرفعون شعاراتهم العرقية تمهيدا للتضارب والصراع. الكل يرحب بعملية التحرير، فهذا رجل دين شيعي يدعو إلى حكم الحوزة العلمية في العراق وتسجيل جيش شعبي. هل الشعب العراقي اليوم بحاجة إلى جيش ديني أو إلى عقل حسيني؟ إنه لا شك بحاجة إلى عقل حسيني وعمري وليس إلى عسكرة المجتمع.
وتعجز العقلية العربية اليوم فهم المأساة السعودية وتركها شبه وحيدة من قبل المنظومة العربية في مواجهة الإرهاب والتكفير والتشويه. ونحن نعلم بأن السعودية تضم مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومرقد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وبعض الصحابة من العشرة المبشرة. ومسؤولية حماية المقدسات لا تقع على عاتق السعوديين وحدهم إنما على عاتق كل العرب والمسلمين. ولكن أين العرب والمسلمون؟
وبنفس الدرجة من المأساة نقرأ التاريخ من خلال الإرهاب واللاعقلانية في دولة المليون شهيد، والجزائر التي تُقطع أوصالها بالعمليات الإنتحارية والإرهابية وذبح المدنيين الأبرياء وسط حفلات وموسيقى صاخبة. وبدرجة أكبر العمليات الإرهابية في عراق اليوم، والتي تحطم الإقتصاد العراقي، وتضعف النفسية العراقية بالإسراع بتشكيل حكومة ديمقراطية، تستلم المسؤوليات من الحاكم الأمريكي بريمر، وإقناع الأمريكيين بالرحيل بعد إستتباب الأمن. فالعمليات الإرهابية تخدم تثبيت الوجود الأمريكي في العراق، وتعطي لهم ذريعة بضرورة البقاء لمنع حدوث حرب أهلية.
أين العقل العربي من نظرية (هنتاغتون) المسمى "صراع الحضارات"؟ هل إستعد العرب للدخول في مثل هذا الصراع ونحن نسمع مرارا وتكرارا بأن المستقبل للإسلام والحضارة العربية؟ وإذا أراد العرب أن يبتعدوا عن مثل هذا الصراع الحضاري، وفضلوا نظرية الرئيس الإيراني محمد خاتمي "حوار الحضارات"، فأين العقل العربي من حوار الحضارات غير بعض الإجتماعات بين قوى إسلامية ومسيحية في الوقت الذي ينعدم التفاهم بين العرب والمسلمين أنفسهم؟ ومنطقة الشرق الأوسط تعيش في صراعات عربية عربية، سنية وشيعية، طوائف وقوميات وأقليات عرقية، الكل يفتقد الحرية، والكل في كسل عقلي، يحمل البارود لينفجر في كل لحظة تطبيقا لما تروجه دوائر المخابرات الأمريكية لشعار "الإسلامية" وخاصة دعاياتها في الصحيفة الأمريكية اليهودية (لوفوروارد). فهل هناك صراع بين الحضارات في القاموس العربي حتى يتهيأ العقل العربي له؟ أو هناك حوار الحضارات وماذا أعد له العقل العربي؟
يجب أن نفكر بأن الآيديولوجية التي جاء بها الياباني الأمريكي الجنسية (فوكوياما) "نهاية التاريخ" بدأت بإنهيار الإتحاد السوفيتي، كإنطلاقة لمواجهة "الإسلامية" ، وما يؤسس عليها العقل العربي، لتتحقق نهاية التاريخ في خضم دوامة الصراع في الشرق الأوسط. أين العقل العربي؟؟؟؟
لندع المثاليات والمتاجرة بالدين والقومية جانبا، ونكون واقعيين، ونعترف بالهزيمة أمام الذات وأمام الآخر. فما هو الحل إذن؟
الحل هو أن نتصالح مع الذات، وننتصر عليها، لأن أعظم منتصر هو ذلك الذي يهزم نفسه، وحين ذاك نستطيع مواجهة الآخر.
__________________________ باحث وكاتب عراقي مستقل مقيم في السويد