|
التّرجمة وإشكالية التّواصل الثّقافي*
محمد عبد الرضا شياع
الحوار المتمدن-العدد: 1914 - 2007 / 5 / 13 - 06:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
1_ تقـديـم 1.1_ يتطلب البحث في ماهية التّواصل الثّقافي التّنقيب عن العناصر المساهمة في عملية تكوينه التي اهتم بها النّقد الحديث اهتماماً لافتاً، جاعلاً هدفه الأقصى الكشف عنها والوصول إلى الدّلالات النّاجمة عن تفاعل عناصرها التي تصبح الكتابة بموجبها كياناً له آفاقه وارتباطاته المتعددة. 2.1_ في الكتابة يتم استحضار الجوهر المغيَّب للتجربة الإنسانية واستعادة حرية الذّات في تحقيق نشوة وجودها. إذ إنَّ الذّات الكاتبة لا تعني، هنا، المؤلف بالمفهوم التّقليدي، إنّما تعني الذّات التي تنبثق عن الصّراع بين سواد المداد وبياض الورق. لكنّه الصّراع الذي يكتنفه الصّمت، لأنّ (( فعل الكتابة لا يتم دون أن يصمت الكاتب... وأن يكتب يعني أن يهب، منذ اللحظة الأولى، الإجابة الأخيرة للآخر ))(1) هذا مقام التّنقيب للدّرس النّقدي الحديث الذي يرى في نسبة ما يُكتب إلى مؤلف معناه تحجيم البعد الدّلالي للكتابة، (( إنّها إغلاق الكتابة )).(2) وفي هذا الإغلاق تتلاشى القيمة الفنية للعمل الثّقافي الذي يجب أن يظلَّ أفقاً لتوليد المعاني والدّلالات. وهذا أمر لا يتحقق إلاّ بظهور عنصر آخر على ساحة الكتابة ونعني به القارئ (( فميلاد القارئ رهين بموت المؤلف ))(3) وإحياء له في الآن ذاته. (( فقد يكون الآخر أنا إياي. ثمة دوران لا نهائي للكلمات: وهذا جزء دقيق من الدّائرة ))(4) فالمؤلف لا يقدّم إلا أشكالاً وافتراضات للمعاني يعتورها الفراغ الذي لا يكتمل إلا بعد أن يملأه الآخر عبر سؤال الزّمن: زمن الكتابة وزمن القراءة، هكذا يكون الزّمن مضاعفاً فيمنح الكتابة ذاكرة تتجدد باستمرار. 3.1_ القارئ كاتب أيضاً وإن كانت مهمة هذا الكاتب ( القارئ ) تتطلب الانتقال من التّلقي إلى الإنتاج الذي يسمي الأشياء بأسمائها، وعبرها تُضبط وسائل التّعبير والتّواصل بحثاً عن التّفاعل الخلاق بين الذّات والآخر. إذ إن الكثير من الكتابات تتسم بالحجب والخفاء، وإنّ القبض على دلالالتها يتطلب من القارئ الإنصات إلى دبيب الكلمات المسافرة إلى أعماق ذاك القارئ الذي تتصف عينه بالقدرة على رؤية ما اختفى في الظّل، حينئذ يبدأ القارئ باستنطاق حروف الكلمات، فتبدأ هاته الكلمات بالبوح، فيتحقق التّفاعل، وبالتّالي إعادة الإنتاج الذي سيكون للتّرجمة فيه حضورها المرتقب... 2_ التّرجمة تفاعل للذّوات 1.2_ يبدِّل النّقد الحديث، هنا، مكان اشتغاله في البحث عن العناصر البانية للنّتاجات الثّقافية بطرائق مغايرة لقوانين الماضي، لأنّ النّقد الحديث، بنظرياته الباذخة، وجد الكتابة عالماً مكوكباً بتعدد الفضاءات والإشكالات التي تصاحب نشأتها، وبذلك وجد التّرجمة واحدة من هاته الفضاءات البانية لها، والمساهمة في إنتاج دلالاتها، والمعمّقة للتّفاعل بين العناصر المُبنينة لماهيتها. هكذا يكون التّفاعل الثّقافي بين الذّات الكاتبة والنّصّ والقارئ (( أجساداً بمجموعها تلتقي، تعيد رؤية الأشياء والإنسان، تغيّر الحساسية. جسد الكاتب، جسد النّصّ، جسد القارئ إلغاء لأحادية الكلام، استقدام لجدلية الكتابة وإقرارها. كلّ جسد يكتب الآخر، يجدده، يحرره، لا الكتابة مبشّر بتحقيق مطلق، ولا النّصّ حامل محايد للمعنى، ولا القارئ مقموع مبعد )).(5) أي، هنا والآن، يلتقي القارئ والكاتب ليعلن النّصّ المكتوب عن زمن ولادة جديدة منذورة بالانفتاح لا الاكتمال. إنّها حالة من النّفي والإثبات تلك التي تعيشها العناصر البانية للنّصّ، والتي يجب أن تحقق العبور الكلّي لقراءة تمارس فعل الرّجّات على العلاقات المحتجبة خلف حضورها المغيّب في تضاريس الكتابة لاكتشاف مالم يُكتشف من تعالقات متعدّدة سواء بالذّات الكاتبة أم بتاريخها أم بالمجتمع. 2.2_ من هنا تكون التّرجمة عنصراً فاعلاً في تحقيق هذا التّفاعل الثّقافي، حيث تُعَدّ التّرجمة العين التي يقرأ بها المتلقي الثّقافات الأخرى، ويعد المترجم حلقة الوصل الفاعلة بين النّصّ المُتَرْجَم ومتلقيه، وبذلك ينطوي هذا النّشاط المعرفي على دور خطير في حياة الشّعوب المتطلعة إلى التّثاقف والتّلاقح مع شعوب العالم الأخرى، كون التّرجمة لاتتوقف عند جنس ثقافي بعينه، وإنّما تشمل النّتاجات الإنسانية بأشكالها المختلفة: إبداعاً وبحثاً. إذ إنّ هناك مَن يرى وجود علاقة جدلية بين الوحدة والهوية والنّصّ والذّات، حيث يتوخى صاحب هذا الرّأي الفراغات البيض القائمة بين تلك الكلمات، لأن تلك الفراغات توحي بالانفتاح على النّصّ وتلقّيه السّريين. لذلك يمكن لأنواع متباينة من النّاس، ينتمون لعصور وثقافات مختلفة، أن ينجزوا ويعيدوا، بطريقة أو أخرى، إنجاز نّصّ ما مفرد مستكملين إياه بإضافات متنوعة بصورة لا متناهية من الذّات على الموضوع.(6) فتغدو الذّات موضوعاً، ويصير الموضوع ذاتاً، فيتجلى التّفاعل بأعلى مراتبه، ليتحقق التّواصل زمانياً ومكانياً لا تحول دونه العتبات سواء أكانت نصّيّة أم غير نصّيّة ما دامت الصّفحة البيضاء ممهورة بوهج الكلمات القادمة من هناك؛ من أفق تكون فيه الكتابة السّائل والمجيب. 3_ مآزق التّرجمة 1.3_هكذا تعثر التّرجمة على أهميتها المعرفية في خلق فضاء للتّفاعل بين الشّعوب، لكنّ هناك إشكالات تُسجل على التّرجمة بالرّغم من أهميتها، لاسيما في بلادنا العربية، لأنّ التّرجمة فيها لاتخضع للرّعاية المؤسساتية، ماخلا بعض الاستثناءات(7)، فتظلّ خاضعة لذوق الأفراد وطبيعة رؤيتهم في تحديد أهمية المُنجز المُتَرْجَم. ناهيك عن التّداخل بين المترجمين عبر إناطة بعض الأعمال مكانة على حساب سواها، وكأنّ التّرجمة_ والحالة هاته_ موضة يتبارى فيها العارضون، فتظلّ أعمال أكثر نفعاً حبيسة ظلّها، لا تصلها أيدي الباحثين عنها، حيث يكون حاجز اللغة هناك. أضف إلى ذلك إشكال عدم توحيد المصطلح الذي عجزت عن معالجته المؤسسات الثّقافية العربية والمجمعات العلمية في جهودها الضّائعة. وأود أنّ أقــدم، هنا، نموذجاً لهذا الإشكال وهو مصطلح التّناص. 2.3_ تشير الدّراسات الأدبية إلى أنّ التّناص ( Intertextualité ) مصطلح حديث النّشأة، عُرف أول مرة مكتوباً باللغة الفرنسية في أبحاث الكاتبة البلغارية جوليا كريستيفا المنشورة بين عامي ( 1966_1967 ) في مجلتي ( Tel_Quel و Critique) وهي تبحث في تأسيس " نظرية لسيميائية النّصّ ". فالتّناص من المصطلحات التي تبنّتها الدّراسات السّيميائية، لأنّه ظهر للوجود بعد أن بدأت تلوح في الأفق علامات التّشكيك بالأسس المعرفية: الفكرية والفلسفية التي تستند إلى المنهج البنيوي وبخاصّة ما يتعلق بدراسة النّصّ الأدبي.(8) بما أنّنا في حضرة الآخر على اعتبار أنّ مصطلح التّناص غربيّ الصّيرورة عالميّ السّيرورة، فلابد للتّرجمة، إذن، أن تكشف عن مآزقها الفاعلة في عمق التّسميات، مثلما للعبور جرحه بين الثّقافات. فهذا الباحث محمد بنيس يترجم في أبحاثه مصطلح التّناص ( Intertextualité ) إلى ( التّداخل النّصّي ).(9) ويصرّ على هذه التّرجمة البديلة عن التّناص الذي نجد السّواد الأعظم من الباحثين يعتمده.(10) إذ يرى بنيس أنّ التّناص لفظ قاصر في أداء وظيفته، لأنّ ترجمة المصطلح في نظره (( تخضع قبل كلّ شيء لـ "شبكة من العلائق في لغة الانطلاق وشبكة أخرى في لغة الوصول لعلائق دلالية وصرفية وتركيبية" ومن ثم فإنّ الطّابع العضوي لترجمة "التّناص" لا يسهم في إنتاج شبكة العلائق التي نستطيع بها الانتقال من وحدة إلى أخرى أو من جهاز مفاهيمي إلى آخر ))(11) معتبراً التّداخل النّصّي أحد المصطلحين اللذين يتم من خلالهما مقاربة النّصّ الغائب. إذ (( يكتسب النّصّ الغائب، عبر كلّ من التّداخل النّصّي وهجرة النّصّ، أهمية متفردة في الشّعر العربي الحديث )).(12) 3.3_ إنّ انعدام توحيد ترجمة المصطلح يصعّد أسئلة لا يمكن تجاوز الوقوف عندها في حقل الإبداع الشّعري الذي تُعَدّ ترجمته إشكالاً بحد ذاتها، فلا شيء غيره يضيع في التّرجمة. ولعلّني أكتفي هنا بإيراد بيت واحد من قصيدة Waste Land" "The للشّاعر الإنجليزي ت.س. إليوت* T. S. Eliot( التي تُرجمت إلى العربية بـ "الأرض اليباب" أو "الأرض الخراب"، وأنا أرى أن تُترجم إلى "الأرض البوار" ) لأوضّح التّفاوت في مستوى التّرجمة، وأكشف المأزق النّافذ إلى طبيعة فهم النّصّ والتّأسيس لسبل التّفاعل الثّقافي عبر حفريات التّرجمة ولذتها المجسّرة للعبور بين الذّات والآخر، ومن ثم الإنصات لهذا العبور. لقد قدم الباحث محمد شاهين هذا النّموذج المتمثل في بيت إليوت: These fragments I have shored against my ruins. (13) من خلال ترجمات عربية ظهر الاختلاف فيها جليّاً، والتّرجمات هي الآتية:(14) 1_ ترجمة لويس عوض سنة (1968) وهي: (( هذه الكسر جمعتها اناء حطامي )). 2_ ترجمة عبد الواحد لؤلؤة سنة (1980) وهي: (( هذه النّثارة دعمت بها خرائبي )). 3_ ترجمة يوسف اليوسف سنة (1986) وهي: (( أدعم بهذه الشّذور أطلالي )). وبعد تحليل وشرح مطوّلين وتعليل لسبب اختلاف التّرجمة بين المترجمين السّابقين يقدم الباحث نفسُهُ ترجمة رابعة لهذا البيت يقول فيها: (( هذي الشّظايا تتكسر دونها خرائب قلبي)).(15) 4.3_ يتعلق هذا الأمر بنقل المادة المترجمة من لغة إلى لغة أخرى، أي من المفترض أن تكون إشكالات التّواصل محدودة، فكيف يصير الحال إذن إذا تم العبور بين أكثر من لغة، سيكون لهذا العبور حتماً جرحه النّازف، وهو ما يمكن معاينته من خلال نموذج خَبَرَ هذه الرّحلة ومساراتها المليئة بالدّهشة والانفعال، وأعني قصيدة الشّاعر الإسباني فيديريكو غارثيا لوركا** Federico Garcia Lorca التي سأوردها كاملة بلغتها الأصلية ثم أقف عند موضوع التّرجمة وإشكالاتها:
De otro modo (16) 1.4.3_ La hoguera pone al campo de la tarde. Unas astas de ciervo enfurecido. Todo el valle se tiende. Por sus lomos. Caracolea el vientecillo. El aire cristaliza bajo el humo. Ojo de gato triste y amarillo- Yo, en mis ojos, paseo por las ramas Las ramas se pasean por el rio. Llegan mis cosas esenciales. Son estribillos de estribillos. Entre los juncos y la baja tarde, "que raro que me llame Federico". لقد قام بترجمة هذه القصيدة الكاتب والشّاعر الليبي المعروف الدّكتور خليفة محمّد التّليسي، ولكنّ ترجمته لم تكن عن اللغة الأم ( الإسبانية )، وإنّما جاءت عن طريق اللغة الإنجليزية، وهذا موضوع له اعتباراته المعرفية في بحثنا، الأمر الذي يمكن تلمّس أبعاده بعد قراءة هذه التّرجمة:
1.1.4.3_ بطريقة أخرى(17) النّار الموقدة تغرس في حقل المساء قرون الوعل الغاضب. والوادي كلّه انبساط. وفوق ظهوره تقفز الرّيح. والرّيح تتبلل تحت الدّخان. كعين القط الصّفراء الحزينة. وأنا أنتزه] كذا [ في عيني فوق الغصون. والغصون تتنزه فوق النّهر. وتأتي حاجاتي الضّرورية هي ترديدات التّرديدات وبين الخيول الصّغيرة والمساء المخيم يبدو من الغريب أن أسمع من يدعوني فيديريكو. عندما راجعت النّصّ الأصلي وجدت عدم تطابق بين نصّ لوركا المكتوب بالإسبانية والنّصّ المترجم، وقد أثّر عدم التّطابق هذا _ في نظري _ على مشهد النّصّ وصورته الفنية، على الرّغم من الشّاعرية التي أضفاها التّليسي على النّصّ المترجم، لذلك أرى أن تكون ترجمة النّصّ على الشّكل الآتي:
2.1.4.3_ بطريقة أخرى الشّعلة تغرس في حقل المساء قرون أيل هائج. على امتداد الوادي. من فوق ظهره تقفز الرّيح. الرّياح تتبلور تحت الدّخان. - عين قط حزين أصفر - أنا في عيني أتنزه فوق الأغصان الأغصان تتنزه فوق النّهر. تصل أشيائي الأساسية. هي أقفالُ أقفالٍ شعرية. بين أشجار الأسل والمساء المخيم، "ياللغرابة أن ينادى عليّ فيديريكو"
3.1.4.3_ من هنا يجد القارئ في ترجمة التّليسي- بالإضافة إلى الاجتهادات في التّرجمة بيني وبينه - مفردات مغايرة تماماً للنّص الأصلي من بينها على وجه الدّقة ( تتبلل ) بدلا من ( تتبلور ) في البيت الخامس من النّصّ الإسباني، و ( الخيول الصّغيرة ) بدلاً من ( أشجار الأسل ) في البيت الحادي عشر التي أرى فيها خروجاً على المشهد الشّعري، ولا أدري كيف تسللت هذه المفردة إلى النّصّ لأنّ كلمة: ( junco ) لها معنى واحد هو ( أسل ) فمن الغرابة إذن أن تأخذ طريقها إلى النّصّ العربي مترجمة إلى ( الخيول الصّغيرة )، ولا أدري إن كانت القراءة المغايرة قد حدثت في النّصّ الإنجليزي أم في التّرجمة إلى العربية، على الرّغم من أنّ القراءة الصّحيحة للنصّ الإسباني يجب أن تحول دون ذلك لأسباب لغوية تتمثل في ( بين ) الظّرفية، علاوة على ما يتطلبه المشهد الشّعري من انسجام بين صورة الأشجار والمساء المخيم. 2.4.3_ إنّ هذا الاختلاف الظّاهر في النّماذج التي قدمتها لا يدع مجالاً للشك في أنّ هناك إشكالات ومآزق في التّرجمة تدعو إلى تأملها والتّفكر في كيفية معالجتها. وقد أجمل الباحث عبد الواحد لؤلؤة _ وهو المترجم بامتياز _(18) هذه الإشكالات والمآزق في ثلاثة محاور ضافية ألخّصها في الآتي: 1_ إن الأقرب إلى الصّواب في ترجمة النّصّ الشّعري من لغة أوروبية كالإنجليزية مثلاً إلى اللغة العربية أن يعمد النّاقل إلى المحافظة على "شكل" النّصّ كما ورد في الأصل، ويجعل ترجمته في حدود العبارة العربية من غير تجاوز على بناء الجملة العربية. وبوسع المترجم المتمكن من لغته أن يطوّع العبارة الأجنبية لتكسب مسحة شعرية من التّقديم والتّأخير في نظام بنائها مثلاً...(19). 2_ يمكن أن يعترض الناقلَ من نصّ شعري أجنبي إلى اللغة العربية ما يمكن أن يدعى بالمشكلة الثّقافية. إذ إنّ حدود ثقافة النّاقل هي التي تجعل النّصّ المنقول مقروءاً في العربية أو غير مقروء... فالقارئ العربي يُقبل على قراءة المترجمات ليزيد من ثقافته بالدّرجة الأولى، وهذه مسألة لا تحتمل النّقاش. لكن كم من تلك الثّقافة الأجنبية يستطيع النّصّ المنقول أن يحمله إلى القارئ؟(20) 3_ قد تعترض المترجمَ مشكلة تاريخية. فالإحاطة بالمهاد التّاريخي للنّصّ الشّعري، وبخاصّة الشّعر المسرحي، مسألة بالغة الأهمية عند النّاقل من لغة أجنبية إلى اللغة العربية... فتمتع المترجم بثقافة تاريخية بما يترجم من نصّ هي الضّمانة الأكيدة التي تقيه العثار... لذلك يكون الإتقان في نقل النّصّ الشّعري إلى العربية مسألة أمانة ثقافية، وليست مسألة برهان على معرفة النّاقل باللغة الأجنبية.(21) 4_ أهمية التّرجمة 1.4_ إنّ الإشكالات والمآزق المصاحبة للتّرجمة لا تقلل أبداً من قيمة التّرجمة، ومن أهمية قراءتها الدّاعية إلى تلمّس السّبل المؤدية إلى إثراء الثّقافة القومية لكلّ شعوب الأرض مهما امتلكت هذه الشّعوب من ثقافات أصيلة وثرية، إذ إنّ الثّقافة القادمة كاللقاح الذي يكسب الجسد الصحيح مناعة مضافةً للمناعة التي يمتلكها. فمهما قيل عن التّرجمة حتى وإن وصفت بالخيانة فإنّها تظلّ خيانة جميلة تشكّل جسر عبور يعشق تخطيه الرّاغبون بالانفتاح على الثّقافات الكونية، لأنّ العزلة لا تخلق الإبداع، وأنّ الذّات لا تحقق تطلعاتها إلاّ بمعانقة الآخر. 2.4_ هكذا نظلّ بحاجة إلى وعي مؤسساتي تتضافر فيه الجهود الخبيرة لإعداد جيل من المترجمين الذين لا يقفون مذهولين أمام شكل النّصّ الأجنبي، فيتعاملون معه تعاملاً معرفياً عبر الجهوزية المسبقة لثقافتهم العربية التي تمكّنهم من التّفاعل مع ثقافة الآخر، وسبر أغوار المهاد التّاريخي الذي قد يقف حائلاً أمام إضاءة النّصّ الأجنبي... إذ يكون انتقاء النّصوص الأجنبية وفق أسس معرفية تُعلي قامة المتلقي وتزيد معرفته معارف أخرى تصبح _ في ضوئها_ نتاجاته الإبداعية كياناً مترع الدّلالات. 5_ التّركيب 1.5_ في هذا الفضاء تتفاعل الدّوال التي يكون كلّ من الكاتب والقارئ طرفين أساسيين فيها، ونتيجة لهذا التّفاعل يكون المعطى الثّقافي مسرحاً يلتقي فيه منتج النّصّ وقارئه من أجل رسم أفق للموضوع المراد إنجازه، حيث (( الموضوع يعرف حالة تسبق الاكتمال والتمام: فلا تعبير ولا تقدير، إنّما تجسدات، هي في مستوى الخطاب، تجسدات في مستوى الدّال، بل تجسدات الدّال ))(22) تجسدات تبحث عن كينونتها في الزّمن الفاصل بين الكتابة والقراءة أو في زمن الانتقال من ممارسة الكتابة إلى الحديث عنها في خطاب يخترق الذّات لينتج الدّلالة في غير مكانها المحتسب. إنّه زمن التّفاعل بين الدّوال وبين العناصر المساهمة في صيرورتها التي لابدّ أن تكون التّرجمة دالاً من بين هاته الدّوال أو عنصراً من بين هاته العناصر التي تخلق واقعاً مفعماً بتوليد المعاني وتفعيل القراءات... 2.5_ بيد أنّ معظم النّقاد المحترفين يؤكدون على (( أنّ هناك قراءات صحيحة وقراءات خطأ، وقراءات جيدة وقراءات رديئة، ويصرون، بعنف غالباً، على أنّ للموضوعات والكيانات الأدبية التي يكتشفونها شرعية " موضوعية " )).(23) ويشترط الباحثون في هاته القراءات أن تقوم على المقارنة فيما بينها كماً وكيفاً، وعلى أن يكون للقارئ حضور في كتابة النّصّ عبر الإسهام في إنتاج دلالته حينما تكون القراءة إنتاجية لا نفعية، ويدعو هذا الأمر إلى طرح سؤال حول عمق التّفاعل بين الذّات القارئة والموضوع، أو ((بشكل أكثر دقة تساؤل عن كيفية الارتباط المتبادل بين أجزاء القراءة الذّاتية والموضوعية من أجل الوحدة ))،(24) وحدة الأعمال الأدبية التي تقف على خط مستقيم مع الهوية والنّصّ والذّات، حيث عبر هذا التّعالق المهيب بين هاته العناصر الأربعة ( الوحدة، والهوية، والنّصّ، والذّات ) تتجلى أهمية فعل التّرجمة وخطورتها في تجسيد العلاقة بين الذّات الكاتبة والنّصّ والقارئ، وبالتّالي كيف تتمكن الترّجمة من تحقيق التّواصل الثّقافي بين الشّعوب الباحثة عن لذة القراءة، والتّائقة لبلوغ الابتهاج المعرفي الذّي يضيء كوامن الرّوح والوجدان... 3.5_ إنّ القراءة الواعية تكشف عمّا اختفى من فعل الكتابة، وبذلك تسجّل هاته القراءة إدراكاً به يتلمس المترجم السبيل الأوثق لنقل دلالات النّصّ من لغة إلى لغة أخرى. وبهذه المشاركة التي يلتقي فيها الكاتب والقارئ في فضاء النّصّ تنفتح الآفاق إلى استدعاء الظواهر اللامكتوبة، لأنّ النّصّ، والحالة هاته، يقدم تخطيطات لفعل الإدراك الذي يقرأ الحاضر من الكلمات ويستدعي الغائب منها، ليسهم هذا الحضور وذاك الغياب في رسم شبكة العلائق الدّلالية التي ستكون العنوان الرئيس للصلات الثّقافية بين الشّعوب، إذ إنّ العمل الأدبي هو محور لقطبين أوّلهما فني والثّاني جمالي؛ يتحقق الأوّل بفعل الكتابة، وينجز الآخر بفعل القراءة. وإذا كان القطب الفني قد تحقق في لغة ما، حينئذ يتعدى كونه إنتاجاً في لغة بذاتها، حيث لابدّ له من امتداد أفقي، ولا يتأتى هذا إلاّ بفعل التّرجمة التي ستضمن وجوده الجمالي. وبين الفني والجمالي يعثر النّصّ على مبتغاه المتطلب تحقيق شروط صيرورة التّرجمة وسيرورتها التي ستعطي وجوداً حركياً لماهية التّواصل الثّقافي. لنتعلم، إذن، الشّروط التي لا تكون فيها التّرجمة قبلة من وراء الزّجاج، بل تكون برزخاً شفيفاً جغرافيته آفاق النّصّ الذّي يلتقي فيه زمنا الكتابة والقراءة، فتحضر المعاني والدّلالات من أقاصي الصّمت، لتعانق، النّفوس الباحثة عنها بحرارة الأعماق، فتشكّل منها خطابات تتناسل منها خطابات تخترق الحجب ثانية لتكون شرياناً ممتداً بين الثّقافات...
* نُشر هذا البحث في مجلّة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلاميّة (الجزائر): دوريّة أكاديميّة متخصّصة محكّمة تُعنى بالدّراسات الإسلاميّة والإنسانيّة، العدد22، رمضان 1427/أكتوبر2006.
الهوامش: 1_ رولان بارت_ النّقد البنيوي للحكاية، ترجمة انطون أبو زيد، منشورات عويدات، بيروت_باريس، 1988،ص:8. 2_ رولان بارت_ درس السّيميولوجيا، ترجمة عبد السّلام بنعبد العالي، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، الطّبعة الثّالثة، 1985، ص:86. 3_ المرجع السّابق، ص:87. 4_ رولان بارت_ النّقد البنيوي للحكاية، م.س، ص:8. 5_ محمد بنيس_ حداثة السّؤال: بخصوص الحداثة الشّعرية في الشّعر والثقافة، المركز الثّقافي العربي، بيروت_ الدّار البيضاء، الطّبعة الثّانية، 1988، ص: 26. 6_ انظر جين ب. تومبكنز _ نقد استجابة القارئ من الشّكلانية إلى ما بعد البنيوية، ترجمة حسن ناظم _ علي حاكم، مراجعة وتقديم محمد جواد حسن الموسوي، المشروع القومي للتّرجمة، المجلس الأعلى للثّقافة، جمهورية مصر العربية، ص: 213. 7_ من هذه الاستثناءات (حسب علمي): (1) سلسلة إبداعات عالمية _ المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب _ الكويت. (2)المشروع القومي للتّرجمة _ المجلس الأعلى للثّقافة _ جمهورية مصر العربية. (3) سلسلة الكتب المترجمة _ منشورات وزارة الثّقافة والإعلام العراقية (سابقاً). 8_ لمزيد من التّفاصيل حول تحديد مصطلح التّناص، انظر: محمد عبدالرضا شياع _ فيديريكو غارثيا لوركا وعبد الوهاب البياتي: دراسة في التّناص، رسالة لنيل دبلوم الدّراسات العليا_ السّلك الثّالث (غير منشورة) مرقونة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية _ جامعة محمد الخامس _ الرّباط، تحت رقم: (956_801)، العام الجامعي 1995_1996، ص_ص: 11_32. 9_ محمد بنيس _ الشّعر العربي الحديث : بنياته وإبدالاتها، ج.3، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى ، 1990، ص: 181. 10_ انظر كلا من: (1) محمد مفتاح _ تحليل الخطاب الشّعري: استراتيجية التّناص، دار التّنوير، بيروت، الطّبعة الأولى، 1985. (2) سعيد يقطين _ انفتاح النّص الرّوائي: النّص_السّياق، المركز الثّقافي العربي، بيروت _ الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1989. (3) سعيد يقطين _ الرّواية والتّراث السّردي: من أجل وعي جديد بالتّراث، المركز الثّقافي العربي، بيروت _ الدّار البيضاء، الطّبعة الأولى، 1992. (4) رجاء عيد _ النّص والتّناص، علامات، ج.18، مج.5، رجب 1416ه، ديسمبر 1995. 11_ محمد بنيس_ الشّعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، م.س، ص: 181. 12_ المرجع نفسه، ص: 179. * ت.س.إليوت (1888_1965) من مواليد أمريكا، ناقد ومؤلف مسرحي وشاعر إنجليزي . درس إليوت في هارفارد والسّوربون وأكسفورد، وتخصص في الفلسفة إلى جانب أنه شاعر عملاق فقد كان مؤلفا مسرحياً مجدداً أيضاً. من مؤلفاته التي شغلت النّاس دراما دينية بعنوان (جريمة قتل في الكاتدرائية) وقد عرضت في عام 1935. بالإضافة إلى مسرحيته (حفلة الكوكتيل) التي عرضت أول مرة في العام 1949. 13_ محمد شاهين _ إليوت وأثره على عبد الصّبور والسّياب، المؤسسة العربية للدّراسات والنّشر، بيروت، الطّبعة الأولى، (د.ت)، ص: 9. 14_ المرجع نفسه، الصّفحة ذاتها. 15_ المرجع نفسه، ص: 10. ** فيديريكو غارثيا لوركا شاعر إسباني, وهو من أبرز شعراء جيل 1927 ولد عام 1898 في فوينته باكيروس, وهي قرية صغيرة تقع وسط غرناطة, وقد مات مقتولاً في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936, وكان موته فاجعة كبرى أدمت قلوب محبي الأدب والإبداع, إذ ظلّ هذا الشّاعر المقتول غدراً عاملاً محفّزاً على الكتابة الإبداعية في كلّ مكان، وظلّت دواوينه الشّعرية وكتاباته المسرحية في نظر المهتمين تمتلك أهمية لافتة في الإبداع الكوني. 16_ Federico Garcia Lorca – Obras completas, Madrid , 3a edicion , 1957, p:342. 17_ لوركا_ الدّيوان الكامل، الجزء الأول، ترجمة: خليفة محمد التّليسي، الدّار العربية للكتاب، الجماهيرية العظمى، 1992، ص ص: 487_488. 18_ تُعَدُّ سلسلة موسوعة المصطلح النّقدي _ منشورات وزارة الثّقافة والإعلام _ الجمهورية العراقية، في مقدمة الأعمال الإنجليزية التي نقلها الدّكتور عبد الواحد لؤلؤة إلى اللغة العربية نظراً لضخامة هذه السّلسلة وأهميتها. 19_ عبد الواحد لؤلؤة _ منازل القمر: دراسات نقدية، رياض الرّيس للكتب والنّشر، لندن، الطّبعة الأولى، 1990، ص_ص: 76_78. 20_ المرجع نفسه، ص_ص: 78_80. 21_ المرجع نفسه، ص_ص: 80_81. 22_ رولان بارت_ لذة النّصّ، ترجمة فؤاد صفا والحسين سبحاز، دار توبقال للنشر، الدّار البيضاء، 1988، مقدمة المترجمين، ص:6. 23_ جين ب. تومبكنز _ نقد استجابة القارئ من الشّكلانية إلى ما بعد البنيوية، م.س، ص ص: 215_216. 24_ المرجع السّابق، ص: 216.
#محمد_عبد_الرضا_شياع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طنجة موتيفة الشّعراء
-
سيرة المعتمد بن عبّاد في مخطوطة الأحلام
-
سايكولوجية التّمرد في شعر تأبط شرا*ً
-
الومضة الشّعرية: انكشاف العتمة وتوهج الذّات*
-
لوث غارثيا كاستنيون: تؤكد عشقها للشعر العربي ولبغداد وللقاهر
...
-
الشّاعر أحمد المجاطي بين عذاب الكتابة وألق الإبداع
-
فيديريكو غارثيا لوركا وثقافة الموت
-
أوكتابيو باث: زمن المكاشفة وبوح الذّات*
-
الاغتراب في الإبداع الأدبي
-
*نازك الملائكة: قارورة الحزن الشفيف
-
السّفر في عذابات الرّوح
-
الرّؤيا الشّعريّة سفر على أجنحة الخيال
-
دلالة المكان الدّائري في رواية جسد ومدينة
-
خليل حاوي : سنديانة الشعر والموت
-
محمد علي شمس الدّين والتّحولات اللوركية في شعره
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|