|
أحزان المربي الذي..كان سعيدا
الطيب طهوري
الحوار المتمدن-العدد: 1909 - 2007 / 5 / 8 - 10:43
المحور:
الادب والفن
بطاقات رمادية
إلى كل المربيات والمربين الذين ناضلوا وما زالوا يناضلون من أجل تغيير أوضاعهم المتردية.. إدراكا منهم بأن التعليم هو الأساس الأول لتقدم مجتمعهم
سقف الغرفة يرشح ماء..كنت ترى.. وكانت عيناها نداء استغاثة يترجاك.. وكعادتها.. لم تقل: تعبتُ.. لكنك كنت ترى.. ـ ما ثمن كيس الإسمنت عندك اليوم يا محمد؟ ـ كم تأخذ؟.. قال.. ـ عشرة أكياس..أجبت.. ـ ثلاثمئة دينار.. ـ كثيرا.. قلت مندهشا.. ـ لا بأس..أنتم المعلمين مْساكن.. خذها بمئتين وسبعين دينارا فقط.. رنت كلمة مْساكين في أذنيك.. لولبا كانت تحفر في القلب..ببطء حركتَ رجليك.. ومشيت.. ـ واش اتحوّسْ تديها ابلاشْ؟.. وقفتَ.. خلفك السبورة..وأمامك الكلمات.. والضجيج يتعالى.. ـ سكوتْ.. صحتَ.. رميت محفظتك العتيقة..صفّر الأنين جرسا يقفز في الداخل.. إلى الخلف استدرتَ.. رفعت الطبشور.. كتبت المادة والـ .. ورأيت الأنياب تنغرز في الجسد المرهق.. والأخضرَ خشبا يعصر ذاتك.. رميت الـ.. وفي الخلف رأيتََك.. ـ علي.. اكتب المادة والموضوع.. ـ لا يوجد تلميذ بهذا الإسم في القسم يا أستاذ.. ـ أنت إذن.. اكتب المادة والموضوع.. افتحوا الكتاب.. درسنا اليوم يتعلق يالديمقـ .. تلعثم لسانك.. كررت المحاولة.. تلعثم أكثر.. الدو.. الدو.. الدود.. الدو.. الدو.. الدم.. ـ الديمقراطية يا استاذ.. قالها.. نظر إليهم.. وتغامزوا.. كنت ترى.. تتلاحق الخطوات صدى في الجدران أمامك..يضيق الداخل أكثر..في المحفظة اليد .. وفي الرأس خرائب شتى.. +++ دخلتَ.. المعطف الذي على ظهرك لم تغيره من أول العام.. وها أنت في ربيعه.. من فوق غبار.. ومن تحت غبار.. نظرتْ عيناك لكل الجهات.. تأكدتَ أن لا أحد من تلامذتك هناك.. أسرعتَ إليه.. كان معلقا.. رأيتَه يبتسم.. أغرتك الابتسامة.. تقدمتَ.. وضعت كفك على الكتفين.. فتحت ياقته.. رأيته يقفز.. وبسرعة على كتفيك كان.. وأنت تُنزله ناديتَ البائع: من فضلك.. كم هو ثمن هذا المعطف؟.. ـ ثمانمئة دينار.. قال.. ـ كثيرا.. قلتَ.. أعطيك خمسمئة .. أضفتَ.. ـ واشْ أأستاذ.. راك اتشوفْ فيَ قاعد انقري؟! اللعنة..همستَ.. حتى أنتَ .. ـ أنا ياسين..ياسين رحماني.. ألا تتذكرني؟!.. خجلا.. قلتَ.. تذكرتُك.. تذكرتك..عندك معاطف أخرى غير هذا؟.. يوم الجمعة نأتي بكمية أخرى.. بكّر، وإلا لن تجد شيئا..أجاب.. أنقذتك الإجابة.. يوم الجمعة إذن.. إلى اللقاء.. ـ مع السلامة.. ردَّ.. حركتَ رجليك.. ومشيت.. كانت المعاطف تنظر إليك.. وتتغامز.. أستاذ.. أستاذ.. رأيت الناس يقفون.. وفيك يبحلقون.. كان الحصار.. وكنت المحاصر.. كان السجن.. وكنت المسجون.. وها قد أُطلقتَ.. فأسرعْ.. +++ … وقال زميلك ناصحا: إياك أن تصعد مع التلاميذ.. ماذا لو مد أحدهم يده.. و.. إذا تكلمتَ، فضحتَ نفسك.. وإذا سكتّ، كرروها.. عليك أن تسير في المؤخرة دائما.. قلت: منذ أن امتطتنا مهنة لايموت فيها ولايحيا ونحن المؤخرة يا أخي.. أدرك قصدك.. وضحكتما.. +++ … وقال لزميله مبتسما: ضاعف كمية الدجاج.. ثم أضاف: وارفع سعره بخمسة دنانير.. إنه يوم المعلمين..! وضعتَ ـ كعادتك بعد أن تملأ كفيك بدنانير البريد ـ السيجارةَ في الفم .. ومشيتَ.. رافعا رأسك..! دخلتَ الزقاق.. كانوا يلعبون.. ـ بابا اسلكْ.. بابا اسلكْ.. صاح الأصغر.. ـ هاهي الدجاجة.. قلت، وأنت تسلمه إياها، وتملأ كفيه بالحلوى.. وكانوا يلعبون حين قال الأصغر: اليوم يسلكْ بابا.. وانتظر المساء.. ـ اليوم يسلكْ بابا..! +++ كنت تسميه أو لايحيا.. وأحيانا أو يموت.. وكنت تسميه أيضا بن بونقص.. أو.. بن بوش.. وكنت تقول دائما: خربها.. خربها.. وكنتَ.. حين انتهيتَ إلى الحائط الظلي.. وقفتَ.. فتحتَ الصفحة الأخيرة.. يقرا وْليدي باش يخرج كي ابيُّو.. رددتَ: فال الله ولا فالكْ.. فال الله ولا فالكْ.. ثم امتطيتَ حذاءك المبتسم.. ورفعت ثقل المحفظة إلى اليمين.. حركت رجلك اليسرى.. وكنتَ ما تزال واقفا حين رأيت اسمك يأتي من بعيد.. استدرت إلى اليمين، ثم إلى اليسار.. أماما.. خلفا.. حاصرك الإسم أكثر: أستاذ.. أستاذ.. أنت الواقف.. تحركتَ.. وتحرك الشارع معك.. أستاذ.. أس..تا..ذ.. كنتََ تبتعد وصدى الإسم لهيب.. دخلتَ ضغط البريد.. سلمتَ بطاقة التنكير وورقة الصك الحماري.. وانتظرتَ.. بعد لحظات رأيتَ يديك الفارغتين.. وخرجتَ.. ـ اليومْ يسلكْ بابا.. سرتَ.. وجدت نفسك كالعادة الشهرية أمام الدجاج.. تلمستَ جيبك.. تذكرتَ.. كانت الدجاجة تكبر وتكبر.. وكان المنقار يطول.. وامتد الجناحان إلى البعيد البعيد.. ارتعدت الجثة فيك.. هرولتَ هاربا.. الدم ينزف والمنقار المدبب إلى العظم يغوص.. ـ لا بأس.. حماك الله.. ـ سقطة مريعة فعلا.. ـ كادت السيارة تدهسك.. ـ أعطاك الله عمرا آخر.. كان الصوت ثقيلا.. يأتي.. وقفتَ.. نفضت الغبار..وضعت المنديل على الجرح.. وسرتَ.. وكان الصوت بطيئا.. ينأى.. دق ابن الجيران الباب.. أبوك لا يضع السيجارة في فمه.. خرج الأصغر مسرعا.. تأملك.. وضع الذراع على العينين الضائعتين.. واستدار إلى الجدار.. ارتعد الداخل فيك.. تساقطت الجدران.. انفصلت الأعضاء منك.. تباعدت عن بعضها البعض.. والحجارة الأخرى غطتك.. لم يطل الوقت.. نهضتَ من غيابك.. جذبت الأصغر إليك.. رأيت ذراعيك تتحركان.. ورجليك أيضا.. وضعتْ يداك الجذعَ على الحوض والحوضَ على الساقين.. تقدمت الجثة.. قفز الرأس إلى المكان المعد له..جمعتَ رذاذ الدم المتناثر هنا وهناك.. مسحتَ بكفك على الجسد الواقف.. تقدمتَ.. سبقتك الأحشاء .. البنكرياس.. الكبد.. القلب.. الأمعاء أيضا.. انتبهت إلى البطن المفتوحة.. مددت يديك..جمعت الأحشاء.. أدخلتها البطن المفتوحة.. وأقفلتها.. ورأيتََها.. تعلو الجدران.. وتعلو.. والأرض تغوص.. غطاك الماء.. وامتدت ذراعاك إلى الأمام..حركتَ الرجلين خلفك.. كنتَ.. وكنتَ تحضن الصخرة بشدة حين مزق القرش قدمك اليسرى، وفار الدم المرهَقُ بغزارة.. انتبهتَ مذعورا.. كان الأصغر يلف خصرك.. تعوذتَ من الشيطان الرجيم .. استغفرت ربك وأنت تتحسس موضع الألم الفضيع. +++. وكنت تعرج حين سمعت الصوت: ما بك؟ استدرت: إنه الألم يتسلق رجلي اليسرى.. وقال زملاؤك: إنه الروماتيزم إذن..وسرتَ.. خلف الصف كنتَ.. إياك أن تصعد مع التلاميذ..ماذا لو...؟.. سرتَ.. وكنت تسير حين رأيتَ اسمك يأتي من بعيد.. كنتَ وحدك.. وكان الشارع يمتد بعيدا.. بعيدا.. كانت خطاك ثقيلةً.. ـ واشْ بيكْ.. شوفْ قدامكْ.. واصلتَ.. صارت خطاك أسرعَ.. والشارع يغوص أكثر فيك.. ـ واش اهْبلتْ؟!.. البلاط تحتك والسماء فوقك..والطريق عويل.. ـ واشْ بيهْ هذا.. مايشوفشْ؟.. ـ امَّا.. هاو يقرّي فينا.. سمعتَ اسمك.. سعيرا كان..ولم تلتفت.. أستاذ.. أستاذ.. ازدادتْ سرعتك.. وكنتَ هناك.. وضعتَ… على السكة.. سمعتْ أذناك هدير القطار يتقدم من بعيد.. رأيتَ أطفالك.. أظافرَها المنغرزةَ في الخدين.. صار الهدير نحيبا متقطعا يغزو أذنيك..رأيتَهم يبحلقون..يفركون أصابعهم ويتلحسون.. رفعتَ رأسك.. مسرعا وقفتَ.. استغفرتَ ربك.. اللعنة عليك أيها الــ.. تداركت: أيها الشيطان الرجيم.. كررت: الرجيمُ.. الرجيمُ.. تذكرت أن عيد ميلاد ابنك سيكون غدا.. سرتَ.. وكان القطار سريعا يمرُّ..
#الطيب_طهوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء مع الشاعر والقاص الجزائري الطيب طهوري
-
الأصوليات الإسلامية وادعاءها تقليدنا الغرب
-
!أيها الغرب، أنقذنا من تقليدك
-
الموتى.. يهاجرون أيضا
-
رحيق الأفعى
-
الأصولية،الاستبداد والغرب الرأسمالي
-
الطريق
-
نهايات طللية
-
مهاباد مهداة إلى عبد الله أوجلان
-
العرب بيت الديكتاتورية والفهم المتخلف للدين
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|