هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 1898 - 2007 / 4 / 27 - 11:29
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
المسافة بين أوروبا و العالم العربي , مشرقه أو ومغربه, تقطع بساعات قليلة لا تتجاوز الخمسة, تقريبا, بطيران متواصل للوصول إلى ابعد نقطة فيه, وهو الزمن الذي تقضيه غالبية من مواطني تلك المنطقة في سهرة للعب الورق, (الشدة) أو طاولة الزهر, و الدمينو, أو تدخين نرجيلة. أو صباحية جارة عند جارتها لتناول القهوة أو الشاي. المسافة نفسها كانت تكلف الخيول العربية الأصيلة في الوصول إلى أوروبا, أو الخيول الأوربية في الوصول إلى اقرب نقطة في عالمنا العربي, جهود وعناء شهور طويلة.
الساعات المعدودة هذه, في حساب قطع المسافات, التي تفصل بيننا وبين أوروبا, أو العكس, يقابلها اليوم, في حسابات التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والحضاري ــ وان كانت هذه الكلمة الأخيرة تثير حساسية مفرطة عند بعض من يريد أن يعلي الحضارة العربية على حضارات العالم مجتمعة ــ مسافات وفوارق زمنية تقاس بعشرات السنين, إن كنا متفائلين, أو أكثر من قرن إذا أردنا أن نكون منصفين. الفخر بالانتماء والأصل والقومية شيء, والاعتراف, دون نقص أو شعور بالدونية, بالواقع الراهن شيء آخر, وقد يكون هذا الاعتراف محرضا ودافعا على التفكير في الإقدام على الخطوة الأولى في طريق الإلف ميل, كما يقال.
لا نريد التحدث عن الفواق في مجال التكنولوجيا والعلوم بمختلف أنواعها, ولا في مجال الاقتصاد, والشؤون الاجتماعية, والعدالة, والتنظيم الإداري, وفي حقوق الإنسان والمواطن, والحريات العامة والشخصية , أو المجتمع المدني وجمعياته, أ والأحزاب السياسية بأنواعها, و لا النقابات المهنية وحرية تنظيمها و قدرتها على الحركة والتأثير, و لا في التعليم والثقافة, والمثقفين والكتاب, و آلاف الكتب التي تطبع يوميا وتتداول, ولا في حرية الصحافة في كل مجالاتها...
كما لا نريد التحدث عن الأسباب التي يحلو للبعض أن يعيدها, فقط و بكل بساطة , إلى الفعل الاستعماري في تقدمهم وفي تأخرنا, والى النوايا الشريرة المبيتة والمتربصة بنا والتي تتطلب منا تجييش الأجهزة الأمنية وقمع كل المعارضين للرأي الواحد والفكر الواحد, والمعارضين الاحتياطيين والمستقبليين, لإحباط التآمر القادم من ألف باب وباب, وبإلف شكل وشكل, ــ متناسين إننا مستقلون منذ أكثر من 60 عاما, في المتوسط, وبان, دولا غير عربية استقلت معنا أو بعدنا, وتقدمت علينا بما لا يقاس في كل المجالات, وبان غالبية دولنا كانت عشية الخروج من نير الاستعمار أفضل حالا مما هي عليه حاليا, في ظل حكومات وطنية, أو هكذا تدّعي , تجعل من الدولة مزرعة كان الاستعمار لا يتجرأ, لأسبابه الخاصة, على استغلالها علانية و بالطرق التي نراها اليوم ــ. ورغم نيتنا عدم الدخول في تلك المواضيع كما اشرنا, يبقى الكثير الكثير من أمثالها يغري أي كاتب للتطرق إليها.
ومع ذلك فسيقتصر حديثنا على موضوع الساعة, الانتخابات الرئاسية الفرنسية لما فيها من عبر وشجون. وبالتحديد عن الجوانب الإجرائية والسلوكية فيها. ونترك للقارئ مقارنتها بالانتخابات التي تجري من وقت لآخر في المنطقة العربية ويلمسها بنفسه ويعيشها ــ لانتخاب من يتواضع من الرؤساء الدائمين ويرشح نفسه لخلافة نفسه, ويقبل التحدي الخجول من مرشح سيء حظ من رعايا وطنـه ــ ويصر منظموها على تسميتها بالانتخابات الحرة, أو الاستفتاء الشعبي الحر, أو المبايعة الديمقراطية المطلقة. وغير ذلك من تسميات لم يتنبه لها بعد منظرو الديمقراطية ودعاتها.
حسب المادة 3 من الدستور الفرنسي " تعود ممارسة السيادة الوطنية للشعب السيد عن طريق ممثليه أو عن طريق الاستفتاء.". وحسب المادة نفسها " ... يعتبرون ناخبين , ضمن الشروط. المحددة بالقانون, كل الموطنين الفرنسيين البالغين , من الجنسين, المتمتعين بحقوقهم المدنية والسياسية". وقد أوضح قانون الانتخاب الشروط المذكورة : شرط الجنسية. شرط السن. التمتع بالحقوق المدنية والسياسية. علما بان هناك مطالب واسعة لمنح حق التصويت لكل المقيمين في فرنسا بصفة قانونية حتى ولو لم يتوفر فيهم شرط الجنسية.
قبل بداية الإعلان الرسمي لفتح مرحلة الانتخابات يجري كل حزب من الأحزاب الفرنسية حملات انتخابية لاختيار مرشح تتوفر فيه الصفات التي يمكن أن تحقق له الفوز على المستوى الوطني. فيكثر المرشحون داخل الحزب الواحد و تبدأ الحملات المركزة والعنيفة, ليس بمعنى العنف العربي بطبيعة الحال, إلى إن يتم ديمقراطيا انتخاب احدهم أو إحداهن. وعندها بأزره حتى خصومه الذين ترشحوا ضده ولم يحالفهم الحظ بالفوز, ليشدوا من أزره ويعتبرونه مرشحهم, ففوزه فوز لهم جميعا ولبرنامجهم. وهذا لا يلغي حق من يريد الترشح من أعضاء الحزب بشكل مستقل أو بدعم أقلية فيه.
التعددية الحزبية من صفات النظام السياسي الفرنسي. ويجد الراغب بالتعرف على الأحزاب الفرنسية ,أنواعها, تكوينها, طرق وأساليب عملها, أفكارها .. مراجع لا تحصى , ولعل من أشهرها ما كتبه موريس ديفرجيه ,جورج فيدال, وبيير باكلتيل, اوليفيه داحمال...
على المستوى الانتخابي تعرض الأحزاب أمام الناخبين خبراتها الواسعة ورؤاها ممثلة بمرشحيها, والمعدة في برامج لتتلاءم مع الآراء العامة المتنوعة في مجتمع متحرك ومتغير. و رغم أن الخبرات المقدمة لا تكون دائما واضحة, وخاصة لتقارب البرامج, مع اختلافات في التفاصيل, وكثيرا ما تدخل بعض هذه الأحزاب في تحالفات مؤقتة لأهداف انتخابية, لا يرضى عنها غالبا الناخب. أو تشهد انقسامات تتركه في حيرة وتؤثر بثقته فيها. فصوته ثمين ويعتبره جزءا منه أو هو نفسه في لحظة الاختبار والتقرير, ولا يريد منحه دون قناعة كاملة بطالبه.
تبدأ الحملات الانتخابية الهادفة لإقناع الناخبين بالبرامج المقدمة التي تتناول جوانب الحياة جميعها : السياسية,الاقتصادية ,الاجتماعية, الصحية, الثقافية, الحالية والمستقبلية. المحلية, والوطنية, والدولية, فتعقد المهرجانات العامة, ويقوم المرشحون بجولات للاتصال المباشر بالناخبين وتوفر أجهزة الإعلام المتلفزة حظوظا متساوية للجميع لشرح أرائهم وبرامجهم. وقبل البدء بالتصويت يصل لكل ناخب, على صندوق بريده, مغلف يحتوي نشرات موجزة كتبها كل المرشحون بأنفسهم للتعريف بهم. وبطاقات انتخابية تحمل كل منها اسم مرشح, ليحزم الناخب رأيه, إن لم يكن قد حزمه بعد, قبل الإدلاء بصوته.
ولعل ما أسعد الفرنسيين في نتائج الدورة الأولى للانتخابات, 22/4/2007 هو الإقبال الواسع عليها. 85% ممن يحق لهم الانتخاب. و هذا رقم قياسي لم يتم التوصل إليه في تاريخ الجمهورية الخامسة. معتبرين إنها مصالحة بين المواطنين و السياسة, بعد تخل وابتعاد دام فترة طويلة, نتيجة عدم ثقة بالقائمين عليها في مراحل معينة. مما أعاد للديمقراطية الوسيلة الفعالة لعملية البناء السياسي القائمة على المشاركة الشعبية الواسعة.
لا يشوب الانتخابات في الدول الديمقراطية الغربية شوائب تذكر, وفي حالة وجودها يترك للقضاء معالجتها. إرادة المرشحين حرة. والإمكانيات الموضوعة تحت تصرفهم متساوية. وحريتهم في التعبير عن برامجهم مكفولة. وخطبهم تبقى ضمن المألوف في إطار ما يسمح به القانون والأخلاق والأعراف. ولا شك انه رغم ذلك لا تنعدم الوسائل غير المناسبة لنظافة الحملة الانتخابية. ولكنها لا تصل إلى ذبح الذبائح , كرم عربي, و فتح مضافات طعام أو شراب أو كساء للناخبين العارفين مسبقا بنتائج الاقتراع, وقبل إجرائه. تشابه في الشفافية والعقلنة !!!.
ينحصر دور السلطة في الرقابة المحايدة ومن بعيد. و لا يجري اقتتال على صناديق الاقتراع , أو منع هذا أو ذاك من الوصول إليها, أو محاولة تزييف إرادته بالترهيب أو الترغيب. ولا يحاكم القضاة لمواقف عادلة تمنع التلاعب بإرادة الناخبين ولرفضهم أن يكونوا, كما أعلن قضاة مصر, شهود زور في العمليات الانتخابية.
من حق القارئ العربي الذي لم ير ولم يسمع انه في مكان ما من هذا العالم تجري الأمور كما وصفنا. ومع ذلك نؤكد له إن بعض ما عرضناه يتعلق فقط بالجانب الإجرائي والسير الحضاري للعملية الانتخابية. أما فيما يتعلق بالنظام الديمقراطي , حسناته و سيئاته, مدى تعبيره عن الإرادة الشعبية, و صدق التمثيل والنيابة, فهذه أمور فيها وجهات نظر متعددة, تصدى و يتصدى لها الديمقراطيون أنفسهم قبل غيرهم, وليس هنا مجال التطرق لها.
أسفرت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عن فوز مرشح تيار اليمين ساركوزي بنسبة 31,11 % من الأصوات ومرشحة الحزب الاشتراكي ساغلين رويال بنسبة 86,5,1 % منها . وبدأ التحضير للدورة الثانية المقررة في 6 ماي/أيار فور إعلان النتائج.وفد حقق بايرو مرشح الوسط فوزا معتبرا بحصوله على المرتبة الثالثة ونسبة تجاوزت 18 % مبعدا خلفه مرشح اليمين المتطرف جان ماري لوبان الذي تلقى هزيمة قضت على كل آماله, وخاصة إنها المرة الأخيرة التي يمكن أن يرشح فيها نفسه لانتخابات رئاسية قادمة, لعامل السن. ولكن خليفته المحتمل, ابنته, لا يمكنه تعبئة ناخبيه بأفكار التطرف وكراهية الأجانب مثلما فعل هو, بجدارة فائقة, خلال عقود طويلة من الزمن. لقد تقبل الخاسرون بروح "رياضية, والأصح وطنية" نتائج الانتخابات. أليست هي التعبير عن الإرادة الحرة للأمة بروحية العقد الاجتماعي؟.
سيشهد التنافس في الدورة الثانية, بين المرشحين الفائزين في الدورة الأولى, ضراوة, وسجالا لا هوادة فيه, لكسب أصوات ناخبي المرحلة الأولى التي حجبت عنهما. وقد أعلن بايرو مرشح الوسط انه لا يملك الأصوات التي أعطيت له ولا وصاية له عليها , ولأصحابها حرية الاختيار حسب قناعانهم. ويراقب الناخب العادي, بوعي كامل , هذه المناورات, التي تبقى دائما, رغم حماستها, ضمن الأطر الدستورية والقانونية, ووفقا لقانون الانتخاب.
أما الناخبون من أصول مهاجرة, الذي حرك الشعور بالخوف من سياسة مرشح اليمين ساركوزي ــ وزيرا لداخلية الذي لا يكنون له أي ود ــ غالبيتهم للمشاركة الواسعة في الانتخابات, فقد بقوا مع ذلك دون تأثير يذكر لعدم التنسيق والاستفادة من مزايا يحصلون عليها مقابل أصواتهم, كما تفعل الكتل الانتخابية المنظمة. ودون توجه محدد ومؤطر, مما يبقيهم في منطقة انعدام الوزن, كما اشرنا في مقال سابق.
فهل تستمر التعبئة وروح التحدي عندهم للإعداد من الآن للانتخابات التشريعية القادمة, لانتخاب نواب الجمعية الوطنية Assemblée nationale .؟. ففي حال فوز الرئيس اليميني يمكن للجمعية الوطنية إذا ما تكونت من غالبية يسارية أن تفرض عليه حكومة يسار وتجبره على إتباع سياسة التساكن cohabitation كما كان عليه الحال بين شيراك اليميني وحكومة جوسبان الاشتراكي. فالعديد من التيارات السياسية لا ترغب في تعزيز النظام الرئاسي الذي كان قد فصّله ديغول على مقاسه, ولم يعد يتلاءم مع المقاسات الجديدة, والتطورات الديمقراطية النازعة إلى تمثيلية برلمانية أقوى والى توسيع للامركزية.
في الدولة الديمقراطية وحدها يجري الاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وفيها وحدها تجري الانتخابات بالشفافية الكاملة والمنضبطة بقوانين وأعراف توفر كل الضمانات التي تبعد عنها احتمالات تزوير إرادات المواطنين.
الاندفاع الحر الواعي, عندهم , للمشاركة في الانتخابات نابع من مسؤولية كاملة لممارسة حق أساسي مرتبط بالمواطنية ولا ينفصل عنها.
الاقتياد والترهيب للمشاركة فيها, عندنا, في ظل غياب أبسط حقوق المواطنية, احتيال على إرادة المواطنين لتجييرها لخدمة أنظمة استبدادية شمولية تريد أن تسبغ على نفسها صفة الديمقراطية.
فلهم انتخاباتهم, ولنا ادعاؤها. و لا يستوي السوي والدعي. د. هايل نصر
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟