ليس بالأمر العابر أن يقضي أكثر من خمسة آلاف فرنسي وفرنسية نحبهم جرّاء موجة طقس حارّ لم تدم أكثر من أسبوع. لا أحد، بالطبع، يعترض على أطوار الطبيعة حين تقسو على الكائن، غير أنّ الطبيعة ليست مسؤولة وحدها عن إزهاق كلّ هذه الأعداد الهائلة من الضحايا، وثمة مسؤولية مباشرة يتحملها الإنسان الذي امتلك من أسباب التكنولوجيا ما يكفي لقهر ــ أو في الحدّ الأدني السيطرة على ــ سورات غضب الطبيعة. والإنسان، في الحالة التي نشير إليها تحديداً، ليس سوى الدولة الحديثة: الرأسمالية، المنتَخبة ديمقراطياً لكي تكون مسؤولة، ولكي تلعب دور راعية الرفاه والرخاء والأمن والطمأنينة.
ومصرع أكثر من خمسة آلاف فرنسي وفرنسية بسبب أيّام معدودات من المناخ الحارّ يبدو، في جانب مشروع من المسألة وقياساً على أعداد الضحايا الأبرياء، أشبه بـ 11"أيلول/ سبتمبر" أخرى يشهدها الغرب المعاصر، مع فارق أنّ الضحايا الفرنسيين لم يسقطوا على يد انتحاريي الطائرات الخارقة للأبراج، وإنما سقطوا ضحية مزيج من تعبيرات الطبيعة العشوائية وإهمال الدولة التي لا يتوجّب أن تكون عشوائية. ومن المدهش أنّ كبش الفداء الوحيد الذي قدّمته الحكومة الفرنسية، حتى تاريخه في الأقلّ، هو مدير الصحة العامة في فرنسا، والذي قدّر أنّه يتحمّل بعض المسؤولية المباشرة عمّا حدث. لا وزير الصحة استقال، ولا رئيس الوزراء اكترث بقطع إجازته في الريف الفرنسي، ولا الرئيس جاك شيراك توقف عن زيارة المتاحف والمعالم السياحية حيث يقضي عطلته السعيدة في كندا.
الطبيعة غاشمة كما يُقال لنا في سياق فلسفة معقدة طويلة عريضة، وهي صمّاء بكماء عمياء تضرب على حين غرّة وبلا هوادة. ولكنّ هل كانت السيول أو الفيضانات أو الأعاصير هي التي أودت بحياة آلاف الفرنسيين، أم تهاون الدولة الرأسمالية الراعية في قطع إجازتها الصيفية (الطقس المقدّس في تقاليد الشغل الرأسمالية الحديثة)، والمبادرة إلي توظيف ما تملك من تكنولوجيا متطوّرة من أجل إنقاذ الأرواح البشرية (المقدّسة بدورها في الفلسفة الليبرالية الرأسمالية)؟ وهل تبطش الطبيعة بالكائن دونما أسباب يصنعها الكائن نفسه، حين يخرّب توازن عناصر الطبيعة، ويدمّر خيراتها، ويسمّم جوفها وسطحها وسماءها؟
وهذه الحكاية المأساوية الفرنسية تعيد تذكيرنا بمسألتين، بين جملة مسائل أخرى: الموقف من الطبيعة والبيئة، ومصائر التاريخ في ظلّ استمرار "انتصار" الدولة الرأسمالية المعاصرة. ففي مؤتمر المناخ والبيئة الذي عقدته الأمم المتحدة في كيوتو باليابان، قبل ستّ سنوات، تجرّدت الجلسات على الفور من طابعها الكوني العالمي وتركت جانباً هواجس وهموم العالم الأكبر والأفقر والأعرض غير المصنّع، وانقلبت إلى بروفة مكرورة لما كان قد جرى قبل بضعة أشهر في قمّة دنفر للدول السبع المصنعة + روسيا المريضة. آنذاك مارست الولايات المتحدة ما يكفي من الخيلاء على حليفاتها الأوروبيات والآسيويات، وطرحت النموذج الأمريكي في السياسة والإقتصاد والمجتمع والثقافة، بوصفه النموذج الكوني الأصلح والأنصع والأكثر شباباً. وبعد يوم واحد فقط، في أروقة الأمم المتحدة ومن منابر مؤتمر الأرض الثاني، مارست الولايات المتحدة الخيلاء ذاتها، مترجمة هذه المرّة إلى ما يشبه السادية البيئية.
الأرقام ما تزال على حالها، تقريباً، منذ قمة دنفر ومؤتمر الأرض. وهي تقول إن الأمريكي يسمّم البيئة ثلاث مرات أكثر من أيّ أوروبي، وثلاثين مرّة أكثر من المكسيكي، وخمسين مرّة أكثر من أيّ مواطن من مواطني العالم الثالث. والأرقام ذاتها تقول إن إسهام الولايات المتحدة في التنمية البيئية الكونية لا يتجاوز 0.1 من الناتج القومي الإجمالي، على العكس من تعهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش بأنّ الولايات المتحدة ستلتزم بمعدل 0.7، والذي اعتُبر سقف الحدّ الأدنى في مؤتمر ريو 1992.
وما يزال علي حاله موقف الولايات المتحدة الرافض لأي بحث في مسألة تخفيض كميات غاز ثاني أوكسيد الكربون التي تضخها الصناعة الأمريكية في الفضاء الكوني المشترك الذي يظلل البشرية جمعاء. الجديد في الموقف الأمريكي هو اقتراح التمايز الذي قدّمته المندوبة الأمريكية مليندا كيمبل وكأنها تقدّم أقصي التنازلات وأصعبها وأقساها. والتمايز يعني، ببساطة، أن ما ينطبق على دول العالم لا ينطبق على الولايات المتحدة، التي ينبغي تمييزها عن سواها. وفي ثنايا هذه المرونة ، طرح الأمريكيون استعداد الصناعات الوطنية الأمريكية لشراء الحصص القانونية الممنوحة لدول أخرى بموجب الكوتا الإجمالية لكمية غاز الكربون المسموح بإطلاقها. على سبيل المثال، تريد الولايات المتحدة شراء حصة تنزانيا أو السنغال أو الكويت أو ... (وهذه جميعها حصص وهمية لأنّ هذه الدول ليست مصنّعة على نحو يجعلها مضطرة إلى إطلاق غاز الكربون)، وذلك لاستخدامها كحصص أمريكية فعلية!
مَنْ كان منهم بلا خطيئة، فليرجم الأمريكيين بحجر، وبحجر ثقيل. وأن تكون أمريكا هي أمّ الخطايا، وأن تعلن على رؤوس الأشهاد أنها ماضية في ارتكاب خطايا جديدة وربما تجديد الخطايا القديمة، أمر لا يغيّر من جوهر المعادلة التي تقول إن التفاوت بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية المصنّعة ليس أكثر من تفاوت نسبي في أرقام التصنيع والإنتاج، وبالتالي في معدّلات الإسهام في تسميم البيئة. والثابت الصريح هو أن بضاعة مؤتمر الأرض الأول في ريو 1992 ارتدّت إلى أهلها الذين تباروا في اعتلاء منابر مؤتمر الأرض الثاني في نيويورك 1997، والذين تباروا بعدئذ في مؤتمر كيوتو.
وأمّا التذكرة بحكاية نهاية التاريخ ، التي أشاعها فرانسيس فوكوياما سنة 1989، فإنّها تنبع ببساطة من حقيقة المآزق الكبرى التي تعيشها الدولة الرأسمالية المعاصرة، التي يُفترض أنها انتصرت نهائياً وأغلقت ملفّ التاريخ. دعوا جانباً ما يجري في العراق المحتلّ وفلسطين المحتلة، حيث لا يبدو البتة أنّ التاريخ يغفو أو حتى يأخذ ساعة قيلولة واحدة، ولنتأمل مصائر انتهاء التاريخ في ضوء هذه المأساة الفرنسية التي بين أيدينا.
وفي المقالة الشهيرة، التي استطالت بعدئذ إلي كتاب، قال فوكوياما ما معناه: التاريخ لعبة كراسٍ موسيقية بين الإيديولوجيات (عصر الأنوار، الرأسمالية، الليبرالية، الشيوعية، الإسلام، القِيَم الآسيوية، ما بعد الحداثة...)، وقد انتهى التاريخ وانتهت اللعبة لأنّ الموسيقى توقفت تماماً (انتهاء الحرب الباردة)، أو لأنّ الموسيقى الوحيدة التي تُعزف الآن هي تلك الخاصة بالرأسمالية والليبرالية واقتصاد السوق. وليس في استعارة لعبة الكراسي الموسيقية أيّ إجحاف بحقّ أطروحة فوكوياما، بل لعلها أفضل تلخيص للتمثيلات الكاريكاتورية التي وضعها الرجل لعلاقة البشر بالتواريخ، ولتأثير البنية الفوقية (الإيديولوجيا والنظام الفكري) على البنية التحتية (الإقتصاد والنظام الإجتماعي)، وعلى ولادة إنسان لا حاجة له بالتاريخ لأنه ببساطة خاتم البشر .
وفي الذكرى العاشرة لنشر مقالته الشهيرة تلك، وبعد أن تبيّن أنّ التاريخ يغلي ويستعر لهيباً، وأنّ البشر يموتون كلّ يوم بفعل القاذفات والصواريخ والمدافع أكثر من الكوارث الطبيعية، قدّم فوكوياما تنازلاً واحداً وحيداً يخصّ تتويج التاريخ في صيغة الدولة الليبرالية الحديثة. كانت هذه الأطروحة خاطئة تماماً ، قال فوكوياما. لماذا؟ "لأنّ التاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة لم تبلغ نهايتها بعد، ونحن على أعتاب اكتشافات علمية ذات جوهر كفيل بإلغاء الإنسانية في حدّ ذاتها"! وفي ختام مقالة اليوبيل العاشر هذه كتب فوكوياما: "إنّ السمة المفتوحة لعلوم الطبيعة المعاصرة تسمح لنا بالقول إنّ تكنولوجيا علوم الأحياء سوف تسمح لنا، وخلال جيلَين قادمَين، باستكمال ما فشل اختصاصيو الهندسة الإجتماعية في القيام به. وفي المرحلة تلك سوف تكون علاقتنا بالتاريخ الإنساني قد انتهت تماماً لأننا سوف نكون قد أبطلنا الوجود الإنساني في حدّ ذاته. عندها سوف يبدأ تاريخ جديد عابر للإنساني".
وأمّا في الصفحات الأولى من كتابه الثاني، "الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء"، فقد أعترف فوكوياما بأن الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية (التي اختتمت تاريخها) ومعضلات إنسانها الأخير (أو خاتم البشر، للتذكير الضروري) في تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ. وبطبيعة الحال سكت فوكوياما عن الأشباح القومية والإثنية التي استيقظت في وجدان ذلك الإنسان ومن حوله، وأشعلت الحرائق هنا وهناك، فانشغل الإقتصاد بلملمة الأشلاء والأموات بدل رعاية الأحياء. الفلسفة المنقلبة إلى ــ أو القادمة من ــ البيروقراطية يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، ولها أن تصمّ الآذان وتؤجّل القرارات وترجيء إرسال عربات المطافىء لوقف انتشار اللهيب على الأقل.
ووفصول هذا الكتاب الثاني كانت قد راهنت على إمكانية بلوغ الرخاء من باب التعاضد الاجتماعي ـ الثقافي وليس عبر اقتصاد السوق وفتح أصقاع الأرض أمام استثمارات الرساميل العملاقة. ذلك لأن الإقتصاد الذي لا ينهض على الثقة التلقائية وائتمان الآخر، هو اقتصاد بطيء النموّ محدود الرخاء، ولن يكون له مكان مرموق تحت شمس العالم ما بعد نهاية التاريخ. ومفهوم التعاضد الاجتماعي مركزي في هذا المعمار النظري، وفوكوياما يقسمه إلى ثلاثة سُبُل: العائلة والقرابة أوّلاً، والترابط الطوعي خارج مختلف أنماط القرابات (أواصر الدم والحزب والمنظمة والمعمل والمؤسسة) ثانياً، والدولة ثالثاً.
ثمة، في جانب آخر من المعادلة، رأس المال الاجتماعي الذي تملكه دول وتحسن توظيفه على أساس مبدأ الثقة بين المنتج والمستهلك وبين السوق والسلعة، أو لا تملك الكثير منه دول أخرى وتسيء توظيف ما تملك لصالح طغيان ولاءات أخرى أدنى مستوى (المؤسسة البيروقراطية، العائلة، الدولة)، أو تفتقر إليه تماماً دول ثالثة لا يشير إليها فوكوياما، وكأنه يعتبرها خارج المعادلة الكونية لهذا الاندماج السحري الناجح بين الأخلاق والسوق (وغنيّ عن القول إن اقتصادات العالم الثالث هي على رأس هذه اللائحة).
والرجل لا يمزح البتة حين يشرح مفهوم الثقة على مدى صفحات طويلة، بينها علي سبيل المثال قوله إن المفهوم "يشمل المطمح المنبثق في إطار جماعة بشرية تتصف بالسلوك المشرّف المنتظم المتعاون، المرتكز علي أعراف مشتركة تجمع أبناء الجماعة وتصنع تلاحمهم وتآزرهم، ويمكن أن تمتد على نطاق عريض يبدأ من قِيَم العدل الإلهي ويمرّ بالقيم العلمانية وشرائع السلوك". أو قوله، بشيء من التبسيط البعيد عن الفلسفة، إن الثقة بين السلعة والسوق هي أشبه بالثقة التي نمنحها للطبيب حين نسلمه أجسادنا دون ارتياب، وليس لدينا من ضامن سوى معرفتنا أنه أدّى قَسَم أبقراط.
أليست هذه هي الثقة التي جعلت آلاف الفرنسيين، الذين قضوا قبل أيّام جرّاء الحرّ وإهمال الدولة، يدلون بأصواتهم لتحالف الأحزاب الملتفة حول جاك شيراك، ويصنعون بالتالي الدولة ذلتها التي ستهمل واجباتها تجاه أبسط حقوقهم وأقدسها (حقّ الحياة)؟ أليس بسبب تلك الثقة أنّ هذه الدولة تبدو اليوم فوق كلّ حساب، لأنها ببساطة تملك الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية؟ أهكذا تتجلى مفاهيم "التعاضد الإجتماعي" و"ائتمان الآخر" وشبكات "الولاء" للدولة الراعية الذي بشّر فوكوياما بانتصاره الأكيد؟ وهل حقيقة وجود نسبة ساحقة من المسنّين في عداد الوفيات الفرنسية هو "استكمال ما فشل اختصاصيو الهندسة الإجتماعية في القيام به"؟