شريف مليكة
الحوار المتمدن-العدد: 1889 - 2007 / 4 / 18 - 12:09
المحور:
الادب والفن
رواية
شريف مليكة
الفصل الأول
الجزيـــرة
لو ينكشف لى كل اللى عن العيون مستور
لو كل رمز وكل معنى فوق السطور مسطور
ماكنـتــش أنكش أو أفتش بين الدروب ع الحقيقة
ماهى كل دبة قدم سابت أتـــر فوق الطريق محفور
عثرت مصادفة على تلك الكتابات السرية أثناء مداعباتى للإنترنت مؤخرًا, ووجدتنى مضطربًا, أولا ً لخطورة المستندات ـ إن أردنا أن نسمِّيها مستندات ـ ومدفوعًا ثانيةً لنشرها كاملة بين أيديكم لتحكموا أنتم عمَّا إنكانت حقـًا تستحق كل هذا الإهتمام من ناحيتى.. ولا أخفى عنكم سرًا لو قلت أننى ترددت لأسابيع طوال ـ أو حتى بضعة أشهرـ حتى قررت أخيرًا أن أضع هذه المعلومات فوق الورق, بل وأنشرها على الملأ ليقرأها من يقرأها, وأنا أعلم بعاقـِبة مثل تلك الأمور فى أيامنا هذه.. وبسبب هذا التردد القاتل, لم أشرك أحدًا فى إتخاذ هذا القرار, حتى أقرب الناس إلىَّ.. وقد يستغرب البعض مثل هذا التصرف من قِبلى, أي التضارب بين التكتم التام لأسابيع أو شهور, ثم الإفصاح الكلـِّى بالحقيقة كاملة على الملأ.. وأنا معكم فى ذلك التعجب, أو حتى التهكم إذا إختار أحدكم أن يسخر من تصرفى هذا, ولكن دعونى أولا ً أفسر هذا القرار.
قبل أن أبدأ, سأوضح لكم بعض النقاط التى قد تساعدكم على تفهم موقفى هذا.. أولا ًكيف عثرت على تلك المكاتبات؟.. كنت ذات يوم وحيدًا بالمنزل, حيث ذهبت زوجتى ـ ومعها أبناءنا ـ لزيارة أهلها لبضعة أيام, ومكثت فى بيتى وحيدًا أزاول عزوبيتى الغائبة لزمن طويل, حين جلست أمام شاشة الكومبيوتر أقرأ ـ كعادتى ـ الأخبار حول العالم. وجدت خبرًا صغيرًا فى إحدى الصحف الأمريكية الشهيرة ـ ولن أذيع إسمها على الأقل فى الوقت الحالى ـ يدَّعى كاتبه بأنه قد عثر على بعض المكاتبات بين أفراد يبدون وكأنهم من مركز المخابرات الأمريكية, حول أناس من أصل شرق أوسطى, وكيف أن هذا الكاتب وجد أن تلك المعلومات, وإن خلت تقريبًا من الأهمية الإستراتيجية, وإنما كان يجب ـ فى رأيه ـ أن تحاط بدرجة ما من السرية, لا تتيح لصحفى مثله أن يعثر عليها فوق صفحات الإنترنت, بل وينشرها... الخ.
ووجدتنى ـ مدفوعـًا بفضولى المعهود ـ أقتفى أثر ذلك الخبر الصغير, وأتعقب خطى ذلك الكاتب حتى عثرت على تلك الكتابات عينها على صفحات الإنترنت, بل وتتبعتها الى مصادرها الأولى فوجدت العجب! وفى نهاية الليلة كنت قد جمعت عشرات من الرسائل بين شخصين أو جهتين من خلال موقع إلكترونى, محاط بالسرية المفترضة, وإن كان كما ذكر الصحفى كاتب المقال مباح لأى فضولى مثلى.. جمعتها فى ملف حول ذلك الموضوع, وإحتفظت بها داخل ذاكرة الكومبيوتر تحت عنوان "الجزيرة"..
أغلقت جهاز الكومبيوتر وجلست أمام الشاشة السوداء لساعات أحملق فى سوادها وأتساءل عن أهمية تلك المعلومات, وقد إرتجفت أطرافى جزعـًا من عاقبة حصولى عليها.. مكثتُ فترة صامتـًا لا ألوى على شئ. ومضت بى الأيام بوتيرتها الطبيعية بين العمل والقراءة والأصدقاء, وعادت أسرتى من سفرها, وعاد الضجيج الى البيت من جديد مخففـًا حدة الوحدة وثقل كتمان الخبر عن الجميع.. كنت حينئذ مقتنعـًا تمامـًأ بأن إشراك أى شخص بمكنون سرِّى الخطير قد يؤدى الى إفشاءه من جانب, أو يؤدى بذاك الشخص الى نفس المعاناة التى أمر بها, من جانب آخر, فآثرت الصمت..
أيام وأيام تمر رتيبة ومازلت فى صمتى أعمل وأخرج وأدخل, ثم أنفرد فى آخر كل ليلة بتلك الرسائل أقرؤها مرات ومرات, وأفكر فيها, وعنها, وأكاد أجن لعدم مقدرتى فى مشاركة أحد بمكنون سرِّى الخطير.. وذات أمسية وكنت جالسًا أمام مكتبى, تعبث أناملى بحافة كوب الشاى الخالى إلا من بقايا الزهور البنية الذابلة القابعة فى قاعه, افكر فى تلك المسألة, عندما لاح لى الحل "الثالث".. لا لن أبقـِى السر لى حتى أطق غيظـًا, ولن أبح به لأحد فيشاركنى كمدى بلا طائل, بل سأعلنه, ليس لفرد أو إثنين بل للجميع, عملا ًبالمثل القائل "يا خبر بفلوس بكره يبقى ببلاش" , وحيث أننى لم أحصل على "الخبر" بطريق غير مشروع, وبما أن الجميع سوف يعلمون به بعد نشره على الملأ, فإن أى محاولة للضغط علىَّ, أو على عدد محدود من أصدقائى يعرفون بالخبر, من قـِبـَل أجهزة أمنية مثلا, سيكون بلا طائل لو نـُشرت القصة فوق هذه الصفحات وقرأها الجميع, إذ أن السر لن يعود سرًا حينذاك.. بل وسيحمينى إعلانه على الملأ أنا شخصيـَّا, حيث أن مصدر الضرر سيكون جليٌ لو وقع بى مكروهٌ بعد نشر هذه الكلمات.. مددت يدى ليلتها, وأطفأت المصباح أمامى, وتسللت الى فراشى مطمئنـًا الى هذا الإستنتاج ورحت فى سبات عميق..
ماذا عرفتُ ياسادة؟ حكاية كالخيال!! وما كنت أصدقها شخصيـًا لو لم أكن قد رأيت هذه الرسائل بأم عينىَّ.. والمكاتبات تأخذنا الى سبعينيات القرن العشرين حين بدأت الخطة تحاك وبالتدريج تنفذ على مستوى واسع .. فى أوائل المكاتبات فكرة لنشر إستمارات "القرعة" بين أفراد شعوب العالم الثالث وذلك بغرض الهجرة للولايات المتحدة.. وخلال السنين التالية, ومع تنامى التيار الدينى العنيف بين الشعوب العربية, نشأت الفكرة الجهنمية لإستقطاب أشخاص منتقين من بين سكان تلك الشعوب, يقدر عددهم بالعشرات أولا, ثم بالمئات والألوف على مدار سنين قليلة, عن طريق قرعة مزوَّرة معلومة النتائج, يهاجر من خلالها هؤلاء المنتـَقين الى جزيرة فى المحيط الأطلسى مملوكة للمخابرات الأمريكية جنوب غرب جزر "برمودا" , ولكن كينونة تلك الجزيرة غير معلن, ولا وجود لها فوق خرائط المساحات والمناطق البحرية المعروفة, ولا يعرف بوجودها أحد.. بمعنى آخر فإن تلك الأرض فى الواقع مكان لا وجود له على الإطلاق إلا عند القلة القليلة التى تملك بزمام تلك المعلومات البالغة السرية.. أما الأغرب فعلا ً فهو إعداد تلك الجزيرة للحياة كأى مدينة أمريكية متوسطة الحجم, بل وتجنيد ما يزيد عن إثنين مليون أمريكى تدريجيًا من مختلف الأعمار للحياة بها فى كافة المجالات الحياتية المعروفة, وذلك لإستقطاب هؤلاء العرب ليعيشوا بينهم كمهاجرين, يفترضون الهجرة للولايات المتحدة, ليراقبوا تصرفات هؤلاء العرب وعوائدهم عن قرب على مدار السنين, فى محاولة لفهم سلوك تلك العينة من البشر فى تلك البيئة المحكومة, وإستنباط قواعد للتعامل مع بقية الشعوب بحسب توجيهات خبراء علم الإجتماع (السوسيولوجى) ودراسة تاريخ الشعوب (الأنثروبولوجى)..
وفعلا ً هاجر الآلاف الى تلك الجزيرة الوهمية, بحسب ما جاء فى تقرير بتاريخ 13 مايو 1999:
"...وصل الى الجزيرة حتى الآن 100342 (مائة ألف وثلاثمائة وإثنين وأربعين) مواطن من مختلف البلدان العربية موزعون حسب التعداد النوعى والعرقى والدينى لسكان الدول العربية..."
وجاءت بعض الملاحظات عنهم مشوبة بالطرافة حينـًا وبالإستنكار أحيانـًا.. وكانت أصعب مشكلة تواجه الإدارة بصددهم هى إجبارهم على البقاء المستمر فى الجزيرة, منعزلين نهائيًا عن العالم الخارجى, لأعوام وأعوام لأن خروجهم منها كان سيهدد كتمان أمر هجرتهم المزعوم.. فجاء فى خطاب بتاريخ 12 ديسمبر 1998:
".. ماذا لو أراد بعض اللبنانيون الموارنة العودة لقضاء الكريسماس فى لبنان مع الأهل؟ لابد أن نمنع هذا بشدة لأنه قد يفشى بسر المشروع الى الأبد... أعلنـَّا لهم أن إجراءات الهجرة تستلزم بقاؤهم حتى إستيفاء جميع الأوراق, مهما طالت المدة الزمنية, وإلا فسيستلزم الأمر عند عودتكم بقاؤكم فى أوطانكم الأصلية لحين إعادة تقديم طلبات الهجرة من جديد... وقد أفلحت هذه الحجة فى إستبعاد فكرة السفر لدى الجميع بحسب التقارير الميدانية التى وصلتنى بالأمس..."
ولك أن تتخيل عزيزى القارئ مدى إنعزال هؤلاء المهاجرين عن أوطانهم الأصلية من خلال كلمات هذا الخطاب بتاريخ 16 نوفمبر 1981:
"... ولم يعلم أى من المصريين بواقعة إغتيال الرئيس السادات فى القاهرة, إلا بعدها بأسابيع وعن طريق محطات الإرسال العربية الداخلية المبرمجة.." أى أنهم كانوا يذيعونهم أخبار منتقاة ومختارة بعناية بحسب رؤية الجهاز المسيطر على العملية!!
ولكن دعونا من كل هذا الآن, و تأملوا معى كيف عاش هؤلاء العرب المهاجرين اللذين وصل تعدادهم فى تقرير لاحق (23 مارس 2004) الى 176215 (مائة وست وسبعين ألف ومائتين وخمسة عشر).. تقول الخطابات السابقة لذلك التاريخ بأن الجهات المتابعة لسلوكهم الجماعى قد فوجئت بتمركز هؤلاء المهاجرين فى أحياء متفرقة فوق الجزيرة ليصنعوا لأنفسهم أحياء أو مناطق سكنية شبه منعزلة, وبخاصة المهاجرون المصريون والشوام والخليجيون, كل فى محيطه الخاص ودائرته المقفولة بالرغم من محاولة السلطات لتجميعهم فى أحياء أو ضواحى مشتركة لتسهيل مراقبتهم.. وفى تقرير بتاريخ 21 أغسطس 2000:
"وكان أول عمل جماعى لهؤلاء العرب بعد سنوات من بدء التجربة هو بناءهم لجامع إسلامى سنـِّى منذ حوالى سنة, ثم بعدها بعدة شهور, وبتقارب زمنى غريب, قامت كنيسة أرثوذوكسية مصرية, ثم كنيسة ونادى إجتماعى للجالية الشامية يرتاده الموارنة والسيريان الأرثوذوكس. وقد لاحظنا إرتباط السريان الشوام ـ الأرثوذوكس ـ بالكاثوليك اللبنانيين وليس بالأرثوذوكس المصريين, كما لاحظنا عزلة الشيعة المسلمين بوجه عام عن ممارسة عبادتهم فى الجامع السنى وعزوفهم حتى الآن عن إقامة جامعًا خاص بهم, كما شاع نوع من الحذر فى المعاملات بين السنة والشيعة وبين المسيحيين والمسلمين وإن لم يؤد ذلك الى أية مواجهات عنيفة على مدار الوقت..."
وبعد بضع سنوات, وتحديدًا فى 25 أكتوبر2003 ذُكـِر فى خطاب:
"... زاد الإتجاه الدينى بشكل ملحوظ , وخصوصًا بعد تعيين الشيخ (أحمد محمد غنيم) بمجلس إدارة الجامع, ثم قيامه بالوعظ والإرشاد به أسبوعيًا, وهو شاب مصرى حاصل على مؤهل متوسط , جىء به فى ديسمبر 1999, لمراقبة تأثيره على العرب بالجزيرة.. وقد لوحظ بعد تنامى التدين, إزدياد عزلة بعض الممارسين المواظبين على زيارة الجامع, بشكل مبالغ وتخلفهم عن حضور الإحتفالات المدنية بالجزيرة, بل والمشاركة فى النشاطات الإجتماعية المختلفة تدريجيًا, وخصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر وبعد حرب أفغانستان.."
خطابات.. وخطابات.. عن أحوال وشئون جماعة من البشر, ليست بالقليلة, تعيش فوق جزيرة مجهولة, حياة كريمة ومجزية من ناحية, ولكنهم فى الحقيقة يعيشون أكذوبة كبيرة, تحت المجهر وكأنهم فئران للتجارب. لم أكن أعلم كم ستمتد تلك الخدعة وإن كنت قد شككت فى إمكانية إستمرارها لمدة طويلة وذلك بسبب خطاب قرأته بتاريخ 26 سبتمبر 2003 يقول:
"... ومن غير المعقول, بل و سيصعب تصديق أنه قد حصل فعلا, هوما حدث الأسبوع الماضى. أنت تذكر طبعًا يا "ستيف" العاصفة التى مرت بنا وكانت سببًا فى خلع عامود الرادار, والذى إستغرق إصلاحه بضعة أيام.. فوجئنا فى اليوم التالى بسفينة بضائع يونانية متوسطة الحجم دفعت بها الأمواج الثائرة تجاه شاطئنا, وتحطم جزء من مقدمتها إثر إرتطامها بالصخور عند الجانب الشمالى للميناء. وبالطبع إنتشلها عمالنا بقواربهم البخارية وجذبوها للمرفأ حيث إضطلعوا بإصلاحها. وقد إستغرق ذلك أربعة أسابيع, تصادق خلالها البحارة اليونانيين مع بعض عمال الميناء, وكانوا يقضون أمسياتهم يشربون ويرقصون معًا فى الحانات القريبة. وفى يوم رحيل السفينة إكشفنا غياب ثلاثة عمال, مصرى ومغربى وفلسطينى, والأرجح أنهم تسللوا الى السفينة وغابوا فى كوَّتها عن عيون بقية العمال حتى أبحرت. والعجيب أنهم, بإستثناء المغربى, قد تركوا ورائهم زوجاتهم وأطفالهم, ولا نعرف لليوم مصيرهم..."
ولابد أن ذلك الهروب كان كفيلا ً بزلزلة "مشروع الجزيرة" الى الأبد.. خروجهم للدنيا كان بالقطع سبيلهم لتفهم حقيقة هجرتهم المزعومة, وواقع عزلتهم عن العالم فوق سطح تلك "الجزيرة" المحاطة بالمياه والصخور من كل إتجاه.. "الجزيرة" التى أمضوا فوق أرضها زهرة عمرهم, فصارت لهم الأمس القريب بذكريات الكفاح الأولى, والحاضر المُعاش بكل تفاصيله فى وطنهم الجديد, والغد الواعد وإن كان ما يزال فى علم الغيب.. ولكن لابد أن ينهار هذا الحلم فوق صخرة الواقع.. معرفة سر "الجزيرة" لابد وأن يكون له وقع الزلزال على حياتهم الجديدة.. لابد ليد الحقيقة القابض أن ينتزع غرس الوهم الذى ظنوه حياتهم, منذ جاءوا ذات يوم مهاجرين الى "الجزيرة", وحتى اليوم الذى أبحر فيه بعضهم الى عالم الحقيقة, على متن تلك السفينة..
ولكن العجب العجاب, أيها القارئ العزيز, هو ما جاء فى خطاب لاحق بتاريخ 13 يناير 2004:
".. وبعد بضعة أسابيع فوجئنا بالسفينة اليونانية عينها ترسوا بالمرفأ ويرتجل من فوق سطحها العمال الثلاثة, وبهدوء عاودوا أعمالهم فى الميناء وكأنهم لم يغيبوا عنها.. وفى راحة منتصف اليوم تجمع حولهم العمال يرحبون بعودتهم, وكان بينهم عدد لا بأس به من العمال العرب, وهنا بدأوا يقصون عليهم تفاصيل مغامرتهم بكل نشوة وتلذذ.. والغريب هو ما جاءنا فى تقارير من عدد من العمال المراقبين لهم, فقد أدركوا بالفعل واقع "الجزيرة" وحقيقته, ولكنهم إختاروا العودة والبقاء, بالرغم من كل ذلك.. بل ولقد علمنا بما لا يدع مجالا ً للشك, أن الخبر قد إنتشر بين معظم الجاليات العربية فى "الجزيرة" , وإن إرتسم رد فعلهم ـ بلا إستثناء ـ بالسلبية المثيرة للفضول..."
وما يزال الحال على ما هو عليه الى يومنا هذا ـ على ما أعتقد ـ ولكنى أجزم أن هذا هو كل ما أعرفه, عزيزى القارئ , عن هذا الموضوع..
الإمضاء الكاتب
كتبت تلك الكلمات, وإحتفظت بها فى ملف بذاكرة الكومبيوتر, وطبعت نسخة منه وجلست فى هدوء الليل أعيد قراءته, وأنا أتعجب لغرابة الموضوع, ولقرارى بأن أذيعه على الملأ.. لم أكن أعلم ليلتها ما كانت تخبئه لى الأيام فيما بعد بشأن "الجزيرة" ولكن إنتابتنى موجة من الهدوء إرتحت لها, إذ شعرت معها أنى إتخذت القرار السليم.. وطويت تلك الصفحات بعناية ووضعتها فى مظروف بللت طرفه وأغلقته ووضعته فى درجى الخاص, وأغلقت الكومبيوتر ثانية, ومصباح المكتب ودفعت بالمقعد للخلف, معتمدًا على راحتىّ, وقمت متجها فى صمت الى مخدعى .. علت وجهى إبتسامة صغيرة وأنا أزحف تحت الغطاء بهدوء حتى لا أوقظ زوجتى التى كانت تغط ساعتها فى نوم عميق.. أغمضت عيناى وأنا أتفكر أين سأنشر هذه الكلمات.. لابد أن أنشرها فى الحقيقة فى عدة جرائد لضمان وصولها لأكبر عدد من القراء.. ولكن ماذا لو رفضوا نشرها لغرابة الموضوع, أو للمسؤولية التى تتابعهم إذا نشروا تلك المعلومات, وإن كان لها بُعد أمنى مثلا؟ وماذا لو لم يقرأها أحد حتى بعد أن تنشر ظنـًا بأنها نوع من المزاح أو الدعاية السلبية بحق الولايات المتحدة, أو حتى بحق العرب تبعـًا لأى جانب يقف القارئ من تلك الكلمات؟..
لا أخفى سرًا لو قلت أنى لم أنم نومًا هانئـًا فى تلك الليلة.. تدافعت بى الأفكار من كل جانب وكأننى قاربًا صغيرًا يشق مياه بحر ثائر الأمواج تتلاطمه.. ولكننى على أى حال أفقت قلـِقـًا عند الشروق, ووجدتنى متجهًا إلى مكتبى نحو الكومبيوتر, وضغطت زرار التشغيل, ثم ذهبت الى المطبخ لأعد كوبًا من الشاى.. كانت حركاتى روتينية, لا إبتكار فيها, فأحسست معها بأننى كالمسحور المسلوب الإرادة.. لم تكن زوجتى أو أولادى قد إستيقظوا بعد, وما إهتممت بإخراج الكلاب الى الحديقة الخلفية لقضاء حاجتهم, كما هى عادة من يستيقظ أولا ًفى بيتنا.. شعرت بأننى فى مهمة رسمية أسعى لإتمامها بكل دقة وإلا فسيكون الفشل حليفى وأعود أكتوى قلقــًا من جديد بما سأفعل بتلك المعلومات.. لذا فقد جلست أمام الكومبيوتر أدق بأصابعى فوق مفاتيحه تباعا وكأنى أفتش بحثـًا عن ذلك الرقم السرى الذى سوف يتيح لى فتح ذلك الباب المسحور, المؤدى إلى حديقة وارفة, يجتمع فى جنباتها أصحاب الحقيقة, والعارفين ببواطن الأمور.. فأدلف به, وألقى بتلك الرسالة فى يد أول من يقابلنى, ثم أعود سريعًا, وقبل أن ينغلق الباب ثانية, الى طمأنينة حياتى العادية مرة أخرى.. وها أنذا أرشف من كوب الشاى, وأدقدق, وأرشف, حتى أفرغت الكوب, وبعثت بمقالتى الى ثلاثة أو أربعة جرائد.. ثم تنفست الصعداء لمَّا أدركت المراد, وإستدرت نحو باب الغرفة الموارب لألمح إبنى وقد إستيقظ ومر بالبيجاما متجهًا نحو المطبخ يحك بيد ناعسة الجزء الأعلى من ظهره وهو بعد يتثاءب, فتمطأت أنا أيضًا, ثُم إنتفضت واقفـًا لأستعد لإجتياز يوم جديد..
#شريف_مليكة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟