أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى السماوي - مذكرات الجندي المرقم 195635















المزيد.....


مذكرات الجندي المرقم 195635


يحيى السماوي

الحوار المتمدن-العدد: 1886 - 2007 / 4 / 15 - 11:13
المحور: الادب والفن
    



لم أكن أقصد إعلان العصيان على أبي ، حين قررت اختيار اسم جديد لي ، غير الاسم الذي اختاره لي يوم طردتني أمي من رحمها ، لتستقبلني الأرض المفروشة بحصيرة من سعف نخلة بيتنا الطيني ، ومن ثم لأطلق أول صرخة بكاء .. فقد كان اسمي القديم جميلا حسب رأي معلم اللغة العربية ، لكونه ممنوعا من الصرف ، يدل ّ على عناد ٍ ـ وأنا صدقت رأيه متخذا منه ذريعة لعنادي الذي لم يكن يقل ّ عن عناد بغلٍ حَرون كتلك البغال التي كنا نستعين بها لنقل الماء من الوادي الى الربيئة في جبال كردستان .. بغال لها أرقام وهويات تماما مثلنا نحن جنود سرية الإنشاءات المستقلة السابعة ، والتي أمضيت فيها شهورا عديدة كبغل ٍ بشريّ ٍ أكمل دراسته الجامعية ـ قبل انتدابي منها للعمل مدرسا في اعدادية السماوة براتب جندي مكلف ، وهو عمل سأفقده نتيجة تقرير
سريّ أعده أحد العاملين في" بورصة الحزب القائد " لينال ترقية حزبية .

كنت سعيدا باسمي القديم الممنوع من الصرف .. أمّا وقد صرفتني الحكومة من الوظيفة ، وأصبح جسدي يُرفع ويُجرّ وينُصب حسب موقعه من معاونية أمن المدينة ، ومديرية استخبارات الحدود ، والإستخبارات العسكرية ، فقد ارتأيت تغيير اسمي القديم ، بآخرَ يقبل الحركات الإعرابية من رفع وضمّ ونصب وجرّ ، ليتحقق الإنسجام بين الوعاء والمادة .. أقصد بين جسدي واسمي ..
اطلقت على نفسي اسم " مظلوم " وجهزت لي هوية مزورة .. حدث ذلك ، حين فرض عليّ استبدال بندقية كلاشينكوف صديئة وساحة تدريب ، بالطباشير والسبورة والصف المدرسي ... وبدلا مما كنت أقوم به من تقديم دروس نموذجية لمدرسات ومدرسي اللغة العربية حول طرق تدريس الادب والنحو ، صرت تلميذا لنائب العريف " حلبوص " وهو يعلمنا كل صباح كيفية تنظيف البندقية وتأدية التحية لضباط يستحقون الصفع على اليافوخ.

أعطوني بدلة خاكية تتسع لشخصين سمينين ، وزوجين من جوارب سوداء كعباءة أمي ، أقل ّ خشونة من جلد قنفذ صغير .. ومن حسن حظي ـ وهو سيئ في الغالب ـ أنهم أعطوا زميلي وابن مدينتي " لطيف أبو الكبة " وكان ضخما مثل دبابة قديمة، بدلة لا تسع فخذا واحدا من فخذيه الممتلئين مثل جذع نخلة برحيّ هرمة ..كان لطيف غاية ً في الطيبة والنبل كأي قرويّ لم يحضر اجتماعا حزبيا ولم يكن يحلم بأكثر من دكان صغيريصنع منه مطعما للكبة ... ضحك كثيرا حتى دمعت عيناه حين رآني ضائعا داخل بداتي العسكرية التي بدت وكأنها خيمة ، قبل أن أضحك بشكل أرعن وأنا أراه وقد فشل في إدخال فخذه البدين في بنطلون الخكي الخشن..

وكما يتبادل أطفال القرى خيولهم الخشبية في لعبة " اللص والناطور " تبادلنا بدلتينا العسكريتين ، وأقسمنا على أن نبقى عنقودين يتدليان من غصن واحد ـ على الأقل خلال فترة وجودنا معا في معسكر التدريب .
قد يعتقد أحد ما ، انّ البدلة الخاكية ، كانت حجر الأساس لعلاقتي الحميمة بلطيف أبو الكبة .. ومثل هذا الإعتقاد ليس صحيحا البتة .. فالذي ربطني بلطيف أبو الكبة ، هو المصير المشترك .. لا أقصد المصير الذي يطنب في الحديث عنه رئيس الحكومة والحزب في خطاباته المبتذلة .. ولا أقصد المصير الذي تشيد به أغاني " فرقة الغالي "
وافتتاحيات جريدة الثورة البغدادية التي كان أخي الصغير يأتي بها من مقهى الحارة لتمسح بها أمي زجاج نافذة حجرتها ... المصير الذي أعنيه ، هو، مصير " القصعة الواحدة " و " الصمونة الواحدة " و" التزوير المشترك لأوراق الإجازات الشهرية " ، لأن لطيف أبو الكبة لم يكن رصيفي في الفصيل العسكري فحسب ، إنما ولأن لنا هموما مشتركة باعتبارنا حطبا ً لموقد واحد ..
وكما تتلازم الضفتان حول نهر واحد ، لازمني لطيف ، ولازمته طيلة خمسة وأربعين يوما ، هي مدة الدورة التدريبية في مدرسة مشاة الفرقة الاولى ، على مشارف مدينة الديوانية ...
وكما أنه أتخمني بالكبة والخبز الحار ، فانني أتخمته بالإجازات المزورة ـ بل وأبديت له كرما كبيرا عندما علمته كيفية صنع ختم ٍ مشابه لختم وحدتنا العسكرية بواسطة رأس " بطاطا " مناسب بعد تقشيره وقطعه دائريا بآلة "آيس كريم " لم تكن تفارق حقيبتي .
أكثر من ذلك ، أرشدته الى الفتحة المموهة التي أحدثتها في جدار الأسلاك الشائكة
القريب من بساتين النخل .

قلت إن لطيف كان ضخما مثل دبابة أو عربة " الزيل الروسية " .. وكنت نحيفا مثل عربة باعة الشلغم والبيض المسلوق .. . هو أسمر مثل رأس باذنجان منتفخ لم ينضج بعد ، وأنا أبيض مثل رأس " كوسة " قد نضج توّا ...
وبقدر ما كان يضحكني بنكاته وحركات يديه و" عفاطه " ـ كإشارة منه الى موعد التعداد الصباحي ، فقد كان يزعجني ليلا إزعاجا مبالغا به ، ودون قصد منه ... فقد كنا نفترش بطانية واحدة ، ونلتحف باثنتين ، أما الرابعة ، فقد اتخذناها وسادة مشتركة ...
وسبب انزعاجي منه ، هو أنه سرعان ما يستسلم للنوم ، بمجرد ملامسة رأسه تلك الوسادة الخشنة التي تنبعث منها رائحة تشبه رائحة التراب المخلوط بروث البقر ... أما أنا فقد كنت أشكو من أرق مزمن ، لازمني منذ أول قافلة صفعات و" جلاليق " أناخها ملاكمو أمن البلدة في واحات جسدي عام 1971 وها نحن الان في عام 1980 .. وأكثر ما يزعجني بلطيف ، ان أنفه يصدر ـ حين يغفو ـ أصواتا ً غليظة تشبه أصوات " بلدوزر"يحفر أرضا حجرية ... وبسبب شخيره ، كنت أضطر للنوم خلال الإستراحة اثناء التدريب الصباحي .. وهي فترات ـ على رغم قصرها ـ كانت كافية لاصطياد عصفور نعاس ، أحتفظ به تحت أجفاني مدة قد تصل الساعة أو الساعتين ، فأتخلف عن بقية الجنود المتدربين ، لأفاجأ بعد الظهيرة ، بالعريف " حلبوص " و قد أضاف اسمي إلى قائمة الغائبين ، فأنال عقوبتي ، ساعتين من الحراسة الليلية ... ويبدو انني استعذبت مثل هذه العقوبة ، فواصلت التخلف عن حضور فترات التدريب المسائي ، لأتمتع بأربع ساعات من الحراسة الليلية ، بعيدا عن شخير لطيف ، مستثمرا هدوء الليل لكتابة مقاطع شعرية ، أو الجلوس الى نافذة التأمل متابعا نوارس أمنياتي وهي تحلق في آفاق بعيدة ...

في الحقيقة ، انني كنت أغفو أحيانا خلال فترات الحراسة تلك ... كنت أغفو واقفا مثل نخلة ، أو جالسا مثل دبٍّ جبليّ... لكنني كنت سريع الإستيقاظ .. حتى انني في أحدى المرات ، صحوت على صوت خفيض ، ظننته صوت حركة أقدام ضابط الخفارة الليلية ، فشهرت بندقيتي " وكانت فارغة طبعا " وصحت بقوة : قف ْ مكانك لا تتحرك ... أعطني " سرّ الليل " ... ثم سرعان ما ضحكت عندما اكتشفت أن الصوت كان وليد حركة حمار سائب ، وليس السيد ضابط الخفر ... " في الجبهة ، فيما بعد ، سأكتشف أن الكثير من الجنود كانوا يتمنون أن يتحولوا الى حمير سائبة لأيام قليلة كي يتحملوا عذاب حروب يخوضونها مرغمين وهم ينتظرون موتهم المؤجل .. أو يترقبون الإجازة الشهرية التي لن يلتحقوا بعدها بوحداتهم وخنادقهم ومتاريسهم ـ وأنا أحدهم ... فقد تمنيت يوما أن تكون لي سيقان غزال بريّ كي استطيع اللحاق بالسيد آمر السرية الثالثة الذي هرب بعجلة " الواز " ... حدث ذلك في شهر تموز من عام 1983 في معركة " الشلامجة " .. ففي ليل شديد الحرارة والرطوبة ، انهالت علينا القنابل الايرانية .. وكالعادة ، هرع كل منا الى جحره ـ عفوا أقصد ملجئه ـ والذي لم يكن غير حفرة صغيرة تشبه قبرا مفتوحا مهيّأ لاستقبال ضيفه الأبدي .. حفرة مسقوفة بالصفيح المغطى بأكياس الرمل او التراب ، وليس كملاجئ السادة آمر اللواء ومساعديه وآمري الكتائب ، المسقوفة بالخرسانة المسلحة والعوارض الخشبية الضخمة ، المضاءة والمكيفة أحيانا .. " بعد طول مراس وتجربة ، سنكتشف أن القصف لم يكن في أغلب الأحيان هجوما أو تمهيدا ً لهجوم ، إنما كان مجرد فعالية عسكرية يؤديها الطرفان كل ليل ، لإثبات أن الحرب ما تزال قائمة !!؟؟ لهذا كنت في بعض الأحيان لا أهرع الى الملجأ ـ لا شجاعة مني ، إنما ، ليقيني أن ملجئي كجندي ، لا يستطيع حمايتي لو سقطت عليه" بلوكة كونكريتية بحجم رأس رئيس العرفاء " سيد فاضل " الذي شتمني ببذاءة لا تخلو من طيبة وود ... ففي احدى فعاليات القصف الروتينية تلك ، هرع الجميع الى جحورهم ،
اما أنا ، فبقيت واقفا كي أكمل سيجارتي التي أشعلتها توا ـ وكانت سيكارة نوع سومر ابو سن الطويل ـ عزّ عليّ رميها ... فاذا برئيس العرفاء الطيب سيد فاضل يصيح بي وبغضب : " يا حمار .. يا مطي .. شنو إنته أطرش ؟ ما تسمع القصف ؟ ادخل الملجأ من ضاع وجهك زمال "
فأجبته : مولانا لا تخاف ... هذا مو قصف قنابل سيدنه ... هذا ضراط القائد المنصور
" طبعا قلت هذه الجمل بصوت خفيض جدا لدرجة انني نفسي لم أسمع صوتي .. !!


ليلة القصف تلك كانت من أطول الليالي التي عشتها ... لكنها ليست أطول من الليلة التي أمضيتها في سجن انضباط معسكر " قوات محمد القاسم " ...
كنا قد انهينا فترة " التسمين " في مدرسة التدريب .. الفترة التي تقضيها الخِراف في الزرائب والمراعي قبل إرسالها للمسالخ .. عفوا ، أقصد ، بعد إكمالنا المنهج القرر ، في كيفية تنظيف البندقية والزحف على البطن ، والقفز كالقردة من فوق الموانع والحواجز الخشبية ، وكيفية صبغ البصطال ليغدو لامعا لمعان " أنواط الشجاعة " وطريقة تأدية التحية العسكرية للضباط ـ الضباط الذين كان أغلبهم يستحق الصفع على اليافوخ ـ وبعد أن حفظنا عن ظهر قلب مصطلحات مثل : الى الأمام سِرْ .. الى الوراء دُر ْ.. يمينا أنظر .. سلام خذ ْ ، وغيرها من جمل ومصطلحات لن تخرج من شفاهنا في المسالخ ، عفوا ، في جبهات القتال العبثي ومطاحن " قادسية طحيور " .. بعد اكمالنا تلك الفترة ، اعطونا إجازة لمدة ثلاثة أيام ، نزور خلالها عوائلنا وأهالينا ، ونزف لهم البشرى باننا سننال شرف المشاركة في قادسية طحيور .. حتى إذا انهينا الايام الثلاثة ، وجدنا أنفسنا ـ وقد امتلأت بنا ساحة العرضات ، موزعين الى مجموعات ، تحيط بنا أسيجة من جنود الإنضباط العسكري ، ومن ُثم ، لنحشر في سيارات النقل المعدة مسبقا ، دون أن يعرف أيٌّ منا الجهة المُقاد اليها ... فليس من حق الخراف اختيار المسلخ ، ولا حتى معرفة مكانه ... كل الذي عرفته ، ان رفيقي ورصيفي لطيف أبو الكبة ، لن يبعث به الى الجبهات ، والفضل في ذلك لا يعود الى دعاء أمه ، إنما لجبل اللحوم والشحوم التي يتكون منها جسده .. تعانقنا بود ّ ، ودسست في جيبه دستة كاملة من إجازات مزورة جاهزة للإستعمال ، وأخبرته عن المكان الذي أخفيت فيه قاطعة الأسلاك الشائكة ، فقد
يحتاجها في حال اكتشاف الفتحة المموهة التي كنت ولطيف ونفر منتخب من الجنود " غير الأشاوس " نتسلل منها كلما دعتنا الحاجة ..وغالبا ما كانت تدعونا كل مساء ، لنتسرب عبرها الى نادي الموظفين ومطاعم الكباب والباجة ، أو السفر الى السماوة لنعود الى المعسكر فجرا ورائحة " الزحلاوي والمستكي " تفوح من أحشائنا على رغم ما نقضمه من الهيل والنعناع و البصل و الفجل .

يقول مظلوم إنه لن ينسى ـ ما بقي حيّا ـ ذلك اليوم الذي أمضاه في سجن انضباط معسكر القاسم في منطقة الشعيبة الصحراوية في البصرة ..
ولأنه خلال فترة التدريب ، ومن ثم في الجبهة ، كان يقفز كالنسناس ، مرة عبر الأسلاك الشائكة ، وأخرى من فوق الحواجز والموانع الخشبية ، ومرة من سيارات الزيل والإيفا وعربات الدرجة الثالثة من القطارات ، ومرات عديدة من سطح داره الى البستان عبر سطح الجيران كلما دهم بيته " زوار نصف الليل " .. فإنه ، حتى وهو
يسرد مذكراته ، يمارس القفزوالإنتقال من موضع الى آخر دون ترتيب ، الأمر الذي يجعل حكاياه غير مترابطة أحيانا ، بل وغير منسقة ، فتبدو مثل قطيع ماعز ينحدر في واد ٍ عريض ٍ دون راع ٍ ... لا أدري لماذا يتذكر باستمرار تلك الليلة ، مع أنه عاش الكثير من الأيام والليالي التي كان فيها على بعد خطوات قليلة من حبل المشنقة أو التابوت ...منها مثلا ، ذلك الصباح الكئيب من يوم السابع والعشرين من شهر اذار عام الف وتسعمئة وواحد وتسعين ، عندما حال عامود الكهرباء دون وصول رصاصة القناص الى رأسه خلال قمع الإنتفاضة الشعبية .. والظهيرة التي اقتحم فيها " الأشاوس " بيته ، ليقفز كالقط من الطابق الثاني من بيته نحو البستان ، فيسلم ساقيه للريح مثل أرنب مذعور ، حتى إذا وصل قرية " سيد جبار " سيكتشف أن كسورا عدة في عظام يده اليسرى .. فيواصل رحلته نحو المجهول بيد نصف مشلولة ، لا يحمل غير مسدس وقنبلة يدوية ـ وهوية مزورة ، وجبل هائل من الرعب ، وقلق وحشيّ على مصير زوجته وطفليه الوديعين ...

في ليلة ثلجية ، كان مظلوم يؤدي واجبه " الوطني " حارسا في باب " مفرزة التصليح الآلية " التابعة للواء السابع ـ حرس الحدود .. المفرزة عبارة عن ساحة مكشوفة مليئة بالعجلات العاطلة وآليات أخرى ، وقد بنى فيها منسوبوها الجنود غرفا من الصفيح ، وأخرى من طابوق اسمنتي صنعوه بانفسهم ، وحفروا فيها عددا من الملاجئ يهرعون اليها كلما نعقت صفارات الإنذار وهي تعلن عن زخة جديدة من مطر القنابل الإيرانية ... تقع المفرزة خلف " ملهى النصر" تماما ، في شارع الوطني في مدينة البصرة .. وأمام المفرزة تماما ، يقع فندق ـ ما عاد مظلوم يتذكر اسمه ... فندق لا ينام فيه سوى راقصات ونادلات الملهى ...ثمة فيه قاعة واسعة لتقديم المشروبات الكحولية ، مفتوحة الأبواب طيلة النهار وحتى آخر الليل .. " مظلوم متأكد من ذلك ، فكثيرا ما كان يتسلل اليها خلال حراسته الليلية ليملأ " الزمزمية " بسائل أبيض ذي رائحة كريهة يطلق عليه رفيقه جندي إحتياط معاون طبيب " ناظم البدران " مسمّى " حليب السباع " بينما مظلوم يطلق عليه مسمى " العسل المرّ " ... يقسم مظلوم أنه رأى بعينيه ضابطا برتبة نقيب يرتدي ملابس القوات الخاصة ينزل من الطابق العلوي ملطخ الفم بأحمر الشفاه ... بل ويقسم أنه قال للضابط ـ ودون ان يؤدي له التحية : " رجاء سيدي إغلق سحّاب بنطلونك حتى الفرس المجوس ما ياخذون نظرة موزينه على ملهى النصر " فكان جواب الضابط ـ حسب ما يزعم مظلوم ـ : " ولك ابن الكحبة ليش هي القادسية اشرف من ملهى النصر ؟ " ..

في الليلة الثلجية تلك ، وكان الظلام شديدا ، سمع مظلوم صوتا يشبه صوت مزاريب السطوح وقت انهمار المطر .. وحين حدّق جيدا ، رأى عسكريا يتبوّل واقفا مثل كلب على مقربة من ا لملجأ المحاذي لورشة التصليح ... ولأن مظلوم قرويّ ، فقد صاح به : رجاء إرفع رجلك زين إذا تبول ...
كان مظلوم يظن الذي يتبول ، كلبا آدميا ً.. وبحسب ثقافته القروية ، فالكلاب لا تتبول إلا واقفة ، رافعة أحد الساقين الخلفيين ......ثم ان مظلوم يعتقد أن للقبور حرمتها ، فلا يجوز التبول عليها او قربها ...هذا كل ما في الأمر ... مظلوم كان يعتقد أن جنديا من جنود وحدته هو الي أفرغ مياه مثانته قرب قبره الذي يطلق عليه اسم ملجأ ... لم يكن مظلوم يتوقع أن ذلك المتبول ، هو ضابط التوجيه السياسي لقوات محمد القاسم ، والذي ربما كان في زيارة أحد اصدقائه الضباط في مفرزة التصليح ، وربما في زيارة للواء ، وغالبا ما كان الزوار يتركون سياراتهم الفخمة في رحبة المفرزة ومن ثم تقلهم الى الجبهات سيارات عسكرية مموهة بالطين أو بشباك تشبه شباك صيادي الأسماك..
تقدم الضابط من مظلوم وهو يطفح غضبا ... ومن سوء حظ مظلوم أنه لم يغلق راديو الترانزستور تلك اللحظة ، فقد كان مظلوم يستمع الى تقرير إخباري من إذاعة لندن
حول معارك " الفاو " وما لحق بالجيش العراقي من خسائر جسيمة كان يمكن تلافيها لولا جهل ونرجسية القائد العام للقوات المسطحة .. عفوا ، القوات المسلحة ..
" عميل .. خائن .. جبان .. لا بد من عقابك .. سافل عميل .." هكذا صرخ ضابط التوجيه السياسي بوجه مظلوم حين عرف انه كان يستمع الى إذاعة لندن .. ويبدو أن الضابط قد نجح في استفزاز مظلوم ، الذي أجابه بشئ من الغلظة : أطبق فتحة سروالك أولا ، واستعمل حفاظات بامبرز إذا كنت سريع التبول ...

صحيح ان مظلوم يجنح الى الخبث أحيانا ، لكن الصحيح ايضا ، انه على قدر كبير من الطيبة والألفة .. فهو وإنْ كان خبيث القصد عندما طلب من المتبول رفع إحد ساقيه، إلا انه لم يكن يقصد إهانة المرسوم الجمهوري الي منح الضابط رتبته العسكرية ... ولم يكن يقصد إهانة بطاقة عضوية الحزب التي ما كان سيكون ضابطا للتوجيه السياسي لولاها ـ على رغم قناعة مظلوم أن بطاقة العضوية تلك لا تعدو كونها سُبّة وشتيمة لحامليها ، وبخاصة بعد نجاح " المهيب الركن الذي لم يدرس العلوم العسكرية ولو في ثكنة شرطة " بإفراغ الحزب من معانيه الوطنية والقومية والإنسانية ، ليغدو مجرد تابع من توابع سلطته وأداة من أدوات نرجسيته المنفلتة برعونة وحمق ..

أزعم أنني أعرف " مظلوما " بشكل جيد ... انه عنيد كالبغل ..لكنه ايضا وديع كحمامة .. له قدرة على تحمل الضرب والصفع والركل وا لسياط والكيبلات ، وحتى العضّ والرفس والنطح دون أن يصرخ أو يتأوه ـ قدرة قد لا يملكها حمار ابن مدينته" حمادة العربنجي " ، لكنه في نفس الوقت ، يمكن أن تدمع عيناه لرؤية طفل حافي القدمين .. أزعم انني أعرفه تماما ... وبموجب هذه العرفة ، أقول جازما ، إنه كان يستمع الى إذاعة لندن " وإذاعات أجنبية أخرى " مع علمه أن هذا الاستماع ممنوع ـ لأنه كان شديد الكراهة للأناشيد التي تتحدث عن بطولات وهمية وانتصارات لا وجود لها إلآ داخل استوديوهات اذاعة صوت الجماهير واذاعة بغداد وفي أروقة الماخور الإعلامي الذي يشرف على إدارته غوبلز جديد في دولة رايخشتاغ القصر الجمهوري ببغداد ..

لقد اعتقد مظلوم ان السيد ضابط التوجيه السياسي أراد من وراء اتهامه بتهمة العمالة ، الحصول على اعتذار يليق برتبته العسكرية ودرجته الحزبية .. ولقد اعتذر مظلوم حقا .. اعتذر صادقا ، وأقسم للضابط بالله وكتابه ، انه كان يعتقد ان المتبول هو نائب العريف " ناجي هجرس " أو الجندي المطوع " اسماعيل الفيترجي " الذي سبق وتبول واقفا قرب ملجأ الطباخين .. . أما أن يصبح الاستماع الى إذاعة لندن جريمة تصل حدّ الخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي ، فأمر لم يكن مظلوم يتوقعه .. وها هو يتذكر ـ وأظنه سيبقى يتذكر ما بقي حيا ـ ذلك اليوم المرعب الذي امضاه في سجن الانضباط العسكري لقوات محمد القاسم ، ومن ثم ليرحّل في اليوم الثاني الى الاستخبارات العسكرية في بغداد ..
ليصدمه سؤال المحقق : " مَنْ هم أعضاء الخلية الشيوعية التي تقودها في وحدتك العسكرية ؟ "
يومها فغرمظلوم فاهه ،وأجاب بصوت خفيض : " بكيفك سيدي .. انت اختار اللي يعجبك .. بس خلي بيهم كل الذين يبولون واقفين قرب الملاجئ "



#يحيى_السماوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنني أختنق ... أما من هواء ؟
- خلاصة التجربة
- كثرة السجون لا تعني تطبيق العدالة
- المدجج بالعشب والأقحوان
- إبق َ في وطنك المستعار
- حكاية مريم الناعم
- علام هذا الإحتفال ؟
- إعتذار متأخر
- أسئلة مشروعة
- لي مايبرر وحشتي
- رسالة الى العزيز سعدي يوسف
- سادن الوجع الجليل
- صبرا حتى تقوم الساعة
- تعِب الربيع من الحقول المجدبة
- الإختيار
- قصائد قصيرة
- قنوط
- تنويعات على وتر طيني
- أذلّني حبي
- من رماد الذاكرة


المزيد.....




- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى السماوي - مذكرات الجندي المرقم 195635