تأسيس جمعية دولية للمترجمين العرب
الجمعية الدولية للمترجمين العرب منبر إبداع وإشعاع حضاري
خالد يونس خالد
عندما كتب عميد الأدب العربي الراحل طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي" عام 1926، إتهموه بالكفر لأنه إنتقد العفوية والسذاجة والفرضيات والأفكار المطروحة وكأنها حقائق لا جدال فيها. وقال بعدم الأخذ بالفرضيات قبل التحقق منها، مستندا في ذلك على ما سماه "المنهج الفلسفي" المستمد من الفيلسوف العقلاني رينيه ديكارت. فقال بأنه يجب أن يتجرد الباحث والكاتب والمبدع من عواطفه ومشاعره، ويتحقق من الفرضية قبل الأخذ بها.
كان طه حسين يريد من منهجه النقدي أن يوقظ العقول الكسولة، وأن ينهض أولئك الذين يرددون النصوص دون أن يفهموها، بل حفظوها حفظا ببغائيا بدون إدراك. فكان يريد من ثورته المنهجية النقدية أن تنهض العقول، وتتعلم النقد العقلاني وعقلانية التغيير من الحالة الميئوسة والإستسلام القومي والطبقي ، والتموضع الفكري إلى التعمق والحوار النقدي، والإبداع، والتحليل والإنتاج بدلا من النسخ والإنتحال. وكان يشعر بوعي ، بأن العرب قد هجروا تراثهم ، وأخذوا من الحداثة بشكل أوتوماتيكي، وبشكل قد حاول البعض أن يقص جذور الماضي، وكأن المأساة من الماضي العربي، حين كان العرب مبدعين، وأصحاب حضارة. مثلما إنتقد الكلاسيكيين من الذين يتمسكون بالقديم دون أن يتقدموا إلى الأمام، وينبذوا كل ما هو جديد.
اصبح لطه حسين أعداء كثيرون، مثلما أصبح لعلي عبد الرزاق لأنه إنتقد السلطان، كما أصبح لقاسم أمين لأنه دعى إلى حرية المرأة.
ذهب طه حسين الأعمى البصير عنا بعد أن نجح أن يوقظ العقل العربي من غفوته، ويجعل العقل يفكر ويعلل ويحلل وينقد بعد أن حطم كسله ، حيث قال فيه نزار قباني في ذكرى ميلاده المائة قصيدة طويلة مطلعها:
ضوء عينيك أم هما نجمتان كلهم لا يرى وأنت تراني
إلى أن قال وهو يصف العصر الذي نعيشه:
آه ياسيدي الذي جعل الليل نهارا والأرض كالمهرجان
أرم نظارتيك كي أتملى كيف تبكي شواطئ المرجان
أرم نظارتيك ما أنت أعمى إنما نحن جوقة العميان
ثم يقول واصفا من نحن فيه اليوم:
عد إلينا فإن عصرك عصر ذهبي ونحن عصر ثاني
سقط الفكر في النفاق السياسي وصار الأديب كالبهلوان
يتعاطى التبخير يحترف الرقص ويدعو بالنصر للسلطان
كنت أقصد من تلك المقدمة ما وصَلت الحالة اليوم من تأخر وتفكك وتشرزم بعد أن عاد الكسل العقلي يحكمنا، فدخل الأجنبي بيوتنا، وأصبحت عقولنا متعبة لا تقوى على المعارضة، ولا تريد الإنتاج، سوى الكلام الكثير بلا معنى. نهتف للسلطان، ونصفق للأجنبي، ونشرب من نفس النهر الذي يشرب منه المستعمر، ونبصق فيه. فكان لابد من ثورة فكرية، ولابد من تحرك علمي، ولابد من تغيير عقلاني، ونحن نحتاج إلى صيانة لغة القرآن، ووعاء الأمة في ثقافتها، وتطور الشعوب في إبداعها. فتحَرك الوجدان، وتقدم الضمير، وبادرت مجموعة من الفرسان بفكرة تأسيس "الجمعية الدولية للمترجمين العرب" وإيجاد وكتابة أكبر موسوعة عربية في عصرنا الحاضر. إنها جمعية العلوم والفنون، ومركز الإبداع والترجمة، وبؤرة الأبحاث والدراسات، ومدرسة النقد والتحليل في جمع آلاف المبدعين من كتاب وشعراء وعلماء وأساتذة وباحثين ولغويين وأدباء أبدوا رغبتهم بالمشاركة في هذه التظاهرة العلمية الفذة.
مبادرة طرحها بعض الأخوة، وعلى رأسهم الأخ المبدع عامر العظم، فوُلدت المبادرة من القلب ، وترعرعت بين آلاف القلوب خلال أيام وأسابيع، وتطورت أيما تطور خلال أربعة اشهر من هذا التاريخ بوضع الأسس الاساسية لكتابة موسوعة عربية عالمية. وقد لبت الدعوة آلاف المثقفين العرب والناطقين بلغة الضاد في الوطن والشتاة، وهم ظمأى يبحثون عن العلم والثقافة، وكأنهم قد فقدوا ما يجب عليهم أن يجدوه. فقد وضعت عشرات اللجان العلمية واللغوية والأدبية والإستشارية ولجان الخبراء والمدققين والمصححين والمترجمين باللغات العربية والأنكليزية والفرنسية، والمنسقين والمحررين ووو. إنها إبداع فردي وجماعي، وتعاون على أسس علمية متينة بين هؤلاء المتطوعين للعمل بلا مقابل ، مفعمون بالمسؤولية الجسام لإغناء التراث العربي الإسلامي ، لخير الإنسانية جمعاء. إنه الحضارة والمدنية، بربط الماضي العريق، بالحاضر المؤلم، وتغيير عقلاني إلى التقدم والتطور من أجل مستقبل مشرق.
المترجمون لا ينتمون لطبقة واحدة، ولا لشريحة إجتماعية واحدة إنما ينتمون لمختلف طبقات الشعب. فمنهم علماء لغة، وكتاب أفذاذ، وشعراء شعبيون، ومفكرون مبدعون، وباحثون وأدباء وفقراء يفهمون هموم الشعب، وأغنياء يدركون معنى الغنى في الفقر. إنهم يأتون من كل زاوية في الوطن والمنفى ، كبارا وصغارا، حكاما ومحكومين. فإذا إجتمعت العقول النيرة التي تعرف أهدافها، وتدرك ما يمكن أن تبدع، وتعمل من أجل بناء الحضارة والتقدم، وتشعر بمسؤوليتها الفردية والإجتماعية، فإنهم يلتقون في مختلف الطرق الصعبة، ويفهمون بجلاء ما تقع عليهم من مسؤولية جسام من أجل التغيير. صحيح أنهم سيلاقون صعوبات، مثلما لاقى كل المبدعين في العالم. فذلك طه حسين وفولتير وقبلهما ديكارت وبعدهم أطفال فلسطين الذين يصنعون معجزة الحجارة.
نعم لابد أن يبدع المترجمون وأن يصنعوا التاريخ النير من جديد، لأنهم يجب أن يقوموا ما ينبغي عليهم أن يقوموا به. وصدق الراحل طه حسين حين قال مرة لمدام سوزان: "لم نُخلق لنعيش سعداء". فجاوبته رفيقة دربه "إنما خُلقنا لنقوم ما ينبغي لنا أن نقوم به".
فكم كان رائعا مقولة جيفارا:
"لابد أن يكون هناك مَن يتجرأ أن يدخل الغابة المظلمة الكثيفة والمليئة بالوحوش وينظفها من الاعشاب الضارة حتى يستطيع أطفالنا أن يلعبوا فيها بأمان". ولكن الذي يدخل الغابة المتوحشة يجب أن يكون مسلحا بالعلم. وعلى الإنسان أن لا يكون عبدا للإنسان أو لمذهب إنسان معين إنما عبد لله خالق الإنسان وعقل الإنسان. وصدق التربوي باولو فرايري حين قال:
" أنا لست مذهبيا إنما راديكاليا. ويقول "إذا كانت المذهبية القائمة على التعصب تؤدي إلى التغريب
بما تفرزه من خرافات وأساطير، فإن الراديكالية تزيد من إلتزام الفرد بالموقف الذي إختاره
ولذلك فهو يجد نفسه مستغرقا في العمل من أجل تغيير الواقع الموضوعي، وعكس ذلك تماما
فإن المذهبية تموه الواقع ولا تستند على أسس عقلية فإنها تجنح إلى التزييف والتزوير وهي في
كل الظروف تمثل عقبة كأداء في طريق تحرر الجنس البشري ... إن الراديكالية تتمخض عن
عمل ثوري لكن ليس في كل الظروف، إذ قد يتحول بعض الراديكاليين إلى مذهبيين بعد وقوعهم
في إسار المذهبية وذلك خلال عملهم في مواجهة المذهبية اليسارية واليمينية والدينية. لكن على
الراديكالي ألا يستجيب لنزعات الصفوة المتسلطة، وألا يكون أنانيا حتى يستطيع أن يخرج من
الدائرة المغلقة".
أنا أتفق مع فرايري بفهمه للمذهبية بالمعنى الواسع والكبير للكلمة. فالمذهبية عندنا تعني المذهب الديني لكن الحقيقة أنها أشمل من ذلك بكثير. فالمذهبية قد تكون قومية وماركسية ورأسمالية وفاشية ونازية وإباحية وعدمية وإنكارية وإلحادية ويسارية ويمينية إضافة إلى دينية ووو. فكم من الناس قُتلوا بأسم المذهبية تحت ظلال الديماجوجية. ومن هذا المنطلق فإني شخصيا أرى بأنه يجب على الكاتب الذي يكتب أن يكون غاية بحد ذاتها وليس وسيلة، وأن لا يكون الإنسان، وخاصة الكاتب المبدع، خاضعا لحزب معين أو سلطان بشري معين. ويجب أن يستخدم الإنسان العالَم كمادة لصنع التاريخ، والتاريخ ليس بالضرورة أن يكون ماديا فقط إنما عقليا وفكريا ومعنويا أيضا. فدعني أردد مرة أخرى مقولة فرايري:
"إنني كنت ساذجا وبمجرد إحساسي بهذه السذاجة شعرت بأنني أتعلم النقد وأستطيع أن أقول إن
تعلمي النقد لم يجعلني متعصبا ولم يجعلني أشعر بالإنهيار ... وإن يقظة الحس النقدي تؤدي
بالضرورة إلى إظهار الرفض الجماعي لأن ما يرفضونه أثر من آثار مجتمع القهر".
إننا نعمل ومن خلال عملنا، ولكن عمل ديمقراطي وسلمي وفكري وعلمي وادبي وقبول الآخر، نستطيع تغيير الواقع المؤلم الذي نعيشه. فدعنا نقول بأن الإنسان لابد أن يحس بوجوده ليعترف بوجود الآخر. فإذا تجردت الكلمة من الرؤية والعمل من أجل هدف فإنها تصبح عاجزة عن القيام بدورها وتتحول مع الأسف إلى ثرثرة فارغة من المعنى. فعمل المترجمين أساسه الحب والمسؤولية ، وهو عمل يقف على النقيض من العنف والكراهية التي يفكر بها القاهرون. فمن أجل التغلب على ظروف القهر والتخلف فإنه يجب أن نتعرف على أسبابه حتى نتمكن من تطوير موقف إنساني نحقق فيه إنسانيتا ، ونتمتع بحريتنا التي هي بحق ضرورة لا غنى عنها من أجل التطور والسلام. وعلى هذا الأساس، فإن العمل يحقق مغزاه إذا إنطلق من رؤية واضحة، وإلاّ فإنه يتحول إلى ضرب من الحماس. ومن أجل أن ينجز الإنسان عملا مثمرا لا بد من الثقة بالنفس والقدرة على رياضة الفكر والعلم لمصلحة الشعب كله بعيدا عن الأنانية والإحتكار. إنه عمل جماعي ومسؤولية جماعية.
أمامنا مهمات صعبة وكبيرة، وبحاجة إلى مسؤولية عظيمة، ونحن كما قال مونتسكيو كالكاتب المبدع الذي يقف عاريا تحت المطر، وهو ينتظر أن تفترسه الوحوش الكاسرة في أية لحظة لتبش لحمه. إننا نعلم بأن جرأة الأخ عامر العظم في أن يسير على الأشواق ، أقنعته مثلما تقنع كل المبدعين، بأن الورود الجميلة المعطرة لا تخلو من الأشواك. وأن الإبداع بحاجة إلى جهد جهيد. فلتتعاون العقول النيرة، والأفكار الرائعة لتجديد الفكر بتجديد الثورة العلمية والعقلية في أوطاننا من أجل الحرية ، والحرية لا تُكتسب إلا بالعلم والمعرفة والنضال.
ولنقرأ معا ماقاله الشاعر الهندي طاغور ، والذي يعبر عن واقعنا أيضا:
"حيث العقل لايخاف ، والرأس مرفوع عال
وحيث المعرفة حرة
وحيث العالم لم يمزق التعصب جدرانه
وحيث تخرج الكلمات من أعماق الحقيقة
وحيث الكفاح المستمر يمد ذراعيه نحو الكمال
"وحيث لا يفقد جدول العقل مجراه في صحراء التقاليد الميتة
وحيث يقود العقل نحو ساحات أفسح من الفكر والعمل
تحت سماء الحرية تلك .. ياإلهي .. أيقظ وطني"
___________________________ باحث وكاتب صحفي عراقي مقيم في السويد