سامي العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1872 - 2007 / 4 / 1 - 00:11
المحور:
الادب والفن
هذه هواجس نفسٍ تتوق للمعرفة ,
الذكرى العزيزة تغمرك بدفئها كالشمس وكالشمس أيضاً تفيض عليك بكرمها دون أن تطلب منها ذلك , أي أنَّ الكثير من الأشياء والتفاصيل الحياتية تلوح غير مهمة وعادية بحكم تكرارها فانت لا تلتفت اليها كعلبة السجائر التي أمامي الآن مثلاً ولكن لأنّكَ رميتها على المنضدة فوقفتْ على أحد جوانبها بشكل غير مألوف فقد لاح أمام ناظريك موقفٌ قديم شبيه بهذا الموقف وهذا بدوره استدعى شريطاً لا ينتهي من الأشخاص والذكريات فلا يسعك أحياناً إلاَّ أن تبتسم وقد تضحك كثيراً وقد تبكي حَدَّ الإجهاش .
أردتُ أن أقول أنّ الماضي الغني العميق لا يتبدَّد وإنما يأخذ أشكالاً والواناً وروائح هي من صميم الحاضر فتحسُّ بفيضٍ عجيبٍ من الحيوية فتندفع لتفعل شيئاً ما , شيئاً موازياً للحالة المعنوية التي انت عليها فلا تلبث هذه المشاعر أن تتداعى أمامك بهيئاتٍ عديدة تشبه الرؤى , فاذا كنتَ من المصابين بمَسِّ الشعر او الكتابة فستنتهي هذه المشاعر الصافية الى كلماتٍ على الورقة , الى فعلٍ إبداعيٍّ صافٍ مُمْتَنٍّ حتى اذا فتحتَ نافذتك سرعان ما تتلقَّفُهُ الريح الى حيث مجالهُ الحيوي الآمن الأ وهو الغد , فما حاضرك إلاّ واسطة ينتقل من خلالها ماضيك الحميم الى مستقبلك الأكثر حميمية ,
وأقول : أكثر حميمية لأنَّ جمال الأشياء البعيدة , الصعبة المنال يتجلَّى في كونها ما زالت في طور الإكتشاف , طور التكوُّن , مازالت سِرَّاً , صلاةً , وعداً .
وهنا يتبادر الى الذهن سؤالٌ مُلِحٌّ : ولكن ماذا عن الماضي التعس للإنسان !؟
فأُجيب بأني لا أبحث في المعقول ولكن أحاول تصيُّد شذراتٍ من اللامعقول !
ومن وحي هذا الهاجس كتبتُ في العام الماضي :
أحياناً تغمرني الغبطةُ ولَهاً بالمجهولْ
أهو الأوحدُ من بين المعقولات المعقول ؟
ومع ذلك , فالماضي الحزين التعس لا يزول أيضاًَ ولكنك اذا كنت من ذوي الإرادة القوية فانك تكبت ماضيك الأليم في سحابة نهارك , تقمعهُ بما يتيحهُ لك يومك الجديد من أفعال منها المادي ومنها ما يتّصل بالأفكار ولعلَّ عالم الأفكار أهمُّها وكذلك بما تمتلكهُ من فلسفةِ حياةٍ وطبيعة إيمانك بالأشياء وأمَّا أثناء النوم حيث تتلاشى الإرادة وتستيقظ اللا إرادة , اللا شعور فهنا مرتع المأساة وميدان ميادينها !
ذلك أنك عشتَ وتعيش في عصرٍ قاسي الشروط ولا تزال تحاول الخلاص من ضغوطهِ لكي تقترب من وسادتك غير قلقٍ بشأن ما سيجلبهُ لك اليوم التالي او كيف ستكون معالمهُ ولكن أنّى لك وقد نزفتَ قبل أن تخترق الرصاصةُ جسمك !؟
الجنرال المهزوم يقف وسط أشلاء ضحاياه ويحلم أنَّ تؤدي له التحية رغم ذلك
والمرأة تدخل حلزوناً بحجم حريتها وتحلم بمحيطٍ دون رجال
والعالِم يرى في أحلامهِ عالَماً يسوده النظام والقوانين فيعِدُّ نفسهُ لإختراعٍ جديد .
ذو الموهبة الصلعاء يمضغ غليوناً ويحلم بجمهورٍ يطارد مؤلَّفاتهِ
والحزبي يرى حزبه وقد عَمَّرَ على رأس السلطة كما لا تعمِّر التماسيح
والطائفي يرى غرمائه أدنى منزلة منهُ فعلاقتهُ مع الله وصلتْ الى درجة الميانة
ومتصوّفةُ النفط لا يهمُّهُم من هذه الجلبة شيءٌ فالله دائماً في جيوبهم
والبعثيُّون بعد أن حرَّروا القدس وأخواتها يسعون بمؤآزرة الأشقاء الى تحرير مانهاتن
والإسرائيليون يحلمون بتجنيد حتى أعمدة الكهرباء وإلاّ فكيف تستقيم فكرةُ ربِّ الجنود ؟
كلُّ هذا يتمُّ في عالم الأحلام
ولكن أنتَ , بماذا تحلم ؟ وكيف تستقبل نهارك بعد نومك الذي يشبه المغامرة أحياناً ؟ ولكن ليس كلُّ البشر سواسية فهناك من لا يقيم للأحلام وزناً بل إنهُ ربما لا يحلم أبداً ولا أقول هذا من منطلق الشعور بالإحباط فانا أفهم عصري
ومن مكارمهِ مثلاً أنهُ جعلني أُجاورُ مَن يربح او يخسرُ آلاف اليوروّات في الروليت ليلاً وفي الصباح يمتشقُ قلمَهُ ليُعبِّرَ عن عظيم ألمهِ بسبب معاناة الأطفال والنساء والشيوخ في العراق وفلسطين من جَرّاء الحصار والقتل والجوع والأمراض ويجد مَن يصَدِّقُهُ من الأبرياء او من المُغفَّلين والحَمقى ويجد في بعض الأحايين مَن ينشر لهُ كُفرَهُ هذا
ولكنني لستُ بصدد هذا الموضوع ولا أجتهد في تأويل الأحلام وإنما أرمي الى القول بأنَّ الإنسان يتحدَّد يومُهُ وحتى غدُهُ تبعاً لحساسيتهِ ولهذا أرى أنَّ أغلب الناجحين عملياً هم اللا أباليون , فبعضهم يرى طريقه مرصوفاً بالهياكل العظمية والدماء ولكنه مع ذلك يركلُ هذه الجثة ذات اليمين وتلك المرأة المولولة ذات الشمال كالنفايات ويستمر في السير وكأنهُ على موعد مع عشبة الخلود !
ومثل هكذا بشرٍ , وقد وصل الكثيرُ منهم بعضَ البلدان الصناعية المتقدمة ,
يضجرون مثلاً من زحمة المواصلات في المناسبات او كثرة الضجيج في الأنفاق !
واذا ناموا فقد تكون هذه النقطة لا غير هي ما يُعكِّر صفو أحلامهم !
تسأل واحداً منهم أثناء النهار أن يسلِّفك عشرة دراهم من عملة هذا البلد على أن ترجعها له بعد يومين او ثلاثة فيعتذر اليك رغم معرفتك بأنه يستطيع تسليفك , الأمر لحد هذه اللقطة جداً عادي ولكن ما الذي يجعلهُ يلوح غير عادي ؟ ما يجعلهُ غير عادي هو أنك لا تسلم منه فانت غداً على الصفحات الأولى من صحف الصباح !
لماذا لا يعمل ؟ هل قصَّرَتْ الدولةُ في منحه فرصة عمل ؟ لماذا لا يكفُّ عن التدخين ؟ فتقول لهُ : أستاذ أنا أعتذر وفي نهاية الشهر ساعطيك عشرة دراهم هِبةً من عندي ولكن فقط خلِّصْني من لسانك !
وطبعاً وصل الكثير منهم الى اوروبا وغيرها ورغم أنهم وصلوا متأخرين إلاّ أنهم استطاعوا - بطُرُقٍ هُم وحدهم يعرفونها - الحصولَ على الإقامة والعمل والتحدُّث بعدة لغاتٍ حتى المنقرضةِ منها !
ضربتُ قبل قليل مثالاً عن الرجل الذي يُسلِّفك عشرة دراهم , ومثالي لم يكن اعتباطاً فهو قد حصل قبل أسابيع , ومشكلتي مع هذا الشخص أنه يسكن في طريقي اليومي المؤدي الى وسط المدينة , سألتهُ في إحدى المرات متعمِّداً :
هل حصلَ لك وأنْ حلمتَ بي في الليالي السابقة ؟!
أجاب : ولماذا أحلم بك ؟!
قلتُ : انا رأيتك في الحلم قبل عدة ليالٍ وكنتَ ترتدي زيَّ انضباطٍ عسكري وحاملاً عصا وتركض ورائي !
سألَ وهو يحاول أن يكون مَرِحاً : وهل مسكتُكَ ؟
قلتُ لهُ : صحيح , إن مشكلتي كانت السيجائر وقد سألتك لأنهُ لا أحد من معارفي كان قريباً مني ولو أعطيتني العشرة دراهم في ذلك اليوم لكنتُ كتبتُ بحماسٍ عن مواضيع عديدة تشغلني فقد كنتُ مهَيَّئاً تماماً لهذا العمل ولكن السيجارة .
لا جدوى من ذكر نصائحهُ ووصاياه لي فقد بدا أنهُ يفهم الكتابة وكأنها صنعة بإمكانك أن تستبدلها بأخرى وكم حقدتُ على نفسي لأنني تركتُهُ يتسلَّل الى أحلامي , هذا الخنفوس !
ومرَّةً أخرى ,
كَمَنْ يسير على حافة نهر عميق بينما العاصفة تدفع به وهو يقاوم السقوط في النهر , هكذا هي الحال بالنسبة للحلم عند أكثر الناس تفاؤلاً من جيلنا الذي أُبتليَ بالحروب والكوارث , الحافة هنا هي ومضاتٌ جميلة قد مَنَّ بها علينا هذا العصر الشحيح دون وعيٍ منهُ ! أمّا العاصفة فهي سِهام الماضي التي تدفع بك الى القاع ,
والقاع هنا ذو شعابٍ مختلفة منها ما يوصل الى الجنون ومنها الى قتل النفس ومنها الى الإدمان ومنها الى المازوكية والعبث والفوضى او اليأس وقد أَوصلَ ويوصلُ الى الجريمة , ناهيك عن الأمراض الأخرى التي أصبحتْ لا تثير الإنتباه لشيوعها كالإنطواء والصمت شبه الدائم والكآبة وغيرها .
ومع هذا , ومضاتٌ قليلة بسيطة ودون ملامح محدَّدة تعلِّمني أحياناً كيف أكافح لئن أتحدَّثَ مع هالةٍ غير مرئية اسمها الغد ,
قال المُتسوِّل : ليس أمامي سوى أنْ أحمل صحني وأطرق باب الغد !
قلتُ : أمّا انا فلا أطرقهُ مثلك إلاّ اذا حَلمتُ وحينذاك يصبح ُ فعلُ التسوُّل شيئاً يمكن فهمهُ وتبريرُهُ !
#سامي_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟