أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - دنيز دوكلو - قصة تضامن مستحيل الذهان الهذياني وثقافة الحقد في اميركا















المزيد.....



قصة تضامن مستحيل الذهان الهذياني وثقافة الحقد في اميركا


دنيز دوكلو

الحوار المتمدن-العدد: 563 - 2003 / 8 / 14 - 05:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 

لا تراهن الولايات المتحدة التي تحتل العراق على الحداثة العلمانية النسبية التي تميز المجتمع العراقي من اجل تعزيز دورها الحضاري. فعلى العكس تقوم "الادارة" الاميركية بتصفية البنى الاجتماعية السياسية التي احتفظت ببعض الاستقرار وتتفرج على الفوضى من دون ان تحرك ساكنا وهي تفكك اشكال التضامن الاقتصادي وتقمع المقاومة. مختصر الكلام ان المحتلين يسلكون مسلك المستعمرين ليبسطوا سيطرتهم على اذلال اهل البلاد. فالثقافة الاميركية تنحو منحى العدائية وليس الوفاق الاجتماعي.

دنيز دوكلو *
Denis DUCLOS

في فيلمه الجميل حول الثلاثينات من القرن الثامن عشر، "عصابات نيويورك" يظهر مارتن سكورسيزي ان العنف الاميركي لم يكن مرة محصورا في غزو الغرب البعيد ولا بالطبع ببعض الفصول المتواترة كالمافيا في ظل نظام منع انتاج الكحول في العشرينات او اعمال العنف العرقية في الستينات. فبوادر هذا العنف ظهرت باكرا جدا في تاريخ البلاد ، منذ اللحظة الاولى لنزول كل مهاجر من المهاجرين الجدد. ومن الوهلة الاولى يطال هذا العنف المباشر البالغ الحدة والذي لا نهاية له شرائح المجتمع كافة. ينصبّ هذا العنف على الوافد الفقير بدفعه الى عنابر كريهة تتكدس فيها حشود يتعالى صراخها. وايضا على الغني الذي يرى بيته تلتهمه النيران عند ادنى احتكاك. وكذلك على البسطاء التي تقوم مدافع حكومة ابراهام لنكولن [2] بقصف مساكنهم ردا على تظاهرات الشوارع. منذ ذلك التاريخ واللجؤ الى قصف المدنيين كانت الوسيلة الفضلى التي تعتمدها الشرطة الاجتماعية الوطنة او الدولية!   

بالطبع، يبدو العنف القاتل مرتبطاً بالعوالم الجديدة التي غزتها اوروبا منذ خمسة قرون. لكن الواضح ايضا انه يتجدد باستمرار انطلاقا من بؤرة الولايات المتحدة اكثر من كندا او حتى اميركا اللاتينية. ان التفسير المعروف اليوم لمخرج الافلام الوثائقية مايكل مور في فيلمه المشوق Bowling for Columbine [3] لا يربط العنف بعدد الاسلحة التي يملكها مواطنوه بل بمناخ الخوف والذهان الهذياني والكراهية المتبادلة التي ترعاها وسائل الاعلام. لكن لماذا تغذي وسائل الاعلام في الولايات المتحدة (وليس في غيرها من البلدان) هذا النوع من المناخ؟

في الحقيقة، من المذهل كيف يعجز المرء ان يقول عن نفسه انه "ولاياتي متحدي" كما يقول الآخرون انهم مكسيكيون او كنديون او حتى كيبيكيون او برازيليون... وماذا لو كانت نزعة الولايات المتحدة الباطنة نحو العنف في مختلف اشكاله على علاقة بهذا التغييب الطوعي للاسم الجماعي؟ ان هذا النقص ليس وليد الصدفة او عدم الاكتراث بل يعود الى سعي بعض الاميركيين لكسب استقلالهم ازاء الاوطان الاوروبية من خلال الاكثار من الكيانات السياسية والثقافية وليس بالبحث عن تضامن قائم على الهوية. جاءت المجابهة لهذه الارادة في التكاثر سطحية من خلال عقد الدستور عام 1786 بغض النظر عن استمراريته في الزمن. هكذا ومنذ منتصف القرن الثامن عشر يعاد انتاج نزعة لا هوادة فيها للمحافظة على الفروقات الداخلية والخارجية مقابل تفاوض بالحد الادنى حول اشكال التضامن.

ان ثقافة الولايات المتحدة هي اليوم كما الامس معركة مستمرة بين الافراد والجماعات والطوائف والكنائس والولايات، بين الحقوق والمفاهيم المدنية الخ... اما المقابل ــ المتناقض في الظاهر ــ لهذه المنافسة فهو دائما تحالف اي تجمع من العصب في انضباط مهني او تجمع عسكري لحلفاء يقودهم زعيم نحو وجهة عدائية او قمعية. كما كانت "العصابات" تتجمع منذ 160 عاما في الشارع الرئيسي في ضواحي نيويورك من اجل النزال حتى الموت تأمينا لسيطرة عصابة على الآخرين، لا يزال المطلوب دائما وابدا مجابهة الآخر في موقع القوة والتغلب عليه بشتى الوسائل.

ان الموقف الاميركي الثأري الذي يوصل الى معاملة غير انسانية للسجناء الافغان (وغير الافغان) في غوانتانامو او الى فتح النار على النساء والاطفال وسط احد الحشود في بغداد، ليس فقط ترجمة لمنطق القوة العظمى الفخورة بنفسها والتي تدعي فرض قانونها على العالم مهما كان الثمن. بل ان هذه التصرفات ترجع في جذورها التاريخية الى مفهوم للحياة في المجتمع هو بمثابة نفي لمفهوم المجتمع في حد ذاته. واذا كان هناك عشرة آلاف شخص يسقطون قتلى بالرصاص في الولايات المتحدة سنويا (مقابل عشرات في كندا او فرنسا) فالمسؤولية لا تقع على وسائل الاعلام التي تلوح بالقلق الامني بل على عدم تشكل الماهية التي تؤسس عليها المجتمعات.

على الارجح، ان هذا التفسير ليس صحيحا في المطلق  لكنه يمثل خطا احمر يبيّن العنف الجوهري الوارد من الولايات المتحدة وصولا(وبما في ذلك) الى الرغبة العنيدة في حل النزاعات الدولية بطرق غير شرعية ومن خلال قتل المدنيين. 

التعارض فاضح بداية الامر بين اميركا كما تخيلها رجل القانون توماس جيفرسون [4] ـ الجمهوري على طريقة اليونان القديمة ـ وبين واقع افعال السيادة المتسمة بالعنف. فحيث اراد جيفرسون خلق أمة مسالمة متميزة عن اوروبا "الغارقة دوما في الحروب"، قامت أمة محاربة وفي منافسة مستعرة مع نفسها (الحرب الاهلية) ومع مهاجريها القسريين (من عبيد اولا ومن عمال احرار في ما بعد) ومع سكانها الاصليين (الابادة المبرمجة لعشرات الملايين من الهنود). مارست الولايات المتحدة على مر الزمن في حق البلدان الاخرى ما كان اخذه جيفرسون على الفرنسيين في عهد نابوليون: محاولة "فرض مفهومهم الخاص للحرية على جيرانهم" [5] .

بيد ان ما يميز الولايات المتحدة الفردية بامتياز عن سائر البلدان الاميركية المتقبلة لافكار التضامن الاجتماعي [6] هو الرهاب الكبير الذي يشعر به جيفرسون تجاه الدولة المعتبرة مسخا مقززا في طبيعته. فبالنسبة الى جيفرسون ان الواجب الدائم للمواطن معارضة "السلسلة الطويلة من التجاوز والاغتصاب المؤدية بالضرورة الى الهدف نفسه" الا وهو "اخضاعه للاستبداد المطلق". بالطبع ان هذا الاستبداد المطلق متجسد في القوة الاستعمارية البريطانية المطلوب التحرر منها من خلال قوانين جديدة.

لكن لهجة جيفرسون مفعمة بنبرة يستطيع المحلل النفسي ان يصنّفها بسهولة من الذهان الهذياني. فبحسب جيفرسون ان هذه الحكومة الاستبدادية "ارسلت الى بلادنا رفوفا من الموظفين الجدد من اجل (...) التهام مادته الحيوية. ومن اجل انجاز مشروع الموت والتعاسة والتسلط (...) في ظروف من القسوة واللؤم يصعب ايجاد امثلة مشابهة لها في العصور الاكثر بربرية". ألم "يتم ابعاد فرق بأكملها من القوات المسلحة من اجل حمايتها من العقاب الذي قد يطالها بسبب جرائم القتل التي ارتكبتها في حق سكان هذه الولايات؟" [7] . تجدر الاشارة الى ان انقلاب الادوار الغريب دفع بالمسؤولين السياسيين والعسكريين الاميركيين الى المطالبة بحماية مشابهة من القوانين الدولية والقانون الجزائي العالمي المتمثل في محكمة الجزاء الدولية. 

لا يمكن انكار الطابع التقدمي للحريات التي كان يحاول اول رئيس للولايات المتحدة ابعادها عن سلطة الدولة "التدميرية:" حرية التفكير والتعبير والتجارة والمعتقد، والحق في الحياة والبحث عن السعادة وحق مغادرة الوطن وضمان عدم اعطاء القوانين مفعولا رجعيا ورفض السجن بسبب الديون والتحرر من اي فريضة دائمة وحق التواصل بين الناخبين وممثليهم والاتجار مع البلدان المجاورة والعمل لكسب لقمة العيش والدفاع بوجه المعتدين والاشرار والحفاظ على حرمة المسكن الخ...  لكن ايضا لا يمكن التجاهل ان الحقد المتأصل ضد الدولة القوية اظهر في المدى الطويل تناقضا "مع الواجب المقدس في التخلص من النزعات التي تفرق بيننا" [8] .

لم يطمح سعي جيفرسون مرة الى تجاوز الاستقلال وبناء تضامن وطني حقيقي على قاعدة المبادئ الجماعية المشتركة، بل انه كرس الهدنة بين الاريستوقراطية الجنوبية الموالية للانكليز والديموقراطيين الشماليين المتحدرين بدورهم من منفيي الحرب الاهلية الانكليزية. وبالتالي فهو لم يكن معنيا بالسكان المحليين. فالجمهوري المتساهل جيفرسون بنى مسيرته على تحالف متميز ـ ضد بورجوازية الساحل الشرقي ـ مع مستوطني الداخل الذين كانوا يخوضون حربا دائمة على الهنود، "هؤلاء المتوحشين العديمي الشفقة والذين يذبحون كل ما تقع عليه ايديهم في الحرب من دون النظر الى السن او الجنس او الحال" [9] . ومنذ منتصف القرن التالي بدأت توزع جوائز على سكان كاليفورنيا الجدد من اجل قتل الهنود وكأنهم حيوانات مضرة.

على مر تاريخها انتهى الامر بفئات الوافدين الجدد الى محاولة اقفال الباب في وجه من اراد اللحاق بها (من خلال نظام للحصص تبعا لبلد المنشأ) واذا تعذر ذلك اخضاعها الى استغلال مضن في نوع من طقس العبور الذي يحول كراهية بلد الاصل الى بلد الاستقبال. والطابع العقابي واضح للعيان حيث ان انعدام وجود انظمة تضامن اجتماعي في مجال العمل افسح في المجال على الدوام لحصول نسب من الحوادث وحالات الاجهاد تفوق بكثير اي بلد "متحضر" آخر.

اخيرا فإن الولايات المتحدة كانت منذ 35 عاما فقط بلد التمييز العنصري الرسمي (على غرار افريقيا الجنوبية) ضد الملونين. وفي ايامنا هذه لا تزال ترتسم داخل غالبية المدن، كبيرة وصغيرة، حدود يصعب تجاوزها بين مختلف الفئات الاجتماعية والجماعات الاثنية. والعاملان هنا يتقاطعان. فمن الغيتوات السوداء الى الاحياء اليهودية او الضواحي اللاتينية او الاسبانوية وصولا الى "الجماعات المغلقة" وغيرها من مجمعات "الكاونتري كلوب" المخصصة لاصحاب المليارات، تبدو الولايات المتحدة رمزا للتقطيع الاجتماعي في المكان.

من فكرة ويلسون لقيام عصبة للامم مثالية [10] الى مشروع كينيدي حول "المجتمع الكبير"، طالما حلم القادة السياسيون "لهذا الكيان المتعدد والذي لا اسم له" بنموذج لمجتمع وكأن هذا النموذج مستحيل التحقيق. في العام 1920 لم تتحقق ارادة توماس ويلسون في اقامة نظام ديموقراطي عالمي، ويعتقد البعض حتى ان المشروع ساهم في اندلاع الحرب العالمية الثانية. في النهاية وكما يلاحظ احد المعلقين [11] ، لقد الهم مشروع ويلسون البناء الاوروبي الراهن اكثر مما أثّر في الولايات المتحدة.

منذ 11 ايلول/سبتمبر 2001 تشهد أميركا تصلبا عسكريا وامنيا. في نظر مؤيدي الحرب على العراق فإن الحلف المقدس يساهم في الدفاع عن "العش" الوطني بينما يعتبر معارضو الحرب انها ليست سوى هبّة كراهية للاجنبي من النوع العنصري الشعبوي التقليدي الذي طالما اعتاد عليه داخل البلاد. هل هم مخطئون؟ في مقابلة اجرتها معه محطة تلفزيون "سي أن أن" في 21 آذار/مارس 2003 أكد احد الجنود الاميركيين انه يريد ان "يثأر في العراق... من اعتداءات 11 ايلول". وهو يشاطر 55 في المئة من مواطنيه الاقتناع بأن صدام حسين مرتبط ب"القاعدة" وكان مسؤولا عن الاعتداء على مركز التجارة العالمي. ويمكن الافتراض ان هذا الخلط الجاهل يطال العرب عموما ويروح يشبه الرهاب الوبائي في الازمنة الغابرة: تجاه الهنود  والسود او الاسيويين.

يعيدنا هذا الانحراف العنصري المفاجئ الى اسوأ ــ وأثبت ــ ما في التقاليد الثقافية التحتية في الولايات المتحدة. وفي حال التصلب نشهد من جهة "عصابة" الميليشيات الوطنية المرتبطة بالسلطات والتي تبعث من جديد مزيج الرعب الخفي والقمع البوليسي الدموي كما في عز حقبة الماكارثية، ومن جهة اخرى قبيلة "المثقفين" والمنفتحين على التعددية وغيرهم من "الخونة" المحتملين. لكن وكما يشير مايكل ليند [12] ، فان هذا التعارض يستعيد ومن ضمن جغرافيا الاحزاب السياسية نفسها ترسيمة التقصف الداخلي الاكثر قدما اي الجنوب الاستعماري المعادي لحقوق المرأة الرافض الآخرين والعنصري مقابل شمال بوريتاني علماني جماعاتي ليبيرالي وعالمي النزعة.

ان مفهوم "التحالف" يمثل جيدا نموذج التضامن الصادق في لغة جورج والكر بوش الحربية. لكنه لا يأتي كما يلاحظ اندرو بازفيتش [13] الا في اطار ارادة احادية القطب للانتصارات المتتالية في العالم وهو اتجاه لم تحد عنه الديبلوماسية الاميركية منذ نصف قرن من الزمن. وهذا القطب الواحد ليس فقط قطب الدولة الاقوى في العالم بل هو ايضا الجموعة المحيطة بالرئيس وتلك التي نظمها حوله معبّرا هكذا عن صفاته كزعيم حرب وحبر اعظم ديني وقائد شعبي تعشقه الجماهير. 

واذا بأميركا الاعلامية والساخرة تجد لنفسها اخيرا تسمية "بوش لاند" الذي تدل عبر اسم عائلة الرئيس (بوش يعني دغل بالانكليزية) على الطابع البري للغابات الاستعمارية المطلوب استصلاحها من دون تردد. لكن العديد من مواطني الولايات المتحدة لا يتماهون مع هذه التسمية كون "بوش لاند" تشير ايضا الى عصبة تسيطر على ادارة البلاد.

كثرت التعليقات حول طابع الطائفة المغلقة او الزمرة لتصنيف المعاونين المقربين من السيد بوش. ويتم التركيز على التعصب الصليبي لدى العديد من هؤلاء والرابط الغريب بينهم وبين عالم النفط. لكن لم يشر الى ان هذه الصفات ميزت على الدوام اي تشكيلة جماعاتية في الولايات المتحدة منذ ثلاثة قرون، فالكيان الجماعي الاساسي يتكون دائما الى حد ما من تشكيلة تحافظ، في سياق معارضتها الضارية لكل ما يقف في وجهها، على اطباع التابعين المستزلمين للقائد والمقيمين معه وهم يمتطون المجد ويجمعون الغنائم والاراضي او يسقطون ضحايا المغامرة.

تلك هي رسالة الروائي جيمس اللروي الذي يحكي سيرة المجموعات المتنافسة على رأس الدولة في الولايات المتحدة ابان حكم جون كينيدي. ففي روايته الشهيرة American Tabloïd  نرى كيف ان كل مؤسسة من المؤسسات (وكالة الاستخبارات المركزية، مكتب التحقيقات الفيديرالي، النقابات، الجماعات العرقية، المافيات، الجيش، فرق الوطنيين، صحافة الفضائح الخ...) تعمل لنفسها وضد الآخرين في معركة الابطال الداميين. فاغتيال جون ومن بعده روبرت كينيدي واغتيال جيم هوفا (الزعيم النقابي المافياوي) وحتى الموت المشبوه لماريلين مونرو والهجوم على كوبا عام 1961 واطلاق حرب فيتنام الخ... تقدم لنا كأحداث مترابطة في حبكة درامية وثيقة الا وهي حرب العصابات الذين ترقوا اجتماعيا بصعودهم الى دوائر السلطة الحاكمة.

اذا كانت التفاصيل التي يعرض لها اللروي وهمية فإن المضمون السوسيولوجي لروايته مذهل في حقيقته، فالولايات المتحدة تعمل من اعلى الى اسفل مثل حلبة صراع دائم بين المجموعات شبه العائلية المكونة وفق منطق اقطاعي لم تلجمه بعد مؤسسة الدولة الحازمة، وقادر على تكرار نزاعاته الى ما لانهاية.

اما شخصنة الصراع فهي سمة لا مفر منها من سمات الاستتباع في الحياة السياسية. هنا ايضا تحدث الامور كما في "عصابات نيويورك" حيث يفرض القائد نفسه بالقوة والحيلة (كما حصل في الالاعيب التي رافقت آخر انتخابات رئاسية اميركية) على مجموعة متنافرة من الزمر المسلحة ليحاول من بعدها المحافظة على موقعه الساحر كذكر "ألفا" بحسب تعبير علماء الانسان الاول. فعليه دائما ان يشهر التهديد في وجه جماعته وخصوصا اعادة بث الحماسة فيهم بتقديم المنافس التعيس الحظ على صورة  فريسة "شيطانية" كما يحلو له تصويرها.

فخلافا لما يفترضه بعض المعلقين المعجبين بالسياسة الاميركية فإن السادة سلوبودان ميلوسيفيتش واسامة بن لادن وصدام حسين لم يرفعوا الى مرتبة العدو رقم واحد بفضل نظرية جدلية متعمقة. بل انهم يمثلون وجوه التحدي الضرورية التي يطلقها المرشح الاقوى الى الزعامة كما في منطق حروب عصابات الشوارع. فهم يستخدمون من اجل التمويه الدقيق على تحضيرات النزال والذي لن يترك اي مخرج امام "المنافس الاستراتيجي". هكذا فإن "الدولة المارقة" المفترض انها تمتلك اسلحة الدمار الشامل ليست سوى دولة عاجزة عن اي تهديد جدي بحق الطامح الى السيطرة على القطاع. فبعد ان تعرضت للقصف المستمر منذ عشر سنين وتجسس عليها الخبراء وتفككت بفعل الحصار الطويل ستقدم في ما بعد فريسة للمجموعة المهيمنة و"عرابها" الذي يثأر بلا رحمة ويميل في ثأره الى الاستعراض.  

وحده المراقب المحمي من غضب "الزعيم المحارب" يمكنه القول ان مفهوم "الدولة المارقة" ينطبق في افضل صورة على ممارسات رئيس العصابة من المهاجمين والذي يستعمل دولته لتنفيذ مشروعه الخاص بالهيمنة. وغالبا ما عبّر معارضو سياسة بوش عن هذا الموقف من خلال العبارة: "انها حرب الرئيس وليست حرب البلاد". 

لكن "التحالف" المحارب لا يهدف فقط الى توحيد الآراء والجهود خلف شخص واحد في استعراض بارز ومتكرر للقوة. بل يرمي ايضا الى استبدال اي فكرة خاصة بالتضامن الحقيقي. فالتحالف هذا يفرض نفسه على حساب الآليات الشرعية للامم المتحدة ويحتل كامل الحيز المتخيل الذي كان يمكن لفكرة التضامن الاجتماعي ان تملأه. 

بعد مشاهد الحرب الرهيبة رأينا في الايام التي تلت "الانتصار" صورا محببة للدوريات الاميركية المتعددة الاثنيات في العراق. فالسيد جورج والكر بوش كان يأمل في قطف ثمار نصر "الحلفاء"... في الوقت الذي كانت تتراجع فيه الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة ثلاثة ملايين وظيفة الغيت منذ الانتخابات الرئاسية (المشكوك في صحتها) منها 200 الف في العاصمة المالية نيويورك.

وفيما يتواصل الاستعراض الحربي، لم تحاول ادارة بوش استعادة الازدهار الاقتصادي باتخاذ التدابير الملائمة بل على العكس خفضت الضرائب في صالح المداخيل العليا دون غيرها (واحد في المئة يستفيدون من 43 في المئة من الخفض). وعمدت الى تفكيك كل ما من شأنه التذكير بالمسؤولية العامة للدولة في تحقيق رفاه المواطن. فخفضت بنسبة 86 في المئة البرنامج الاجتماعي للاستشفاء (المبرم بين المستشفيات العامة والخاصة بغية مساعدة المرضى ممن لا يحوزون ضماناً صحياً) وخفضت مبلغ 700 مليون دولار من مخصصات اعادة تأهيل المساكن الشعبية و60 مليون دولار من البرنامج الاسكاني لمؤسسة العناية بالطفل ومئات ملايين الدولارات من الصندوق الذي يقدم مساعدات لذوي الاجور المتدنية كي يؤمنوا الحضانة لاطفالهم اثناء دوام عملهم. كما منعت اي مساهمة فيديرالية لمؤسسات تنظيم الاسرة المؤيدة للاجهاض.

كذلك في باب الثقافة العامة التي لا تعيرها اهتمام فقد شطبت 200 مليون دولار من برنامج اعداد العاطلين عن العمل والغت برنامجا للتدريب على المطالعة في اوساط العائلات الفقيرة وحذفت 39 مليون دولار من موازنات المكتبات الفيديرالية و35 مليون دولار من الاعداد لطب الاطفال... وعينت في مسؤولية حماية البيئة الاعداء المعلنين لها كتسمية احدى مديرات شركة "مونسانتو" الاحتكارية في ادارة وكالة البيئة وكان انجازها الاول خفض موازنة الوكالة نصف مليار دولار. وفتحت المحميات امام الاستثمار الحرجي والتنقيب والغت القوانين الفيديرالية التي تمنح الدولة حق رفض ابرام العقود مع شركات ملوثة وخطرة على العاملين فيها كما ابطلت سلسلة من التدابير الحمائية في هذا المجال. ووضعت في المزاد العلني قاع البحر في فلوريدا وحررت الاراضي المحمية في الاسكا وخفضت بنسبة النصف موازنة البحث عن الطاقة القابلة للتجدد وبنسبة 28 في المئة الابحاث حول السيارات غير الملوثة.

نقع على المستوى الدولي على رفض مماثل لاي شكل من اشكال التضامن، فإدارة بوش رفضت توقيع اتفاق كيوتو حول تسخن الارض وخانت وعودها في الحد من انتشار ديوكسيد الكاربون ونجحت في تأجيل الاتفاق حول خفض نسبة الزرنيخ في مياه الشرب الى معدلات "مقبولة". كما انكرت اخيرا تعهدها بتوظيف 100 مليون دولار سنويا في حماية الغابات الاستوائية.

مختصر الكلام مقابل الهيمنة الاميركية على العالم مشروع منهجي لتدمير التضامن، وليس سلوك واشنطن في العراق سوى مثال من بين امثلة اخرى على هذا النهج. فانتصارها المتوقع من زمن طويل بفضل مزيج بارع من رشوة المسؤولين البعثيين والتهديد الوقائي لقوات النخبة، تحول الى استعراض للقوة العظمى من طريق القصف الدموي للاحياء الشعبية والشوارع التجارية. ثم يقوم المحتل بتركيز الفوضى الدائمة والعمل على تنظيمها. تبقى في ذاكرة المشاهدين صورة الوجوه اللامبالية لرجال البحرية الاميركيين (أشبه بالرجال الآليين) في اسوأ لحظات النهب في بغداد. ليس من استعارة افضل من صورة العراق المحتل للتعبير عن نفور المواطن "الولاياتي المتحدي" من ادنى اشارة الى التضامن وهوسه في اعادة خلق ــ كما في قعر المدن الاميركية نفسها ــ ديكورا عالمثالثيا متداعيا يقطنه الآخر المغلوب والمذلول والعاجز عن الخروج من نكبته. كأن المطلوب نقل الكراهية الى ما لانهاية.

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مدير ابحاث في المركز الوطني للابحاث العلمية في باريس. من مؤلفاته

 Société-Monde, le temps des ruptures, La Découverte, Paris, 2002 ; et Entre esprit et corps. La culture contre le suicide collectif, Anthropos, Paris, 2002

[2] ابراهام لنكولن (1809-1865)، جمهوري ومناهض للعبودية.

[3] كولومباين هي مدرسة ليتلتون حيث قام شابان بقتل 14 طالبا في /20/4/1999 يوم عيد مولد هتلر.

[4] اول رئيس للولايات المتحدة عام 1801.

[5] رسالة الى جيمس مونرو في11/6/1823.

[6] المثال على الحساسية المختلفة يظهر في نداء الرئيس البرازيلي انياسيو "لولا" دا سيلفا من اجل برنامج عالمي ضد الجوع.

[7] رسالة الى ادوارد كارنغتون بتاريخ 27/5/1788

[8] رسالة الى ريتشارد راش بتاريخ 20/10/1820  ارسل راش الى انكلترا لمدة 8 سنوات حيث عقد العديد من المعاهدات.

[9] رسالة الى جايمس مونرو (المذكورة سابقا)

[10] توماس وودرو ويلسون (1856-1924) من انصار نظام الامن الجماعي وعصبة الامم.

[11] Johann Hari, " A disputed Legacy "   Times Literary Supplement,  Denville, 28 mars 2003, p p14 et15

[12] مقابلة

"Les conservateurs au pouvoir ne représentent pas l Amérique ", Libération, Paris,4 mai 2003.

[13] American Empire, the realities and consequences of US diplomacy, Harvard University Press


 



#دنيز_دوكلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ارباب العمل الفاسدين والقتلة المجانين


المزيد.....




- تحليل لـCNN: كيف غيرت الأيام الـ7 الماضية حرب أوكرانيا؟
- هل الدفاعات الجوية الغربية قادرة على مواجهة صاروخ أوريشنيك ا ...
- كيف زادت ثروة إيلون ماسك -أغنى شخص في العالم- بفضل الانتخابا ...
- غارة عنيفة تهز العاصمة بيروت
- مراسلة RT: دوي انفجارت عنيفة تهز العاصمة بيروت جراء غارة إسر ...
- عاجل .. صافرات الانذار تدوي في حيفا الآن وأنباء عن انفجارات ...
- أوستن: القوات الكورية الشمالية في روسيا ستحارب -قريبا- ضد أو ...
- ترامب يكشف أسماء جديدة رشحها لمناصب قيادية في إدارته المقبلة ...
- البيت الأبيض يبحث مع شركات الاتصال الاختراق الصيني المشتبه ب ...
- قمة كوب29: الدول الغنية ستساهم ب 250 مليار دولار لمساعدة الد ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - دنيز دوكلو - قصة تضامن مستحيل الذهان الهذياني وثقافة الحقد في اميركا