الثلاثاء 2003-08-05
(1)
تشهد البلاد موجه جديدة من الاحتجاج الاجتماعي والتي تأتي كرد على سياسة الحكومة الاقتصادية وخطتها الجديدة، التي تهدف الى ضرب الطبقات والفئات الفقيرة كالعائلات احادية الوالدين والعاطلين عن العمل والاطفال، لاغناء اغنياء البلاد والعالم. موجة الاحتجاج الاخيره مكونة من متضرري الخطة الاقتصادية وبشكل خاص فئة الامهات أحادية الوالدين. مع كل الاهتمام الاعلامي والجماهيري الذي يلاقيه هذا النضال الى انه يعاني من محدوديات عديدة تجدر مناقشتها. مناقشة هذه المحدوديات لا تلغي اهمية هذا النضال بل العكس، فاعمال الاحتجاج الاخيره تعتبر خطوة هامة لا بد منها لمواجهة سياسة الحكومة ويجب تصعيد هذا النضال.
لقد سبق موجة الاحتجاج الاخيره موجات عديدة كنضال العمال في القطاع العام والشركات الحكومية وسائقي الشاحنات والمعاقين والمعلمين والاطباء وعمال المصانع التي اغلقت والمحاضرين في الجامعات والطلاب الجامعيين وغيرها. كل على حدة، حاولت هذه المجموعات ان تحافظ على مصالحها وان تحسن من وضعها. وينتهي عادة نضال كل مجموعة في الاونة الاخيرة إما بالفشل او بتحقيق بعض الانجازات او حتى بموافقة المجموعة المتضررة التي تخوض نضال على التنازل عن قسم من حقوقها من اجل الحفاظ على اخرى او الموافقة على فصل قسم من العمال وما الى ذلك، وقد برز هذا في الاضراب الاخير الذي اعلنته الهستدروت.
المثير للانتباه ان كل واحدة من هذه المجموعات عندما قررت الشروع بحملة احتجاج خاصة بها استطاعت ان تثير ضجة واهتمام جماهيري وضغط معين على الحكومة ومتخذي القرارات فيها. وهنا لا بد من ان يسأل السؤال لماذا تخرج كل مجموعة منفردة الى الشارع ولماذا لا يكون هناك هبة من جميع هذه المجموعات سوية من اجل تحقيق حقوقها وحماية مصالحها؟ اليس قيام حركة احتجاج من هذا النوع سيهز الحكومة ويشل البلاد ويأتي بثمار افضل من انفراد الحكومة بكل مجموعة على حدة؟ في هذا المقال سأحاول ان اتطرق الى العوامل التي تمنع نشوء نضال شامل في اسرائيل. هدف المقال هو استعراض موجز لهذة النقاط والمحدوديات بهدف مناقشتها مع العلم ان كل نقطة من هذه النقاط المرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً تستحق دراسة عميقة بمفردها. ساتطرق في هذا المقال الى مميزات هذه المرحلة وظروف النضال فيها والدور الذي يجب ان نضطلع به كحزب شيوعي وكجبهة.
(2)
لقد استطاع النظام الرأسمالي ان يطور اساليبه بالشكل الذي منع بلورة وعي طبقي مشترك لهذه المجموعات ومنع منها ان ترى بنفسها طبقة واحدة مستغلة، فكل مجموعة او فئة من هذه الفئات ترى الامور بمنظار ضيق ومحدود. هذه المجموعات لا تعي السبب الاساسي لوضعها الا وهو النظام الرأسمالي لذلك لا تملك اهداف لتغيير المجتمع بشكل جذري وانما تناضل من اجل تحسين ظروف العمل والاجور، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية واستفحال الهجمة الرأسمالية عالمياً على حقوق العمال، تناضل من اجل الحفاظ على الوضع القائم في احسن الحالات. فنضال العمال والفقراء اليوم ليس من أجل تحسين ظروف العمل والاجور بل من اجل الحفاظ على ما انجز مثل صناديق التقاعد وسائر الحقوق الاجتماعية.
الاقتصاد الرأسمالي في المرحلة الحالية من العولمة جعل كل مجموعة من هذه المجموعات ترى بفئات عمالية اخرى عدو لها في حالة خوضها لنضال من اجل مصالحها وقد رأينا امثلة حية لوقوف عمال ضد عمال في نضال عمال الموانئ وسائقي الشاحنات وغيرها، فبدل ان تقف المجموعتين معاً في خندق واحد ضد عدو واحد، وقفت مجموعة ضد اخرى لانها رأت بها العدو. يبرز بشكل واضح هنا عدم وجود تضامن عمالي، فعندما تخوض كل مجموعة لوحدها نضالاً من اجل حقوقها هي وتوقع على اتفاقية ملزمة فانها لا تستطيع ان تقف الى جانب اي مجموعة اخرى عندما تخوض هي الاخرى نضالاً من اجل حقوقها. لذلك ليس صدفة الحرب المبرمجة التي تشنها الانظمة الرأسمالية ضد النقابات العمالية، ففي اسرائيل مثلاً فقدت الهستدروت الكثير من قوتها وتأثيرها. اعلان الهستدروت عن اضراب عام وشامل في الاقتصاد فقد من قيمته لان معظم العمال غير منظمين في الهستدروت. لذلك يمكن القول اليوم انه لا يوجد في البلاد نقابة لجميع عمال البلاد وبالتالي لا يوجد نظرة شمولية للنضال العمالي. الهستدروت تنظم في صفوفها قسم كبير من العمال الذين يعملون في القطاع العام او في الشركات الحكومية اما القسم الاكبر من العمال فهو غير منظم بالمرة او انه منظم في نقابات منفردة غير ملزمة بالاشتراك في النضالات التي تعلن عنها الهستدروت. عملية الخصخصة ساهمت هي الاخرى في احداث بلبلة في التنظيمات النقابية العمالية فمعظم العمال في القطاع الخاص غير منظمين في نقابات عمالبة تدافع عن حقوقهم. كذلك في اي نضال عمالي لا يؤخذ بالحسبان فئة هامة الا وهي العاطلين عن العمل. ضعف الهستدروت واخطائها ودعاية الحكومة القوية الموجهه ضدها زعزع من ثقة العمال بها وبخطواتها لذلك برز في الاضراب الاخير ظاهرة العمال الذين لم يلتزموا بقرار الاضراب (ظاهرة التريمبيست) وفضلوا الذهاب الى العمل، على الاقل لضمان عدم خصم ايام الاضراب من معاشهم الذي لا يحتمل الخصم ( وفي حالة نجاح الاضراب سيتمتعون من هذه الانجازات).
تجربة الهستدروت في اسرائيل تظهر بشكل قاطع انه ليس المهم فقط وجود نقابة عمالية بل يجب ان يكون لهذه النقابة رؤية طبقية نضالية حقيقية. بدون الرؤية الطبقية والوعي الطبقي، تفقد نقابات العمال المعايير الصحيحة لاتخاذ القرارات لصالح الطبقات المسحوقة وتختل اليات النضال وتتحول النقابة الى مجموعة مصلحة اضافية ناشطة في المجتمع ما يهمها هو مصلحتها هي كمنظمة رسمية وكجهاز بيرقراطي ومصلحة اعضائها. معظم العمال المنظمين في الهستدروت ينتمون الى ما يسمى اللجان الكبرى كعمال شركة الكهرباء والصناعات العسكرية وغيرها. نسبياً وضع هذه الشريحة من العمال افضل بكثير من وضع معظم العمال في البلاد، من هنا الاتهام الذي يلاحق الهستدروت انها لا تدافع عن الشرائح الضعيفة من العمال.
(3)
الانظمة الرأسمالية تعرف كيف توجه النقمة الى عناوين اخرى وليس اليها. فسبب مشكلة البطالة حسب تفسيرات الحكومات الرأسمالية عادة ينبع من وجود عمال اجانب ومهاجرون واقليات. لذلك تنتشر مظاهر العنصرية والفاشية والحركات النازية الجديدة في دول الراسمالية خصوصاً عند نشوء ازمة اقتصادية. في اسرائيل ايضاً تدعي الحكومة انه لا يوجد مشكلة بطالة اصلاً لانه يوجد في البلاد عدد عمال اجانب مساوي لعدد الاسرائيليين العاطلين عن العمل وبذلك تحاول الحكومة توجيه النقمة الى العمال الاجانب او الى العمال الفلسطينيين من الضفة والقطاع او حتى الى الاقلية العربية في اسرائيل. تأجيج الصراعات القومية او العرقية هي طريقة شائعة وقديمة تستغلها الدول الرأسمالية لصرف النظر عن ضرباتها الاقتصادية وتمريرها بهدوء دون تفجر الاحتجاج الشعبي ضد هذه الضربات وكذلك لمنع نشوء حركة احتجاج ونضال يشترك فيها ابناء الطبقات المستغلة من خلفيات وانتماءات مختلفة ضد المسؤول الحقيقي عن الفقر والاستغلال والبطالة.
الحركات الاجتماعية في اسرائيل لا ترى العلاقة ما بين الاحتلال والاوضاع الاجتماعية الاقتصادية لذلك قد نرى قسم من اشد المحتجين والمحتجات على ضربات الحكومة الاقتصادية يملك افكار واراء يمينية حول الصراع العربي الفلسطيني مثلاُ. فالنضال من اجل السلام مفصول عن النضال من اجل العدالة الاجتماعية ولقمة العيش والمساواة القومية.
في حالات عديدة نلاحظ ان المجموعة التي تخوض نضال من اجل حقوقها غير معنية بربط قضيتها بقضايا اخرى خوفاً من ان يؤثر هذا الربط على تعاطف الرأي العام معها وعلى مصير نضالها هي. من هنا التخوف من تسييس النضال الاجتماعي ووضع قضية المجموعة في سياق اكثر شمولية.
(4)
الذاتية في نضال المجموعات المختلفة مرت بعملية مأسسة فلكل مجموعة متضررة توجد جمعيات ومنظمات وجماعات مصالح ولجان شعبية منفردة. كل تنظيم من هذه التنظيمات يبني استراتيجية وتكتيك خاص بالمجموعة التي يمثلها وبمصلحته كمنظمة اجتماعية. هذا النوع من التنظيمات قد يساهم في دفع مصالح مجموعة معينة الى الامام ولكنه يمنع تسييس معركة المجموعة بوضعها في السياق العام والشامل وبالتالي يمنع السعي لحل مشكلة المجموعة بشكل جذري. لهذه التنظيمات التي تخوض وتقود النضال الاجتماعي في اسرئيل لا يوجد ايديلوجية تساعدها على فهم جوهر الصراع في النظام الرأسمالي لذلك فان التحالفات والتعاون الذي قد ينشأ بين مجموعة واخرى هنا يأتي في سياق التكتيك وليس الاستراتيجية النضالية التي ترى بجميع القضايا الاجتماعية قضية واحدة وتسعى لتغيير المجتمع بشكل ثوري.
هذا النوع من التنظيمات الفاعلة والناشطة بل والمحركة في كثير من الاحيان يلعب دوراً هاماً في تنظيم النضال الاجتماعي ونقل الاحتجاج من مرحلة الانفجار التلقائي والعفوي (والعاطفي احياناً) الى مرحلة اكثر منظمة واكثر مدروسة مع ضمان الاستمرارية في الاحتجاج بالطرق المختلفة. بروز تنظيمات من هذا النوع جاء نتيجة الفراغ الذي تركته الاحزاب العمالية واليسارية والاشتراكية والشيوعية والنقابات العمالية. مع كل الايجابيات والدور الهام لنضال جميع هذه التنظيمات الى انه سيبقي النضال الاجتماعي في نفس الدائرة حيث ينقصه ابعاد كثيرة للانتقال الى مرحلة اكثر ثورية في الاهداف والرؤية. ينقص النضال الاجتماعي مرحلة جديدة ترتقي به الى مستوى اعلى حيث يتم تسييس نضال جميع المجموعات المتضرره والربط بينها بشكل عضوي ونشر وعي طبقي حقيقي يساهم في توحيد النضال وبلورة استراتيجية جديدة اكثر ثورية وشمولية ترى المشترك بين جميع الفئات المستغلة في البلاد والعالم وترى بهذا النضال كجزء من حركة عالمية ضد العولمة والاستغلال الرأسمالي في كل مكان.
(5)
في المرحلة الحالية من العولمة بدأ التراجع في دولة الرفاه والتي برزت كبديل للاشتراكية. ففي دولة الرفاه يبقى الاطار الرأسمالي العام لكن مع بعض التنازلات القليلية بهدف امتصاص نقمة الطبقات المسحوقة بحيث لا تشعر انها مسحوقة وبالتالي تضمن هذه الاستراتيجية الرأسمالية عدم ظهور بديل ثوري يسعى لتغيير النظام الرأسمالي. منذ انهيار الكتلة الشرقية و"اختفاء" البديل الاشتراكي اخذت اطماع الرأسماليين تتزايد في العالم مما ادى الى استشراس الهجمة على الحقوق التي انجزتها الطبقات المسحوقة في السابق. تقليص الخدمات التي قدمتها "دولة الرفاه" الى الحد الادنى وسياسة افقار الفقراء واغناء الاغنياء اخذت تستفحل في جميع دول العالم بوتيرة سريعة تعيد الطبقات المستغلة والفقيرة الى مرحلة غابرة من تاريخ الرأسمالية حيث يعمل العامل بدون حقوق اجتماعية وبدون اي ضمان لمستقبله ومستقبل عائلته.
في هذه الظروف يتعاظم الاستقطاب والفجوات الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع بين من يربح من هذه التوجهات الاقتصادية ومن يخسر منها. وباعتقادي فان اطماع الرأسماليين لن تتوقف عند هذا الحد وبالتالي فان توجهاتهم واطماعهم ستزيد من حدة النقمة ضدهم. فاذا استطاع الرأسماليين في السابق امتصاص نقمة العمال بواسطة دولة الرفاه فان اطماعهم اليوم ادت الى انهيار "صمام الامان" الذي يمتص هذه النقمة.
في اسرائيل بوشر منذ نهاية القرن الماضي بتطبيق هذه التوجهات العالمية وما تفعله حكومة شارون نتنياهو اليوم هو تسريع واتمام عملية التحول البنيوي في الاقتصاد الاسرائيلي حسب متطلبات هذه المرحلة من العولمة. هذه التحولات ستجعل من ابناء الطبقات المسحوقة لا يجدون لقمة الخبز في بيوتهم وسيجعلهم يعيشون في ظروف لا تحتمل. ربما استطاعت الحكومة اسكاتهم في السابق بالفتات مما تدفعه من مخصصات التأمين وضمان الدخل لكن اليوم وبعد هذه التقليصات الحادة تدفع بهم الى مخيمات الاحتجاج والمظاهرات والى عالم الجريمة والى اليأس والى التجارة باعضاء الجسم لضمان لقمة العيش للاطفال.
(6)
اعتقد انه لا يوجد ظروف اكثر ملائمة من هذه الظروف للرقي بالنضال الاجتماعي في اسرائيل الى مرحلة اكثر ثورية. ان هذه الخطة التي تنفذها حكومة اسرائيل بهمجية قصوى قد تكون الشرارة التي سينطق منها اللهيب. اعتقد ايضاً ان للحزب الشيوعي والجبهة دوراً حاسماً في احداث هذه النقلة النوعية في النضال ان كان ذلك بخطاب الحزب وبتوجهه الفكري المميز او في المشاركة الفعلية والمشاركة في قيادة هذا النضال. علينا ان نناقش هذا الدور وهذه المرحلة بعمق وان ننطلق بهذا التوجه الى الامام.
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/