أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - هايل نصر - في العدالة















المزيد.....



في العدالة


هايل نصر

الحوار المتمدن-العدد: 1865 - 2007 / 3 / 25 - 11:53
المحور: حقوق الانسان
    


العدالة كلمة تكلس معناها في القاموس العربي الحديث, وهي, وإن لم تزل موجودة فيه كلفظة مجردة مفارقة, تبقى غير مرتبطة بالواقع المعاش, ولا صلة لها به, كما لا يمكن الاستدلال عليها بمثال أو دليل حسي, منذ ظهور الأنظمة الشمولية وتجذّرها في واقعنا العربي. ولعل العدالة كانت تعني شيئا ما للأجيال التي عاشت في حقبة ما قبل بدء الانقلابات والدكتاتوريات العسكرية , ليس لأنها كانت مزدهرة, ووسائل تطبيقها متطورة, ولا لأنها مطابقة لبعض المفاهيم التي سنتطرق إليها, وإنما لأن الأيمان بها, كفضيلة, أو كنوع من الإنصاف, كان مازال قائما, وكان التنكر لها يلقى الاستهجان و الشجب, ليصل إلى رفع الصوت عاليا, والاحتجاج. ولأن وسائل إفسادها كانت لم تنتشر بعد ولم تعمم, وإحساس المظلومين بوجودها, والأمل بالحصول عليها, كان ما يزال في النفوس.

العدالة مفهوم يحمل معان متعددة بتعدد الزوايا التي ينظر إليها منها. فهي قيمة valeur من مجموعة قيم, مثل الشجاعة, والحكمة, والاعتدال, حسب ما كان ينظر إليها في عهد الإغريق, ولكن قيم الشجاعة والحكمة والاعتدال قيم شخصية ذاتية. أما العدالة كقيمة, فهي إلى جانب ذلك, تنطوي على ما هو واجب الشخص تجاه الغير ( Didepent dans ses entretiens avec Catherine و تتضمن توازن بين المصالح المتنافسة ـ من هنا الرمز لها بالميزان ـ كما تتضمن إعادة لكل ذي حق حقه. وقد ربط المستشار Aguesseau ( 1668 ـ1751 ) بينها وبين القانون بقوله: ينتظرا لمتقاضي من العدالة قرار إنصاف, في حين أنها لا تستطيع إعطاءه إلا قرار القانون.

عرف مفهوم العدالة, تطورات كبيرة عبر التاريخ, حملتها وغذتها التيارات الفكرية والفلسفية والدينية والأدبية والقانونية. وقد طرح نتيشه على نفسه التساؤلات التالي: ماهي العدالة؟ هل هي ممكنة؟ و هل يمكن ان تكون الحياة محتملة بعدم وجودها؟ .

تشمل العدالة فيما تشمل من مفاهيم واسعة, العدالة الاجتماعية الهادفة لتحقيق المساواة بين الأفراد والجماعات. كما أنها تستعمل للدلالة على مجموعة المؤسسات القضائية المكلفة بالنظر في الدعاوى بين الأشخاص العاديين, وبين هؤلاء وبين الدولة. فبمفهومها الأخير هذا سوف نتحدث عنها في السطور القليلة القادمة.

كل مجتمع متحضر يقوم على مسلمة أساسية تقول بأن أحدا لا يستطيع أن يقيم العدالة لنفسه بنفسه nul ne se fasse justice à soi-même , و إلا عمت الفوضى و الاضطراب. فإقامتها تتطلب علاقات منظمة بواسطة القانون و الأعراف و العادات. وتتطلب, في الوقت نفسه, وجود شخص ثالث حيادي يقوم بعمل السلطة, بموضعية كاملة, للبت في القضايا, و إيجاد الحلول المناسبة لها, والنطق بالحكم فيها. ومنه جاءت ضرورة وضع قضاة, تحت تصرف المواطنين, مهمتهم البت في القضايا التي تخصهم.

وعلى عاتق الدولة, باعتبارها مسؤولة عن النظام العام في المجتمعات الحديثة, يقع واجب إقامة العدالة واحتكار القضاء. وهذا ما هو معمول به, رسميا, في جميع الدول مهما اختلفت أنظمتها السياسية. وعليه فهي تقوم بتنظيم مرفق عام مؤلف من هيئات متعددة تسمى المؤسسات القضائية, أي: المحاكم les tribunaux والمجالس القضائية les cours . ويوجد في الواقع لدى غالبية الأنظمة السياسية الديمقراطية, أنواع متعددة من النظم القضائية, منها المختص بالنظر في المنازعات بين الأشخاص العاديين, وهذا ما يسمى عادة بالقضاء المدني. ومنها القضاء الجزائي المتكون من محاكم المخالفات والجنح والجنايات. والقضاء الإداري, في الدول التي تأخذ بازدواجية القضاء, المختص بالإدارة ومنازعاتها, ومنازعات الأفراد العاديين معها, ومنازعاتها معهم. و تختلف تسميات المحاكم و تخصصاتها من دولة لأخرى.

ولكن هل يمكن الحديث عن قيام مرفق للقضاء يعمل بشكل طبيعي, لإقامة العدالة, في ظل أي دولة مهما كان طبيعة نظامها السياسي؟ فهل يمكن, في غياب دولة القانون والمؤسسات وفصل السلطات, وغياب نظام ديمقراطي يكفل للعدالة اليات العمل ان تقوم عدالة نزيهة جديرة باسمها؟
وهذا ما سيقودنا لإلقاء نظرة سريعة على مفهوم العلاقة بين الدولة والعدالة كما هو عليه اليوم.

الدولة والعدالة

" غير المتحضرين les barbares يخضعون للأشخاص. أما الشعوب المتحضرة فتخضع للقوانين" (Thucydide المؤرخ اليوناني 395 قبل الميلاد).

تزامن نشوء الدولة, بالمعنى الواسع, مع ظهور الحضارة. وكانت أثينا القديمة, التي ولدت فيها الديمقراطية, أول من بنى السلطات على أحكام القانون, مع كون القوانين وقتها غير ثابتة وسهلة التعديل إلى حد كبير. ويجد العديد من المؤسسات الحديثة في الدولة أصوله في روما القديمة التي ورثت تقاليدها من الإغريق, مع تطوير لاحق لها. فالجمهورية الرومانية انتهت بان تصبح إمبراطورية, وتولد عنها مفهوم الإمبراطورية الشاملة. أي أن العالم يجب أن يتحد تحت "دولةـ إمبراطورية" واحدة. Etat- Empire ــ ولعل فكرة الامبراطورية مازالت تحلو إلى اليوم لبعض غلاة فرض النفوذ والهيمنة عن طريق القوة لتحقيق شكل من أشكال الإمبراطورية, بوش على سبيل المثال ــ.

وليس الهدف هنا المتابعة التاريخية للبحث عن اصل الدول, ونشأتها, وتطورها, وأنواعها ولا عن مفهومها في القانون الدستوري والقانون الدولي, وإنما تكفي الإشارة إلى أن مفهوم الدولة الحديثة, كشخص معنوي ومفهوم قانوني, دخل المصطلحات السياسية في القرن السادس عشر, ليقيمها على أركان أساسية ثلاثة: سكان يؤلفون البيئة الاجتماعية. إقليم بحدود معينة. سلطة منظمة تمارس داخل هذا الإقليم.

فالدولة هي صاحبة الحق المعنوي والدائم للسلطة. فهي نفسها التي تخلق السلطة. وهذه الأخيرة في صيغتها العامة, هي المولد لفكرة القانون والقوة التي تدخل في النظام القانوني الوضعي. ويعتبر الحكام فيها مجرد موظفين لممارسة هذه السلطة و بشكل عابر. Georges Burdeau. Droit constitutionnel et Institution politiques) ) . فالحكام ــ الذين تضفي عليهم القدسية في منطقتنا ــ ليسوا, في المفهوم القانوني, الديمقراطي, والحضاري, إلا مجرد موظفين مؤقتين مكلفين بإدارة الشؤون العامة في الدولة, بواسطة قرارات, و أوامر يتخذونها وينفذونها بالطريقة التي يتطلبها حسن سير وظائفهم.

ولكن لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم الدولة الحديثة يستدعي قبل كل شيء مفهوم السلطة المنظمة, الفعّالة, والحامية. فالدولة شكل من التنظيم الاجتماعي يضمن التصدي للأخطار الخارجية والداخلية, لتأمين أمنها وأمن مواطنيها في الداخل والخارج. ولهذه الغاية تبني قوة عسكرية للدفاع عن نفسها ضد كل تدخل خارجي . وتبني للداخل قوة لفرض النظام العام والأمن تملك وسائل الإكراه والضغط.

ولا توجد دولة قابلة للحياة دون توفر قدر كاف من التجانس الاجتماعي بين شعبها, مهما كانت مركباته وخصائصه. و لا دون تنظيم هرمي يسمح للسلطة فرض هيمنتها وتثبيت هيبتها, وتنفيذ قراراتها. على أن ذلك يفترض وجود ضوابط وآليات وضمانات, حتى لا يستغل مفهوم امن الدولة للتعدي على حقوق الإنسان والمواطن, منها: الشرطة. النيابة العامة Ministère public . المحاكم العادلة. هيئات الدفاع عن المواطنين.الأحزاب السياسية. الإعلام الحر بشتى وسائله. النقابات المهنية. الجمعيات المدنية. رجال الفكر والمثقفون. نقابات محامين ملتزمة بشرف المهمة. و رأي عام حر فعّال يراقب ويؤثر بشكل مباشر وغير مباشر. فحماية العدالة ليست فقط جهد المحاكم وحدها.

من غير الممكن فصل مهام الدولة عن سلطاتها, ووظيفتها عن قوتها. فالخدمات التي تقدمها تختلط مع امتيازات الدولة التي تمارسها. Prérogative

ويتميز مفهوم الدولة, الذي هو مفهوم قانوني عن مفهوم القومية Nation أوالأمة. الذي هو مفهوم سياسي. ــ في العالم العربي هناك تمييز بين مفهوم القومية , أو الأمة العربية, وبين الأمة الإسلامية التي تتكون منها الدول غير العربية ــ وان كل قومية تعمل للانتظام في دولة. يرى المنظرون العديد من العوامل, الصالحة لتماسك القومية أو الأمة, يريدها البعض عديدة لتكون كافية لذلك, ولا يرى آخرون ضرورة تعددها, ونذكر منها اللغة, والعادات والتقاليد, والمصالح المشتركة, والدين والثقافة. ويرتبها كل منظر حسب وجهة نظره ليعطيها الأهمية التي يريد. وليس هنا مجال الدخول في هذه المواضيع التي تتطلب بحوثا خاصة. والتي تناولها الباحثون, ورجال الفكر, والعقائد والأحزاب السياسية, من شتى القوميات, بدراسات ومؤلفات عناصر التناقض فيها أكثر بكثير من عناصر التجانس.

سير العدالة مرتبط ارتباطا وثيقا بدولة القانون

اشرنا في مقال سابق إلى بعض صفات دولة القانون. ونشير هنا إلى أن استقامة سير العدالة لا يمكن أن يكون إلا في دولة تخضع للقيود الناشئة عن القواعد التي وضعتها الدولة بنفسها, أي أن الدولة ذات السيادة, تقيد نفسها بنفسها. وهو ما يسمى التقييد الذاتي auto-limitation . فهي في علاقاتها مع مواطنيها تشدد على دور القانون كحماية أساسية لهم. وتقيد أعمال السلطات العامة. فالقانون قواعد آمرة أو مانعة يضعها صاحب السيادة. تقنن للصالح العام, لا للصالح الخاص, وللجميع, وليس لشخص معين. وللمستقبل. والقانون بهذه الصفة لا يمكن إلا ان يكون عادلا. فلا يمكن تصور العدالة في دولة مستبدة

فالدولة التي تحتكر إصدار القوانين وتطبيقها, تخول القوة العمومية تطبيق القوانين الجزائية. ويكون هذا التطبيق في الحالات العادية بإشراف القاضي.

تحكم دولة القانون قاعدة التدرجية القانونية hiérarchie. فالتدرجية آلية تقييد للسلطة, بتقييد القائمين عليها بقواعد الدستور. حيث لا يمارس الحاكم وظيفته إلا بالمطابقة مع أحكام الدستور. واحترام ما فوضه له, وعدم تجاوز هذا التفويض. و إلا أصبحت أفعاله غير دستورية, وباطلة لعدم خضوعها لقواعد المشروعية. ووفقا لها تخضع القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة الأعلى منها مباشرة في السلم الهرمي البناء.

و تكون الأولوية لضبط السلطات ومنعها من التجاوز على حريات المواطنين. أو الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون. ولان السلطة بطبيعتها تنزع للتسلط, ولا تنقصها الوسائل في ذلك, كان لابد من تطبيق مبدأ فصل السلطات لإيقافها عند حدها. ولا يكون ذلك إلا من قبل سلطة موازية ومعادلة لها في القوة. فالسلطة توقف السلطة, حسب التعبير المشهور لمنتسكيو القائل بفصل السلطات.

مبدأ التدرجية, والخضوع للقوانين, وضبط السلطة ومنعها من تجاوز اختصاصاتها, واحترام حقوق الإنسان والمواطن, واحترام مبدأ المساواة, والحريات العامة والفردية, لا تستقيم إلا في ظل الأنظمة الديمقراطية.

تفرض دولة القانون مبدأ المساواة أمام القضاء بين الأفراد العاديين, وبينهم وبين المسؤولين السياسيين والإداريين. بحيث لا يكون لهؤلاء أية امتيازات أو استثناءات بحجة أنهم عمال الدولة, يمثلون الوطن. كما أن حق كل فرد أو جمعية مدنية الاعتراض على تطبيق قاعدة قانونية غير مطابقة لقاعدة قانونية أعلى منها, طبقا لمبدأ المشروعية, حق مصان وغير منازع فيه.

في إطار مثل هذه الدولة, دولة القانون, يمكن, دون خداع, التحدث عن إمكانية إقامة عدالة نزيهة.

استقلال القضاء

سلطة التقاضي هي من امتيازات السيادة إلى جانب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وفصل السلطات أصبح رمزا للحريات التي تعتبر جزءا من العلم السياسي. ولكن الواقع , ودائما في الدول الديمقراطية, يظهر أن الفصل المطلق بين هذه السلطات الثلاثة واحترام هذا الفصل لا يمر دون صعوبات يتطلب تذليلها العديد من الضوابط والرقابة المستمرة.
فعمل القضاء يختلف عن عمل التشريع. فالمشرع يصدر القوانين, والتي تعرف على أنها قواعد عامة ومجردة لا تستهدف حالات خاصة, كما أشرنا. في حين أن القاضي مكلف بتطبيق القاعدة القانونية لحل النزاع المعروض عليه. وضمن منطق الفصل بين السلطات فان عمل التشريع وعمل القضاء مختلفان. وكل منهما مناط بهيئة لها استقلالها تجاه الأخرى. فاستقلالية التشريع محمية بمنع القاضي من التدخل في العمل التشريعي . وان صاحب مهمة التشريع لا يجب عليه التدخل في أعمال القضاء.

وقد كتب منتسكيو بهذا الصدد, إن قوة التقاضي لا يجب أن تضاف إليها سلطات أخرى "إذا أضيفت القوة التشريعية إلى هذه القوة, فان السلطة على حياة وحريات المواطنين ستصبح تعسفية, لان القاضي يصبح مشرعا. وإذا أضيفت إليها قوة التنفيذ, يمكن عندها أن يصبح القاضي طاغية". ( روح القوانين XI,6 ).

أما علاقة القضاء بالسلطة التنفيذية, أي علاقته بالحكومة والهيئات الإدارية التابعة لها, فتثير مشاكل هامة ومعقدة. حسب المبدأ المذكور,لا يستطيع القاضي التدخل في أعمال السلطة التنفيذية. كما أن هذه الأخيرة لا تستطيع التدخل في أعمال القضاء. وهذا ما يرسخ ويعزز المطلب الجوهري والضروري, والدائم, الهادف لتعزيز استقلال القضاء والقضاة في مواجهة السلطة السياسية والإدارية. و منعها من إصدار أوامر, أو ممارسة ضغوط مباشرة أو غير مباشرة على القاضي لحثه على الحكم في اتجاه معين. فالقاضي يحكم بضميره وبمقتضى القاعدة القانونية واحترامها. فبدون الالتزام الكامل بمبدأ استقلال القضاء تبقى العدالة دون معنى.

ولكن كيف يمكن من الناحية العملية تحصين القاضي من تأثير السلطة التنفيذية, في الدول التي لا تعتمد طريقة انتخاب القضاة, وإنما تعيينهم كموظفين للقيام بمهام القضاء؟ فالحكومة التي تعينهم, بعد توافر الشروط المطلوبة لتعيينهم, وتخصصهم لعمل ذي مكانة وجاه, وتدفع مرتباتهم, وتعمل على ترقيتهم, وكذلك معاقبتهم في حالة ارتكابه خطأ مهنيا, وضمن الإجراءات والنصوص التي يحددها القانون الأساسي للقضاة. كيف, والحالة هذه, يمكن أبعادهم عن تعسف السلطة التنفيذية وعدم تمكينها من النفاذ من خلال هذا المدخل؟. الواقع أن القضاة يتمتعون بوضعية statut خاصة جدا تهدف لحماية استقلالهم. مع التمييز بين قضاة الحكم وقضاة النيابة. كما أن الأمر مختلف فيما يتعلق بقضاة القضاء الإداري.

مع ذلك,لا يمكن أن يكون هذا الاستقلال مطلقا, باعتبار أن القاضي يقوم بمهامه باسم الشعب, مطبقا القوانين الصادرة عن الدولة. بهذا المعنى يرتبط القاضي بالدولة, بعلاقات تبعية ولكنها تبعية لا تتجاوز الواجب المنصوص عليه قانونيا, والقائل بان على القاضي واجب تطبيق القواعد القانونية على القضايا المعروضة عليه للنظر فيها. و الدولة باحترامها لاستقلالية القاضي, لا يمكنها بأي شكل من الإشكال التدخل المباشر أو غير المباشر لممارسة أي ضغط عليه لحل نزاع معين. ففي فرنسا على سبيل المثال حددت المادة 12 من قانون الإجراءات المدنية الجديد هذه العلاقة. ولا يعني استقلال القاضي تجاه السلطة التنفيذية الفصل أو القطيعة rupture الكاملة بين القاضي والدولة.

استقلال القضاة مبدأ له قيمة دستورية. وهذا ما تنص عليه غالبية الدساتير, ومنها الدستور الفرنسي في مادته 64 فقرة 1. واعترف به المجلس الدستوري الفرنسي في قراره 22 جويليه 1980 . فقد جعل المجلس المذكور من الاستقلال مكون أساسي وضروري لممارسة وظيفة القضاء. كما ان المادة 64 فقرة 4 من الدستور نصت على عدم إمكانية عزل القضاة. وهذا يعني ان قضاة الحكم لا يخضعون لقرارات تعسفية من قبل السلطة التنفيذية. ولقضاة النيابة أحكام خاصة بهم.

وبقوم مبدأ استقلال القضاة أيضا في مواجهة أطراف الدعوى, وهو ما يبرر مبدأ مجانية القضاء. فالقاضي لا يأخذ أتعابه من المتقاضين. ويمنع هذا الاستقلال القاضي من القضاء في القضايا التي يكون لأحد أطرافها صلة قرابة به.

يلعب الرأي العام دورا كبير في حماية القضاة من التدخل السياسي والإداري, وهي خاصية لا يمكن توفرها إلا في الدولة الديمقراطية, وكثيرا ما يظهر ذلك في مواقفه بصدد العديد من القضايا التي يرى أنها لم تذهب إلى النهاية, نتيجة لممارسة الضغوط السياسية. . كما أن الرأي العام نفسه يمكن ان يلعب دورا مخالفا للسير الصحيح للعدالة, حين يمارس ضغطا معنويا على القضاة في القضايا الحساسة, فيطالب بأحكام سريعة و مشددة. نتيجة اعتقاده بمعرفة الحقيقة, تحت تأثير ما قد تنشره وسائل الإعلام والإشاعات. مما يقود أحيانا لتضليل القضاء والتسبب في الخطأ القضائي.

إلى جانب ما سبق عرضه, وبهدف ضمان حسن سير العدالة ونزاهة القضاء, تقف المبادئ الأساسية , التي هي حصيلة لتطور القضاء عبر تاريخه, ونذكر منها:

ـ مبدأ جماعية القضاء collégialité. أي أن تتشكل المحكمة من عدد من القضاة, ثلاثة على الأقل. فحسب القول الفرنسي المأثور " قاض فرد قاض جائرjuge unique juge inique ".

ـ مبدأ مباشرة القضاء دون رأي مسبق préjugé:. أي أن تكون كفتي الميزان متعادلتين قبل إصدار الحكم. فلا تبدأ المحاكمة بقناعة مسبقة, أو تقييم يؤثر في القرار الذي سيتخذ لاحقا.

ـ مبدأ من يحقق لا يجلس للقضاء qui instruit ne peut juger وهذا ينطلق من مبدأ فصل أعمال التحقيق أو الملاحقة القضائية عن أعمال الحكم. فقد أعطى المشرع مهمة التحقيق لقضاء منفصل كليا عن قضاء الحكم. وبشكل خاص في القضايا الجزائية.

ـ مبدأ عدم جواز عودة القاضي نفسه للقضاء مرة ثانية في القضية نفسها qui a jugé ne peut rejuger .
ولا مجال هنا لا يراد الاستثناءات المتعلقة بهذه المبادئ.
هذا إلى جانب مبادئ, أساسية أخرى مثل:
ـ المساواة أمام العدالة. التي تعني ان لكل شخص الحق في المحاكمة بنفس المحاكم. وحسب نفس القواعد الإجرائية. دون أي تمييز.

ـ مجانية القضاء. فليس المتقاضون من يدفع أتعاب قضاتهم. وبالعكس, يستفيد أصحاب الدخول المتواضعة منهم من مساعدات قضائية لتغطية رسوم ومصاريف الدعاوى أمام كل أنواع المحاكم ودرجاتها. دون تمييز بين رابح الدعوى وخاسرها.

ـ استمرارية قيام المحاكم بعملها على مدار الساعة و دون انقطاع. في دول مثل كندا وبريطانيا تنعقد المحاكم في فترات معينة من السنة. أما في فرنسا فهي جاهزة للانعقاد الدائم.

إلى جانب ما تقدم من مبادئ, وإجراءات, فان العدالة لا تقوم, و لا تستقيم دون احترام وصيانة حق الدفاع . ابتداء من معرفة طبيعة الدعوى وموضوعها, وفي القضايا الجزائية معرفة التهمة والمنازعة فيها. وحق اختيار محام دفاع و طلب مساعدته. والإطلاع على ملف القضية, والاحتفاظ بنسخة منه. والحرية في المحاجة القضائية. واستجواب الشهود. وطلب الخبرة التقنية. واستعمال جميع وسائل الطعن في الأحكام والقرارات الصادرة ضده. والطعن بعدم قانونية الإجراءات. والحق, في الحالات المبينة في القانون, بالتشكيك بنزاهة القاضي ورده.

تحقيق العدالة لا يتم فقط بصدور الأحكام والقرارات السليمة والنزيهة, وإنما بالعمل كذلك على متابعة تنفيذ هذه الأحكام والقرارات, وبالطرق القانونية التي تكفل وصول الحقوق المقضي بها لأصحابها.

أما في المجال الجزائي فلا يمكن الحديث عن العدل إلا بتطبيق العقوبة الملائمة للجريمة بعد معرفة الغاية منها. فمفهوم العقاب عرف تطورا كبيرا عبر القرون, منذ التشريعات القديمة والى يومنا هذا. وخاصة فيما يتعلق بأنواع العقوبات وكيفية تنفيذها. فقد كانت تتعمد, بشكل واسع, إلحاق اكبر قدر مستطاع من الإيلام بالمحكوم عليه والتنكيل به. ومثال ذلك ما أصدره قضاة محكمة ابفيل Abbeville Présidial de (فرنسا) في 1 جويليه/ تموز عام 1766 على شاب, في التاسعة عشرة من عمره, من حكم, أكدته محكمة باريس Parlement de Paris , يقضي بقطع لسانه, وفصل رأسه عن جسده , ورمي الرأس والجسد في المحرقة المستعرة. وكان التعذيب الجسدي وبتر الأعضاء والتنكيل والجلد وترك آثار على جسد المحكوم تسبب له إذلالا نفسيا طيلة حياته, هي السمات الأساسية للعقوبة.

بدأت بعدها التشريعات الحديثة تتجه بالعقوبة اتجاها إنسانيا يجردها من معاني الانتقام والإرهاب, لينحى بها إلى أن تكون مجرد وسيلة إصلاح لإعادة استيعاب المجرم في المجتمع, وإعادة الاعتبار إليه . ووضعت لها أهدافا منها مكافحة الجريمة, و إقرار العدالة, والدفاع عن المجتمع.

فكل عقوبة إذا لم تنتج عن ضرورة ملحة تكون عقوبة جائرة, كما اعلن منتسكيو. وكتب بيكاريا : من المصلحة العامة أن لا يرتكب في المجتمع أية جريمة, أو على الأقل أن تكون جرائم بسيطة لا تسبب أذى يذكر لهذا المجتمع. ولكن بمقدار ما تكون الجرائم مؤذية يجب أن تكون وسائل قمعها تعادل هذا الاذى. وعليه من الضروري إن تناسب العقوبة الجريمة المرتكبة. ( Beccaria, des délits et des peines, p. 72 ). فقد كان يحاول تطير فكرة ضرورة أن تكون العقوبة بضمانة القانون, وليس خارجه .

فالعقوبة الجزائية يجب أن تتلاءم مع درجة خطورة الجريمة المرتكبة, من جهة, ومع شخصية المجرم وظروفه, واحتياجاته في العلاج والمعاملة من جهة أخرى. أي " فردنة " individualiser رد فعل المجتمع على المجرم. ولهذا المبدأ قيمة دستورية.

فمفهوم فردنة العقوبة حديث نسبيا, بدأ في الانتشار في بداية القرن الماضي بعد الكتاب المشهور لساليال Saleilles ( De l’individualisation de la peine, 1902 ) ــ لم يصل مع ذلك, بعد قرن, إلى مسامع الغالبية المطلقة من دول منطقتنا العربية, أما في القضايا السياسية فلم يصل إلى أي منها ــ فقد كانت العقوبة تطال أسرة المجرم بكاملها فتمس أموالها وشرفها وسمعتها.

وعليه لم تعد تنتهي مهمة الهيئة القضائية بمجرد النطق بالحكم. فهي تتابع المحكوم عليه خلال تنفيذه لعقوبته لتساعده في تحمل آثارها ونتائجها. وحسب كل حالة.

توخي تحقيق العدالة, ضمن المفاهيم التي اشرنا إليها أعلاه, يحسن دون شك من سيرها, و لكن لا يمنع ولا يحصن من وقوع الجور أحيانا, و لا من الخطأ القضائي الذي يرتكب من حين لآخر. و لا يلغي بالمطلق إمكانية التأثير في القضاء, والمساس بالعدالة. ولهذا نرى الدول الديمقراطية في حركة مستمرة من الإصلاحات القضائية التي تطال كل درجات القضاء ومكوناته. وأدواته. لمواكبة تطور المجتمعات في كل نواحي حياتها. ومحاولة ترسيخ مبدأ المساواة بشكل فعلي, عن طريق النضال المتواصل لتعزيز حقوق الإنسان والمواطن, بتقليص آثار الامتيازات المرتبطة بالنفوذ والمال.

ففي بلد كفرنسا, كثيرا ما يفاخر بسير العدالة فيه, نرى بعض المفاهيم غير الواضحة ما زالت قائمة, ودور الامتيازات, رغم إعلان مبدأ المساواة أمام القانون, منذ أيام الثورة الفرنسية, مازال مؤثرا وهذا ما دعا أحد أشهر الممارسين لمهنة المحاماة, جاك فرجاس, أن يعرض في كتاب خاص أهم القضايا التي تبين كيل العدالة الفرنسية بمكيالين. فكتب : "إذا سألت رجلا شريفا عن هدف الدعوى الجزائية, فسيجيبك, تسع مرات من عشرة, البحث عن الحقيقية حتى تكون العقوبة عادلة. وهو بذلك يرتكب خطأ تسع مرات من عشرة. لأن هدف الدعوى الجزائية هو قبل كل شيء الدفاع عن النظام العام المهدد من قبل الجريمة ...ويمكن للدعوى أن تتجاهل الحقيقة للدفاع عن هذا النظام العام. فهذا الأخير ليس أبديا. فهو يعكس, في زمن معين, مصلحة طبقة اجتماعية معينة. النبلاء قديما, والمال اليوم. ففي مصلحة الأغنياء تنشط العدالة. وليس في مصلحة الفقراء والمهمشين.(Jacques Vergès Malheur aux pauvres, Plon, 2006, p.7).

إذا كانت الدول الديمقراطية في سعي دائم لتحسين سير العدالة في بلدانها, ووضعها في الطريق الصحيح, كلما تبين لها انحراف عنه, فإننا نرى في المقابل المحاولات الدائمة للدول الشمولية الاستبدادية لوضع يدها على القضاء وتجريده من وسائل وامتيازات السلطة القضائية, وحرفه عن مهامه لتجعله مجرد مرفق مروض اقرب إلى أجهزة الأمن منه إلى حماية المواطن ورد حقوقه إليه. فتقيم إلى جانب المحاكم العادية محاكم استثناء ذات اختصاصات واسعة وأحكام غير قابلة للطعن فيها. في ظل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية. ومحاولة تعيين رجال القضاء على أساس الموالاة وبعيدا كل البعد عن معايير الكفاءة والأهلية. ومحاربة أصحاب الضمائر منهم بكل الوسائل وتقييد فاعليتهم. مما يضعف ثقة المواطن بالقضاء ليصل أحيانا إلى حد اتهامه بالفساد المطلق.

فالعدالة تعمل على بناء الدولة الآمنة, بقمعها الاعتداءات على القوانين التي تضمن وتحمي الحريات العامة والفردية وحقوق الإنسان, وتراقب وتدين الممارسات غير المشروعة للسلطة العامة, وليس لقيام دولة أمنية لقمع المواطنين وحماية هذه السلطة.

أما في القضايا السياسية, فلا قوانين ولا محاكم جديرة بحمل اسمها, ولا ضوابط أخلاقية وإنسانية. فالمعتقل, حتى لمجرد إبدائه رأيا نقديا, شفهيا أو كتابيا, يعتبر اشد خطرا من المجرمين العاديين. ولا يخضع للمحاكمة إلى أن يتم تلفيق تهمة له. وكثيرا ما تمر عليه سنوات عديدة قبل ذلك. ويخضع لوسائل تعذيب وتنكيل جسدي ونفسي, بوسائل وحشية تتحدث منظمات حقوق الإنسان ومنظمات العفو الدولية, في تقارير موثّقة, عن بعض ما تعرفه عنها. وتبقى العقوبة إلى جانب كونها تهدف للتنكيل والإرهاب والإذلال وترك أثارها في جسد ونفس المعتقل ليعاني منها بقية حياته, جماعية لا تطال المعتقل وحده, وإنما تطال معه أفراد عائلته, وكل من يمت إليه بصلة قرابة أو معرفة. تهدف لنشر الرعب في المجتمع. دون النظر إلى النتائج البعيدة التي يمكن أن يتركه ذلك من آثار مستقبلية على مكونات مجتمعاتنا, و على العلاقات التي تقوم عليها هذه المجتمعات.

وعليه, وفي انتظار قيام دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية, تبقى العدالة "العربية" في مرحلة ما قبل التكوين. د. هايل نصر



#هايل_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الانتخابات الفرنسية.الفرنسيون من أصول مغاربية وانعدام الوزن
- أنت, انتم, لغة الجمع, وانتهاك حقوق الإنسان
- المواطن العربي. اضطهاد في الداخل, ومتابعة في الخارج
- الخوري بيير l’Abbé Pierre . دين وعلمانية
- المواطن العربي, ما قبل المواطنية
- في مفهوم الحريات والحقوق الأساسية
- في العلاقة بين الديمقراطية والمواطنية
- قضاة يقاضون قضاءهم فرنسا
- محامي الشيطان. مبالغة لفظية, أم إلزام مهني؟
- في معنى المواطنية
- حول علم السياسة
- اضافات عربية على الديمقراطية
- هجرة. التفاف على الوعود, وتسوية هزيلة
- هجرة ولتذهب القيم للجحيم!!!
- المنطقة العربية . منطقة تصد وممانعة للديمقراطية
- محامو تولوز. اخلاق مهنية عالية
- وهم أيضا من دعاة حقوق الإنسان !!!
- وهم أيضا دعاة حقوق إنسان !!!
- مثقفون ولكن ...
- حول دولة القانون


المزيد.....




- -اللعنة والنعمة-.. قصة خارطتي نتانياهو في خطابه بالأمم المتح ...
- لافروف يلتقي بسام الصباغ على هامش الجمعية العامة للأمم المتح ...
- تصفيق وصيحات استهجان ومقاطعة.. شاهد كيف استقبل نتنياهو في قا ...
- -رش الملح على الجرح- أمطار غزة تفاقم معاناة النازحين وتُغرق ...
- نتنياهو يتمسك بالحرب ويهاجم الأمم المتحدة ووفود دبلوماسية تق ...
- ضمت دولًا مثل السعودية ومصر وإيران.. نتنياهو يعرض خرائط -الن ...
- السوداني يعود إلى بغداد بعد مشاركته باجتماعات الجمعية العامة ...
- من جديد.. خرائط نتنياهو تعود إلى منصة الأمم المتحدة
- عدد من مندوبي الأمم المتحدة يغادرون جلسة الجمعية العامة أثنا ...
- لبنان يتسلم من الصين هبة بقيمة مليون دولار لمساعدة النازحين ...


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - هايل نصر - في العدالة