|
ثامناً: المادية التاريخية : مقدمة
عمر أبو رصاع
الحوار المتمدن-العدد: 1862 - 2007 / 3 / 22 - 12:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أميل دوما إلى رفض التسوية بين الماركسية والمادية الجدلية ، بل أكثر من ذلك إني أعتبر الماركسية هي تطبيق كارل ماركس للمادية الجدلية كمنهاج فلسفي معلمن في دراسة التاريخ.
الحقيقة أني أمج الخلط الذي تمتد جذوره التاريخية عميقا بين ماركس الباحث والمفكر العظيم من ناحية وبين عمله الموسوعي من ناحية أخرى ، وأجدني مضطرا هنا للحظة إلى التوقف عن متابعة دور الشارح المحايد للكشف عن جانب من رؤيتي للمسألة ليس بدافع النقد بل بدافع التقسيم المنهجي العلمي.
كيف ذلك؟
إن أكبر جريمة إرتكبها الماركسيون للأسف هي تحويل عمل كارل ماركس إلى عقيدة وقوالب جامدة ونصوص حرفية مقدسة ، يا لها من مهمة!
لقد جعلوا الماركسية ديانة!
تحتم علي الامانة العلمية أن أميز مبدئيا بين شقي النظرية الشق الذي تمثله المادية الجدلية والتي هي إكتشاف لقوانين الجدل المادي الناظم للوجود من ناحية والشق الذي طبق فيه كارل ماركس المادية الجدلية كعلم فلسفي في دراسة التاريخ والمجتمع والإقتصاد. إني هنا أدعوكم للتفكير في سؤال منهجي : هل المنهج العلمي ونتاج تطبيقه شيء واحد؟ إن هذا سيمثل منارة أساسية لاستشراف مستقبل مختلف للمادية الجدلية وللماديات التاريخية الناجمة عن توظيفها في الدراسة والتحليل.
إن المنهج العلمي الفلسفي في مساق دراستنا هذه هو تماما المادية الجدلية وقوانينها أما المادية التاريخية (الماركسية إن جاز التعبير) فهي نتاج تطبيق ماركس للمنهج المادي الجدلي في دراسة وتحليل التاريخ والمجتمع وتطورهما ، وإن الخلط الاعتباطي بينهما ليس في مصلحة كليهما ، ولعل ما هو أخطر من هذا إنضمام التطبيق الميداني (التجربة) إلى المادية الجدلية والتاريخية كذلك ، بإختصار أصبحت التجربة السوفيتية مثلا هي نفسها المادية التاريخية الماركسية وهي نفسها المادية الجدلية ، هذا يفضي بنا إلى خطأ معرفي قاتل فالقوانين العلمية ليست هي نفسها الدراسات التي أستعملت هذه القوانين ؛لأن توظيف القوانين قد لا يكون دقيقا أو قد لا يشتمل على كل عناصر التجربة التي يجب ضبطها معا ، كما أن هذه الدراسات أيضا ليست هي نفسها التجارب التي أجريت إستنادا لتلك الدراسات ؛لأن للتطبيق خصوصيته وظروفه التي لا تتطابق كذلك والدراسة أو القوانين بالضرورة.
في هذا المستوى سنكتفي بهذه الإشارات وربما نعود لاحقا في محاضرة أكثر تفصيلا حول هذه القضية.
ما هي المادية التاريخية؟
ليس أفضل من المقولة التالية لماركس كمدخل للمادية التاريخية :
اقتباس
it is not the consciousness of men that determines their existence, but, on the contrary, their social existence that determines their consciousness. Contribution to the Critique of Political Economy
هذا معناه: ليس وعي البشر ما يقرر وجودهم ، بل عكس ذلك ؛ وجود البشر الإجتماعي هو الذي يقرر وعيهم. (ترجمة فيها شيء من التصرف وحرفيا : إنه ليس وعي الرجال الذي يقرر وجودهم، لكن ، على العكس، وجودهم الإجتماعي هو الذي يقرر وعيهم)
إن ماركس يقول لنا هنا تماما ما نقوله نحن بكثرة "الإنسان إبن البيئة التي يعيش فيها" تماما ، إن ذلك صحيح ، لقد أتى ماركس بالفكرة ابتداء من مباحث المادية الجدلية إنها أساسا قضية اولوية المادة على الوعي ، وهنا تأخذ بعدا اكثر تعقيدا ، لقد بينا سابقا أن الوعي مظهر من مظاهر المادة هل يمكن أن يدعي أحد اليوم أن هناك إمكانية حدوث وعي بدون مادة؟
أليس التفكير عملية وجودية مادية ؟
لكن مهلا ، المسألة هنا تبدو اكثر تعقيدا كما قلنا ، فنحن لا نتكلم هنا عن وعي بسيط وعي فرد لكننا نتكلم عن وعي عام ، نتكلم عن الوعي كظاهرة عامة .
هيغل الفيلسوف المثالي الشهير عرف الإنسان كموجود أو مخلوق عاقل أو مفكر ، لكن هذا ليس المسالة نحن نعرف ان الإنسان عاقل كذلك الحيوان عاقل ، نعم الحيوان يملك القدرة على الإدراك ولديه مخ وأنت عندما تنظر إلى هذه المخلوقات وهي تمارس حيلها للإشباع رغباتها المختلفة كالجنس والطعام لا تشك لحظة واحدة بأنها مخلوقات عاقلة ، لهذا فالملفت في حالة الإنسان ليس التفكير نفسه بل هو كيف طور قدرته على التفكير ؟! لماذا لم يتطور مثلا مجتمع الأسود أو القطط ......الخ؟
تحقق الحيوانات دورة حياة ثابتة ، إنك لو راقبت عشرين جيل من الأسود لن تجد أي تغيير في حياتها ، إن الفارق الجذري بين مجتمع الأسود ومجتمع الإنسان هو أن مجتمع الإنسان يتطور. قد تبدو الملاحظة جانبية أو غير هامة لكن هذا ليس صحيحا لو أمعنا النظر قليلا ؛ إن تطور هذا الإنسان في وعيه وتفكيره ومعتقداته وانظمته .......الخ تأتي تماما من تطويره لأسلوب معيشته وتغذيته لنفسه . مجتمع الأسود لديه طريقة واحدة في الحصول على غذائه أنه يصيد الفرائس بأسلوب ثابت منذ ملاين السنين ، هل تحصل أنت اليوم على غذاءك من مطاردت الفرائس البرية مستخدما قدميك ويديك في الجري خلفها والأمساك بها ومخالبك وأنيابك لتمزيق لحمها؟ كيف أصبحت تحصل على طعامك من خلال برمجة الكمبيوتر مثلا؟! عزيزي إنك بحاجة إلى العمل لتكسب غذاءك ، لكن ألا تلاحظ معي ان عملك هذا يصبح له أثر في الوجود ؟ إن عملك هذا يصنع الآخرين كما أن عمل الآخرين يصنعك. عمل الإنسان منذ كنا نحن البشر من أجل تحصيل احتياجات حياة الإنسان هو الذي طور وجود النوع البشري ، الآن يمكن ان نقول إتضحت الفكرة التي يريد ماركس ان يوصلها بشكل أفضل إذن:" ليس وعي البشر ما يقرر وجودهم ، بل عكس ذلك ؛ وجود البشر الإجتماعي هو الذي يقرر وعيهم." أنك عزيزي مبرمج الكمبيوتر لم تولد في مجتمع أسود مثلا يكرر حلقة معاش مغلقة ثابتة إنك تعيش حياة هي نتاج تراكم عمل الإنسان عبر القرون ، هل يزعجك أن تكتشف الآن أنك نتيجة ؟ إعلم إذن أنك سبب أيضا لأن عملك الذي تمارسه اليوم هو الآخر جزء من تطور يسهم في صناعة حياتك وحياة الآتين بعدك. يقول إنجلز: اقتباس "The hand is not only the organ of labor; it is also the product of labor."
هذا يعني : اليد ليست فقط عضو العمل بل هي أيضا نتيجة (او منتج) العمل.
نحن نستمتع بتقدير ذواتنا ، الإنسان كائن نرجسي جدا ، من الصعب أن يقبل الإنسان بسهولة بحقيقة مكانه في التاريخ ، من يستطيع ان يقنع الاسكندر المقدوني أو جمال عبد الناصر بأنه لم يغير مجرى التاريخ؟! يخيل لي احيانا أن أقناع بائع الجرائد الذي ألتقيه كل صباح بهذه الحقيقة ليس امرا سهلا على الإطلاق ، تخيل إذن كيف يمكن أن اقنع شاعر بأنه ليس من صنع القصيدة لوحده وأن جهده الإبداعي العظيم ليس إلا جزء ميكروسكوبي بالقياس إلى ما تحتويه القصيدة لغة ومعنا وحتى فكرا.
إن اللغة نفسها نتاج تطور ، وعاء الفكر أو عملته إن جاز لنا التعبير، ما دمنا اتفقنا بأن العمل كان حاجة من أجل البقاء والحاجة ام الإختراع ، فهل من الصعب علينا أن نتخيل كم كان مستحيلا تطور العمل بدون اللغة ، ألم تنشا اللغة نفسها من أصوات بدائية ذات دلالات يحتاجها الإنسان الاول العامل في جاعة صيد تتعاون معا في هذا الصيد؟
مرة اخرى الحيوان أيضا لديه لغة تواصلية صوتية ووحده الانسان هو الذي طورها لأنه الوحيد الذي طور اساليب عمله وكل ما يرتبط بها أي أنه طور كل حياته وانماطها وبالتالي تطور مع هذا فكره ولغته.....الخ . العمل تماما هو العمل إذن الذي يميز الإنسان عن الحيوان.
إن للإنسان تاريخ ، هذا التطور الذي جذره الابتدائي هو أن الانسان مخلوق عامل وبالتالي متطور تحت ضغط وإلحاح حاجاته اللا منتهية ، هذا التاريخ المؤلم في كثير من مفاصله جوهر تطوره وحركته هو سعي الإنسان المحموم نحو المزيد والمزيد من الانتاج ، إن تاريخ الإنسان في حقيقته هو تاريخ تطور إنتاجية عمل هذا الإنسان.
تطور إنتاجية عمل الإنسان هذه تخضع هي الأخرى لقوانين الجدل المادي التي سبق أن تناولناها بالشرح ، نحن نميز في تاريخنا البشري أساليب إنتاج ولدينا المعلومات الكافية لنعرف عبر العصور كيف كان الإنسان ينتج غذاءه وكساءه ومسكنه ، كيف ينتج حاجاته ، لدينا القدرة على ان نتصور معا مراحل تاريخية محددة تبعا لنمط الانتاج السائد ، نعرف أن هناك انماط قادرين على تميزها: اسلوب انتاج يهيمن على المجتمع ، المجتمع كله ينتظم بناء على هذا الأسلوب ، لأننا ونحن نقرأ ظروف المجتمع في تلك الفترة نلاحظ أن له سمات محددة تجعله مختلف جذريا عن مجتمع له أسلوب إنتاج مختلف قبلا أو بعدا ، بالتأكيد سنرجع لهذا بالتفصيل.
بما أن التاريخ هو حركة تطور إنتاجية الإنسان ويتميز بأنه قابل للتميز كمراحل لكل منها أسلوب إنتاج يميزها ، فإن في أسلوب الإنتاج هذا علاقات إنتاج تحدد دور الجماعات داخل هذا الأسلوب بمعنى آخر إن المجتمع ينقسم بناء على أسلوب الإنتاج إلى جماعات لكل منها دوره في أسلوب الإنتاج هذا ، ويتحدد دور كل منها داخله وبناء عليه ، إن كل جماعة من هذه الجماعات تسمى طبقة.
ملحوظة : لمتابعة الحلقات الكاملة للماديتين الرابط التالي http://www.mi3raj.com أو http://www.rezgar.com/m.asp?i=479 ========================================================================================
#عمر_أبو_رصاع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سابعا: قانون المادية الجدلية الثالث : نفي النفي
-
سادساً: قوانين المادية الجدلية...(2)التراكمات الكمية تؤدي إل
...
-
قوانين الجدل المادي .....(1)قانون وحدة وصراع الضداد (5)
-
المدخل إلى المادية الجدلية والتاريخية (4) تعريف المادية الجد
...
-
المدخل إلى المادية الجدلية والمادية التاريخية (3) لمحة عن تا
...
-
المدخل إلى المادية الجدلية والتاريخية (2) جوهر المسألة الفلس
...
-
المدخل إلى الفلسفة المادية بشقيها الجدلية والتاريخية (1) مقد
...
-
نحن نعلق الجرس: من لبنان إلى العراق تفكيك الوطن
-
المقاومة و مبادئ حقوق الانسان
-
هل الجماعات بريئة من دمائنا؟
-
بيان إهدار دم والرد عليه
-
عبقرية طه حسين (11) من يرفع شعار التكنولوجيا أيضا كالماء وال
...
-
عبقرية طه حسين (10) هل يخرج من محبسي أبي العلاء؟
-
موضوع الرسالة: عبقرية طه حسين (9) خروجه من الجبة والقفطان
-
عبقرية طه حسين (8) أول من منحته الجامعة درجة الدكتوراة
-
عبقرية طه حسين (7) كيف أصابت الثورة طه حسين
-
عبقرية طه حسين (6) سقوطه في العالمية وانحيازه للجامعة
-
عبقرية طه حسين (5) ثورة طه حسين على الأزهر
-
عبقرية طه حسين (4) طه حسين طالب الأزهر
-
عبقرية طه حسين (3) وحيدا مهملا بلا أنيس أو خليل
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|