حسنا .. اربطوا الأحزمة، فسندخل هنا إلى أرض "هيجل" الفيلسوف الألماني العظيم، حيث ستتخلى الكلمات والمفاهيم عن معانيها الأحادية المصمتة لينفتح المجال لحركة التناقضات المحيرة والملتبسة، وللإنزياحات المفاهيمية ، والصدامات المروعة التي تحطم الأفكار وتبيدها، ثم تعيد خلقها من جديد، صحيح أن هذه الأرض لم تعد كما تركها هيجل ، فقد جرت مياه كثيرة عبرها، كما أًًعيد بناؤها أكثر من مرة، ولكنها لازالت تحتفظ بميزتها الأساسية، فلا يمكن أن تدخلها، أو حتى أن تمر بها، دون أن تمنحك هدية مدهشة تجعلك ترى ما لم تكن قادرا على رؤيته خلف تداخلات التعقيد والتركيب الهائلين اللذين تعج بهما حياتنا،ولكن حذار ،فهي لن تعطيك إلا بقدر رغبتك ووفقا لقدرتك على التأمل في تضاريسها ومعالمها.
حسنا.. لقد وصلنا، لنتوقف قليلا عند تلك البقعة المعشوشبة الممتدة بلا حدود،بحيث سيبدو وكأنها تلد الأفق الذي ينتظرنا هناك بين تموجات تلك الأعشاب النزقة، هذه البقعة تسمى " مفهوم النهاية".
والنهاية عند هيجل تختلف عما هو متداول في الخطاب العادي،فهي ليست لحظة محو أو إختفاء ماهو موجود،و ليست لحظة فناء لحركة أو انعدامها ، بقدر ما هي لحظة انبثاق وجود جديد من بين أعطاف وجود قديم ، إنها لحظة إكتمال- نعم- ولكنه اكتمال يكشف عن النقص المحيط به من كل جانب،إنها لحظة موت – نعم- ولكنه موت تولد منه حياة أخرى، إنها لحظة خمود للحركة –نعم- ولكنها أيضا لحظة ظهور حركة اندفاع جديد تجاه العالم.
وبرغم كل ما يقال عن خبث الأرض الهيجلية، وقدرتها على العبث بل والبطش بالمتطفلين عليها ووضعهم في متاهات مظلمة ليظلوا متخبطين داخلها بلا أمل،إلا أنها ايضا أرض معطاءة لمن يجدون خطاهم فوقها، ونادرا ما يزورها أحدهم دون أن تعطيه شيئا يخصه، وهاهي تهمس لنا عما جئنا لأجله " المؤسسة الثقافية".
بالنسبة لنا نحن مثقفي مجتمعات ما بعد الكولونيالية، والمكبلين بإحباطات تاريخية مروعة، ستبدو المؤسسة الثقافية(بمعناها العام) هي الشيء الأكثر تطلبا لإحداث نقلة إجتماعية حقيقية ، وربما كنا على إستعداد للتضحية بأي شيء ( أي شيء فعلا) من أجل زيادة قدرة وكفاءة هذه المؤسسة بحيث تغطي وتلبي احتياجات الجميع، وتعيد رأب تصدعاتنا الروحية والمعرفية،المزيد والمزيد من الفاعلية والنشاط لتلك المؤسسة هو ما يبدو قادرا على الخروج بنا من هذا المأزق التاريخي المهين الذي نجد أنفسنا فيه.
ولكن لننصت لذلك الهمس الهيجلي ،فلا خير في مؤسسة ثقافية لا تسعى نحو نهايتها، والشر كل الشر أن تعمل لإثبات ضرورتها فحسب، أي أن تعمل ليظل الجميع بحاجة إليها إلى الأبد،فهي عندئذ ستكون قد كرست نشاطها من أجل ذاتها ، من أجل أن تبقى على حساب أي شيء آخر، وبذلك تصبح تلك المؤسسة عائقا في وجه التقدم.
فالكفاءة الحقيقية لأي مؤسسة ثقافية تقاس بمدى سعيها إلى نهايتها الخاصة، أي سعيها إلى نفي ذاتها، وإلى إفساح المجال لمرحلة مختلفة تظهر فيها تبديات أخرى أو أدوار أخرى سواء عبر نفس المؤسسة ، أو عبر أشكال أخرى أكثر إختلافا، إن قدرة المؤسسة الثقافية على نفي ضرورتها هو قمة نجاحها وإكتمالها، فهي مثل المقاول الذي يرصف الطريق الذي يسير فيه الناس ، نجاحه هو أن ينتهي دوره هنا ( وليبدأ في مكان آخر !) ليترك للبشر فرصة السير عبر الطريق الذي عبده ، أما عندما يحدث العكس ( ويظل المقاول يرصف الطريق إلى الأبد) ، أي عندما يصير دور المؤسسة هو تكريس وجودها فحسب بغض النظر عن مدى فاعليتها،بحيث تظل في سعي دائم لتثبيت الحاجة إلى حضورها المهيمن وتدخلها المستمر ومرجعيتها " العليا" المتفردة على نحو لا يترك مساحة أو فرصة لأي مبادرات أخرى، فهنا نصطدم بالمفهوم القبيح والقميء المتداول حول البيروقراطية( وهو يختلف بالطبع عن المفهوم العلمي لهذا المصطلح)، بحيث ستتحول أداءات المؤسسة إلى مجرد عمليات إجرائية جوفاء بلا معنى، أو غاية، كما ستتحول حركتها إلى عملية مراوحة غبية دون إتجاه أو توجه ، وستتحول المؤسسة برمتها إلى جسم ثقيل بلا روح ، جسم لا يحيا إلا على حساب ما يسلبه من أرواحنا .......
ولكن ما هذا ؟ أين ذهبتم؟ هل أضجركم حديث العجوز هيجل ، هل أخافكم؟ هل كشف عن زيف رهاناتكم فلم تعودوا تطيقونه؟ هل أحسستم فجأة أن أرضه أشد قسوة وعنفا مما كنتم تعتقدون؟
حسنا.. اتركوني هنا قليلا لعلي أجد مكانا يصلح للمبيت ، أو أعثر على قبر لائق.