مدد
ياشيخ عراقي
مدد
وكان صيفا شديد السخونة ، وكنت أظن واهما أني اكتملت ،ودعوت الله متعجلا أن يدخلني التجربة ، وكان أن استجاب الله بسرعة مدهشة ، ووجدتني ألهث بين الطرقات في ملاحقة أسماها – الذي يحمل نسرا ونجمة تحت قميصه والناعم أحيانا كالأفعى والهائج دائما كالثور – بالمتابعة اللصيقة .
وفي ذات الصيف أصبحت طريد الحزب وضيفا دائما علي لجنة الإنضباط الحزبي يطاردني مسئولها – جامد الوجه حينئذ وأحد لصوص الحزب فيما بعد – باتهام زائف : " أنت دائم الثرثرة " .........." أنت تزدري هيئات الحزب القيادية " ....... " أنت لاتبدي احتراما واضحا لقيادة الحزب " ، ولم أعد أحتمل قسوة التجربة ولكنه الخجل وحده يمنعني من الإنسحاب منبطحا أتفصد حنظلا وهشيما ، وهنا تجليت ياشيخنا الجليل تجليت وغمرتني بفيض من لدنك فطفوت .
قلت لي ياسيدى : " الإنسحاب يعني الهزيمة والإستمرار مرادف الإنتصار / الجنود فقط يقاتلون ، والجرذان وحدهم على المقاهي يثرثرون / نعم أنت ثرثار لأنك تسمع أكثر مما ينبغي وترى جرءا من الحقيقة وليس لك أن ترى كل الحقيقة ولاينبغي / الصامدون / العاشقون /الوارفون /العارفون / العازفون / النازفون / الزاهدون / من كل الأجيال وبطول البلاد وعرضها آلاف الرجال يقدمون كل يوم زكل لحظة عطاءا غير محدود بسخاء غير معلن وبدون ضجيج / الكواليس ...... كوابيس ، فلم اهتمامك بالكواليس وابتعادك عن الناس / للكواليس رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه ولها أيضا خصيان / خصيان الكواليس لا يحترفون غير السمسرة والثرثرة / إياك ومقاهي القاهره / إياك ومقاهي القاهرة / وولي وجهك شطر الناس / إستمع إليهم ، وتحدث معهم ، وتعلم منهم ، وتحصن بهم / لو نجحت وفعلت ذلك فلن تكون هناك " المتابعة اللصيقة " ولن يكون هناك ملفات مفتوحة في " لجنة الإنضباط الحزبي " .
وتركتني ياسيدي مهرولا تتحسس تذكرة القطار " درجة ثالثة عودة "
ياشيخنا الجليل من تراب نعليك تيممت ووليت وجهي شطر الناس أحبائك الفقراء .
في رثاء المناضل الإشتراكي/
الشيخ محمد عراقي
بقلم : د/ أحمد نصار
علاء حمروش
الربيع الكامل
هو الربع دائما ايامه محدودة
وكنت وافر الظل ، محلقا فى الافق ، مغردا للحرية ، تنساب رقيقا زاهى اللون .
كنت ربيعا كاملا فى خريف تتساقط فيه كل الأوراق الذابلة المتموغة بخاتم الضرورة الخرقاء والحتمية البلهاء ، تتساقط متمرغة فى وحل التآمر واليأس والإحباط والرعونة والكسل ، وحل طاهر الماء خبيث التراب .
وحل ماؤه دم الشهداء ودموع أطفال الوطن .
وحل ترابه أطنان من الورق المطبوع نسميه حوارا ونسميه صراعا ونسميه .... ونسميه ....
يا أيها الراحل النبيل رحلت يوم ضاق النهر بمائه ، رحلت يوم ساد الإختلاف محل الإتلاف ، رحلت يوم أصبح كل واحد منا شظية تهيم حول نفسها تتآكل كل يوم ألف مرة فى خسة غير مسبوقة وزهو غير مبرر ............
رحلت يا رفيق يوم استل كل منا خنجره وراح يطعن فى الهواء وفى كل إتجاه ، يومها كانت نبوءتك العبقرية " هذى الخناجر لن تعود للأغمدة " نعم يا رفيق هذى الخناجر لم تعد للأغمدة وأصبحنا نخشى مجرد الأقتراب خوفا من الطعنات الطائشة.
رحلت أيها الربيع مرتين :
رحيلك الأول نحو البراءة معتصرا خلاياك رحيقا وعسلا مصفى لكل أطفال الوطن . ورحيلك ـ استشهادك ـ الأخير صك إدانة للمشهد الحزبى الحزين العقيم .
نعم رحيلك ـ أستشهادك ـ الأخير .... فاجع .... موجع ... أليم .
ودعا أيها الربيع الجميل ولنا نحن خريفنا ـ الغير دائم ـ ولكنه خريف طويل .... طويل .
في رثاء المناضل الإشتراكي/
د/علاء حمروش
بقلم : د/ أحمد نصار
محمد لبيب صقر
معلما وشهيدا
ولنا مع التيه مواعيد كثيرة ، وفي كل مرة نبحث عن جلمود صخر نواري به ضياعنا الموروث ، وعظامنا النحيلة .
وكنت أنت يوم استطاع الحصان الخشبي أن يخترق باب دارنا- دار عائلة النخيل والصبار- يومها إرتجفت قلوبنا وإنهمرت دموعنا ، كنا صغارا وكان الأولون خارج الدار - خلف أسوار السجون – كنت أنت قابعا هناك في ركن بعيد ساندا ظهرك للجدار الأخير ، تعيد قراءة المنقوش على حبات الرمل , وتعلم العصافير الصغيرة فن الغناء , وتملأ راحتيك بماء صبرك تتوضأ منه براعم ضعيفة أنهكها ليل طويل فاصطفت تصلي للصباح .
مرتجفا أنا بين يديك تسألني : هل عمدوك ؟ - نعم عمدتني القابلة في نهر الأحلام الحتمية .
مبتسما أنت تدفعني خلف جدار دارنا الأخير ، وبحزم حنون تأمرني : هنا يتدفق نهر الأوجاع ....هنا لابد أن تقفز و إحذر أن تترك أحدا يمسك كعبيك وإحذر أكثر أن تترك أحدا يمسك أذنيك .. تعمد فى نهر الأوجاع ... تعمد ....
أخرج مبتلا تلقانى نارك مشتعلة .... تربت على كتفى .... تقول : تدفأ .. تدفأ .. إهدأ ..إهدأ وأخذت ترتل من جديد آيات نورانية ، تلك آية العدل ، وهذى آية الخير ، وبينهما آية الجمال .
رويدا .... رويدا ... يعلوا صوتك مجلجلا فى لقاء الثلاثاء : لا أحد ضد المكاشفة إذا كانت حقا مكاشفة ، لا أحد ضد المصارحة إذا كانت حقا مصارحة .... لا أحد ضد أعادة البناء إذا كانت حقا إعادة للبناء .... لا أحد ضد الحقيقة شرط أن تكون هى الحقيقة.
وتدعونا لرحلة غوص معك فى بحر الجدل العميق فيخطف أبصارنا بريق لؤلؤة الترابط ، وتدهشنا الوان مرجان التراكم ، ويسحر عقولنا دوام التغير .
نطفوا نحن صغار الثلاثاء ينظر كل منا للآخر مبتسا ونهمس فى أذن بعضنا البعض: لقد ذهب الخوف من الحصان الخشبى إلى غير رجعة .
نزف إليك البشرى .... نغنى : " نحن لم نعد نخاف يا معلم .... يا معلم لم نعد نخاف" يأتينا صوتك من بعيد يصفعنا حاملا إلينا درسك الأخير : " من ليس له هدف فلا يخف ومن كان له هدف لابد أن يخاف "
اليوم ترحل عنا أيها المعلم تاركا ـ خيول فى ضواحى الروح من كبو وكمد تموت .
في رثاء المناضل الإشتراكي/
محمد لبيب صقر
بقلم: د/أحمد نصار
وتعلمت في حضرتك حب النيل
ياعم الأسطى/ جمعة سلطان
وكنت قد أنست إلى قوم يمقتون القمر- مجرد حجارة- ويخاصمون أم كلثوم-شقيقة الحشيش والأفيون – ويحقرون من شأن النيل – مجرد مجرى مائى تجرى فيه المياه مختلطة بكافة أنواع القاذورات والرمم – ولم يطل دوامي معهم كثيرا ، وتركتهم إلى غير رجعة نحو قوم آخرين أنت منهم – مدين لهم أنا بكل أشيائى الجميلة - .
ولم أكن أحب دمياط ولكننى ذهبت إليها على مضض وكان لقاءا فاترا ملئ بالمشكلات , وأثناء توديعك لى قلت : في المرة القادمة لاتأتي من هذا الطريق ......هناك قارب صغير يقوده عجوز بمجدافين يمكنك أن تركبه وتعبر النيل وستجدنى فى إنتظارك .
وعبرت نيل دمياط في القارب الصغير ووجدتك هناك منتظرا , سألتك : إلى أين ؟ قلت : إلى هنا فلن نبرح هذا المكان .
وركبنا القارب مرة ثانية وعبرنا النيل ذهابا وإيابا سبع مرات .
فى المرة الأولى تلوت عليك مقررات لجنة التنظيم بشأن عقد المؤتمر العام ،
وفى المرة الثانية حدثتنى عن فارسكور وكفر سعد وبندر دمياط وصناع الأثاث والمجلس المحلى وتجاوزات الشرطة وتجربة معرض للفن التشكيلى فى الشارع وسطوة ذوى اللحى الطويلة التى تكاد تشبه سطوة الدولة بل تفوقها أحيانا ،
وفى المرة الثالثة قلت لك : الوطن يضيق بأحبائه والحزب يضيق بأبنائه ، فقلت لى : القلب معلول وضحكت طويلا وعاودت الحديث : بلاش دلع انتو ما عدتوش صغيرين .
وفى المرة الرابعة كورت همى وألقيته إليك فحملته عنى رغم القلب المعلول ونصائح الأطباء .
وفى المرة الخامسة أعدت على مسامعي قصة فيلم "سواق الأتوبيس"بتفصيلات كثيرة لم ترد في الفيلم وعلمت أنها قصتك التي استعارها صديقك السيناريست .
وفي السادسة وفي السابعة لم نتكلم واحترمت أنا رغبتك في الصمت وعدم تاكلام وجلست في حضرتك تلميذا يتعلم كيف يحب الحياه وكيف يحب الناس وكيف يتبتل في محراب النيل الجميل .
نعم تعلمت في حضرتك ياعم الأسطى جمعة حب النيل .
في رثاء المناضل الإشتراكي /
الأسطى/جمعة سلطان
بقلم : د/أحمد نصار
أسامة عبيد
أربعة مشاهد لم تكن للعرض
المشهد الأول:
مدينة طنطا 1980
قال لي : مالك؟؟؟
قلت : أشعر بوحدة شديدة
قال : ليست هي الوحدة فحولك من الأصدقاء كثيرون هم فوق احتمالك ، ولكنه القلق والبحث عن شئ ضاع منك .
قلت : فقدت عائلتى – عائلة النخيل والصبار –
قال : هل أدلك على واحد منهم ؟؟
قلت : هل تستطيع ؟؟
قال : هل تكره شرف المحاولة؟؟
غمغمت : عمري كله محاولة .
وذهبنا إلي 25 شارع سعد الدين والتقيت وجها بوجه بأحد أهم أعمدة العائلة انه العم / عريان نصيف الذى استقبلني هاشا باشا وأكدعلى أنه هو والعائلة قد بذلوا كل ما يمكن من جهد حتى يجتمع الشمل من جديد واكتشفت يومها انك يا أسامة قد فعلت هذا متطوعا .
المشهد الثانى :
مدينة طنطا /سبتمبر 1981
وكان خريفا قاسيا غاب فيه الجميع وجاء البرد مبكرا
قال لى : مالك ؟
قلت : أشعر بوحدة شديدة.
قال : معك حق ما يحدث هو الجنون ، لقد أطفئوا كل المصابيح والشموع لقد حولوا البلد خرائب مظلمة لا تتسع لغير البوم ينعق والخفافيش تمرح ، هل تتمنى أن تكون معهم هناك فى أبى زعبل وطره ؟
قلت : نعم
قال : إذا كانت هى الوحدة دافعك فأنا معك عوض ، وإن كان اليأس دافعك فأنت وحدك .
وراح البرد والتحفنا ببعضنا البعض ، كان اسمه بين الناس وفى الأوراق الرسمية أسامه ، ويوم اختار لنفسه اسما كان " عوض "
المشهد الثالث :
حى السكاكينى / القاهرة /أكتوبر 1984
كان يبدو أن الرئيس / مبارك توهم أنه قد تخلص لتوه من ملابسات حادث المنصة وقرر أن صفحة جديدة مع فصائل المعارضة التى التقى رموزها وقياداتها فى بدء ولايته ، وكان أول سطر فى هذه الصفحة الجديدة قرار بإلقاء القبض على عدد من العمال والطلاب والشباب ، وخرجت صحف الصباح الحكومية تزف النبأ " إلقاء القبض على تنظيم شيوعى يهدف إلى زعزعة الأمن ويعمل على قلب نظام الحكم – ذات التهم المعتادة – ومازال البحث جاريا عن اثنين من المتهمين الفارين وهما أحمد نصار و محمد الكحلاوى "
وحيدا فى شوارع القاهرة أتجول فى الطرقات ، أضيع الوقت من مقهى إلى مقهى منتظرا رأيا من هنا أو هناك وجاءنى من يقول : " دبر حالك " طرقت باب منزله – منزل عوض الذى كان أسمه بين الناس أسامة – فتح الباب وقال لى : ما الذى أخرك ؟ كنت فى أنتظارك منذ الصباح .
و دخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلت
المشهد الرابع :
مستشفى معهد ناصر / القاهرة / 1995
صوته الخشن عبر الهاتف : هو الموت قادم . قلت له : قاوم
قال : قاومت وأنتصرت ثم قاومت وانتصرت ، فى المرة الأولى تلذذت بحلاوة النصر وفى المرة الثانية تعذبت بسياط المقاومة .
قلت : غدا أكون بين يديك .
على كرسى متحرك كان الذى يعرفه الناس " أسامة " جالسا أمام النافذه
ناديت : أسامة يا أبو باسم لم يرد ، أقتربت منه ، ضممت رأسه إلى صدرى همست فى أذنه : كيف حالك ياعوض ؟
قال : الموت قادم ... ليث موتى وحدى .... أرى الموت يرفرف على رؤوس الحالمين الطيبين .... الأوغاد فقط هم الناجين ومعهم الخصيان المتنطعين ، لقد انتصرت على الموت مرتين ولم أعد راغبا فى قهره مرة ثالثة ، نعم هو الملل لقد فعلت كل شيىء وجربت كل شيىء حتى الموت ، وضحك ضحكة طويلة مصحوبة بسعال خشن ، وأشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا وأطلق السراح لعينيه بعيدا فى الأفق عبر النافذه وطال الصمت بيننا .
وأظلم المسرح .
في رثاء المناضل الإشتراكي/
الدكتور/ أسامة عبيد
بقلم: د/ أحمد نصار