|
درس جديد من ماليزيا: لا للتجسس الاجتماعي
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1846 - 2007 / 3 / 6 - 12:34
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
تستطيع الأنظمة العربية أن أرادت أن تضع حدا للملفات الهامشية البائسة التي يفتحها تيارات الإسلام السياسي من وقت إلى آخر فيشغلون بها الرأي العام المحلي عما هو أهم و أجدى، بحجة الدفاع عن حياض الأخلاق و قيم المجتمع و خصوصياته. فما على هذه الأنظمة أمام محاولات الجماعات الإسلامية تقييد الحريات و الحقوق الفردية و الخيارات الشخصية مثلا سوى التمسك بدساتيرها التي تنص معظمها على كفالة تلك الحقوق و تجريم التلصص على خصوصيات الأفراد وتأكيد حرية المواطن في الاختيار.
وبعبارة أخرى يمكنها، إن أرادت، أن تفعل ما فعلته ماليزيا مؤخرا، و هي دولة إسلامية، و غالبية سكانها مسلمون لا يمكن الطعن في إيمانهم و تمسكهم بدينهم، و صاحب القرار الحالي فيها رجل متخرج من كليات الفقه و الشريعة و ينحدر من عائلة تبوأ رموزها مناصب القضاء و الإفتاء، وبما لا يمكن معه لأحد أن يزايد عليه أو يتهمه بالكفر أو يأخذ عليه ضعف علمه الشرعي.
هذه البلاد التي ما برحت تعطي الدروس للآخرين في العالمين العربي و الإسلامي في كيفية بناء الدولة المدنية العصرية، و إقامة النظام الاتحادي المتماسك ما بين سلطنات و ولايات متفرقة، وصياغة توليفة فريدة ما بين الموروث و الحداثة، و خلق الهوية الوطنية الجامعة ما بين قومياتها و اثنياتها المختلفة، و الانتقال من بلد كان لا ينتج سوى المطاط إلى كيان صناعي و تكنولوجي مزدهر، و تقديم نموذج وضاء في التعليم و تنمية الموارد البشرية و السياحة و جذب الاستثمارات الاجنبية، و غير ذلك من الدروس التي فصلناها في أكثر من مقال و كتاب، أعطتنا مؤخرا درسا جديدا و ذلك حينما حزم رئيس حكومتها عبدالله احمد بدوي أمره فأغلق ملفا كاد أن يزرع الشقاق في المجتمع و يوتر أجواء السلم الأهلي و يقود إلى خسائر اقتصادية و يحرم البلاد من السياحة التي هي إحدى دعائم اقتصاد البلاد.
ففي الأسبوع الماضي وضع بدوي بقرار جريء منه حدا لمحاولات و خطط الجماعات الإسلامية الماليزية المتشددة في ولاية ترينغانو، لتشكيل جماعات شبيه بالشرطة الدينية و نشرها في الميادين العامة و المنتزهات و المنتجعات و المطاعم و الفنادق و دور السينما من اجل التجسس والتلصص على سلوكيات الناس و خصوصياتهم، أي التدخل في حياتهم وخياراتهم و توقيفهم وتجريمهم ، قائلا بلغة حاسمة أن هناك ما هو أهم و أكثر منفعة للشعب الماليزي من صرف الجهد و الوقت و المال العام في قضايا هامشية، و مضيفا أن ما هو معمول به من قوانين للحد من الخلوة غير الشرعية و تكريس القيم الاجتماعية الإسلامية كاف.
فهذه الجماعات التي يبدو أنها تأثرت بالفكر الديني و الفتاوي الشرعية السائدة في بلدان الشرق الأوسط الإسلامية كنتيجة لاحتكاكها برموز هذا الفكر أو تلقيها العلم الشرعي على أياديهم، لم تجد- بعد فشلها الذريع أمام حزب "أومنو" الحاكم أثناء الانتخابات العامة الماضية في تعزيز مكاسبها والاحتفاظ بحكم ولاية ترينغانو التي حكمتها ما بين عامي 1999 – 2004 - ما يعيد إليها الأضواء سوى اللعب على وتر الأخلاق والفضيلة و الادعاء بأنهما باتا مهددين في ماليزيا. فقامت بطرح مشروع قانون يتيح للجهات الرسمية تجنيد و تدريب موظفين و ندلاء مطاعم و عمال فنادق للإبلاغ عن روابط العشق و علاقات ما قبل الزواج و مقابلات الأحبة واتصالاتهم الهاتفية وحفلاتهم الخاصة المختلطة.
وما لم يقله رئيس الحكومة في معرض معارضته، قالته و فصلته الصحافة الماليزية و منظمات المجتمع المدني – بما في ذلك الصحف و التنظيمات المعبرة عن الاثنية الملايوية المسلمة كمنظمة "أخوات في الإسلام" التي تدافع عن المساواة الجندرية بقيادة الناشطة زيتون قاسم - التي عبرت بقوة عن استيائها وخشيتها من هذه المحاولات الهادفة إلى تغيير الوجه المتسامح و المعتدل للإسلام الماليزي شيئا فشيئا وصولا إلى ما يشبه فرض الإسلام الطالباني الذي وصل تشدده وتطرفه إلى حد وشم اذرع النساء بأسماء أزواجهن، و تحريم أشرطة الكاسيت و الاستماع إلى المذياع، بل و التجسس على من كان يدندن بينه و بين نفسه، بما في ذلك الأمهات اللواتي كن ينشدن الأغاني الشعبية في بيوتهن من اجل تهدئة أطفالهن الرضع في المهد.
و مما قيل في تبرير الرفض المطلق لهذه الإجراءات المقترحة أنها تفتح بابا لانتهاكات صارخة للحقوق الشخصية، و اعتداءات على كرامات الناس و خصوصياتهم، و مشاكل و خصومات لا حصر لها، في بلد يدين نحو 35 بالمئة من سكانها من ذوي الأعراق الصينية و الهندية بغير الإسلام، وذلك على نحو ما حدث في البلاد الإسلامية التي جربت الشرطة الدينية فكانت الأخيرة سيفا مسلطا على الرقاب و مصدرا للوشايات و استغلال النفوذ و أعمال الانتقام شخصية والاعتقالات القائمة على الشكوك و الظنون.
ثمة أمر آخر أثارته الجماعات المعارضة و يجدر التوقف عنده، هو أن تطبيق الإجراءات المقترحة سوف يؤسس لظاهرة خطيرة قد تتطور مستقبلا إلى تعميم فكرة التجسس و التلصص على كل شيء، فيتجسس الابن على أبيه و المرؤوس على رئيسه و الشرطي على قائده و الطالب على معلمه و هكذا، وصولا إلى مجتمع الخوف و الرعب و الشك على نحو ما كان سائدا في ألمانيا الشرقية و رومانيا في ظل نظاميهما البوليسي الشيوعي، أو ما كان سائدا في العراق زمن النظام البعثي.
إلى ذلك حذر "حزب العمل الديمقراطي" المعارض المعبر عن الاثنية الصينية من الانعكاسات المدمرة للمقترحات الجديدة على قطاع السياحة الماليزي و غيره من قطاعات الأعمال ذات الصلة، خاصة في وقت يواجه فيه هذا القطاع الحيوي منافسة شديدة من دول الجوار التي ما برحت تتفنن في تقديم المغريات و التسهيلات لجذب السواح من أوروبا و استراليا و اليابان تحديدا. فهؤلاء من الطبيعي أن يصرفوا النظر عن ماليزيا بكل مغرياتها الطبيعية و يتوجهوا إلى أماكن أخرى إذا ما شعروا بوجود من يتجسس على خصوصيتهم للإيقاع بهم، على نحو ما حدث في العام الماضي حينما داهمت السلطات في منتجع "لينغكاوي" التابعة لمقاطعة "بيرليس" بإيعاز من المسئولين الدينيين شقة كان يسكنها رجل و امرأة طاعنان في السن من الجنسية الأمريكية بحجة مقاومة الخلوة غير الشرعية، ليتبين أنهما متزوجان. و كان من نتائج هذا العمل المتسرع و القائم على الشكوك و الوشاية أن وقعت كوالالمبور في حرج شديد أمام العالم، لم ينفع معه الاعتذار الرسمي، و مسارعة مفتي الولاية الدكتور "محمد عصري زين العابدين" إلى إصدار أمر بوقف مثل هذه الممارسات، و مبادرة الحكومة المحلية إلى اقتراح إجراءات للحد من التجسس و التلصص على المواطنين و الوافدين. و الحال أن مثل هذه المحاولات و المقترحات من قبل جماعات الإسلام السياسي المتشددة ليست سوى انعكاس لإفلاسها و عدم امتلاكها لبرامج و سياسات تلامس القضايا و المعضلات الجوهرية ذات الصلة بالتنمية و النهضة و اللحاق بالعالم المتقدم. فتنشغل بالهوامش و تشغل المجتمع معها.
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يجري في بلوشستان الإيرانية؟
-
ميلاد دولة نفطية جديدة!!
-
أبو الفقراء لم يكافح الفقر فقط !
-
غاندي في ذكراه : يا لها من ذكرى عطرة!
-
تركمانستان بعد رحيل ديكتاتورها
-
حينما يفسد عضو مصداقية منظومة بأكملها
-
الأمم المتحدة ما بين أمينين عامين آسيويين
-
لعله الموت الأخير للقذافي جانجلاني!
-
عن القرصنة في مياه المحيط الهندي
-
مشرف و نساء باكستان
-
حوار مع القيادي الليبرالي البحريني د. عبدالله المدني
-
رفقا بالبحرين الجميلة
-
نحو شراكة خليجية – يابانية شاملة
-
في فيتنام .. لا وقت لاجترار الماضي
-
الخليج .. فيما لو حدث - تشيرنوبل- إيراني
-
أخيرا، وجدت الهند من يشغل حقيبة الخارجية!
-
سنغافورة .. دور جديد في الألفية الثالثة
-
محمد يونس .. يستحق أكثر من نوبل
-
أفغانستان .. التحدي الكبير للناتو
-
لماذا أختير -سورايود- زعيما لتايلاند؟
المزيد.....
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|