أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 00:17
المحور:
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
المدخل: الدم الذي سال في الأدغال ليضيء قصور أوروبا
تخيّل أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر: الشوارع تتلألأ بمصابيح الكهرباء الجديدة، القطارات البخارية تقطع القارة بسرعة مذهلة، والقصور الملكية تتوسع بأبهة لم تُرَ من قبل، مبانٍ شاهقة، حدائق مترامية، وفنون زخرفية تأسر الأبصار. في بروكسل، يبني ملك صغير قصراً يفوق الخيال، وفي أوستند يشيّد طريقاً ساحلياً يحمل اسمه، وفي لاكن يزرع حدائق تُبهر العالم. كل هذا الجمال كان له ثمن واحد: دماء وعظام وأرواح عشرة ملايين إنسان على الأقل في قلب إفريقيا.
ليوبولد الثاني لم يكن مجرد ملك طامح أو طامع في المجد الشخصي. كان صاحب أول مشروع إبادة صناعية في العصر الحديث، قبل الهولوكوست بأجيال، وقبل غولاغ ستالين، وقبل رواندا. حوّل 2.8 مليون كيلومتر مربع – أي 76 ضعف مساحة بلجيكا – إلى مزرعة شخصية، وجعل من شعب بأكمله وقوداً لثروته.
بين 1885 و1908، اختفى نصف سكان الكونغو تقريباً (10-13 مليون نسمة حسب أحدث الدراسات)، ليس بسبب حرب تقليدية أو مقاومة محلية، بل بسبب نظام اقتصادي مدروس يعتمد على القتل المنظم، والجوع المتعمد، والمرض المُهمل، والتشويه الجسدي كأداة محاسبية، كأن الإنسان أصبح مجرد سلعة ضمن دفتر حسابات ملك يبتسم في بروكسل ويأمر بالقتل من على بعد آلاف الكيلومترات.
اليوم، في نوفمبر 2025، وبعد 117 عاماً من نهاية دولة الكونغو الحرة، وبعد 65 عاماً من استقلال الكونغو، لا تزال بلجيكا تتعامل مع هذه الجريمة كما لو كانت «فصلاً استعمارياً مؤسفاً» وليست إبادة جماعية منظمة، رغم أن الأحكام القضائية الدولية والتقارير العلمية تؤكد الحجم الهائل للفظائع. حكم تاريخي في ديسمبر 2024 ألزم الدولة البلجيكية بدفع تعويضات لخمس نساء ميتيس تم اختطافهن، واعتبر الفعل «جريمة ضد الإنسانية»، لكن الحكومة لا تزال ترفض الاعتذار الصريح عن جرائم ليوبولد نفسه، ولا تزال تماثيله تقف في أكثر من 30 موقعاً في بلجيكا.
هذا المقال ليس مجرد استعادة للتاريخ. إنه صرخة متأخرة باسم نِسالا وبوكيني وملايين الأسماء التي لم تُكتب أبداً. إنه اتهام للنفاق الأوروبي الذي يدفع تعويضات الهولوكوست بمليارات اليوروهات، ويعتذر عن الرق عبر الأطلسي، لكنه يغلق الباب عندما يأتي الدور إلى أكبر إبادة منسية في التاريخ الحديث، حيث الإنسان لم يعد سوى مطاط يُقاس بحجم الحصص.
⸻
مؤتمر برلين: السرقة القانونية الكبرى
في قاعة فخمة في برلين، شتاء 1884-1885، جلس 14 رجلاً أوروبياً – 13 دولة أوروبية والولايات المتحدة كمراقب – يرسمون خريطة إفريقيا بخطوط حمراء وهم يشربون النبيذ ويدخنون السيجار. لم يُدعَ إفريقي واحد. لم يُسأل شعب واحد. لم تُؤخذ مشاعره بعين الاعتبار. لم يُراعَ حتى مفهوم الدولة أو السيادة المحلية.
ليوبولد الثاني، الذي لم يضع قدمه في الكونغو قط، لعب دور الإنساني الكبير. أسس جمعيات «خيرية» ووعد بمحاربة الرق ونشر الحضارة ونقل النور الأوروبي إلى الغابة المظلمة. صدّقه بسمارك وسالزبري وجول فيري، أو تظاهروا بالتصديق. في فبراير 1885، اعترف العالم بـ«دولة الكونغو الحرة» ككيان مستقل يرأسه ليوبولد شخصياً.
كان ذلك أكبر احتيال قانوني في التاريخ الحديث: ملك دولة صغيرة يتحول إلى مالك مطلق لقارة بحجم غرب أوروبا كلها، بدون أن يضع قدمًا واحدة فيها، وبواسطة سلسلة من الصفقات القانونية المزيفة والمجاملات الدبلوماسية، بحيث لم يعد الكونغو أرضًا لشعبه، بل ملكية شخصية مطلقة لرجل واحد، يخضع سكانها لأقسى أشكال الاستغلال والعقاب.
⸻
نظام المطاط الأحمر: المحرقة الصناعية الأولى
اختراع الإطار الهوائي عام 1888 جعل المطاط سلعة أغلى من الذهب وأكثرها طلباً في الأسواق الأوروبية والأمريكية. غابات الكونغو، الممتدة على ملايين الكيلومترات، تحولت إلى كرز ناضج جاهز للقطف، لكن القطف لم يكن اختياريًا، بل فرض نظام حصص صارم: كل قرية، كل أسرة، كل فرد بالغ مطالب بتسليم كمية محددة من المطاط كل أسبوعين أو شهر.
لم يكن هناك أجر، ولا استراحة، ولا إنسانية. من تأخر عن الحصص أُحرق منزله، ومن حاول المقاومة أُعدم، ومن فشل أُصيب بعقاب جماعي تقشعر له الأبدان. كتب روجر كيسمنت في تقريره الشهير عام 1904:
“رأيت قرى بأكملها محترقة، وأجساداً متعفنة ملقاة على الطرقات، وأطفالاً بلا أيدي… كل هذا من أجل المطاط.”
القوة العامة – الجيش الخاص – كانت آلة التنفيذ الرئيسة. ضباط بلجيكيون، مرتزقة أفارقة من قبائل أخرى، وكثيرون ممن جُندوا بالقوة أو الرشوة، كانوا يتقاضون مكافآت على كل يد مقطوعة، وعلى كل رصاصة تُطلق. كل أداة قتلت، كل يد قُطعت، كل قرية أحُرقت كانت بمثابة شهادة على جشع ملك لم يرَ شعبه قط، لكنه أصبح حاكم حياتهم وموتهم.
⸻
قطع الأيدي: الإيصال الدموي
“لكل رصاصة يد يمنى”. هذا كان الأمر الرسمي.
في البداية كانت الأيدي تُقطع من الجثث بعد المعارك أو الإعدامات. لكن مع الوقت، أصبح أسهل وأوفر قطع الأيدي من الأحياء، بما في ذلك الأطفال والنساء والشيوخ. أصبحت السلال تمتلئ بالأيدي المقطوعة، تُدخن أحياناً لتحفظ، وتُحمل إلى المراكز كدليل على «الإنتاجية».
أقوى شهادة بصرية هي صورة الأب نِسالا من قرية ويرا، جالساً على شرفة كوخه ينظر بحزن لا يوصف إلى يد وقدم ابنته الصغيرة بوكيني (5 سنوات) المقطوعتين أمامه، بعد أن فشل في تسليم الحصة المطلوبة. التقطتها المبشرة أليس سيلي هاريس عام 1904، ونُشرت لاحقًا في تقرير كيسمنت، وهزت ضمير العالم كله.
كتب المبشر الأمريكي وليام شيبارد، وهو أسود البشرة، في مجلة Missionary Review عام 1904:
“رأيت جنود القوة العامة يحملون سلالاً مليئة بالأيدي المقطوعة… بعضها كان لا يزال يتحرك.”
ليس هذا مجرد فعل عنف فردي، بل سياسة متكاملة من الترهيب والترويع.
⸻
الإرهاب المنظم: أكل اللحم، اختطاف الأطفال، الاغتصاب السياسي
الوحشية لم تقتصر على قطع الأيدي. وثّق الضابط البلجيكي شارل ليماير في مذكراته ممارسة أكل لحوم البشر كعقاب جماعي في منطقة الإكواتور.
خُطف عشرات الآلاف من الأطفال ووضعوا في ما سُمّي «مستعمرات الأطفال» أو écoles de l’État. الهدف كان إنتاج جيل من الجنود الخاضعين، الذين يُمحى انتماؤهم القبلي والثقافي. معدل الوفيات كان يصل أحياناً إلى 90% خلال سنوات قليلة بسبب الأمراض والجوع والضرب المستمر بالشيكوت (سوط من جلد فرس النهر).
الاغتصاب كان أداة من أدوات السيطرة النفسية. كتب كيسمنت:
“النساء تُؤخذ رهائن وتُغتصب يومياً حتى يعود أزواجهن بالمطاط… رأيت نساء مربوطات في أشجار بشكل متعامد حتى الموت.”
أما حدائق الحيوانات البشرية، فكانت ذروة التحقير الإنساني: في معرض بروكسل عام 1897، عُرض 267 كونغولياً بين أسوار ومعارض، بينهم أطفال. مات سبعة منهم بسبب البرد، ودُفنوا في قبور جماعية مجهولة. استمر العرض المشين حتى معرض بروكسل 1958، مما جعل من الكرامة الإنسانية سلعة للترفيه.
⸻
الكارثة الديموغرافية: مجاعة صناعية في أرض الخصب
لم يكن هناك مجاعة طبيعية في الكونغو قبل ليوبولد، ولا بعده مباشرة. كل المجاعات كانت متعمدة: حرق المحاصيل، تدمير القرى، منع الصيد والزراعة لإجبار الناس على جمع المطاط.
خلص الباحثون – جان ستينغرز، إيزيدور ندايويل، وآدم هوكشيلد – إلى أن عدد الضحايا بين 10 و13 مليون نسمة، أي نصف السكان تقريباً، قتلوا أو ماتوا بسبب الجوع أو المرض أو العنف.
كتب المؤرخ جان لوك فيلين:
“لم يكن هناك مجاعة طبيعية في الكونغو قبل ليوبولد، ولا بعد ضمه إلى بلجيكا. المجاعة كانت صناعية، مُخططاً لها بعناية.”
⸻
كشف الجريمة: أربعة أشخاص هزوا إمبراطورية
كانت هناك ضمائر مضيئة في زمن الظلام:
1. إدموند دين موريل: اكتشف أن السفن تعود محملة بالمطاط فقط، وتذهب محملة بالأسلحة، وأسس حركة إصلاح الكونغو.
2. روجر كيسمنت: قنصل بريطاني كتب تقريره الشهير عام 1904 الذي وثّق كل الوحشية.
3. وليام شيبارد: مبشر أمريكي أسود كتب عن قبيلة كوبا وفظائعهم ضدها.
4. أليس سيلي هاريس: صورت الأيدي المقطوعة، وخلدت شهادة البقاء الوحيدة لبعض الضحايا.
تحت ضغط هذه التقارير، اضطر ليوبولد عام 1908 لبيع الكونغو للدولة البلجيكية مقابل 215 مليون فرنك ذهبي (حوالي 5 مليارات دولار اليوم). استخدمت الأموال لبناء قصور وحدائق فخمة في بروكسل وأوستند، مع استمرار التكريم له في المتاحف والفضاءات العامة، في حين لم يُحاسب هو أو معاونوه.
⸻
الإرث النزيف والنفاق الأوروبي في 2025
في أغسطس 2025، لا تزال تماثيل ليوبولد تقف في بروكسل وأوستند ومدن أخرى، رغم إزالة بعضها في 2020 خلال احتجاجات حركة حياة السود مهمة. في يونيو 2025، ألغت بلدية أوستند عملاً فنياً كان سيضع رأس ليوبولد على رمح، لكن كثيراً من التماثيل بقي واقفاً.
الملك فيليب عبر عن «أسفه العميق» عدة مرات، آخرها في زيارة 2022، لكنه رفض كلمة «اعتذار» أو «إبادة» بشكل صريح. في ديسمبر 2024، ألزمت محكمة بروكسل الدولة بدفع تعويضات لخمس نساء ميتيس فقط، واعتبرت الخطف «جريمة ضد الإنسانية»، إلا أن الحكومة استأنفت الحكم.
هنا يكمن النفاق الأوروبي الأكبر: ألمانيا دفعت عشرات المليارات تعويضات عن الهولوكوست، بريطانيا وهولندا تعتذران عن الرق، فرنسا تدفع تعويضات للجزائر، لكن بلجيكا – التي جنت أكبر ثروة استعمارية نسبياً – ترفض الاعتراف بالإبادة خوفاً من «فتح باب التعويضات».
الكونغوليون لم يعودوا يطلبون، بل يطالبون الآن بإلحاح:
• اعتراف رسمي بالإبادة الجماعية
• اعتذار صريح من الملك والبرلمان
• صندوق تعويضات دائم للتعليم والصحة
• إزالة جميع التماثيل والشوارع التي تحمل اسمه
• إعادة الرفات والآثار المنهوبة (آلاف الجماجم لا تزال في متاحف بلجيكا)
• إعادة كتابة التاريخ من منظور الضحية
⸻
الخاتمة: الصمت ليس حياداً، بل تواطؤاً
ليوبولد الثاني مات عام 1909، لكنه لم يمت.
هو حي في كل تمثال لا يزال يقف، في كل كتاب بلجيكي لا يزال يخفف الجريمة، في كل يورو يُنفق من ثروة بنيت على عظام 13 مليون إنسان، وفي كل سياسي أوروبي يرفض الاعتذار خوفاً من «سابقة مالية».
العدالة التاريخية ليست رفاهية، ولا «إعادة كتابة التاريخ».
هي الشرط الوحيد لكي لا يصبح التاريخ نفسه مجرد حلقة مفرغة من الإبادات الجديدة بأسماء جديدة.
إذا بقي تمثال ليوبولد واحداً في 2025، فذلك يعني أن أوروبا لا تزال تقول للعالم:
“نعم، يمكنك أن تبيد شعباً بأكمله، إذا كان لونه أسود، وإذا كنت ذكياً بما يكفي لتسميها حضارة.”
نزع التمثال ليس محواً للتاريخ، بل هو اللحظة الوحيدة التي يقف فيها التاريخ أخيراً إلى جانب نِسالا وبوكيني، لا إلى جانب الجلاد.
الكونغو لا تنتظر الاعتذار. إنها تطالب به كشرط لبقاء الإنسانية نفسها، وبصوت واضح لا يُسمع إلا لمن يريد أن يسمع.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟