(نصّ مفتوح*)
.......................................إهداء: إلى الشاعرة الحميمة جاكلين سلام
.... ... ...... ...... ......
سفرٌ في رحابِ الكلمات
تبدَّدَ وحشةُ المكان
نضارةُ أديمِ الصباح
تناغمَ معَ نسغِ الرؤى
عبورٌ في ينابيعِ الذاكرة
احتدامٌ معَ فرائصِ البحار
حوافرُ المسافات
جاثمة على صدرِ الليل
فيعلو سديمُ الأحزان
هارباً من أزيزِ الشوقِ
من وهجِ الاشتعال
تقافزَتِ العصافيرُ
على حافّاتِ الإنتظار
غربةٌ فسيحةٌ تسربلُ صباحاتها
فتحَتْ نوافذَ أحداقها
تنتظرُ انسيابَ الدمعِ في المآقي
حروفاً من لونِ الهلالِ
تهمسُ لغيمةٍ طافحة بالأسرارِ
كحلمٍ هادئٍ
يتناهى إلى أسماعِهَا
وشوشوات نوارس البحر
تناغي هديلَ الحمام!
فيروز يا صديقة الخمائلِ
يا نكهة وردٍٍ
أعبقَ
من
البيلسان!
تناجي روحَهَا
رفرفي يا روحي
ثمَّ اعبري غمامةً جامحة
هائمة شوقاً
لعلّها تسقي
أرخبيلَ الطفولةِ
وجعٌ يلازمُ محطّات الرحيل
غربةٌ تداهِمُهَا
عويلُ المسافاتِ
فحيحُ الليلِ الظامئِ للقمرِ
نبرةُ الحنينِ إلى ضفافِ المدارسِ
إلى أحواشِ البيوتِ العتيقة
يتّشحُ رحيقُ العمرِ
بقناديلٍ غافية
تحتَ ظلالِِ البيلسان
كلماتٌ متطايرة من زبدِ البحرِ
نديّة
جاهزة للولوجِ
في محرابِ ترتيلةِ الحياة
قصائدٌ جامحة كوعولٍ تائهة
في برارٍ شامخة
على رحابِ الخيال
أبراجُ الطفولةِ شاهقة
تلامسُ قيظَ النهارِ ..
تحطُّ كالنحلِ فوقَ زهورِ الروحِ
تمتصُّ قيثارةَ الوداعِ الغافية
بين غبارِ الطلعِ
تخفتُ بيارقُ حزني
شهقةٌ مذهلة تسربلُني
تهشّمَتْ فخاخُ العمرِ
على معابرِ البحار
استقبلها ثرى غارقٌ
في الندى
تثاءبَ النهرُ من تعبِ الانتظار
متاريسُ حقول الروحِ عطشى
لقطافِ تلاوينِ ترتيلةِ الأحلام
عناقيدُ شبق القصائد
متدلّية
من مزاميرِ رنينِ الحنين
قلبٌ يزدادُ غبطةً
يمتطي هامة الوئام
غير آبه بصهيلِ الأوجاعِ
على مقربةٍ منه
دنانُ الخمرِ
تاهَتْ نبالُ الغربةِ
بين لجينِ المتاهةِ
شعشعَ الصباحُ
معَ عندليبِ الغابةِ
أنغامُ المحبةِ ساطعة
فوقَ جسدِ المدائن
رفرفي يا روحي
وحلّقي عالياً
صوبَ
ينابيعِ
الطفولة
فاحَتْ نكهةُ الزنابق
من الحوشِ العتيقِ
وتسلّلَ بانتعاشٍ جموح الطفولة
في أغصانِ القصائد
رفرفي يا روحي رفرفي ..
نوافذُ القلبِ مفتوحة
للهلالِ
لحبّاتِ المطرِ
هطلَ الحلمُ حبراً
كدكنةِ الليلِ
تناثرَ فوقَ مناجلِ الطفولة
نهضَتْ أميرةُ البحر
تلملمُ أحلاماً راعشة
صمتٌ لا يختلفُ
عن هدوءِ الصحارى
ضلَّتْ قبّرة الطريق
إلى فراخِهَا
دارَتْ حولَ نفسِهَا
تشمُّ الحشائش
فرشَتْ أجنحتَهَا تلامسُ الأرضَ
لعلّها تلتقطُ زغباً متطايراً من فراخِهَا
هل كبرَتِ الفراخُ
وطارَتْ تبحثُ عن حبّاتِ الحنطة
المنبعثة من شموخِ السنابلِ
أم أنّها تاهَتْ بينَ أخاديدِ الحياة؟
تنهضُ الطفولةُ متلألئةً
فوقَ جمرةِ الشوقِ
تبحثُ
عن خيوطِ الخلاصِ ..
الخلاصُ من ضجرِ الغربة ..
ضجرُ الليلِ الطويل ..
برودةُ المسافاتِ الزاحفة
على
أسوارِ
المراكبِ ..
قلبٌ مفتون بحبقِ الروابي
مسكونٌ في صهيلِ الريحِ
شوقاً إلى بيادرِ الحنينِ
ووشوشاتِ الهداهدِ
يخرُّ زيتُ العمرِ
على مصاطبِ الروحِ
فتهطلُ دموعُ القلب
توقاً إلى الدالياتِ المظلّلة
ساحاتِ البيتِ العتيقِ
نسائمُ الشرقِ
تخورُ فوقَ دخانِ العمرِ
حنينٌ مخثَّرٌ بشهوةِ الاشتعال
إلى شرفةٍ غارقة
في
لوعةِ
الانتظار
نزهةٌ مصحوبة بهديرِ الشعرِ
مزدانة بعوسجِ الروح
تضيءُ كهوفَ الليلِ
بقناديلِ القصيدة
تاهَتْ حمائمُ الحنين
عبَرتْ غابات الشوق
اِرتطمَ جناحَهَا بأغصانِ الطفولةِ
هبطَتْ
تفرشُ حنينَهَا
فوقَ زنابقِ الهجران
حلمٌ متكئٌ
على تعاريجِ العمرِ
عبرَتْ غزالةٌ برّية نهراً شحيحاً
عادَتْ قبلَ أنْ تعبرَ الصحارى
شربَتْ إلى أنْ روَتْ غليلَهَا
نبتةٌ أُقْتِلَعَتْ مِنْ نسيمِهَا
من خصوبةِ الأحلامِ
عبرَتْ جدارَ الحزنِ ..
أبراجٌ مائلة
قصورٌ في طريقِهَا إلى الزوالِ
لم تنسَ نقوشاً مزهوَّة
فوقَ وهادِ الطفولةِ
خبَّأتها بينَ ترابِ الأزقّة
كي تزفَّهَا لأغصانِ القصائد
شوقٌ فائرٌ
يشقُّ كثافةَ الضبابِ
حنانٌ دافئٌ
يُذيبُ سماكةَ الصقيعِ
تشمخُ الأمُّ في واحاتِ الحلمِ
سفرٌ يتنامى بالعذابِ
ودَّعَتْ مسقطُ الروح
ودعَّتْ بريقَ المناجلِ
عبرَتْ كهوفَ الظلامِ
حاملةً مشعلاً مزنَّراً بالكلماتِ
ودَّعَتْ حميميّات الطفولة والشباب
ودَّعَتْ الصداقات مِنْ أجلِ العبور ..
في دنيا الكلمات ووهجِ الفيافي
ودَّعَت طرقاً ترابية
متعرِّجة في برازخِ سهولِ القمح
كم من الأيّامِ والشهورِ والسنين
عبرَتْ بينَ شموخِ السنابل
قرأتْ قصائداً مدرسيّة
دروسَ التاريخِ
قرأتْ نصوصاً في أعماقِ البراري
تسمعُ هسيسَ الحشراتِ الصغيرة
زقزقات العصافير
يشدُّهَا هديلَ الحمائمِ
أسراب الزرازير في أوائلِ الربيعِ
تبهرُهَا نجيمات الصباح
في الليالي القمراء
تعدُّها رغم تنبيهات الأمّ
لا تخشى لو طلعَ لها ثالولاً على أنفِهَا
تحكي مع النجومِ قصصاً وحكايات
مبهرةٌ أنتِ أيَّتُهَا النجوم
كم تمنَّت لو كانَتْ نجمةً صغيرة
تسبحُ في فضاءِ الكونِ
تساءَلَتْ مراراً
هل تنامُ النجومُ
هل تجوعُ النجومُ
كيف تترعرعُ النجوم؟
خرجَتْ من لُجَّةِ الحلمِ
عابرةً بُرَكَ الانكسارِ
مخترقةً عواصف مغبرّة
تحملُ في ساعدِها الأيمن
غربالاً ورثته من أمِّهَا
تغربلُ ما يصادفُهَا
من شوائبِ هذا الزمان
قراراتٌ مصيريّة
مفارقاتٌ مجنَّحة
على أمواجِ المسافات
تمسكُ باقات القمح في خيالِهَا
تثبِّتها في جذوعِ الذاكرة
تصارعُهَا أمواج الروح
تتشبَّثُ بوداعةِ الكلمة
تحضنُهَا
تلملمُهَا من محطّاتِ العمر
ثمَّ ترشرشُهَا على الجراحِ المتطايرة
من اشتعالِ القلبِ
مزهوّة بصداقةِ الكلمة
صديقةٌ ولا كلّ الصديقات
قلمٌ يحملُ نكهةَ النرجس البرّي
طفولةٌ شامخة بخصوبةِ الحياة
تجذَّرَ عناقها مع الكلمات
فارشة جراح الذاكرة
على أجنحةِ الشعرِ
تنقشُ بمهارةٍ مفرحة
عبيرَ القصائد
مبهورةٌ من إندلاقات
تعاريج الذاكرة البعيدة
فوقَ ظلالِ الحلم
تنبشُ غابات الذاكرة
فارشة أجنحتها لنسيمِ الشرق
مُحلِّقةً فوقَ ضجرِ الأيام
تقمعُ أوجاعَ الغربة
برماحِ الكلمة
تلامسُ سهامها سفوح الطفولة
فتنهضُ ديريك متلألئةً
في رحابِ الحلم
حلمُ العبورِ في متاهاتِ القصائد
غمامٌ خفيف
يرتعشُ جسدَ الكلمات
ينبتُ في زنابقِ الروحِ
نشوةُ اهتياجاتِ القصائد
يغمرُهَا التجلّي
تواصلٌ لذيذ
معَ حميميّاتِهَا المخبّأة
بين شغافِ القلبِ وحبورِ الطفولة
تكتبُ للنجومِ التائهة
لعشّاقٍ من لونِ البحارِ
سفينةُ الشوقِ غابَت ..
عبرَتْ صحارى الروح
تبحثُ عن بيلسانٍ معبّقٍ
بأريجِ المسافات
تطهِّرُ فيهِ أوجاع الحنين
شوقٌ أعمق من قبّةِ السماء
يفورُ من شهيقِ الصباحات
نافذةٌ مفتوحة على ودادِ العالم
ترتعشُ الكلمات تحتَ أصابِعِهَا
المعطّرة برحيقِ الحشيش
تلتحمُ مع دمعةِ ابنها
فتنهضُ أمُّها
بين موجاتِ الذاكرة
تقدّمُ لها رغيفاً طازجاً
يسيلُ لعابها
تهفو إلى خبزِ التنورِ ..
خبزٌ مقمَّرٌ
ببخورِ المحبّة
تخثَّرَ الحنانُ
على جبهةِ الغربةِ
أسئلةٌ كحبّاتِ الحنطة
تنهمرُ على هلالاتِ الشوق
إلى نجومِهَا المعلّقة
في وهادِ جموحِ الخيال
تعبقُ يوميّاً
في ظلالِ صباحاتها
نكهةَ الكرومِ
تشمخُ أزقَّتها الطينيّة أمامَهَا
تتوارى أمواجُ البحار
تعبرُ رعونةَ المسافات
تنقشُ فوقَ برزخِ العمرِ نجمةً
تتبرعمُ قامات الأحبّة
فوقَ أرصفةِ الروحِ
فيتنامى الشوقُ
في ضلوعِ الحنينِ
إلى مرافئِ الأمومةِ
تتلاطمُ الغربات في داخلِهَا
وتغمرُها تساؤلات منبثعة
من منحدراتِ الطفولة
تشتعلُ شوقاً إلى الداليات
إلى سلالِ عِنَبِ "الْبَحْدُوْ"
دمعةٌ موجعة تتلألأُ
على خدِّهَا الأيسرِ
ترافقُهَا إبتسامة متطايرة
من خيوطِ الصباحِ
مرسومة على وجهِهَا المعفّر
بغربةٍ متصالبة معَ خصوبةِ الأرض
يكبرُ شغفها بكتابةِ نصٍّ
تنثرُهُ فوقَ رحابِ الطفولة
تتراقصُ صوراً من الذاكرة
مغبَّشة بضبابٍ خفيف
تنهضُ أمامَهَا شقاواتها
تفرحُ .. تمدُّ يديها
تمسكُ تلابيبَ الحلمِ
قلبٌ مرتعشٌ من شهقةِ الإنذهال
تتداخلُ بهجة الحلم
مع أرخبيلِ الطفولة المنسابة
مع تلألؤاتِ نجمةِ الصباح!
يسطعُ والدُها مُهشِّماً
صقيعَ الغربةِ
حاملاً منجلاً
معانقاً خشونةَ الأرضِ..
الأرضُ التي عجنَتْ والدَهَا
فانصهرَ عرقُهُ مع زقزقاتِ العصافير
وشموخِ السنابل ..
تتساءلُ:
هل أنا أنا،
أم أنَّني ذاتٌ أخرى تشبهني؟
تريدُ أن تلملمَ ذواتها المنشطرة
على قارعةِ المسافات!
تقبضُ على صقيعِ اللحظاتِ
عجباً ..
تحترقُ يدها من جمراتِ الصقيعِ
معادلاتٌ متشظية
من حضورِ المكان
أصبحَ المكانُ مكانان
تمسكُ عوالَم الطفولة
من جذورِهَا ..
تجرّها إلى سماواتِ الصقيعِ
تدفئ برودةَ المكان
ترشرشُ فوقَهُ أكوام الحنطة
توهُّجات حرارة تمّوز
يتبدَّدُ الصقيعُ
ذائباً في قميصِ الليل
تبحثُ عن خيوطِ الحلمِ
تلتقطُ حبّات التوت المندلقة
من جنباتِ الحلم
تتدحرجُ الحبّات بعيداً
تعبرُ نهرَ الذاكرة الغافي
فوقَ جسدِ الأيام
تنامُ الحبّات باطمئنان
بين مرافئِ خصوبةِ الروح!
ستوكهولم: نيسان (ابريل) 2003
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
[email protected]
*أنشودة الحياة: نص مفتوح، قصيدة ملحميّة طويلة جدّاً، تتألّف من عدّة أجزاء، كلّ جزء هو بمثابة ديوان مستقل مرتبط مع الجزء الّذي يليه، وهذا النصّ مقاطع من الجزء الثاني، حمل عنواناً فرعياً:
(غربة متصالبة مع خصوبةِ الأرض)