أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة العسكرية















المزيد.....

6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة العسكرية


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 23:52
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


تحول "اقتصاد الحرب" في السودان من مجرد نتيجة عرضية للصراعات المسلحة إلى نمط مهيمن للتراكم الرأسمالي يقوم على الطفيلية والنهب والتحالف العضوي بين رأس المال والسلطة العسكرية-الأمنية [1]. وهكذا، لم تعد الحرب مجرد انعكاسٍ للأزمات السياسية، بل مكوِّن أصيل في التشكيلة الرأسمالية السودانية منذ نشأتها الاستعمارية. فالحرب لم تكن في أي لحظة من تاريخ السودان الحديث قطيعةً مع الاقتصاد، بل استمرارًا له بوسائل أخرى، تشكل البنية التحتية المادية التي تنتج وتعيد إنتاج العنف وتفكيك المجتمع.

لقد وُلدت هذه البنية الحربيّة مع الدولة السودانية الحديثة في رحم الاستعمار البريطاني، حيث أقام مشروع الجزيرة ونظام الري الموجه لخدمة رأس المال الإمبريالي، زارعًا في الجسد السوداني منطقًا كامنًا يقوم على التبعية والعنف [2].

وبعد الاستقلال، استمر التحالف الطبقي الذي أنشأه الاستعمار - بين البيروقراطية المدنية والبرجوازية التجارية - في التحكم بموارد البلاد، مانعًا أي تحول حقيقي في علاقات الإنتاج [3]. غير أن صعود النظام الإسلامي-العسكري في 1989 مثل منعطفاً حاسماً نحو هيمنة اقتصاد الريع والنهب، حيث ولد شكل جديد من الرأسمالية السودانية: الرأسمالية الطفيلية التي ولدت من رحم الدولة نفسها [4].

على أنقاض هذا التحالف التاريخي بين العسكر والبرجوازية، نشأت آليات جديدة للتراكم الطفيلي تبدأ من تحويل عوائد الموارد الطبيعية من النفط والذهب من إمكانية للتنمية إلى مصدر لتمويل الحرب وتغذية الفساد. فشبكات التهريب غير الرسمية التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية حوّلت هذه الثروات إلى أداة لإثراء النخبة الحاكمة وتهميش المجتمع [5].

وتتعزز هذه الآلية عبر سيطرة النخب العسكرية-التجارية على سلاسل الإمداد الأساسية، من خلال احتكار تجارة السلع الأساسية مثل القمح والدواء والوقود، حيث تتحول الإغاثة الإنسانية نفسها إلى مصدر للتراكم الطفيلي [6]. كما تكتمل هذه الدائرة عبر شبكات التهريب العابرة للحدود - سواء للأسلحة أو البشر أو السلع المهربة - التي أصبحت جزءاً عضوياً من الدورة الاقتصادية لهذا النمط، وخلقت تحالفات معقدة تتجاوز الحدود الوطنية، تربط بين النخب المحلية والإقليمية في دائرة من المصالح المتشابكة [7].

أما التحالف الطفيلي بين العسكر ورأس المال، فهو يشكل القلب النابض لهذا النظام الاقتصادي، فقد تحولت المؤسسة العسكرية إلى الشكل الأعلى لتكثيف التناقض الطبقي، حيث لم تعد تمارس العنف بوصفه وظيفة سياسية فحسب، بل بوصفه وسيلة إنتاج مادي للثروة والهيمنة [8]. هذا التداخل العضوي بين وسائل العنف ووسائل الإنتاج خلق نخبة جديدة تمتلك الدولة نفسها، وتستخدمها كأداة للتراكم والهيمنة.

إن اقتصاد الحرب في السودان ليس ظاهرة عابرة أو انحرافًا طارئًا، بل هو الشكل التاريخي لرسملة السلطة في سياق دولة تابعة، حيث تتقاطع مصالح الرأسمالية الطفيلية المحلية مع البنية الإمبريالية للنظام العالمي. وقد أشار محمد إبراهيم نقد في تحليله لعلاقات الإنتاج في المجتمع السوداني إلى أن تطور الرأسمالية هنا لم يتم عبر تراكم داخلي مستقل، بل من خلال جهاز الدولة كوسيط بين السوق العالمي وطبقة بيروقراطية عسكرية – تجارية [9]. وهذا ما يؤكده سمير أمين في دراسته حول التراكم على الصعيد العالمي، حين يربط بين اقتصاديات الحرب في الأطراف وبنية التبعية البنيوية التي تُعيد إنتاج التخلف [10].

ولم يكن هذا النمط من التراكم الطفيلي داخليًا فحسب، بل مشدودًا إلى شبكة الإمبريالية العالمية. فاقتصاد الحرب السوداني يعيش على التمويل الخارجي، وعلى ريع الذهب والنفط الذي يُهرَّب عبر شبكات إقليمية ودولية تشارك فيها قوى خليجية وشركات مرتزقة روسية وأوروبية [11]. وهكذا يصبح السودان جزءًا من سوق عالمية للعنف، حيث تُحوَّل المعاناة إلى سلعة إنسانية تتداولها المنظمات المانحة.

لقد أنتج هذا النظام الاقتصادي نتائج كارثية على المستويين الاجتماعي والسياسي. وما لبث اقتصاد الحرب أن حطم النسيج الاجتماعي، حيث حوّل المجتمعات إلى سوق للعنف ودفعها نحو الهويات القاتلة. أما سياسياً، فقد أعاق إمكانية قيام ثورة حقيقية، وذلك بخلق مصلحة لطبقة عريضة من المنتفعين - من وسطاء وميليشيات وموظفين كبار - في استمرار الوضع القائم [12].

ومع تفاقم التناقض بين الطابع العسكري للاقتصاد وبين عجزه عن إعادة إنتاج نفسه، يتبدّى أن الحرب ليست فقط وسيلة تراكم، بل أداة انهيار بنيوي. فاقتصاد الحرب، بقدر ما يخلق الثروة للفئة الحاكمة، يدمر في الوقت نفسه القاعدة الإنتاجية للمجتمع. الزراعة تنهار، الصناعة تتفكك، والعمال يُستبدلون بالمليشيات. ومع تآكل الريع وتضارب المصالح بين فصائل الطبقة المسيطرة، تتفجر التناقضات داخلها نفسها.

إن إنهاء هذه الحلقة المفرغة لا يمكن أن يتحقق عبر المصالحة أو إعادة الإعمار بالمنطق النيوليبرالي، لأن هذه الصيغ لا تفكك البنية الطبقية التي تنتج الحرب، بل تعيد تدويرها بوسائل جديدة. إن الخروج من هذا المأزق يتطلب تحطيماً جذرياً لنمط التراكم الطفيلي نفسه عبر تأميم الموارد الطبيعية وتفكيك شبكات النهب وبناء اقتصاد منتج ديمقراطي [13]. فالثورة الحقيقية ليست مجرد تغيير سياسي، بل هي تحول جذري في نمط التراكم والعلاقات الاقتصادية التي تُنتج العنف والاستغلال.

وهكذا، فإن الحرب التي وُلدت من رحم التراكم الطفيلي، تلتهم الآن بنيته نفسها.

"الحرب، في شكلها الحديث، ليست سوى استمرار للنشاط الاقتصادي بوسائل أخرى”
كارل ماركس.

النضال مستمر،،
--------------------------
المراجع:
[1] David Keen, The Economic --function--s of Violence in Civil Wars, 1998
[2] Mahmood Mamdani, Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism, 1996
[3] Tim Niblock, Class and Power in Sudan: The Dynamics of Sudanese Politics, 1898–1985, 1987
[4] محمد إبراهيم نقد، علاقات الإنتاج في المجتمع السوداني, دار الثقافة، 1982
[5] Alex de Waal, The Political Economy of Malnutrition in Sudan, 2018
[6] Jago Salmon, A Paramilitary Revolution: The Popular Defence Forces, 2007
[7] Samir Amin, Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment, London: Monthly Review Press, 1974
[8] Nicos Poulantzas, State, Power, Socialism, 1978
[9] لقاء مع محمد إبراهيم نقد، موقع صحيفة الاتحاد
[10] Samir Amin, Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment, London: Monthly Review Press, 1974
[11] Mahmood Mamdani, Saviors and Survivors: Darfur, Politics, and the War on Terror, 2009
[12] Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, 1963
[13] Vladimir Lenin, Imperialism, the Highest Stage of Capitalism, 1916



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 5. اليسار السوداني: الأزمة الاصلاحية وتحول البنية الطبقية
- 4. التشكيلة الاجتماعية السودانية: تحليل طبقي للبنية المعقدة
- 3. الماركسية واللاعنف: قراءة في صراع النظرية والتاريخ
- 2. السودان والمأزق النظري: تشريح إخفاق الثورة السلمية
- الماركسية والثورة السودانية – جدل النظرية والممارسة 1. المار ...
- 10. آفاق الثورة السودانية في السياق الأممي: نحو قطيعة مع أوه ...
- رأسمالية التعليم وإخصاء الوعي
- 8. القطيعة الثورية: الاشتراكية كطريق وحيد لتحطيم أوهام الإصل ...
- 7. البرجوازية الطفيلية: الحلقة المفقودة في أزمة الإصلاح السو ...
- ثقافة الدوبامين: بين التشييء الرقمي واستلاب الوعي
- 6. المأزق البنيوي لشعارات -السلام–الحياة–الانتقال-
- 5. البعد الإمبريالي للمشروع الإصلاحي
- 4. أوهام الانتقال المدني الديمقراطي
- 3. مأزق السلام الليبرالي
- 2. من حماية الأرواح إلى احتواء الثورة: تفكيك ماركسي لشعار ال ...
- 1. السلام، الحياة، الانتقال: مدخل ماركسي لفهم أوهام الإصلاح ...
- 14. الخاتمة: نحو بديل ثوري
- بيان المكتب السياسي: شعارات عامة بلا تحليل طبقي ملموس
- الحدود كجهاز قمع طبقي في عصر الإمبريالية
- 13. المهام الطبقية للثورة السودانية: من الوطني إلى الاشتراكي


المزيد.....




- الصين والإبادة الجماعية في غزة: نأي إستراتيجي
- لقاء تشي غيفارا مع ارنست ماندل
- انبعاث اليسار الجذري والسياسة العمالية
- معادلة أبو بكر الجامعي المستعصية عن الحل
- الحركة الشيوعيّة المصريّة: تاريخ من الفرص الضائعة
- بلاغ صحفي للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- إسرائيل، لا الصهيونية ولا دولتها قابلة للإصلاح
- نضالات جيل- زد212: ماذا بعد خطاب الملك؟
- بلاغ إخباري للمكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
- كلمة الميدان: العدالة ومحاكمة مجرمي الحرب في السودان


المزيد.....

- ليبيا 17 فبراير 2011 تحققت ثورة جذرية وبينت أهمية النظرية وا ... / بن حلمي حاليم
- ثورة تشرين / مظاهر ريسان
- كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عماد حسب الرسول الطيب - 6. اقتصاد الحرب في السودان: الرأسمالية الطفيلية والهيمنة العسكرية