أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بشار مرشد - الإعلام الرقمي… من منبرٍ للمعرفة إلى ساحةٍ للفوضى














المزيد.....

الإعلام الرقمي… من منبرٍ للمعرفة إلى ساحةٍ للفوضى


بشار مرشد
كاتب وباحث

(Bashar Murshid)


الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 10:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة:
مع اتساع فضاء الإعلام الرقمي، لم يعد الجهل حبيس المجالس الضيقة أو النقاشات العابرة، بل وجد طريقه إلى الملايين بلمسة إصبع. صارت المنصات منابر مفتوحة لكل من يملك صوتًا، لا لكل من يملك علمًا. في البداية، بدا ذلك فتحًا حضاريًا يوسّع دائرة التعبير، لكنه سرعان ما تحوّل إلى فوضى فكرية تُكافئ الأكثر ضجيجًا لا الأصدق برهانًا.

نشأت بيئة رقمية تشبه السوق الصاخبة: يختلط فيها العالم بالمدّعي، والمجرِّب بالعابث، والعقلاني بالمهووس. اختلطت الحقائق بالظنون، وتبدلت معايير الصدق من الدليل إلى عدد الإعجابات والمشاهدات. ومن هذا الهذيان الجماعي خرجت أفكار تنافي المنطق والعلم، تتحدّى التجربة وتستهزئ بالبرهان، ثم تجد جمهورًا يصفق لها، لا لأنها صحيحة، بل لأنها مثيرة ومريحة نفسيًا.

أخطر ما في هذا المشهد أنّه لا يكتفي بتزييف المعرفة، بل يُقوّض ثقة الناس بالعلم نفسه، فيزرع الشك في المنهج، ويُقدّس الشعور مكان العقل. فصار من السهل أن نسمع من ينكر الطب الحديث، أو يهاجم الفيزياء، أو يروّج لوصفاتٍ سحرية، أو يعبث بالكهرباء والنار أمام الكاميرا وكأنها ألعاب. كل ذلك باسم “الحرية” و”حق التعبير”، بينما الحقيقة أن ما يُمارَس هو اعتداءٌ صريحٌ على الوعي العام وسلامة المجتمع.


جائحة فكرية تمسّ كل مجالات الحياة:

هذه الجائحة الفكرية لم تتوقف عند حدود العلم وحده، بل امتدّت إلى كل مجالات الحياة دون استثناء. أصابت السياسة، فاختلط الرأي بالمؤامرة حتى ضاعت الحقيقة بين التضليل والدعاية. وسرَت في الاقتصاد، فامتلأت المنصات بخرافات “الثراء السريع” وعمليات الاحتيال المقنّعة بثوب الاستثمار. أما في الطب والعلاج، فقد صار كل صاحب هاتف “خبيرًا” يدّعي وصفةً سحريةً أو علاجًا بديلًا بلا علمٍ ولا ترخيص. وحتى الثقافة والزراعة لم تسلما من العدوى؛ فانتشرت نصائح زراعية مدمّرة، ومقولات ثقافية تُزيّف التاريخ وتشوّه القيم، تُقدَّم جميعها بوثوقٍ مدهش، وكأن الجهل صار مصدرًا للثقة.

لقد تحوّل الإعلام الرقمي إلى مسرحٍ واسعٍ يُمثَّل عليه كل ما يمكن للعقل أن يصدّقه أو يرفضه، بلا حارسٍ من المنطق ولا رقيبٍ من الضمير. وما لم يُدرك صُنّاع القرار أن هذه العدوى المعرفية تخرّب بنية التفكير قبل أن تُخرّب مؤسسات الدولة، فإننا نقترب من زمنٍ يصبح فيه التضليل رأيًا محترمًا، والحقيقة وجهة نظر.


ضرورة التشريع والمسؤولية الدولية:

أمام هذا الانفلات المعرفي، لم يعد الصمت خيارًا مسؤولًا. فكما تضع الدول قوانين لحماية البيئة من التلوث، يجب أن تُسن تشريعات تحمي العقول من التسمم الفكري. الحرية لا تكون مطلقة حين تمسّ حياة الناس أو سلامتهم، ولا يمكن أن تُترك المنصات الرقمية ساحةً بلا ضابطٍ تُبثّ فيها الوصفات الزائفة والتجارب الخطرة والنظريات المسمومة تحت شعار “الرأي الآخر”. فحين تتحوّل الكلمة إلى فعلٍ قابلٍ للتقليد يعرّض الآخرين للأذى، تصبح المسألة شأنًا عامًا لا رأيًا شخصيًا.

إن الحاجة باتت ملحّة لوضع إطارٍ قانونيٍّ واضحٍ يفرّق بين حرية التفكير وحرية التضليل. قوانين تُحمّل المنصات والمحتوى مسؤولية ما يُنشر فيها، وتُلزمها بحذف أو حظر أي مادةٍ تُخالف المسلمات العلمية الثابتة أو تُشجّع على ممارساتٍ تهدّد السلامة العامة. تلك ليست رقابةً على الفكر، بل حمايةً للعقل من العبث. فالمجتمعات التي تترك جهلها يتكلم بحريةٍ مطلقة، تُصادر وعيها دون أن تشعر.

ولأن الخطر عابرٌ للحدود، فالمسؤولية يجب أن تكون دوليةً مشتركة، تتبناها المنظمات الأممية والهيئات العلمية والإعلامية، لتضع ميثاقًا يوازن بين حرية النشر وواجب الصدق العلمي. إن صيانة الوعي الإنساني لم تعد شأنًا ثقافيًا فحسب، بل قضيةَ أمنٍ معرفيٍّ عالميٍّ لا تقل أهميةً عن الأمن الغذائي أو المناخي.



الخاتمة والتوصيات:

إن مواجهة هذا الانحدار المعرفي لا تكون بالمنع وحده، ولا بالصمت انتظارًا لصحوةٍ جماعيةٍ لن تأتي من تلقاء نفسها، بل بعملٍ متكاملٍ يجمع بين التشريع، والتعليم، والمساءلة.
فالتشريع هو السور الذي يحمي المجتمع من العبث المقصود، فيضع حدًّا لمن يستغل المنصات لبثّ الجهل باسم الحرية. والتعليم هو الجذر الذي يزرع في الأجيال مناعةً فكريةً تجعلهم يفرّقون بين العلم والخرافة، وبين الحقيقة والدعاية. أمّا المساءلة المجتمعية، فهي صوت الوعي الحيّ الذي يرفض السكوت على التضليل ويُطالب بالمسؤولية في القول كما في الفعل.

إن الحفاظ على سلامة العقول اليوم لا يقلّ أهميةً عن حماية الحدود أو الموارد، لأن الأمم لا تسقط حين تضعف جيوشها فقط، بل حين يختل وعيها الجمعي وتُصاب بالعمى الفكري.
لهذا، فإن صون الحقيقة لم يعد ترفًا فكريًا، بل واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا.
فمن يترك الجهل يتكلم باسم الحرية، سيجد نفسه ذات يومٍ يُحاكم الحقيقة بتهمة الإساءة إلى الوهم.



#بشار__مرشد (هاشتاغ)       Bashar_Murshid#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التعسف الوظيفي: كيف يحوّل المؤسسات من إنتاجية إلى ضغط؟
- حين يصبح الفاسد قديسًا... جمهورية النزاهة الوهمية
- فلسفة التنكّر والجحود… هندسة اليأس وتدمير الأمم
- الزمن الرقمي… يفضح النفاق
- الضمير والأخلاق... صمام الأمان بين التقلب الانتهازي والتكيف ...
- كلمة حق أُريد بها باطل... قراءة تحليلية
- الأحزاب...من الوسيلة النبيلة إلى الانحراف والتحزب
- الفصل بين الفكرة وذات الإنسان... جدلية النقد والتجريح
- مستقبل الصحافة... بين الحياد والإيحاء الموجَّه
- ادعاء الحكمة بلا تجربة… كالجعجعة بلا طحن
- الدولة الحاكمة وحاكم الدولة… من يواجه العواصف؟
- رواية الحق والتاريخ... الأمواج تهدم قصور الرمل
- التحيّز المعرفي... قصة خيالية هادفة
- رب ضارة نافعة...الغطرسة بداية التهاوي
- دول الاقليم بين التبعية... واستراتيجية التحالف
- الدراما العربية وتشويه التاريخ... عندما يتحول الفن إلى أداة ...
- الهجاء المستتر بالمديح… بهرجة وسط الدياجير
- الوعي غربال... بين المجاملة واللباقة والتملق
- حروب الوكالة... من يدفع الثمن في لعبة الأمم؟
- حوار المعالجات الرقمية...الجزء الثامن


المزيد.....




- ترامب يلوّح بتحذير بوتين بشأن احتمال تزويد أوكرانيا بصواريخ ...
- ما الذي سيدمّر أميركا في صراع النظام العالمي الجديد؟
- نتنياهو: حققنا -انتصارات هائلة-.. والمعركة -لم تنتهِ بعد-
- صواريخ -توماهوك- تختبر حدود الحرب بين كييف وموسكو
- لبنان يعدّ شكوى أمام مجلس الأمن بعد التصعيد الإسرائيلي.. فهل ...
- غزة بعد الاتفاق مباشر.. الأمن يسيطر على مليشيا عميلة للاحتلا ...
- إغلاق صناديق الاقتراع في الكاميرون وبيا الأوفر حظا لولاية ثا ...
- مظاهرة في سراييفو تطالب بدعم الفلسطينيين وقطع العلاقات مع إس ...
- ترامب في شرم الشيخ: توقيع تاريخي وقمة دولية لإنهاء حرب غزة
- هل تتعارض العدالة الانتقالية مع السلم الأهلي في سوريا؟


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - بشار مرشد - الإعلام الرقمي… من منبرٍ للمعرفة إلى ساحةٍ للفوضى