|
بقايا الطلائع القديمة: الثورة بين الخطاب والممارسة والخيبة.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 16:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة: الثورة بين الوعد والواقع المفقود.
الثورة ليست حدثا لحظيا، ولا خطابا يُرفع على منابر الإعلام، ولا مجرد بيانات تُصدر باسم الحرية أو العدالة. الثورة هي فعل مستمر، موقف دائم، وانحياز حقيقي للجماهير ضد الفساد والاستبداد والهيمنة الاقتصادية والثقافية. ما بعد الثورات العربية كشف عن هشاشة كبيرة في الخطابات السياسية، وظهور فجوة صارخة بين القول والفعل، بين الزيف الإعلامي والانحياز الاجتماعي، بين الخطاب الطنان والعمل الجاد. إن مأساة الثورات العربية اليوم ليست في غياب التغيير وحده، بل في ظهور فئات سياسية وجماعات أيديولوجية لم تتحرر بعد من ميراث الحرب الباردة. هذه الفئات ما زالت تمارس أدوارا وظيفية تخدم أنظمة الاستبداد، وتسوّغ التطبيع بخطاب ثوري طنان يلتبس على الجماهير ويستغل شعارات الحرية والعدالة لمصالح ضيقة. إنها ظاهرة تتجاوز الأفراد إلى بنيات تنظيمية كاملة، تؤثر على مسار الثورة وتعيد إنتاج السلطة نفسها تحت ستار المعارضة. فلاديمير لينين قال: "الثورة لا تُصنع بالكلمات، بل بالفعل." هذا القول يضعنا أمام اختبار حقيقي: هل الخطاب الثوري مجرد شعارات تُرفع، أم أنه فعل يومي يواجه السلطة ويقف مع الجماهير؟ من دون الفعل، تبقى الثورة مجرد وهم، وصوتا فارغا يلتهمه التاريخ سريعا. ومن منظور طبقي، تكشف هذه الأزمة عن تباين عميق بين مصالح الجماهير وميول النخب القديمة. بينما الجماهير تهدف إلى تغيير الهيكل الاجتماعي والاقتصادي، تظل بعض الفئات السياسية عالقة بين ولائها للأيديولوجيا القديمة ومصالحها الشخصية، فتصبح الثورة أداة لاستمرار الدور الوظيفي، لا لتحقيق العدالة والمساواة. كما قالت روزا لوكسمبورغ: "حرية الكلمة لا تكفي إذا لم تترافق مع حرية الفعل." الحاجة اليوم هي إلى فعل مستمر، إلى مواجهة يومية للسلطة، إلى بناء مؤسسات ثورية مستقلة تحمي الثورة من الانحراف، وتضع الجماهير في قلب العملية السياسية والاجتماعية، بعيدا عن المكاتب، بعيدا عن النفوذ، بعيدا عن الزيف الإعلامي.
الفصل الأول: بقايا الحرب الباردة والأوهام الأيديولوجية.
اليسار القومي والتقليدي العربي، الذي كان في السابق يتقن فن الخطاب والإيديولوجيا، لم ينجح بعد في التحرر من إرث الحرب الباردة. اليوم، يبدو واضحا أن بعض هذه الفئات لا تزال أسيرة تصنيفات قديمة: خصم إسلامي، خصم قومي، خصم خارجي، خصم يساري آخر. هذه التصنيفات كانت أدوات ضرورية في الماضي، لكنها اليوم تُستغل لتبرير التواطؤ والتحالفات مع السلطة، وإخفاء الفشل في مواجهة الفساد والاستبداد. المفارقة أن هذه القوى، بدعوى حماية الثورة أو مواجهة "الخطر الإسلامي" أو "الخطر الخارجي"، أصبحت تكرس أساليب التحكم الاجتماعي والسياسي نفسها التي كانت موجودة في الماضي. من هنا، يمكن القول إن الخطاب الثوري الطنان أصبح سلعة سياسية تُباع وتشترى وفق مصالح ضيقة، وليس أداة للتحرر الاجتماعي. روزا لوكسمبورغ قالت: "الحرية الحقيقية هي الحرية العملية، وليست مجرد كلمات على الورق." هنا تكمن أزمة الفئات القديمة: لقد أصبحت الكلمات على الورق، البيانات الإعلامية، والبيانات الفكرية، بديلا عن العمل الحقيقي، عن الانخراط في حياة الجماهير، عن مواجهة الاستبداد بمواقف عملية ومستقلة. الشاهد من هذا كله هو أن الأزمة ليست فقط أخلاقية، بل استراتيجية. الجماهير تبحث عن من يرفع شعارات الثورة ويترجمها إلى واقع ملموس، بينما بعض القوى القديمة تبحث عن دور وظيفي ضمن النظام الجديد أو لتأمين مكاسب شخصية. كما قال أنطونيو غرامشي: "المثقفون العضويون هم الذين يربطون الناس بالسلطة، لكن الثورة الحقيقية تأتي عندما يرفض الناس الرباط." هذه هي اللحظة الفاصلة بين الثورة الحقيقية والزيف، بين الانحياز للمبادئ والانحياز للمصالح.
الفصل الثاني: التواطؤ المزدوج وخيانة الثورة.
أخطر ما يهدد الثورة اليوم هو التواطؤ المزدوج: فالكثير من الفئات تدّعي المعارضة، بينما في الواقع تعمل خلف الأبواب المغلقة مع السلطة القديمة أو الجديدة. هذا التواطؤ يظهر بوضوح في التحالفات الاستراتيجية المغلقة، وفي طريقة إدارة بعض القوى للخطاب الإعلامي، بحيث يتم تقديم صورة معارضة زائفة، بينما تُمارس نفس السياسات التي انتُفض الشعب ضدها. المفارقة الكبرى أن هذه الفئات تصنع أعداء وهميين، توزع وصمات الثورة، وتتعامل مع الخطاب الثوري كسلاح ضد الثورة نفسها، محوّلة الحرية إلى مجرد كلام، والعدالة إلى شعارات فارغة. كما قالت سيمون دو بوفوار: "الثورة لا يمكن أن تكون حقيقية إذا لم تشمل الجميع، ولا تُحافظ على كرامة الإنسان." التواطؤ المزدوج يفرّغ الثورة من محتواها ويعيد إنتاج نفس أنماط القمع الاجتماعي والسياسي. تاريخيا، نشاهد أن الفئات التي تتورط في التواطؤ المزدوج تتحرك وفق مصالح شخصية أو حزبية، لا وفق مصالح الجماهير. التحالف مع الأقوى، التنازل عن المبادئ مقابل النفوذ، والانحياز لمن يدفع أكثر أو يقدم مناصب، كلها مظاهر للتراجع عن الثورة. لينين قال: "الثورة تحتاج إلى تنظيم حقيقي وليس مجرد كلام." التنظيم الحقيقي هو الذي يضع الجماهير في قلب العملية، لا من يستخدمهم لتأمين مكاسب قصيرة المدى. الأزمة هنا مزدوجة: أخلاقية واستراتيجية. أخلاقية لأنها تظهر خيانة واضحة للقيم الثورية، واستراتيجية لأنها تؤدي إلى تكرار نفس أخطاء الماضي، إعادة إنتاج السلطة نفسها، وتمهيد الطريق لتكرار الاستبداد تحت ستار المعارضة.
الفصل الثالث: اليسار الثوري مقابل اليسار الوظائفي .
اليسار الثوري الحقيقي ليس مجرد شعار يُرفع أو بيان يُصدر، بل هو موقف يومي، انحياز مستمر للجماهير، والتزام بفعل التغيير الاجتماعي والسياسي. اليسار الوظائفي، على العكس، يستخدم الخطاب الثوري كأداة لتحقيق مكاسب سياسية أو لتثبيت نفوذ حزبي، وغالبا ما يختبئ وراء شعارات الكفاح الاجتماعي بينما يعمل ضمن أجهزة السلطة أو خلف الأبواب المغلقة لصالح مصالحه الذاتية. في السياق العربي، تتجلى هذه الفجوة في كيفية تعامل الفئات اليسارية مع التحولات السياسية بعد ثورات 2011. بعض الأحزاب والحركات التي كانت تبدو معارضة تحوّلت بسرعة إلى أدوات ضغط سياسية، تحمي مصالحها أو مصالح من تحالفوا معهم، بينما الجماهير تنتظر تغييرا حقيقيا على الأرض، في الحياة اليومية، في الوصول إلى حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فرانز فانون كتب: "الثورة الحقيقية ليست مجرد تغيير النظام السياسي، بل هي تغيير البنية النفسية والاجتماعية للشعوب." هذا يعني أن أي يسار يركز فقط على الخطاب السياسي أو الإعلامي دون التحرك الفعلي مع الجماهير هو يسار ناقص، يعيد إنتاج أنماط الهيمنة نفسها التي يقاومها. كما تشير تجربة اليسار الأوروبي في القرن العشرين، فإن اليسار الذي يختار الدور الوظيفي غالبا ما ينخرط في مؤسسات الدولة، ويصبح مجرد وسيط بين السلطة والجماهير، بدلا من أن يكون قوة تحررية مستقلة. فالاختبار الحقيقي للثورة هو مدى قدرة اليسار على مواجهة السلطة وحماية الجماهير، لا مجرد تمثيل المصالح في السلطة أو الإعلام. مثال واقعي من تونس: بعض الحركات اليسارية بعد الثورة حاولت الاستفادة من مواقع السلطة أو التمويل الخارجي، بينما تركت الجماهير تواجه التحديات الاقتصادية والاجتماعية وحدها، مما أدى إلى تراجع ثقة الناس في الخطاب الثوري، وانتشار شعور بالخيبة. جون رولز قال: "العدالة الاجتماعية لا تتحقق بالكلام، بل بالمؤسسات التي تضع مصالح الفئات الأكثر تهميشا في قلب العملية السياسية." هنا يبرز الفرق بين يسار حقيقي يسعى لبناء مؤسسات مستمرة، ويعمل ضمن الجماهير اليومية، ويسار وظيفي يكتفي بالتمثيل الرمزي والشعارات الإعلامية.
الفصل الرابع: المجتمع المدني، النقابات والشباب.
الثورة الحقيقية تتطلب قاعدة جماهيرية قوية، مؤسسات مستقلة، وشبابا قادرين على تحدي الهيمنة الاجتماعية والسياسية. المجتمع المدني والنقابات ليست مجرد أدوات ضغط، بل هي منصات إنتاج للوعي الاجتماعي، ومنابع للتنظيم اليومي، وأدوات لإشراك الجماهير في عمليات اتخاذ القرار. الشباب يمثلون القلب النابض لأي ثورة حقيقية. هم الأكثر قابلية للتغيير، والأكثر استعدادا لمواجهة المخاطر، ولكنهم بحاجة إلى مؤسسات مستقلة تدعمهم وتستثمر طاقتهم بدلا من استغلالهم شعاراتيا. فالأزمة تكمن في أن بعض القوى القديمة تتعامل مع الشباب كوسيلة لإضفاء الشرعية على خطابها، دون تمكينهم حقيقيا من التأثير في مسار الثورة. ناجل ماكينتاير كتب: "الثورة الحقيقية تولد من داخل الجماهير، من وعيهم وإدراكهم لحقوقهم، لا من التعليمات التي تأتي من النخب." هذه المقولة تحدد العلاقة بين اليسار الثوري والجماهير: هو ليس قائدا منفردا، بل محفز وقوة مساندة، يضع الجماهير في صميم الفعل الثوري اليومي. النقابات العمالية والفلاحية، من جانبها، تمثل شبكة حماية اجتماعية. فغيابها أو تحييدها يؤدي إلى فقدان قدرة الجماهير على المقاومة المنظمة، ويجعل الثورة عرضة للتحكم أو الانحراف من قبل النخب القديمة. أمثلة من تونس بعد الثورة أظهرت أن النقابات المستقلة لعبت أدوارا حيوية في الدفاع عن حقوق العمال والفلاحين، في الوقت الذي كانت فيه بعض الأحزاب اليسارية منشغلة بمناصبها وصراعاتها الداخلية. النساء والشابات أيضا يمثلن عنصرا محوريا. الثورة التي تتجاهل النساء وتهمش دورهن تكون ناقصة، وتكرر أنماط القمع الاجتماعي داخل المشروع الثوري نفسه. سيمون دي بوفوار قالت: "الثورة التي لا تشمل النساء ليست إلا انقلابا جزئيا." دعم النساء وتمكينهن في القيادة السياسية، النقابية، والمجتمع المدني هو اختبار صادق لمدى صدق أي مشروع تحرري.
الفصل الخامس: النساء والنسوية الثورية .
النساء لم يكن وجودهن في الثورات مجرد مظهر شكلي، بل كنّ قوة أساسية في الإنتاج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. تجاهل النساء في القيادة الثورية أو استبعادهن من مراكز اتخاذ القرار يعكس قصورا في الوعي الثوري، ويعيد إنتاج الهيمنة الذكورية داخل المجتمع الثوري نفسه. فلورنس جينتلي قالت: "لا يمكن لأي ثورة أن تكون حقيقية إذا تجاهلت نصف المجتمع." تمكين النساء في النقابات والمجتمع المدني وفي المناصب التنفيذية يضمن ثورة شاملة، لا جزئية، ويضع مبادئ العدالة الاجتماعية في قلب المشروع السياسي. في التجربة العربية، يمكن الإشارة إلى نساء تونس وفلسطين وسوريا واليمن اللواتي لعبن أدوارا مركزية في الحراك الثوري والمقاومة الاجتماعية، سواء في النقابات، أو المجتمع المدني، أو المبادرات التعليمية والثقافية. هذا التواجد المستمر للنساء يعكس أن الثورة الحقيقية لا تتحقق إلا عندما تكون شاملة، متكاملة، وتعالج الهيكل الاجتماعي بالكامل. أي مشروع يرفض إشراك النساء بشكل فاعل يكون مشروعا ناقصا، يكرر أخطاء الطلائع القديمة ويعيد إنتاج الهياكل الاجتماعية غير المتساوية. الثورة ليست مجرد تغيير سياسي، بل إعادة تشكيل للعلاقات الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية، بحيث تُدمج النساء كشريك أساسي، وليس كرمز شكلي أو أداة إعلامية. نوربرت إلياس كتب: "المجتمع يتطور عندما يتمكّن كل فرد من المساهمة في صناعة مستقبله، لا أن يكون مجرد تابع." هذا ينطبق تماما على الثورة: تمكين النساء والمجتمع المدني والشباب يخلق ثورة متكاملة، قادرة على مواجهة الاستبداد والفساد، وبناء مشروع اجتماعي شامل ومستدام.
الفصل السادس: الأخطاء الاستراتيجية وتحالفات الزيف.
أحد أهم أسباب إخفاق الطلائع القديمة بعد الثورات العربية هو الأخطاء الاستراتيجية المتكررة. هذه الأخطاء تتخذ عدة أشكال: التحالف مع الأقوى بغض النظر عن المبادئ، التنازل عن القيم الثورية مقابل مكاسب قصيرة الأجل، والانخراط في مؤسسات السلطة دون إعادة تشكيلها جذريا. كل هذه الممارسات أدت إلى أزمة ثقة عميقة بين الجماهير وبين القوى التي كانت تدّعي الثورة. في تونس، على سبيل المثال، شهدنا أن بعض الحركات اليسارية تخلت عن مبدأ العدالة الاجتماعية لصالح مواقع سياسية، وتواطأت مع أحزاب تقليدية أو مستفيدين من النظام القديم، في حين أن الشارع يعاني من غلاء المعيشة، البطالة، وغياب الخدمات الأساسية. هذا التناقض بين القول والفعل يفضح الزيف ويضع الجماهير في مواجهة واقع مرير. هربرت ماركوز قال: "الثورة الحقيقية هي التي تغير العقول قبل تغيير المؤسسات." هذا يوضح أن الاستراتيجية لا يمكن أن تُختزل في المناورات السياسية، بل يجب أن تكون مرتبطة بتغيير الوعي الاجتماعي، وتحريك الجماهير، وصناعة مؤسسات حقيقية تمثل مصالح الناس. الأخطاء الاستراتيجية لا تؤدي فقط إلى فقدان الثقة، بل تُفرغ الثورة من محتواها، وتعيد إنتاج نفس أنماط القمع الاجتماعي والسياسي تحت ستار المعارضة أو التحالفات السياسية. أمثلة من مصر بعد الثورة، حيث انحرفت بعض الحركات عن أهدافها الأساسية، أو سوريا واليمن حيث أصبحت بعض القوى جزء من اللعبة الإقليمية، تؤكد هذا الواقع. لوي ألتوسير كتب: "الفعل الثوري ليس مجرد صرخة أو شعار، بل ممارسة متواصلة في قلب المجتمع." هذه المقولة تضع الاستراتيجية في قلب الثورة: هي ليست مجرد تحالفات، بل بناء قوة متصلة بالجماهير، مواجهة الواقع بكل الوسائل المتاحة، وتحقيق التغيير الاجتماعي المستمر.
الفصل السابع: إعادة تعريف الثورة.
إعادة تعريف الثورة تصبح ضرورة بعد سلسلة الفشل التي شهدها الوطن العربي. الثورة ليست حدثا لحظيا، وليست مجرد إسقاط لحاكم أو تغيير رمزي للسلطة، بل عملية مستمرة تشمل كل جوانب الحياة: الاقتصاد، الثقافة، التعليم، الصحة، حقوق العمال والفلاحين، وحريات المرأة. أمينة ودود، مفكرة مغربية، تقول: "الثورة ليست مجرد شعار، بل موقف يومي من الظلم والقهر." هذه العبارة تحدد ما يجب أن تكون عليه الثورة اليوم: مواجهة كل أشكال السلطة الظالمة، التواطؤ، والفساد، ليس بالبيانات فقط، بل بالممارسة اليومية، وبالمشاركة المباشرة مع الجماهير. الثورة الحقيقية تضع الجماهير في قلب العملية، تمنحهم القدرة على التأثير في القرار السياسي والاجتماعي، وتبني مؤسسات بديلة ومستقلة. التاريخ العربي الحديث مليء بالأمثلة على تحركات جزئية أو ناقصة، كانت تسقط سريعا لأن القيادة لم تكن مرتبطة بالواقع المعيشي والاجتماعي للجماهير. أليخاندرو مارينا قال: "الثورة هي قدرة الناس على صنع مصيرهم بأنفسهم، لا انتظار أن يأتي أحد ليصنعه لهم." هذه المقولة تعكس فكرة أساسية: أي خطاب ثوري لا يرتبط بالقدرة الحقيقية للناس على التأثير في حياتهم اليومية، هو خطاب زائف أو ناقص.
الفصل الثامن: الطريق إلى ثورة حقيقية ومستدامة.
بناء ثورة حقيقية ومستدامة يتطلب عدة عناصر أساسية: -الاستقلال عن السلطة والمصالح الشخصية: ▪︎الثورة لا يمكن أن تُدار من الداخل لصالح مصالح ضيقة، بل يجب أن تكون قوة مستقلة تعمل مع الجماهير وتضع مصالحهم في المقام الأول. ☆المشاركة اليومية للجماهير: الثورة ليست حدثا تاريخيا مرة واحدة، بل ممارسة يومية، مشاركة في النقابات، المجتمع المدني، المبادرات المحلية، والتعليم والتثقيف السياسي المستمر. ▪︎تمكين الشباب والنساء: أي مشروع تحرري يتجاهل دور النساء أو يقلل من مشاركة الشباب سيكون ناقصا، ولن يصمد أمام التحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ▪︎التغيير الهيكلي والاجتماعي: الثورة ليست مجرد تغيير رمزي للسلطة، بل إعادة بناء مؤسسات المجتمع، مع التركيز على العدالة الاجتماعية والاقتصادية. ▪︎خطاب ثوري صادق وفعال: الكلمات يجب أن تترافق مع أفعال ملموسة، وإلا ستتحول الشعارات إلى وسيلة للزيف والتضليل. فيلما أندرسون قالت: "الثورة الحقيقية تبدأ عندما يكتسب الناس القدرة على تقرير مصيرهم في كل يوم." هذا يضع التحدي أمام القوى الثورية: هل ستستمر في التحرك مع الجماهير، أم ستظل أسيرة مصالحها الذاتية والزيف السياسي؟ أي ثورة مستدامة يجب أن تبني نفسها على قاعدة متينة من وعي شعبي، مؤسسات مستقلة، مشاركة جماهيرية فعلية، ومراعاة تامة لحقوق الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. بدون هذا، أي خطاب ثوري سيصبح مجرد صدى فارغ، وأي حركة ستنهار أمام أول اختبار حقيقي للسلطة أو الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
الخاتمة: نحو ثورة حقيقية شاملة ومستدامة.
الخاتمة ليست مجرد تلخيص لما سبق، بل هي دعوة متكاملة للتفكير والفعل، وإعادة تموضع الثورة في سياقها الاجتماعي، الاقتصادي، والسياسي. الثورة الحقيقية لا تبدأ وتنتهي في لحظة تاريخية، بل هي مسار دائم، موقف مستمر، وانخراط يومي مع الجماهير في مواجهة الفساد والاستبداد. درس التاريخ العربي الحديث، منذ الانتداب إلى الثورة التونسية، ومن ثم ثورات 2011 في تونس ، مصر، ليبيا، وسوريا، يظهر أن الخطاب الثوري وحده لا يكفي. الثورة بلا مؤسسات، بلا مشاركة فعلية للجماهير، وبلا استراتيجية واضحة، سرعان ما تتلاشى، ويعود الفساد والاستبداد ليملأ الفراغ. كما قال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد: "المقاومة ليست مجرد مواجهة للعدو، بل بناء لوعي مستمر داخل المجتمع." هذه المقولة تحدد الفرق بين الزيف السياسي والخطاب الثوري الحقيقي: الثورة ليست مجرد إسقاط للسلطة أو شعار إعلامي، بل عملية متواصلة لتشكيل وعي جماعي قادر على حماية الحقوق الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية، وتمكين الأفراد والجماعات من تقرير مصيرهم بأنفسهم. ●أولا، الاستقلالية عن السلطة والمصالح الضيقة: أي ثورة تعتمد على التحالفات المؤقتة أو المناورات السياسية لتحقيق مكاسب آنية ستنهار عند أول اختبار حقيقي. التاريخ مليء بالأمثلة: من الانقسامات الداخلية في أحزاب يسارية عربية، إلى تحالفات وهمية مع القوى التقليدية، مرورا بمحاولات استخدام الثورة لتثبيت النفوذ الشخصي أو الحزبي. الثورة الحقيقية هي التي تضع الجماهير في قلب كل قرار، وتعمل لصالحهم، وليس لصالح أي نخبة سياسية أو حزبية. ●ثانيا، المشاركة اليومية والمباشرة للجماهير: الثورة ليست حدثا تاريخيا لمرة واحدة، بل ممارسة يومية. تشمل التعليم السياسي، النشاط النقابي، المبادرات المحلية، وتطوير آليات للحياة الديمقراطية داخل المجتمع. كما قالت أودري لورد: "الحرية ليست مجرد شعار يُرفع، بل فعل يومي يتطلب الشجاعة والمثابرة." المشاركة اليومية تعني أن الجماهير ليست مجرد متلقين، بل فاعلين حقيقيين في صناعة مستقبلهم، من خلال مؤسسات مستقلة تعكس مصالحهم واحتياجاتهم. ●ثالثا، تمكين الشباب والنساء: أي مشروع تحرري يتجاهل النساء أو يقلل من دور الشباب لن يكون قادرا على مواجهة التحديات المعقدة للواقع العربي المعاصر. التجربة العربية أثبتت أن النساء والفتيات كنّ في قلب الحراك الاجتماعي والسياسي، من تونس إلى فلسطين وسوريا واليمن. سيمون دو بوفوار قالت: "الثورة التي لا تشمل النساء ليست إلا انقلابا جزئيا." تمكين الشباب والنساء ليس رفاهية، بل شرط أساسي لاستمرارية الثورة وبناء مجتمع عادل وشامل. ●رابعا، إعادة بناء المؤسسات والمجتمع: الثورة لا تقاس بإسقاط رموز السلطة أو تغييرات شكلية، بل بمدى قدرتها على إعادة تشكيل مؤسسات المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية. الفقر، البطالة، غياب الخدمات الأساسية، وانعدام التمثيل الحقيقي للجماهير، كلها تحديات لا يمكن تجاوزها إلا من خلال مؤسسات مستقلة، منظمة، وشفافة، تعمل بعيدًا عن النفوذ الشخصي أو الحزبي. ●خامسا، الخطاب الثوري الصادق والفعال: الكلمات والشعارات يجب أن تترافق دائما مع أفعال ملموسة. كل خطاب ثوري يُستغل لأغراض سياسية ضيقة أو إعلامية يصبح زائفا. الثورة الحقيقية هي القدرة على مواجهة الفساد، كشف التواطؤ، وإعادة الثقة بين الجماهير والمشروع السياسي الثوري. كما كتب فرانز فانون: "الثورة ليست فقط إسقاطا للظلم، بل بناء لعقل جديد ومجتمع جديد." هذا البناء يشمل كل مستويات الحياة: من اقتصاد مستدام يوزع الثروة بشكل عادل، إلى ثقافة تُقدّر العمل، الحرية، والمساواة، مرورًا بإشراك كل الفئات في صناعة القرار. في النهاية، الثورة الحقيقية هي اختبار مستمر للصدق، الشجاعة، والقدرة على التنظيم. هي أن نكون مع الجماهير في حياتهم اليومية، لا مجرد متفرجين أو خطابيين، أن نواجه الاستبداد والفساد مهما كانت التكلفة، وأن نبني مؤسسات تحمي الحقوق وتضمن مشاركة فعلية لكل فرد. كما قالت أمينة ودود: "الثورة لا تُصنع بين ليلة وضحاها، بل تبنى يوميا عبر صبر، ووعي، وانخراط مستمر مع الناس." هذه المقولة تلخص جوهر الخاتمة: الثورة ليست حدثا، بل مسار، لا يمكن اختزاله في التحالفات الزائفة أو الشعارات الرنانة، بل في القدرة على تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الحقيقي. في ضوء كل ما سبق، يصبح واضحا أن الطريق نحو ثورة حقيقية ومستدامة يمر عبر: -الاستقلال التام عن المصالح الشخصية والسياسية الضيقة. -المشاركة اليومية مع الجماهير، عبر النقابات والمجتمع المدني والمبادرات الشعبية. -تمكين النساء والشباب وإشراكهم في كل مستويات القرار. -بناء مؤسسات قوية تعكس مصالح الجماهير وتضمن العدالة الاجتماعية. -خطاب صادق يتوافق مع الفعل، لا يكتفي بالكلمات الرنانة. الثورة ليست حلما بعيد المنال، لكنها تتطلب شجاعة مستمرة، ووعيا متجددا، وانخراطا يوميا. كما قال نوربرت إلياس: "المجتمع يتطور عندما يتمكن كل فرد من المساهمة في صناعة مستقبله." الثورة الحقيقية هي قدرة الناس على صناعة مستقبلهم بأنفسهم، على مواجهة الاستبداد، وعلى بناء مجتمع قائم على العدالة، المساواة، والحرية، وليس مجرد استمرار لأنماط السلطة القديمة تحت غطاء المعارضة الزائفة.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اللّجوء بين إنسانية العالم وابتزاز السياسة: في أزمة النظام ا
...
-
قراءة نقدية تفكيكية لرواية -أنا أخطئ كثيرا- للاديبة اللبناني
...
-
11 سبتمبر 2001 ، انطلاق اللّعبة الامبريالية الكبرى.
-
الحرب كحقل تجارب للذكاء الاصطناعي: كيف أصبحت غزة مختبرا للمر
...
-
رؤوس أقلام حول أمريكا: الإمبريالية الحربية والاقتصادية من ال
...
-
أحفاد مانديلا . تحرير العمل: الدرس الجنوب إفريقي.
-
البيروقراطية
-
السودان يحترق... والطبقات الحاكمة تتقاسم الخراب
-
قراءة نقدية لديوان -في أن يستكين البحر لفرح موج- لإدريس علوش
...
-
البناء القاعدي: من فكرة التحرر إلى أداة الهيمنة؟
-
الحداثة والظلامية: وجهان لعملة واحدة في مأزق التاريخ العربي.
-
ما بعد الجمهورية: زمن الوحوش أم زمن الاحتمال؟
-
الخديعة الأمريكية الكبرى: الإمبريالية وخراب فلسطين.
-
اليسار التونسي: بين الأمس الإيديولوجي واليوم السياسي.
-
الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.
-
الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
-
قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
-
الكتابة فعل نضال
-
جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل
...
-
الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
المزيد.....
-
ماذا قال ترامب عن -انتهاك- مقاتلات روسية المجال الجوي لإستون
...
-
روسيا تصدر بيانا للرد على مزاعم -انتهاك- مقاتلاتها لأجواء إس
...
-
البرتغال تعترف رسميا بدولة فلسطين الأحد المقبل
-
الجزيرة نت تروي قصة مسجد في الفاشر شهد مجزرة وتحول إلى مقبرة
...
-
تونس: ما أسباب تراجع الزيجات والولادات
-
بعد بولندا ورومانيا، إستونيا تشكو خرق أجوائها من مقاتلات روس
...
-
بعد سنوات من العداء، مصر وتركيا تبدآن الإثنين مناورات مشتركة
...
-
الجزائر ترفض دعوى مالي ضدها أمام محكمة العدل الدولية
-
أمريكا ستنهي وضع الحماية المؤقتة للسوريين
-
مستشار ترامب: السودان أكبر كارثة إنسانية في العالم ولا يحظى
...
المزيد.....
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|