حسين سالم مرجين
(Hussein Salem Mrgin)
الحوار المتمدن-العدد: 8467 - 2025 / 9 / 16 - 10:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تمنح المعايشة الميدانية للأحداث والوقائع الباحث قدرة أكبر على ملامسة الواقع وفهم تفاصيل الحياة اليومية، وهي تفاصيل قد لا يجدها في أدوات البحث التقليدية كالمقابلات أو الاستبيانات عن بُعد. وهذا ما يجعل هذه الأدوات تفتقر إلى عنصر المعايشة الحقيقية، مما يؤثر على نتائج البحث التي غالبًا ما تكون أقرب إلى التوصيف العام منها إلى التحليل العميق للواقع الاجتماعي.
حديثي عن مدينة ودان لا يستند إلى استبيانات أو مقابلات سطحية، بل إلى خبرة ميدانية ومعايشة يومية تم خلالها رصد الملاحظات وتقييد المشاهدات المباشرة. فقد مكّنتني الإقامة في المدينة من الاحتكاك بالأهالي، مما ساعدني في التقاط ملامح دقيقة بشكل أفضل وأعمق من حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية وأنماط التفاعل بينهم. وهذا وفر مادة أكثر أصالة وعمقًا للتحليل. هنا تبرز مقولة الشافعي: "مَن سَمع بإذنه صار حاكياً، ومن أصغى بقلبه كان واعياً، ومن وعظ بفعله كان هادياً."
قبل الخوض في التفاصيل، أود أن أشير إلى أن المجتمع الليبي شهد انقسامات كبيرة بعد عام 2011، حيث أدت هذه الانقسامات إلى زيادة التوترات الاجتماعية والصراعات. وقد عانت ليبيا من حروب وصراعات أهلية في سنوات 2014 و2018 و2019-2020، مما أثر سلبًا على التماسك المجتمعي.
زرت مدينة ودان، إحدى المدن البارزة في وسط ليبيا، وهي أقرب إلى الجنوب منها إلى الشرق، وتتكون من عدة قبائل، أهمها قبائل الأشراف والمواجر، فضلاً عن مكونات أخرى. ورغم تعرض ودان لانتكاسات كبيرة بعد 2011، إلا أن هذه التغييرات لم تؤدِّ إلى انقسامات عميقة في التماسك الاجتماعي، بعكس ما شهدته مدن ومناطق أخرى في ليبيا. لقد أظهرت المشاهدة الميدانية أن التفاعلات الاجتماعية وأنماط التفاعل التقليدية لم تتأثر بشكل جذري بهذه الانقسامات. لا يزال الناس يمارسون حياتهم اليومية وفق منظومة من القيم والعادات المستقرة، مثل المشاركة في المناسبات الاجتماعية (الأعراس، العزاء، الزيارات) والتضامن والتكافل بين الأسر.
بينما أحدث تغيير 2011 وما تلاه زلازل اجتماعي في غالبية المدن والقرى الليبية، هزّت الأسر والعلاقات الداخلية، بقيت ودان محافظة على تماسكها العائلي والقبلي. فقد عملت منظومة القيم المتوارثة مثل الكرم والعطاء واحترام الكبير والتكافل العائلي كجدار صد ضد الانقسامات السياسية.
فأثناء زيارتي إلى مدينة ودان، التقيت بعدد من الأصدقاء وبعض الفاعلين، ولقيت منهم حسن الاستقبال وكرم الضيافة. كباحث سوسيولوجي، قمت برصد مجموعة من الملاحظات التي تعكس طبيعة العلاقات الاجتماعية في المدينة. كما يُقال، إن لكل سوسيولوجي سوسيولوجيته الخاصة، لذا سأقوم في هذه المقالة بتحليل ورصد بعض الجوانب الأساسية في طبيعة سكان ودان.
من أبرز الملاحظات التي تم رصدها هي عدم وجود أي جماعات مسلحة في المدينة، بعكس مدن ليبية أخرى. لم تُنتهك المنازل كما هو الحال في المدن والقرى التي انقسم سكانها بين مؤيد ومعارض للنظام. حيث كانت القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية هي البوصلة التي تدفع الأفراد إلى أهمية احترام تلك القيم وعدم التعدي عليها. حتى في مرحلة سقوط النظام، لم تُسجل حالات هدم للبيوت أو حرقها أو الثارات بين الأهالي. فالخطاب السائد كان ولا يزال حول الوطن والمستقبل المشترك، مع تجاوز للثنائية بين مؤيد ومعارض، حيث تكاد تختفي هذه الانقسامات في المناقشات، ولا توجد أي احتكاكات كما هو الحال في بقية المدن. وهكذا.. هو الجو العام.
لفت انتباهي أيضًا ارتباط أهالي المدينة بشجرة النخيل. فقد تربوا على هذه الشجرة واكتسبوا منها صفات مهمة مثل الصبر والتحمل، بالإضافة إلى القدرة على العطاء حتى في أصعب الظروف. يتمتع سكان ودان بخصائص قريبة من شجرة النخيل في التحمل والعطاء، حيث تسقط هذه الشجرة ثمارها رغم تعرضها للضغوط.
وفي سياق آخر، يبرز قوة التماسك الاجتماعي في المدينة. حدثني أحد الأصدقاء عن أحداث عام 2011، حيث استقبلت عائلة في ودان أحد جرحى الحرب المحسوبين على النظام السابق. رغم انقسام العائلة بين مؤيد ومعارض، لم ينعكس هذا الانقسام في معاملتهم للجريح. كانت النقاشات الساخنة تحدث بين الأبناء في حضور الجريح، حيث تناولوا اختلافاتهم بجرأة. ورغم توقع الجريح أن يؤثر ذلك سلبًا عليه، حدث العكس، حيث كان كل طرف يسأل الجريح بعد الانتهاء من ذلك الحديث بطريقة تعكس الاهتمام والرغبة في الاطمئنان عليه، فيقول له: "كيف حالك اليوم؟ . وأرجو من القارئ أن يمعن النظر جيدًا في هذه القصة المثيرة.
من المفارقات السوسيولوجية المهمة التي شاهدتها هي أن العزاء في ودان يعمل كآلية لإعادة إنتاج التماسك الاجتماعي. شاركت في مجلس عزاء واكتشفت أن العزاء ليس مجرد واجب ديني، بل هو طقس اجتماعي حيث يعزي الجميع في الكل. حتى لو لم يعرف المعزي أسرة المتوفى، فإنه يشارك بوصفه جزءًا من "الجماعة الكلية". هذه الممارسة الاجتماعية تعزز الروابط وتعزز شعور الانتماء، وهو ما يغيب في القرى والمدن حيث تتقلص دوائر التضامن.
على خلاف بعض المدن الليبية التي تحكمت فيها علاقات الصراع الجهوي والقبلي بعد 2011، تكشف المشاهدات والملاحظات في ودان عن تغلب الجغرافيا الاجتماعية (كالقرابة والتكافل) على الجغرافيا السياسية (الانقسام والخصومة). في هذا السياق، أشار لي صديقي من الأشراف إلى أنه مع عدد من الأهالي، قاموا بزيارة سجناء من القذاذفة في مصراتة. ورغم حساسيات هذه الزيارة، فإنها تعكس أن الدوافع ليست سياسية بل اجتماعية، حيث تدخل ضمن قيم الشرف والتضامن والوعي الاجتماعي. كما يمكن القول إن العلاقات الجغرافية بين المدن والواحات ليست علاقات عابرة للجغرافيا، بل هي أداة للتخفيف من حدة الصراع. كما أن الذاكرة الجماعية في ودان لم تنجرف نحو "ثقافة الحقد" كما هو الحال في بعض المدن والقرى الأخرى. بالتالي، كسرت ودان مقولة "جغرافيا الحقد" وأنتجت بديلًا يمكن تسميته بـ "جغرافيا المصالحة" أو "جغرافيا التكافل".
في هذا السياق، يبرز دور النواب الحقيقي الذي يجب أن يكون عليه، كونهم ممثلين للمجتمع. ففي العديد من المدن الليبية بعد 2011، تحولت عضوية البرلمان إلى منصب رمزي أو أداة لتحقيق مصالح شخصية، حيث انفصل النواب عن قواعدهم الاجتماعية وأصبحوا يمثلون مصالح ضيقة أو تحالفات سياسية عابرة. لكن في ودان، برز نموذج مختلف؛ النائب الذي التقيت به (وهو أستاذ جامعي) كان يستمع للأهالي وينقل همومهم، بل طلب أن يُعتبر ممثلًا حتى عن القضايا التي طرحتها عليه.
وهكذا، تحول دور النائب من مجرد مندوب رسمي إلى قناة للتعبير عن المطالب الجماعية، مما يعكس أن الثقافة السياسية في ودان لا تقوم على الفصل الصارم بين النخبة والمجتمع، بل على نوع من "التمثيل التفاعلي". وليس مبالغة القول إن هذا النائب جسد مفارقة مهمة، حيث أن الهامش (ودان) أنتج نائبًا أقرب إلى صورة الممثل الحقيقي للناس، بينما المركز (مدن أكبر مثل طرابلس) أنتج نوابًا أكثر بعدًا عن قضايا مجتمعهم.
إضافة إلى ذلك، تبرز حقيقة أخرى ساهمت في الحفاظ على التماسك الاجتماعي، وهي وجود الأشراف كضامن للتوازن الاجتماعي. ففي مدن أخرى، تحولت القبيلة إلى أداة صراع سياسي أو عسكري، بينما في ودان، قام حضور الأشراف – بما يحملونه من شرعية رمزية ودينية مرتبطة بالنسب النبوي – بدور مهم في ترسيخ السلم الأهلي وتغليب قيمة التماسك على أي نزاع. هذه الخصوصية جعلت من ودان حالة متميزة، حيث لم تُستغل البنية القبلية في الصراع، بل تحولت إلى أداة ضبط اجتماعي وحماية للروابط الاجتماعية. ومع مرور الوقت، ساهم الأشراف كعنصر محوري فعّال لإنتاج التوازن والاستقرار داخل المجتمع الوداني، مما سمح له بتجاوز "زلزال 2011" دون أن تنفصم عراه.
وهكذا يتضح لنا من التحليل السابق إن ودان ليست مجرد واحة جغرافية، بل واحة اجتماعية قاومت الانقسام الليبي بفضل قيمها المتجذرة ودور الأشراف في صيانة التوازن. كذلك، تبرز خاصية احترام الماضي والذاكرة الاجتماعية، حيث لم يفقد الأهالي احترامهم وتقديرهم لشخصيات سابقة محسوبة على النظام السياسي أو حتى للمتوفين. وهذا يعني أن الوفاة لا تُنهي الاحترام الاجتماعي، بل يصبح المتوفى جزءًا من رأسمال رمزي حيّ داخل الذاكرة الجماعية.
عموماً، كشفت زيارتي لمدينة ودان أن القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية متأصلة، وتعزز من روح التضامن والتعاون حتى في مراحل الأزمات، مما يمكن تحويلها إلى مؤشرات تعافٍ اجتماعي. بالتالي، تبرز مدينة ودان كنموذج استطاع الحفاظ على رأس ماله الاجتماعي، مما يجعلها مثالًا يُحتذى به للمدن الساعية إلى التعافي وتجاوز الانقسامات في أوقات الأزمات. تجعل هذه المفارقات ودان نموذجًا مضادًا للانقسام الليبي بعد 2011، وتقفز إلى الذهن تساؤلات أعمق:
1. لماذا صمدت منظومة القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية في ودان بينما انهارت في أماكن أخرى؟
2. هل للعامل القبلي (الأشراف) دور في ذلك، أم أن الأمر يرتبط بخصوصية البنية الثقافية؟
3. وهل يمكن تحويل تجربة ودان إلى إطار نظري لبناء السلم الأهلي في ليبيا؟
وخلاصة ما سبق، تمثل مدينة ودان حالة سوسيولوجية مميزة في ليبيا ما بعد 2011، حيث تغلبت القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية على عوامل الانقسام السياسي. استطاعت هذه المدينة تجاوز مرحلة الانقسام بين مؤيد ومعارض، والانتقال نحو خطاب وطني جامع. وهذا يجعلها نموذجًا مهمًا لدراسة كيفية صمود المجتمعات المحلية أمام الأزمات، وكيفية تحويل منظومة القيم الثقافية إلى أدوات فعّالة للمصالحة والعيش المشترك.
#حسين_سالم_مرجين (هاشتاغ)
Hussein_Salem__Mrgin#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟