أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الحاج - قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً5















المزيد.....


قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً5


محمد الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 1823 - 2007 / 2 / 11 - 12:29
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


العقل المستقيل في الثقافة العربية
الكثير من الأصول و التي عُرضت في الفصل السابق عن الهرمسية و الصيغة المشرقية للافلاطونية المحدثة انتقلت و اندمجت في في التقافة العربية الإسلامية مشكلة اللامعقول العقلي – العقل المستقيل أي مظاهره و مواقعه فيها، إن التداخل بين التيارات الفكرية في العصر الهيلينستي واقعة أساسية إذ لا يمكن الفصل بين ما ينتمي إلى الإفلاطونية و ما ينتمي للهرمسية أو الفيثاغورية الجديدة أو الرواقية الجديدة أو المانوية و بين الغنوصية بمختلف تياراتها، و النتيجة أن فكرة معينة قد تنتمي في أصلها لتيار معين يمكن أن تكون قد انتقلت إلى الثقافة العربية الإسلامية عبر تيار آخر. و بالتالي فالجابري يتجه نحو تحديد نوعية النظام المعرفي الذي يوسس الموروث القديم الذي انتقل للثقافة العربية الإسلامية ثم حضور هذا النظام الموروث في الثقافة العربية الإسلامية، إن الانطلاق من عصر التدوين في دراسة العقل العربي في ارتباطه باصول الثقافة العربية يوفر امكانية الحفر في دوائر عديدة دون أن يجعل لاي منها سلطة على الأخرى بصورة مسبقة، و يدفع للتمييز بين شكلين من الحضور للموروث القديم في الثقافة العربية الإسلامية الحضور على المستوى العالِم الذي يعاد إنتاجه بوسائل العلماء و يعتمد الخطاب المنظم المكتوب و المستوى العامي الذي يعاد انتاجه بوسائل غير علمية، هذا التمييز بدأ بعصر التدوين لأنه العصر الذي بدأ فيه التعامل مع الموروث القديم على المستوى العالِم، و يمكن إلتماس المدلول الحقيقي لذلك التمييز الذي أقامته اتجاهات عديدة في الإسلام (شيعة و متصوفة و اتجاهات اشراقية) إنطلاقاً من عصر التدوين بين الظاهر و الباطن في الخطاب القرآني و قد اعتمدوا الربط بين الظاهر و القول العامي من جهة و الباطن و الفهم العالِم من جهة اخرى و بما أن العلم عندهم كان يستمد من الموروث القديم فقد جعلوا الفلسفات الدينية القديمة المضمون الحقيقي الباطن للنص القرآني. إن قانون التراكم الكمي و التحول الكيفي و غيره من المفاهيم المعاصرة لا يستطيع إقامة رابطة سببية بين حالة الفكر العربي قبل عصر التدوين و حالته بعده بحيث يمكن القول ان هنالك تطوراً داخلياً على صعيد الفكر و انه حقق قفزة نوعية. ان التاريخ الثقافي لعرب الجاهلية مصنوع من شظايا مبعثرة اعيد جبرها اثناء عصر التدوين في مقابل التاريخ الثقافي للمراكز الثقافية و العلمية في مصر و سوريا و فلسطين و العراق و فارس أي تاريخ الموروث القديم و الذي يفسر المستوى العامي من الثقافة قبل التدوين و يدخل كعنصر رئيسي في الثقافة العربية كما تمت إعادة بنائها انطلاقاً من عصر التدوين.
اعتبر الموروث القديم علوماً دخيلة في عصر التدوين بمعني أنه دخل الدائرة البيانية و ضايقها و قدم على أنه الثقافة العالمة لما تحمله تلك الدائرة من صور بيانية فنية لغوية فالجابري يرى أن مهمته النظر بروح نقدية لكل مكونات التراث و بالتالي ادماج التاريخ التاريخ الثقافي للمراكز الحضارية و العلمية التي كانت تقع داخل الوطن العربي قبل الإسلام بدلا من البقاء ضمن الاستلاب داخل العصر الجاهلي، من أجل وصل التاريخ الثقافي القومي بالتاريخ الثقافي العالمي و من أجل تبيان مكونات الثقافة العربية الإسلامية و فحصها و نقدها وصولا لاعادة بناء الذات العربية بالكشف عن اصولها و بيان طبيعتها و الظروف التي انتجتها سواء قبل الإسلام أو بعده.
القول بإله واحد لا يعبر عنه بوصف و لا يدرك بالعقل انما يتوصل اليه بالزهد و التطهير و مواصله الدعاء، و بترابط العالم السفلي و العالم العلوي و عدم اقامة فواصل بين الأرض و السماء و تفسير ذلك باتصال آفاق الكائنات ، و القول بسلاسل الأسباب غير منتظمة التي يغلب فيها الشذوذ على الإضطراد و تخضع لتقلبات التجربة و ليس للضرورة العقلية، بالإضافة للقول بالأصل الإلهي للنفس و ما يتصل بذلك من نزعة صوفية، و عدم الفصل بين ما هو ديني و ما هو علمي هذه المعطيات تتصل بصورة واضحة بالفلسفة الهرمسية و تشكل نقاطاً للاتصال بين الثقافة العربية الإسلامية و بين الهرمسية. التي ساعدها على الانتشار القول بانتسابها للنبي ادريس لكن الهرمسية التي تشكل اقوى التيارات في الموروث القديم احتلت مواقع اساسية في جل المناطق التي أسلم أهلها فقد انتقلت – الهرمسية – إلى الثقافة العربية الإسلامية ضمن ذلك المركب الجيولوجي من الآراء و الملل و النحل الذي يحدث عنه الجابري كموروث قديم. و قد تمت محاربتها من قبل المتمسكون بالمعقول الديني البياني العربي – السنة بشكل رئيسي – كونها تشكل الخلفية النظرية لآراء الشيعة و الفرق الباطنية الخصوم التاريخيين لأهل السنة .
تعود أولي الاهتمامات بالعلوم القديمة لخالد بين يزيد بن معأوية فقد أمر العلماء في الاسكندرية – موطن الهرمسية – بنقل الكتب في (الصنعة) من اليونانية و القبطية للإسلام و بالتالي فان أول ما نقل كان من العلوم الهرمسية السرية السحرية و من مركز الهرمسية – الاسكندرية – و الطريق الذي سلكته هذه العلوم عبر الترجمة إلى الثقافة العربية الإسلامية فقد نقل بواسطة (اسطفن الراهب، اسطفن القديم) الذي نقل ليزيد بن معأوية كتب الصنعة و غيرها و قد اتصل به جابر بن حيان و الرازي الذي تعلم علي يد هذا الأخير.، إذا فقد انتقل العقل المستقيل إلى الثقافة العربية من عناصر الموروث القديم عبر الكيمياء و التنجيم و يظهر ذلك في كثير من اقوال و رسائل جابر ابن حيان كما تظهر في رؤيته و تعريفه للنفس كما تظهر في تصنيفه للعلوم (علوم الدين و علوم الدنيا و تصنيفاتهما الفرعية)، و رأيه في قضية القدم و الحدوث التي تكشف عن رؤية هرمسية –عقل مستقيل. كما نجد هذه النزعة –الهرمسية أو العقل المستقيل – عند ابوبكر بن زكريا الرازي أكبر طبيب في الإسلام فالرازي في وجه كان هرمسياً روحانياً غنوصياً و كانت السلطة المرجعية لتفكيره هي الركام الفلسفي (للحكماء السبعة) خليط الافلاطونية المحدثة في صيغتها المشرقية و الفيثاغورية الجديدة.
غير أن الطابع الهرمسي الذي حمل العقل المستقيل للثقافة الإسلامية لم يكن مقتصراً علي كيمياء ابن حيان و الرازي و فلسفتهما بل ان العلم الثاني الذي انتقل إلى العرب من الموروث القديم كان علم التنجيم الذي هو بالأصالة من علوم العقل المستقيل، نقله ايضا خالد بن يزيد بن معأوية و زاد الاهتمام به في عهد العباسيين – الخليفة المنصور – الذي قرب المنجمين و كان لا يعمل في شان من شئونه قبل مشأورتهم. هنالك ايضاً علم الفلاحة النبطية الذي يعرضه في كتاب بنفس الإسم أبوطالب أحمد بن حسين الزيات الشيعي و هو كتاب هرمسي تماماً فهو يدرس النبات من أجل وظائفه السحرية -الطبية- صادراً من التصور الهرمسي الذي ينبني على تبادل التأثيرات بين النجوم و الكائنات الأرضية. يرى جورج طرابيشي في استعراضه لكتاب (الفلاحة النبطية(، لمؤلفه المزعوم ابن وحشية، والذي صوره الجابري على أنه كتاب تنجيم لا يستحق التفنيد كما رأينا يرى طرابيشي أن الجابري تكهن هو و مرجعه في الحكم على الكتاب بأنه منتج شعوذة وتنجيم وسحر، وبأنه كتاب هرمسي صرف. ويحاول الاستدلال عبر تحليل التاريخي إلى استنطاق الأوراق الاستشراقية لأصل الكتاب، خصوصا الفرنسية منها، وكذلك سير التاريخ لابن النديم حول ابن وحشية أو رفيقه الزيات. الكلدانيون هم من سطروا الكتاب و نقله إلى العربية ابن وحشية، واتم الزيات النسخ بعد وفاة ابن وحشية. ويستطرد في محاولة خلق قراءة اركيولوجية للكتاب، في محاولة جادة لتحديد الإطار التاريخي للكتاب. يستنكر طرابيشي على الجابري توصيفه لكتاب مهم يهتم بالزراعة والحرث وعلم الأشجار والأوراق، بأنه كتاب لاعقل (هرمسي) يهتم بالتنجيم أو الفلاحة التنجيمية كما يذهب فستوجيير. ويرى أن الفلاحة النبطية هو (بمثابة تراكم معرفي حقيقي، يعطيه حجما موسوعيا)، ويقدم قراءة معمقة للكتاب سابرا أغواره في بنيته الأبدبيولوجية، واصفا أياه بأنه كتاب ايديولوجي في بيئة زراعية، إذ ان الشخصيات الواردة فيه على لسان "قوثامي" من الأنبياء أو أشباه الأنبياء من الشخصيات الكاريزمية، يلعبون في بيئة اجتماعية زراعية منجزة العمران. كما يسبر فيه معرفيا، ليجد فيه من أغوار الفلسفة الكثير من المعارف الحية. يحاول الكاتب تفنيد ما ذهب له الجابري من هرمسية الكتاب عبر استنطاق البنية المعرفية للكتاب، لذلك فهو يحاول تحليل نصوص (قوثامي) (المؤلف الحقيقي للكتاب على حد الاطمئنان). عبر محأور النبوة والوحي، والسحر والطلسمات (الذي هاجمه مؤلف الكتاب الهرمسي)، والتنجيم .
أيضا حضرت الهرمسية في اطروحات المتكلمين الأوائل خاصة الغلاة و الروافض و الجهمية فالدلائل تشير إلى أن الكوفة كانت مركزاً للهرمسية قبل عصر التدوين و هذه الفرق كانت الكوفة مقراً لاغبها. و عليه فليس من الغريب ان تكون الشيعة أول من تهرمس في الإسلام و أن يكون الإسلام قد عرف الهرمسية قبل أن يعرف أرسطو وما ورائياته. فتظهر الهرمسية في كتب و مقالات هذه الفرق (الله على صورة انسان) و أنه -بيان بن سمعان الذي تنتسب إليه الفرقة البيانية- يدعو الزهرة –الكوكب- فتجيبه و أنه يفعل ذلك ذلك بالإسم الأعظم، فالفلسفة الهرمسية كما رأينا في المبحث السابق ترى أن الله خلق الإنسان على صورته و بالتالي فالله و الإنسان على صورة واحدة، و القول بالاسم الإعظم قول هرمسي. كذلك أقوال المغيرة البجلي (أو العجلي) الذي أنه نبي و أنه يعلم اسم الله الأكبر و ان الله رجل من نور على رأسه تاج و واضح الأثر الهرمسي على هذه الآراء. كما أن كل الشيعة باستثناء الزيدية يقولون بانكار امكانية التوصل إلى معرفة الله عن طريق النظر و القياس لأنهم يرون أن المعارف كلها اضطرار و أن الخلق جميعاً مضطرون و أن النظر و القياس لا يؤديان إلى علم و هذا من مقتضيا التوحيد الهرمسي. كما وظف الجهمية - نسبة للجهم بن صفوان- أراء من التصور الهرمسي للإله المتعالي فهم يقولون أن (الله لا شئ و ما من شئ و لا في شئ و لا يقع عليه صفة شئ و لا معرفة شئ و لا توهم شئ)و (ان الله لا كالأشياء و لا تقع عليه صفة و لا معرفة و لا توهم و لا نور و لا سمع و لا بصر و لا سمع و لا كلام و لا تكلم) و أنكرو أن يكون الله في السماء و أنكروا الكرسي و العرش و أن يكون الله فوقه و فوق السمأوات و هذه الآراء تكاد تكون ترجمة حرفية لنصوص هرمسية عرضناها في الفصل الأول.
أما المتصوفة الأوائل فقد قالوا بالاتحاد و الحلول و بما أن الكوفة كما ذكرنا كانت مركزا هرمسياً فسيكون من السهل ربط هذا التصوف بكيمياء جابر بن حيان و باطروحات غلاة الشيعة، كما يجدر ذكر معروف الكرخي الذي نجد عنده أول تعريف للتصوف في معناه الغنوصي و ذو النون المصري الذي المعروف بانتماءه الهرمسي في مجال التصوف و الكيمياء.
إذا فالظاهر أنه بمقدار ما كان الفكر العربي يتقدم في التدوين بالترجمة و التأليف بمقدار ما كان العقل المستقيل الذي تحمله الهرمسية و الصيغة المشرقية من الإفلاطونية المحدثة تحتل مواقع أساسية و متجذرة في الثقافة العربية الإسلامية ليس فقط في أوساط الشيعة و التيارات الباطنية بل في الفكر السني نفسه منذ القرن منتصف الثالث للهجرة و ابتداءً من عصر المتوكل الخليفة العباسي نجد أن الفكر الهرمسي أخذ يعبر عن نفسه في صورة نظريات متكاملة و منظومات فكرية تعلن صراحة أو ضمناً عن انتمائها الهرمسي. يرى الجابري في أخوان الصفا و رسائلهم انها تشكل مدونة هرمسية كاملة و هي رغم اتخاذها الإسلام رداءً شفافاً فهي لا تخفي انتمائها الهرمسي اذ تحيل إلى هرمس مثلث الحكمة و أغاثاديمون و فيثاغورث علاوة على تبنيها نظرية الإله المتعالي الذي لا يعبر عنه بوصف و نظرية العقل الكلي المكلف بتدبير الكون و الحاحها على الطبيعة الإلهية للنفس البشرية و يسرد الجابري العديد من الدلائل من نصوص اخوان الصفا و هجومهم على المتكلمين كونهم يستخدمون قياس الشاهد على الغائب. و يؤكدون على تشبيه العالم بالانسان فالعالم انسان كبير لأنه جسد واحد بجميع أفلاكه. و يعرض الجابري لقول الاسماعيلي أحمد حميد الدين الكرماني حول الله فهو -الله- هوية لا يوصف و لا يعبر عنه فهو لا (موصوف) و لا (لا موصوف) و هو لا ينال بصفة من الصفات و أنه لا بجسم و لا في جسم و لا يعقل ذاته عاقل و يحس به محس و لا ضد له و لا مثل و لا يوجد في لغة من اللغات ما يمكن الاعراب عنه بما يليق. اذا فهذا هو التصور الهرمسي للاله المتعالي الذي لا يدرك بالحس و لا بالعقل و يعبر عنه الكرماني بالموجود الأول و بالمبدا الأول و الاسم الأعظم و المبدع الأول و أنه العلة الأولي في وجود ما سواه فالمجهود الذي بذله الفلاسفة الاسماعيليون كان من أجل بيان كيف أن المعرفة لا سبيل لها بالعقل و أنه لا بد من معلم هو (الإمام) و يهاجمون طرق الاستدلال من القياس الفقهي و الكلامي و القياس الأرسطي.
ينتصر طرابيشي لإخوان الصفا من هجومات الجابري، وهذا ما خصص له الفصل الرابع من كتابه العقل المستقيل الذي يساجل فيه مشروع الجابري، ويرى أن ثمة محاولة هدفها الرئيسي هو النيل من ابن سينا، عبر توجيه الطعن المباشر لإخوان الصفا، واتهامهم بالهرمسية. ويرى ان الجابري اعتمد في نقده لإخوان الصفا على الجزم بأن الهرمسية (تسمعلت من الاسماعيلية)، بمعنى اتخذت الإسماعيلية كغطاء تستتر من ورائه. وكانت الإسماعيلية هي من أصدر وأسس رسائل إخوان الصفا. ويسرد الكاتب توطئة تاريخية لإخوان الصفا، في محاولة لفك الإلتباس في الزعم بأنهم اسماعيليين، أو أنهم كما ذهب الجابري (الرد الهرمسي من الشيعة والاسماعيليين على عقلانية المأمون واتخاذه للخيار العقلاني الكوني)
ثمة مغالطة تاريخية يكشفها طرابيشي. وهي محاولة الجابري ربطه تاريخيا لرسائل إخوان الصفا ورسائل كتبها الإمام الاسماعيلي الابن احمد، والإمام الأب عبدالله. وهذه المغالطة هي نتاج عدم توافر الاقتران الزمني بين الاستراتيجية المأمونية الثقافية والاستراتيجية الإسماعيلية المضادة لها. ويشير طرابيشي إلى أن الجابري تعمد (تزوير) المضمون الايديولوجي لرسائل إخوان الصفا. وأنه استقطع من رسائلهم ما يخدم نتائجه المسبقة بتعمد، وسرد الكثير من الرسائل التي حاول أن يعطيها صبغة متباينة، عن التي زعم بها الجابري.
واستعرض حقيقة إخوان الصفا، وسبر في أسرار تسميتهم ومرجعية الرسائل، وتأليفها، ويستطرد الكاتب في شروحات مستفيضة لمضامين رسائلهم المعرفية والفلسفية، بل إنه يستغرب من الجابري وصفهم باللاعقلانية، وهم الذين رحبوا في رسائلهم بكتاب (البرهان). والذي يعتبره الجابري نفسه معيار الفصل بين العقلانية والهرمسية. ويرجع طرابيشي بحسب الرواية التوحيدية في مقابل الرواية الإسماعيلية للجابري، مجمل رسائل إخوان الصفا إلى محاولاتهم (غسل الشريعة وتطهيرها بالفلسفة)، بعد أن(دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات). و يسوق الكثير من الشواهد على أن إخوان الصفا ليسوا من الإسماعيلية كما ذهب الجابري، ومن هذه الدلالات يذكر التسوية بين الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، والتسوية بين عثمان وعلي في المقتل، ونظرية الإمامة، وتوقير عائشة، وإدانة النواصب والروافض معا، والأهم هو نقدهم المسبعة (إحدى مقدسات الإسماعيليين). كما أن الإسماعيلية تعتمد على الوساطة الإمامية في نظرية المعرفة، بينما هي غائبة كل الغياب في نظرية المعرفة الإخوانية. ما ما يعول عليه الكاتب، فهو إقدام إخوان الصفا على التلفيق المبرر بين نظرية الفيض الوثنية، وفكرة الخلق الإسلامية، فيما يخالف مبنى الإسماعيلية التي ذهبت إلى رفض فكرة الفيض من أساسها، مراهنين على الإبداع، أي الخلق من العدم. بل إن إخوان الصفا اتجهوا إلى ما ذهب له أفلوطين في تأسيس اقنومه الرابع وهو المادة أو الهيولى، فيرمزون إلى الله" بـ "الواحد"، في دلالة عن انفكاكهم عن التصنيف الجابري الجفرافي الذي كان يحيلهم إلى الرؤية الحرانية "نظرية العقول العشرة". ويستطرد المؤلف في ختام الفصل الرابع وبنوع من التحليل، نظرية الإمامة والانفتاح المذهبي، والفروقات الظاهرة بين إخوان الصفا والإسماعيلية. يحاول طرابيشي وضع إشكال خاص، وهي هل أن المماثلة منهج عرفاني حقا؟ وهل هي منهج العقل العرفاني حصرا من حيث هو (عقل مستقيل) كما يصفه الجابري؟
يستدل الجابري بأرسطو، وبشهادة بيير دوهيم، إلى أن الفيثاغوريين، رواد العرفان في الفلسفة اليونانية يعتمدون المماثلة منهجا لهم. ويشكل طرابيشي على الجابري أن أرسطو لم ينتقد الفيثاغوريين إلا بحكم تضلعهم في علوم الرياضيات. وهذا ما اخفاه الجابري - متعمدا - كما ذهب الكاتب. ويرى أن الجابري تعمد الذهاب إلى نص دوهيم من دون نصوص أرسطو الأصلية. وإلا في الحقيقة فليس الاعتقاد المنسوب إلى الفيثاغوريين هو اعتقادهم، وليست المماثلة منهجهم التطبيقي. ويورد نص أرسطو، معتبرا أن ما أشكله أرسطو على الفيثاغوريين، ليس استخدامهم المماثلة، بل الاستدلال بالمثل. ويحاول جورج طرابيشي جاهدا في نهاية مؤلفه أن ينفي العداء الأرسطي للمماثلة (منهج العرفانيين) كما وضح الجابري. ويقوم بسرد المجاز المركب، وبعض النظريات الرياضية كعلاقة التعدي الرياضية (1=،2 2=،3 إذن 1=3) ليستنتج في النهاية أن المنهج الأرسطي لم يكن سلبيا مع المماثلة مطلقا، كما ادعى الجابري، ويستكمل بقراءة للمماثلة وعلاقتها بالمنطق الحديث، ناقدا اعتماد الجابري على معجم اللغة الفلسفية لفوكييه، والذي أوقعه في إحالة مغلوطة لنص غير موجود من كتاب م. دورول، الاستدلال بالمماثلة. ويستطرد دلالات الجابري برؤية عكسية، تحاول التدليل على أن الدراسات الحديثة تختلف في مدى اعتمادها وتصنيفها العلمي للمماثلة، وليست في موقف ثابت وهو نقض المماثلة واستبعاد علميتها.
يتعرض الجابري للتوظيف العالِم لمنظومة الفلسفة الهرمسية الدينية من قبل المتصوفة في الإسلام و يقارن بين الشطحات الصوفية لأوائل المتصوفة بالهرمسية ، فآراء الجنيد مثلاً في التوحيد و النفس و طبيعتها و مصدرها و مصيرها آراء هرمسية تماماً و تحدثوا عن التوحيد العقلي أي توحيد المتكلمين و الفلاسفة كتوحيد عوام في مقابل توحيد الخواص أن المتصوف إذا بلغ مرتبة الفناء أو الإتحاد يصير بين يدي الله شبحاً قائماً ليس بينهما ثالث. و نظريته في النفس و وحدة الشهود التي تذكر بآراء الهرمسية حول الأصل الإلهي للنفس و وجودها الشقي الانشطاري في الدنيا و ضرورة المجاهدة للعودة بها إلى عالمها الإلهي الأصلي بل و نجد صدى لنظرية نومينوس حول النفس كونها كانت موجودة قبل إتحادها بالابدان في عالم الذر و كانت في وجودها هذا على اتصال بالله. أما القائلون بالحلول و على رأسهم الحلاج (الذي قال أنا الحق وردت في كتابه الطواسين و تلخص كامل مذهبه) فنحن امام الصنف الثاني من التصوف الهرمسي (التصوف بالانكفاء) على الذات فهو يرى أن الرياضات و المجاهدات الصوفية تكشف للإنسان عن الصورة الإلهية فيه (خلق الله آدم على صورته) العبارة الهرمسية يستعرض طرابيشي إشكال الجابري في هرمسية العبارة (خلق الله آدم على صورته). إن ما اقتضاه الجابري من هرمسية التأكيد على الأصل السمأوي - الإلهي للنفس، يجرنا إلى الحكم بالتهرمس على (جميع الأفلاطونيين والأفلاطونيين المحدثين في الثقافة العربية الإسلامية، بدءا بالرازي وانتهاء بابن سينا والغزالي مرورا بالفكر التصوفي"، وحاول الجابري تغييب - الأفلاطونية - واستحضار الهرمسية، متعمدا. وهذا تزييف واضح، وحين يضطر الجابري للتمويه بإيراد عبارة عن مرجعه الملهم فستوجيير، فإنه يحذف في الواقع بعض نصه، ويقوله ما لم يقله. وكيف لفستوجيير الأب الدويمنيكاني أن يهرمس عبارة واردة في الإصحاح الأول من سفر التكوين. يصف الجابري الشيعة بأنهم "أول من تهرمس في الإسلام"، كما ذهب إلى هرمسية المتصوفة عبر نص الحلاج "أنا الحق"، أو "خلق الله آدم على صورته" وحينما يذهب الجابري إلى هرمسة هذه العبارة "خلق الله آدم على صورته"، فهو يجهل مرة أخرى بأنها آية توراتية، وحديث نبوي وارد في الصحيحين. ويرى طرابيشي ان تناول الجابري للشيعة والمتصوفة لا يخلو من لغة مؤدلجة. ويتساءل لماذا حاول الجابري تغييب تسمية الجهمية في استشهاداته التاريخية بالإشارات المنقوطة "..."، ويرجع السبب بعد مراجعة النصوص الأصلية، إلى أنها عبارة "المعتزلة". فالجهمية هم أحد طوائف المعتزلة، ويرى أنه عجز أن يمرر تهرمس المعتزلة إلى مجموع منهجه الذاهب إلى هرمسة جماع الفكر اللاهوتي والصوفي والفلسفي والعلمي في المشرق. لذلك استحضرت المعتزلة تحت اسم الجهمية. يرى الجابري أن (أهل السنة يعودون بالضمير في (صورته) للإنسان) بمعنى أن الله خلق الإنسان على الصورة التي خلقه بها أي التي اراده بها. و يستعرض الجابري ابيات من ديوان الحلاج تصرح و تؤكد حلول الله في الإنسان بالصورة الهرمسية. في المراحل اللاحقة سيتوغل المتصوفة في أعماق الهرمسية و عقيدتها الباطنية ليربطوا نظرياتهم الصوفية بالعلوم السرية الهرمسية من كيمياء و طلسمات و علم أسرار الحروف و عرض الجابري أجزاء من (كتاب الشفاء) لإين خلدون.
و يصل الجابري لنتيجة هي أن العقل المستقيل أو (النظام العرفاني) في مجال التصوف و مجال الفلسفة الإشراقية و على صعيد الأيديولوجيا لم يكن رد فعل على تزمت الفقهاء أو ضد جفاف الإتجاه العقلي عند المتكلمين فقد ظهر العقل المستقيل / العرفان الشيعي و الكشف الصوفي قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء و نظريات المتكلمين إلى ما يستوجب قيام رد فعل من هذا القبيل، فالنظام العرفاني أخذ يفرض نفسه في ذات الوقت الذي بدا فيه تقنين الرأي في الفقه و التشريع للمشرع في الكلام.



#محمد_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً4
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً3
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً2
- قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً


المزيد.....




- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد الحاج - قراءة في مشروع نقد العقل العربي، الجابري نموذجاً5