أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط















المزيد.....

الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 00:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لطالما شكّل السؤال عن العلاقة بين القانون والأخلاق أحد أهم الأسئلة التي أرّقت الفلاسفة والمشرّعين ورجال الدين والمفكرين عبر العصور. هل يكفي أن يلتزم الإنسان بالقوانين ليكون صالحًا؟ أم أن هناك معيارًا أعمق وأشد إلزامًا من نصوص التشريع، معيارًا يخرج من باطن الإنسان، من صوته الداخلي الذي نسميه الضمير؟

هذا السؤال وجد صداه عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي يُعدّ أحد أبرز أعلام الفلسفة الحديثة وأحد أهم منظّري الأخلاق في التاريخ. وقد لخّص كانط الفارق بين القانون والأخلاق بجملة بليغة، تقول:

“في القانون: الإنسان مذنب عندما ينتهك حقوق الآخرين.
في الأخلاق: الإنسان مذنب إذا كان يُفكّر بذلك.”

بهذا التمييز الموجز يضع كانط أساسًا فلسفيًا عميقًا للفصل بين المجالين: القانون بما هو منظومة خارجية تُنظم العلاقات الاجتماعية، والأخلاق بما هي إلزام داخلي ينبع من الضمير والعقل.

سأحاول معكم في هذا المقال أن نؤسس قراءة متعمقة لهذا الفرق عند كانط، مستعرضين الخلفية التاريخية التي انبثق منها، ونظرية الواجب والإرادة الحسنة، ومفهوم الأمر المطلق، وصولًا إلى تطبيقاته في عالمنا المعاصر.



الخلفية التاريخية والفكرية لكانط

عاش إيمانويل كانط (1724–1804) في قلب القرن الثامن عشر، في مرحلة كانت أوروبا فيها تعيش مخاض الحداثة: الثورة العلمية في أوجها، العقلانية الديكارتية ما زالت تلقي بظلالها، التجريبية البريطانية مع ديفيد هيوم تهز يقينيات الفلسفة، وحركات التنوير تُنادي بالحرية والعقل والنقد.

كانط وجد نفسه أمام تحدٍّ فلسفي مزدوج: من جهة، كيف يرد على الشك الهيومي الذي زعزع مفهوم السببية والمعرفة؟ ومن جهة أخرى، كيف يؤسس فلسفة أخلاقية صلبة لا تعتمد على الدين أو السلطة أو المنفعة فحسب، بل على العقل ذاته؟

ومن هنا برز مشروعه الكبير في “نقد العقل الخالص” (1781) و”نقد العقل العملي” (1788)، حيث ميّز بين مجال المعرفة النظرية ومجال الإرادة العملية، واضعًا أساسًا لما سيُعرف لاحقًا بـ”الأخلاق الكانطية”.



مفهوم القانون عند كانط

القانون بالنسبة لكانط ليس مجرد نصوص جامدة، بل هو إرادة عامة تفرض على الأفراد أفعالًا وسلوكيات معينة بغرض تنظيم المجتمع وحماية الحقوق.
• إنه إلزام خارجي: لا يهتم بما يدور في نية الفرد أو في قلبه، بل فقط بما يظهر إلى العلن من أفعال.
• غايته حماية حقوق الآخرين وضمان العدالة بين الناس.

ولهذا فإن الإنسان، في نظر القانون، لا يكون مذنبًا إلا حين ينتهك حقًا ملموسًا للآخرين: كأن يسرق مالًا، أو يعتدي على جسد، أو يخرق عقدًا. القانون لا يحاكم النوايا ولا الأفكار، بل الأفعال الخارجية القابلة للملاحظة والإثبات.

ومن هنا جاء تمييز كانط: “في القانون: الإنسان مذنب عندما ينتهك حقوق الآخرين.”



مفهوم الأخلاق عند كانط

في مقابل القانون، تأتي الأخلاق عند كانط باعتبارها إلزامًا داخليًا لا يفرضه المجتمع ولا الدولة، بل يفرضه العقل العملي الذي يسكن كل إنسان.
• الأخلاق لا تُقاس بالنتائج ولا بالمنافع، بل بالنية والواجب.
• الإرادة هي مركز الأخلاق: الفعل يكون أخلاقيًا إذا صدر من إرادة حسنة بدافع الواجب، لا بدافع المصلحة أو الخوف من العقوبة.
• الذنب الأخلاقي يتجاوز الفعل الخارجي إلى حتى مجرد التفكير في الشر.

ولذلك قال كانط: “في الأخلاق: الإنسان مذنب إذا كان يُفكّر بذلك.”
فالإنسان قد لا يسرق بالفعل، لكنه إذا كان يفكر في السرقة ويجدها مقبولة داخليًا، فهو أخلاقيًا قد ارتكب ذنبًا، لأنه لم يجعل من القانون الأخلاقي الداخلي مبدأً مطلقًا له.



الفرق الجوهري بين القانون والأخلاق عند كانط

يمكن تلخيص الفارق بين القانون والأخلاق عند كانط في عدة نقاط:
1. المصدر
• القانون: مصدره خارجي (الدولة، السلطة، التشريع).
• الأخلاق: مصدرها داخلي (العقل، الضمير، الإرادة الحرة).
2. الموضوع
• القانون: يهتم بالأفعال الخارجية التي تمس الآخرين.
• الأخلاق: تهتم بالنوايا والدوافع الداخلية حتى لو لم تظهر في الواقع.
3. الجزاء
• القانون: جزاؤه عقوبة دنيوية تُفرض من الخارج (سجن، غرامة).
• الأخلاق: جزاؤها تأنيب الضمير والشعور بالذنب أمام العقل والضمير.
4. النطاق
• القانون: محدود، لا يتدخل إلا عند انتهاك الحقوق.
• الأخلاق: شاملة، تمتد إلى أعمق مستويات التفكير والإرادة.



الواجب والإرادة الحسنة

يُعدّ مفهوم “الإرادة الحسنة” حجر الزاوية في فلسفة الأخلاق عند كانط. فالفضيلة ليست في النتائج، بل في أن يكون الفعل صادرًا عن نية صافية بدافع الواجب.
• الفعل من الواجب: أن يساعد الإنسان فقيرًا لأنه يرى أن ذلك واجب أخلاقي.
• الفعل وفقًا للواجب: أن يساعده لأنه يخشى العقوبة أو يرغب في المديح.

الأول وحده، في نظر كانط، هو الفعل الأخلاقي حقًا، لأنه يصدر عن احترام للقانون الأخلاقي الداخلي، لا عن حسابات خارجية.



الأمر المطلق (Categorical Imperative)

لتوضيح الفرق بين القانون والأخلاق، طوّر كانط مفهوم “الأمر المطلق”، وهو قاعدة عامة تقول:

“لا تفعل إلا وفق المبدأ الذي يمكنك أن تريد أن يصبح قانونًا عامًا.”

هذا المبدأ يكشف لنا أن الأخلاق أوسع من القانون. فالقانون قد لا يمنعك من الكذب في بعض الحالات، لكن الأخلاق تحرّم الكذب مطلقًا، لأنك لو جعلت الكذب قاعدة عامة فلن يبقى معنى للصدق.



تطبيقات معاصرة لتمييز كانط

1. حرية التعبير
• القانون قد يسمح بانتقاد السلطة أو نشر أفكار معينة.
• الأخلاق تفرض على الفرد أن يستخدم الحرية بمسؤولية دون تشويه أو تحريض على الكراهية.

2. البيئة
• القانون قد لا يجرّم رمي النفايات في أماكن معينة.
• الأخلاق تحرّم ذلك لأنه فعل يضرّ بالإنسانية والطبيعة على المدى الطويل.

3. التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
• القانون لم يواكب بعد كل تحديات الذكاء الاصطناعي.
• الأخلاق تفرض حدودًا أسبق: ألا نستخدم التقنية لانتهاك كرامة الإنسان أو التلاعب بإرادته.



نقد الأخلاق الكانطية

رغم عمقها، تعرّضت فلسفة كانط للنقد:
• النفعية (ج. س. ميل، بنثام) رأت أن الأخلاق يجب أن تُقاس بالنتائج، لا بالواجب وحده.
• هيغل انتقد كانط لأن مبادئه “شكلية” أكثر مما هي عملية.
• البعض رأى أن الفصل بين القانون والأخلاق قد يجعل القانون جافًا والأخلاق مثالية.

لكن قوة كانط تكمن في أنه أصرّ على أن الإنسان كائن حر وعاقل، وأن الحرية لا تكتمل إلا بالخضوع لقانون داخلي يفرضه العقل نفسه.



يُعيدنا كانط في تمييزه بين القانون والأخلاق إلى جوهر إنسانيتنا:
• القانون يحفظ التوازن بين الأفراد في المجتمع.
• الأخلاق تحفظ التوازن بين الإنسان وذاته، بين العقل والضمير.

وبين الاثنين تقوم حضارة الإنسان: لا يكفي أن نكون مواطنين صالحين بالقانون، بل يجب أن نكون بشرًا صالحين بالأخلاق.

فالقانون هو حارس المجتمع، أما الأخلاق فهي حارس الروح وبوابة الضمير.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لم أخنك حتى في أفكاري: دوستويفسكي والحب كمرآة للوجود
- حين يتحدث الإنسان إلى الطير: من نبي الله سليمان إلى تجارب ال ...
- التواضع والمحبة في التعامل مع الآخرين: رؤية إنسانية وفلسفية ...
- ومضات من حياة فيرجينيا وولف
- ومضلات من حياة كافكا وهل كان يكتب عن العبث الإنساني… أم عن ا ...
- نظرية باريتو: من حقول البازلاء إلى قانون عمل وفلسفة اقتصاد
- كائنات صغيرة، كوابيس صناعية: عندما تُهدِّد الأحياء الغازية أ ...
- ثلاثة أرواح أثمرت إبداعًا فوق شجرة المعاناة .. حين يصبح الجر ...
- فاسكو دي جاما: الوجه الدموي وراء أسطورة “مكتشف” رأس الرجاء ا ...
- الجزائر المحروسة بالله: حينما نزلت السماء إلى ساحة المعركة
- بين براءة التفاؤل وجحيم الآخر: دع الحياة تمر، لا تتعثر في أر ...
- الذكاء الاصطناعي ينهش الوظائف التقليدية… والتعليم لا يزال في ...
- كين نورتون: المارينز الذي هزَمَ العمالقة.. وقهره النسيان
- ست ساعات في أديس أبابا: عبورٌ في شرايين القارة القديمة
- المجتمع والحضارة: عشرة محاور تصنع مصير الأمم
- تلقين الدم والتفوق: كيف تصنع المدارس الإسرائيلية جيلًا يؤمن ...
- الرومانسية الخالدة للكلمات: تأمل في الحب وإرث برونتي عبر آفا ...
- زلزال روسيا المهيب يقرع جرس الخطر: العالم على موعد مع موجات ...
- حين تعبت من مطاردة الكمال… وجدت الطريق في الداخل
- حين تُبتر الساق وتُبتر الذكرى: قراءة فلسفية ونفسية في رسالة ...


المزيد.....




- -ستعيشان حبًا عظيمًا-..بريطاني وأمريكية يجمعهما القدر على طا ...
- روسيا تعلن السيطرة على قريتين في دونيتسك.. وزخم الوساطة يترا ...
- نهاية الحرائق المدمرة في إسبانيا -أصبحت وشيكة-
- معاريف: نتنياهو مُصر على المضي في العملية العسكرية
- تأجيل الانتخابات البرلمانية في 3 محافظات سورية
- وزير الخارجية النرويجي: الوضع بغزة كارثة من صنع الإنسان
- ناج من الهولوكوست: وسائل الإعلام الغربية شريكة في إبادة غزة ...
- -تأثير أحمر الشفاه-.. لماذا لا نتخلى عن الرفاهية رغم ضيق الح ...
- شريكة جيفري إبستين عن ترامب: لم أر أي شيء غير لائق منه.. وكا ...
- كارثة جوية كادت تقع.. كاميرا توثّق انكسار جناح طائرة دلتا


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - الفرق بين القانون والأخلاق في فلسفة إيمانويل كانط