أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ناظم مزهر - شباط الأسود















المزيد.....

شباط الأسود


ناظم مزهر

الحوار المتمدن-العدد: 1820 - 2007 / 2 / 8 - 11:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مِن تلك الأحياء السكنية التي تم توزيع أراضيها في العهد الجمهوري الزاهر 1958 – 1963 لذوي الدخل المحدود ، وهي أحياء تكاد تكون متشابهة في مسمياتها في جميع أنحاء العراق كحي الإسكان والحي العصري وحي الزعيم الذي تحول في جميع أنحاء الجمهورية العراقية بعد شباط الأسود عام 1963 إلى حي 14 رمضان الذي صادف 8 شباط من تلك السنة المشئومة على العراقيين جميعاً .
في تلك المناطق الشعبية التي لا أقول عنها الفقيرة لأن العراقيين ما عرفوا للفقر مذاقاً إلا بعد الانقلاب العسكري الطائفي في 8 شباط الأسود وهو انقلاب ثأري فاسد كدماء الحيض سُمَّاه الفاشست فيما بعد بعروس الثورات التي أودت بحياة زعيم وحبيب الشعب الضابط الأصيل الحقيقي الذي ينتظر جدول الترفيعات السنوي شأنه شأن جميع الضباط العراقيين الفريق الركن عبد الكريم قاسم الذي جرت العادة على تسميته برتبته التي فجّر بها أعظم وأخلص ثورة تحررية في تاريخ العراق الحديث ، قُتِل الزعيم ومَن اختار معه طريق التصدي لأخطر مؤامرة بعثية دفع فيها الشعب العراقي أربعين عاماً من التراجع إلى الوراء ؛ أربعون عاماً ذهبت سدى .
عشية ذلك اليوم سَكَنَت البُيوت القليلة المتناثرة في محلتنا ، سكون المَقابر و صَمَتَت تحت سِتْرٍ مِنْ الليل حالك السَّواد . كَانَت رياحُ شباط الأزرق قَدْ هبَّت بكل قساوتها وراحت تطوف مولولة كأم ثكلى على مقربة مِنْ تلك البيوت الطينية البعيدة ، مُستَغرِبَةً مِنْ ذلك الحزن والسكون . لقد هبط علينا ضيق القلب منذ الصباح مثل غيمة نحسٍ أو ظل سعلاة عانس؛ كنا صغاراً شبعنا من اللعب في العطلة الربيعية للعام الدراسي 1962-1963 على وشك الإلتحاق بمدارسنا يوم السبت المصادف 9 شباط 1963 لولا القدر الأهوج الذي إعوجَّ كذيل الكلب و سرق منا فرحتنا برمضان ومجيء العيد حين أطلق رصاص الغدر والكراهية على سعادتنا حيث جلسنا مجتمعين ذات ليلة باردة مِنْ ليالي منتصف رمضان ، حول موقد فحم الشتاء نستمع إلى ما كان يبثه ويعيده راديو إذاعة بغداد في( الصالحية) من بيانات كانت تسقط على رؤوسنا ورؤوس أبائِنا وأمهاتنا كزلزال مروع إسمه الثامن من شباط الأسوَّد .
" بيان ، بيان ، بيان ... بيان رقم واحد"
كنا نجلس مجتمعين لائذين بعباءات أمهاتنا نستمع إلى ذلك النشيد المرعب ( اللهُ أكبر) الذي أذيع ضُحى ذلك اليوم البارد كحلمة ثدي ساحرة شمطاء ، أذيع البيان من إذاعة الصالحية في تمام الساعة التاسعة والدقيقة العشرين حسب توقيت ساعتي اليدوية ( اتذكر هذا الوقت بالضبط لأن ساعتي المهداة بمناسبة نجاحي في إمتحانات نصف السنة هي أول ساعة في حياتي وثانياً لأنها كانت تحمل صورة الزعيم .
لَنْ أنسى ما حييت ضحى ذلك اليوم ن بعد سماعنا البيان رقم واحد . رأيت كيف خربَشَت أمي خَدَّيّها في تلك اللحظة الشَجية ، وكيف لطمت بقية نساء الحي على الخدود عندما دقَّت طبول الوعيد في النشيد ( الله أكبر) ؛ أمهاتُنا الطيبات بسذاجة قلوبهن السمحاء كُنَّ يعتقدن أنَّ الإذاعة كانت تبكي الزعيم بأناشيدها وتتوعد (كَيدَ) المعتدين على جمهوريتنا في نشيد الله أكبر . لم يكن يعرفن مَن هم المنقلبون واعتقدن ونحن أيضاً اعتقدنا إن الإذاعة كانت تبكي الزعيم بأناشيدها وتتوعد كيد المعتدين عليه لكن بمجرد قراءة البيان رقم 2 في العاشرة صباحاً ( حسب توقيت ساعتي اليدوية ) ، إتَّضَحَت الصورة وأظّلَمَّت في الوقت نفسه وانخلع قلبي لِما كان يجري في بغداد على مسافة 175 كم عن الديوانية وهي مسافة ممكن قطعها في ساعتين ونصف في مقاييس وسيارات ذلك الوقت ، لكن من ذا الذي يذهب بروحي هناك ؟
كانت طائرات الـ ( هو كر هنتر ) و ( ميغ 17 ) تقصف مبنى وزارة الدفاع حيث لجأ الزعيم عبد الكريم لإدارة معركة التصدي لمؤامرة أذناب الاستعمار من صالح مهدي عماش صعوداً إلى أعلى ذَنَب ملتوي فيهم . قبل أن يتوجه الزعيم إلى وزارة الدفاع أراد الذهاب بنفسه إلى مقر اللواء التاسع عشر المسمى بلواء عبد الكريم قاسم وهو لواء أغلب منتسبيه من المخلصين للجمهورية والزعيم عبد الكريم ، لكن الزعيم المرحوم طه الشيخ أحمد نصحه بالتوجه إلى وزارة الدفاع وكان القدر وحده قد أنجح مثل هذا الإنقلاب رغم انه كان قد فشل في ساعاته الأولى عندما احتشدت ملايين الشعب عند وزارة الدفاع تهتف بحياة الزعيم وسقوط المؤامرة . هذا ما نقله شاهد عيان إلتقيت به في 1978عندما كنت مترجماً بوزارة الدفاع في مديرية العقود والمبايعات أثناء تأدية خدمتي الإلزامية إذ إلتقيت بنائب ضابط مسِن إسمه مدهوش فيصل جَسَّار كان يعمل في مديرية إدارة الضباط وكان في يوم انقلاب هناك برتبة جندي أول وكان ضمن المراتب الذين حُصِروا في مبنى وزارة الدفاع حين اشتد القصف الجوي والمدفعي من جهة صوب الكرخ ، فقال إنهم لجأوا على قلة أعدادهم إلى المخابيء وهناك رأى الرجل الزعيم عبد الكريم من قفاه وهو ينزل أمامهم إلى المخبأ الكائن تحت مكتب الزعيم مباشرة وإن الجميع قد اختار هذا الملجأ ليكون مع الزعيم لا بقصد الاحتماء بقدر ما كان يربطهم معه وحدة المصير في هذا اليوم الصعب وقال النائب ضابط إنه عندما نزل الزعيم إلى القبو كان سريعاً في خُطاه وكان الجو المحيط به مفعماً بماء الكلونيا نوع ( منن) التي يحرص الزعيم على مسح وجهه بها بعد الحلاقة الصباحية ، وعندا استقروا في أماكنهم كان الزعيم يتحدث مع ضباطه طه الشيخ أحمد ووصفي طاهر و فاضل المهداوي وعبد الكريم الجدة وضابط آخر لم يتذكر الرجل إسمه وأعتقد إنه الزعيم أحمد صالح العبدي وهناك كان الزعيم يتحدث بصوت عال وبأسلوب خطابي ثم تحول الكلام إلى حوار فيه مزاج عصبي وسمع أحد الضباط يقول لعبد الكريم : " كان المفروض تعدم ذولة البعثية " وقال له آخر بود بعيد عن الألقاب العسكرية : " يا أخي وزع السلاح على الشعب " ثم هدأ الحوار قليلا وإنبرا أحدهم يلوم الزعيم على تردده بالتوجه متنكرا بزي رجل قروي إلى قيادة الفرقة الأولى التي كانت بقيادة الزعيم المرحوم خليل سعيد والمتموقعة في مدينة الديوانية التي لن تتردد أبداً بالزحف نحو بغداد لإسقاط المؤامرة ، لكن الزعيم قد رفَض رفضاً قاطعاً فكرة التنكر باعتقادي كونها لا تتماشى مع أعرافه وأخلاقه العسكرية التي عُرِفَ بها ، مع ذلك انتشرت شائعات غداة الإطاحة به سمعنا بها ونحن أطفال في جميع أنحاء العراق أن الزعيم قد نجا متنكراً وهو أمر عن دلَّ على شيء إنَّما يدل على مدى حب الناس وتعلقهم بهذا الرجل دون أوامر من السلطة أو خوف أو ترهيب مثل ما فعل مَن تلاه مِمَن حكموا العراق بلا رقة قلب ولا نزاهة وهما صفتان قد أودتا بعبد الكريم قاسم وراح في شَربة ماء بعد أن وضع العراق على سلالم الرُقّي باستثمار ثرواته لصالح الشعب المغلوب على أمره لا بتبديدها على مصالح شخصية وحزبية .

أعود إلى ضُحى ذلك اليوم قارس البرد . آنذاك أرسلتني أمي إلى مستشفى الديوانية الجمهوري لأسال عن أبي معين خفر صالة العمليات وهناك قالوا أن خفارته قد انتهت وتوجَّه إلى مركز المدينة ليستمع إلى بيانات الراديو في مقهى الشبلاوي التي فتحت أبوابها وازدحم الناس حول المذياع الكبير رغم أننا كنا في رمضان و فتح المقاهي كان محظوراً. رأيت حشداً من المعلمين يرفعون رايات حمراء اللون ويتوجهون إلى مبنى متصرفية اللواء فسرتُ معهم بدافع الفضول وعند الجسر جاء جندي من جهة الصوب الصغير ، كان يرتدي بدلة قتال ويحمل خوذته بيده فتجمع الحشد حوله يسألونه عن موقف الجيش وآخر الأوامر العسكرية فأجابهم إجابات مبهمة لهذا شتَمَ البعض قواد الجيش لأن إذاعة الصالحية كانت تذيع بصوت عال عدداً من برقيات التأييد من قادة الفرق ، بعضها كانت وهميّة ، وكان الموقف العسكري في بغداد وفي وزارة الدفاع بالذات غامضاً حيث كانت تجري معركة رهيبة ، وعند مبنى متصرفية اللواء حين اقترب حشد المتظاهرين من مبنى متصرفية اللواء سُمع إطلاق نار وتفرق بعض الناس من المعلمين العزَّل وظهرت في الجو طائرة عمودية ضخمة حامت فوق أجواء معسكر الفرقة الأولى ثم هبطت فيه وصاح أحد المتجمهرين :" يا جماعة هذه الطائرة تحمل الزعيم " فانتشرت إشاعة مفادها أن الزعيم قد جاء ليأخذ الفرقة الأولى للتوجه نحو بغداد للقضاء على الخونة ولم أسمع أحداً يصف الانقلابيين بغير كلمة الخونة دون الاهتمام إلى ما كانت تبثه إذاعة الصالحية التي أصبحت بحوزة الانقلابيين وراحت تصفهم بالوطنيين الغيورين وراحت الإذاعة تعيد وتكرر البيانين الأول والثاني تتخللهما أناشيد وطنية مأخوذة عن استوديوهات إذاعة صوت العرب في القاهرة منها ( ثوار ..ثوار) لأم كلثوم ،كم كانت تلك الأغنية تفزعني وسببت كرهي لأم كلثوم
للأمانة إن قيادة الفرقة الأولى في الديوانية لم ترسل أية برقية تأييد لأن المرحوم الزعيم خليل سعيد كان من الضباط المخلصين الشرفاء ولهذا السبب أصدر ما يسمى بمجلس الثورة بياناً بإقالته وتنصيب اللواء عبد الكريم فرحان بديلا عنه ، وأتضح أن الزعيم عبد الكريم قاسم يواجه موقفاً صعباً للغاية بعد أن قُطِعَ نشيد الله اكبر وقُريء البيان رقم 3 :
" ...هنا بغداد ، بيان بيان بيان :
تُغلَق الحدود والمطارات فوراً وحتى إشعار آخر "
لَمْ تَعُد أُمي تحكي لنا قصة طريفة كعادتها و صمتت هي الأخرى مثل جميع الأُمهات في العراق اللواتي كظمن غيظهن وهن يستمعن إلى بيانات الراديو يصف الزعيم بعدو الشعب ، وحده الراديو الذي كان من طراز ( فيلبس) كان يصيح ويصيح حتى بَحَّ صوتُه عند ( السحور) ، وحين دقَّ المسحراتيون طبولهم في تلك الليلة الصقيعية الباردة كان الإيقاع بطيئاً حزيناً يرسل إشارات من الأسى و ظلَّت الإذاعة مستيقظة حتى الفجر تَبثُ نداءات وبرقيات وبيانات شَرهِة تُمَزقُ نياط القلب وتقطع الأنفاس :
" بيان بيان بناءً على ما تقتضيه المصلحة العامة قررنا إحالة الضباط المدرجة أسماؤهم أدناه على التقاعد.. " بيان بيان : بناءً على ما تقتضيه المصلحة العامة قررنا منع التجول ، يُستثنى مِنْ أحكام هذا البيان قوات الحرس القومي ، سيتعرض للرمي دون سابق إنذار ، كل مِنْ يخالف ذلك ".
كان أبي يضع خَدَّه على راحة يده مُستمعاً وينفث من جمرات سيجارته اللف أعمق الزفرات .
ثم عاد نشيد الله أكبر يدوي ويصيبني بالفزع الشديد أُعلن بعدها عن مصرع الزعيم عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري بعد طول مواجهة مع المنقلبين .
لَمْ يخرج أحد مِنْ آبائنا إلى في صباح اليوم التالي ، كانت الطُرق قَدْ هدأت وخلت ولَم نسمع القطار يمر على سِكَّة الحديد التي بردت وكساها ندى ثقيل . قيل إن مُصَفَّحات المنقلبين تَجوبُ الطرقات حظراً للتجوال .
كنت في الصف الرابع ابتدائي عندما عُدنا بعد ثلاثة أيام إلى الدوام المدرسي نهاية العطلة الربيعية ورأيت أعلى السبورة صورة مبتسمة ليست للزعيم ، بل لشخص آخر بالملابس العسكرية مقلِّداً لقطة الزعيم بسدارته وابتسامته لكنه لَمْ يفلح في الاثنين ، وحين دخل المعلم علينا بملابس الحرس القومي و مسدسه ظاهر على جنبه أمرنا بالنهوض بإشارة مِنْ عصاه :
- قيام .
نهضنا في خوف واحتراس واحتبست أنفاسنا ونحن نقف في تلك المدرسة البعيدة التي كان اسمها مدرسة ( الجمهورية):
- لقد تم القضاء على عبد الكريم قاسم .
قال ذلك وهو ينظر إلى الوراء مؤشراً بعصاه فوق السبورة لينبهنا إلى الصورة الجديدة وعاد يقول :
- جلوس .
ساد الصمت صَفَّنا ومدرستنا كأنَّما غطتها سَحابة ثقيلة مِنْ الحُزن ونحن نودع زعيمنا معتبرين أنفسنا مثل أولاده الصغار وخُيّلَ إلينا أن زعيمنا مازال يطل علينا مِنْ فوق السبورة بتلك الابتسامة المطمئنة ينظر إلينا بنظرته الصامتة كما لو أنه يقول لنا:
" لا تنسوا مستقبل بلدكم يا أولاد " .
فعُدتُ مِنْ حيث أتيت ، إلى البيت.
" هو يستطيع أن يعبر النهر بقفزة واحدة ". هكذا قلت لصاحبي حين عُدنا مِنْ المدرسة غداة ذلك اليوم .
عند الغروب وبَعدَ دَويٍ نائح لِمَدفَعِ إفطارٍ بعيد ، تَساقَطَ مَطرٌ كأنَّه الدموع الغزيرة مِنْ مآقي السماء ، وغطى المحلة صَمْتٌ عميق فتسلل الليل إلى النافذة دون أن ينتبه إليه أحد و كانت أعمدة دخان المواقد تتصاعد بهدوءٍ حزين.
وعلى وسادة آخر الليل بكيت ، حَملَقتُ في سقف الغرفة ولا أدري كَمْ غَفوت وكأنَّ قلبي في يقظةٍ وحسرة فكانت نبضاتي تختلج وتتجمد الدماء في عروقي هلعاً حين تتردد بعض مِنْ همهمات الليل وأتسائل هل أَفْلَتَ الزعيم مِنْ أيدي مطارديه وجاء بمنديلِهِ الأصفر يُعتصَرُ في يسراه (*) ؟!
كنا ننتظره مِنْ ساعة إلى أُخرى ومن يوم إلى آخر وننام عند منتصف كل ليلة على صدى وَقعِ خطوات تقترب وكانت أمي تتنهد مثل رياح أواخر الليل الشتوية ، ليل أواخر شباط الأزرق قارس البرد ، و هَمَستُ ببعض الدعوات ملتمساً رحمة الله إضافة إلى دعوات أبي الذي راح يشاغل جَمرة سجارته و يسعل طوال فترة السحور ، جاء بعضٌ مِنْ سَعلاته مُصطنعاً بحكم العادة لطرد وحشة الليل ، كنا نرجو الله والأولياء الصالحين مِنْ أجل عودة الزعيم الذي أُشيعَ أنه لَمْ يُقتَلُ بَعْد ، ولقد بدا لي أول الأمر أن الزعيم لَمْ يُقتَل فعلا يوم الثامن منه وأنه سيعود لكنَّ شيئاً ما جعلني تلك الليلة أرفعُ رأسي عن الوسادة فجأةً ، ثمَّة عواء ارتفع فجأةً ، كأنما إنطلق مِنْ جوف الأرض الساكنة و تَرَدَّدَ عالياً وراحت الكلاب تتبادل العواءات وإذا بي أسمع صوت أبي يُكَلِّمُ نفسه :
" مِنْ تُرى يأتي وقت السحور ؟ "
فقلت له بصوت مسموع :
" هل تطارد الكلاب أحداً ما ؟
" نعم بالتأكيد "
فقلت في نفسي :
" لينقذك الله أيها الزعيم "
وفجأةً صمت عواء الكلاب كما لو أنَّ أحداً ما قَدْ أسكتها جميعاً بإشارة منه ولَمَّا أزَّت الباب وطقطقت قَفَزتُ مِنْ فراشي صائحاً :
" ها قَدْ جَاء ! ها قَدْ جاء ! ، إنه هو ! "
فهدأني أبي بصوت رتيب لا ارتباك فيه :
" نَمْ يا ولدي ، لا تُفزِعُكَ الأحلام "
فقلت له متسائلاً :
" لكن مِنْ ذا الذي طَرقَ الباب ؟ "
فأجاب :
" هذهِ هَبَّة حائرة مِنْ رياح أواخر الليل "
في البدء كَانَ كُلُّ شيء كالحلم وقد ظللت وقتاً طويلاً دون أن أستطيعَ حَملَ نفسي على التصديق بأنًَّ الزعيم قَدْ مات ، في تلك اللحظة لَمْ أشعر بوجود شيء ، لا بهذا الكوخ المبني مِنْ جذوع النخيل والطين ولا بالليل ولا بالكلاب ، بل أحسستُ بحزن غير متناه ولا حد له كالظلام ، كالصبغة السوداء تغمر القلب والكيان كُلِّه .
غطيتُ رأسي وكَمَّمتُ فَمي كي لا يسمعني أحد وأنا أنتحب تحت دِفء اللحاف.
" مِنْ الذي يبكي تحت الفراش ؟" قالت أُمي .
"سيتذكر كل هذا حين يكبر" . أجابها أبي وأطلق زفرة عميقة مِنْ صدره المثقل بالدخان ، وأضاف :
"لقد تكالبوا على الزعيم ومزقوه كالكلاب المسعورة !"
قال ذلك وهو يرفع صوت الراديو :
" رمياً بالرصاص .."
جاءت أمي راكضة إلى السرير ، وأرقدتني جيداً على الوسادة ونظرت إليَّ وكأنها تراني لأوَّل مرَّة وجاهدت لتحبس دموعها لكني رأيت لمعان تلك الدموع في رموشها ، نظرتُ في مودَّة إلى وجهها كَمَنْ يأخذ منه المزيد مِنْ الحنان والشعور بالاطمئنان وهي تنحني لتُقَبِلَني وتعتصر وجهي على خدِّها وصدرها . ولما رَفَعتُ رأسي مِنْ حضنها رأيتُ كيف كَانَ كتفا أبي يهتزان مِنْ فَرطِ البُكاء .
لقد لقيت الجمهورية حتفها! لقد ماتت جمهوريتنا الديمقراطية!
***
• دأبَ الزعيم عبد الكريم قاسم بعد الاعتداء الأثيم عليه في شارع الرشيد سنة1959 ، أن يمسك منديلاً أصفر يعتصره لتقوية أعصاب يده المصابة.



#ناظم_مزهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دور المثقف الآن


المزيد.....




- رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز ...
- أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم ...
- البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح ...
- اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
- وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات - ...
- الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال ...
- أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع ...
- شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل ...
- -التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله ...
- من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ناظم مزهر - شباط الأسود