|
أحمد محمد نعمان قراءة فكرية سياسية 2-4
قادري أحمد حيدر
الحوار المتمدن-العدد: 8421 - 2025 / 8 / 1 - 07:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أحمد محمد نعمان .. بين المقابلة والمذكرات والسيرة قراءة فكرية سياسية
( ٢٤ ) *ـ بين المعرفي/الفكري، والسياسي
يكتب الأستاذ نعمان النص السياسي التالي: "إن الإرياني كان مسيَّراً لا مخيَّراً، وأنه اتخذ القرار ضدي دون أن يكون راضياً عنه، ولكنه لم يكن قادراً على منعه"، (1) وهي إدانة ضمنية مزدوجة للحكم النوفمبري، وللقاضي الإرياني، والذي تبدى من النص السالف، وكأنه ـ الإرياني ـ لم يكن رئيساً للمجلس الجمهوري بالفعل، أو أنه كان في الوقت نفسه، رئيساً وغير رئيس!!
إن الكتابة السالفة التي أوردناها في مفتتح الحديث، هي استمرار لمحاولة تبرئة ساحة نظام، خمسة نوفمبر ١٩٦٧م، من إصدار قرار سحب الجنسية عن الأستاذ أحمد النعمان، ودفاع عن سلطة نوفمبر، ضداً على الحقيقة كما هي، تعبير عن غلبة السياسي، على المعرفي/ الفكري.
إن رحلة الاستاذ/ النعمان منذ منتصف الثلاثينيات، إلى الخمسينيات، كانت تقوم وترتكز على تغليب المعرفي/ الفكري الثقافي، على السياسي. كان الإنتاج المعرفي والفكري والثقافي، هاجسه، حتى وهو يشتغل بالسياسة في المرحلة الإمامية، كان السياسي تابع للمعرفي وللفكري، منذ كتابه " الأنة الأولى", وحتى كتابه" اليمن المنكوبة المنهوبة", الذي لم يكتب أسمه على غلافه حتى اليوم،" وحتى بعد فشل انقلاب،١٩٤٨م، لم يتخل عن المعرفي/ الفكري، وهو الذي بدأ حياته مرتبطاً ومتوحداً بالكتاب والمدرسة وبالتعليم.
الأستاذ أحمد النعمان، في مسيرته الذاتية النضالية وسيرته المعرفية والفكرية والثقافية على مستوى الكتابة، هو من علّمنا وتعلّمنا منه نحن تلاميذه الصغار، أن الصراعات المادية/السياسية في حياة الناس/المجتمعات، إنما يحكمها: قضية الحرية، وقضية العدل الاجتماعي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حسب الخطاب الأيديولوجي/الفقهي الإسلامي، بل والقرآني، وهي التي تقود في فهمنا المعاصر إلى المسألة الجوهرية في رؤيته/تفكيره، وهي قضية "المواطنة" المتساوية.. محاولة لإخراج/ تحرير الرعوي المسكين في مناطق اليمن المختلفة من قهريته ومظلوميته التاريخية.
وهو الذي كان – أي النعمان – يعمل ويفكر طيلة رحلته المعرفية والكفاحية والسياسية، لإعادة صياغة ونقض الجدل المغلوط بين الرعوي والفلاح المسكين، وبين العسكري "العكفي"، وأن مشكلته ليست مع العسكري "الجاهل"، بل مع الإمام، ومع منظومة الحكم الإمامية التي جعلت من العسكري أداة قهر وقمع، تتجول في جميع مناطق البلاد. وهي الخلفية التي هندست وشكلت البدايات الأولى المبكرة لنشأة وقيام "حركة الأحرار"، أي أن الاختلاف والصراع بين طائفة اليمنيين أنفسهم كان حول قضية العدل الاجتماعي والحرية المختصرة في فكره وتفكيره برفع الظلم الاجتماعي والاقتصادي، أي، بالمساواة.
وكتيّبه السياسي والاجتماعي المبكر "الأنّة الأولى"، 1937م/ أو 1938م، يقول ويؤكد ضمناً هذا المعنى.
ومعلوم – في حينه – أنه حين وجدت وتشكلت حركة الأحرار لم يكن من وجود للأتراك، ولا للمصريين، فقط الاستعمار في جنوب البلاد، والإمامة الجامدة والراكدة في التاريخ في شماله. والعدوان / الأطماع السعودية التي تحيط بنا من جميع جهات السياسة، والجغرافيا.
مقاومة الاستعمار قضية وطنية مشتركة بين كل اليمنيين، وهي القضية التي تبلورت وتشكلت في خطاب الحركة الطلابية اليمنية في القاهرة، وكذا في سياق العملية الإصلاحية والثورية التحررية في الجنوب، وفي مقاومة الاستبداد الإمامي في شمال اليمن، الذي حملت رأيته حركة الأحرار.
فالناس يختلفون ويتوحدون على قاعدة المصالح والحقوق باتجاه مساحة أوسع من الحريات، ومن العدل الاجتماعي، ليس فحسب على قاعدة "العدل أساس الملك" العربية الإسلامية، بل على قاعدة: "الحرية والعدل هما أساس الملك"، وهي الفكرة والقضية الأزلية التاريخية في تحديد واقع واتجاهات الصراع بين الناس في أي مجتمع كان.
وهو ما تقوله – إلى حد بعيد – العديد من كتابات وسيرة المفكر الأستاذ/ أحمد محمد نعمان.. النعمان المنوّر والرائد في التعليم وفي السياسة، من لحظة مدرسة ذبحان حتى إغلاقها، إلى قراره بالسفر إلى زبيد أولاً، ثم بعد ذلك إلى مصر ثانياً، وهي الرحلة التي من خلالها رأى العالم الآخر خارج "مملكة الظلام" الإمامية.
إن حديث أحمد النعمان السياسي عن المعارضين له، أي لا تجاهه السياسي، في صورة السلال ورفاقه، بمصطلح أنهم العملاء، والمتأثرين بالخارج، إنما يكشف عن حدة الخطاب السياسي، وانفعاليته، ومدى تغليب الذاتي على الموضوعي والواقعي/التاريخي، وهي – في حينها – لحظة قد نجدها حاضرة وفاعلة وبقوة عند جميع الأطراف ـ بدرجات متفاوتة ـ في غمرة الصراع وعنفه وحدته، في بعده الذاتي.
وهنا نرى ونقرأ ظلم المذكرات/السيرة المسجلة لصاحب السيرة نفسه. (1)
يكتب الأستاذ/ النعمان عن أحداث 23/24 أغسطس 1968م النص السياسي التالي:
"لما رأى هؤلاء أن الإرياني والقيادة بدأت ترجع إلى طريق العقل وتدعو الملكيين اليمنيين لأن يعودوا إلى بلادهم لأن الوطن مشترك للجميع، ثار أولئك المتأثرون بالنفوذ الخارجي – يقصد السلال وجماعته، بمن فيهم القوى العسكرية الحديثة – الباحث – وقالوا إن الجمهورية ستُباع للملكيين، وكأن الجمهورية سلعة في نظرهم وليست نظاماً، لأنهم لا يفقهون. الجمهورية عبارة عن كنز أو ثروة تُسلَّم للأجنبي. حملهم هذا لأن يوجّهوا كل أسلحتهم من الصواريخ والمدفعية والمظلات والصاعقة ليدمروا صنعاء – وهو ذات خطاب ورأي القاضي عبدالرحمن الإرياني – الباحث – وكان هذا في 23 أغسطس 1968م، ليضربوا القصر الجمهوري – والكلام ما يزال للأستاذ النعمان – الذي يعمل منه القاضي عبدالرحمن الإرياني، والعمري، وكل الأشخاص الذين بدأوا يتراجعون، ويرون أن استرجاع اليمنيين اليوم إلى وطنهم أصبح أمراً لا مناص منه، وأنه لا فرق بين الملكي والجمهوري. كلهم يمنيون. فأنذر هؤلاء بوقف الهجمات، فلم يقبلوا، أُرسلت القيادة إلى القبائل، والقبائل هي القوة الضاربة في اليمن، والتي لا تزال على خطتها. – يقصد النهب والفيد للمدن – الباحث – ودخلت القبائل إلى صنعاء وأطبقت على هذه الأسلحة: الصاعقة، والمظلات، والمدفعية، والمشاة، على أربعة أسلحة، ودمرت قواعدهم ومدارسهم، واستولت عليها، وسيطرت على الموقف، ونفوا هؤلاء إلى الخارج". (2)
أمام هذا الاستطراد في النص السياسي السالف البعيد عن الرؤية المعرفية/ الفكرية النعمانية المتبصّرة المتأنية.. النص الذي – في تقديري – لا يشبه روح النعمان ولا فكره في شيء، والسبب هو أننا أمام مقابلة/ مذكرات/ سيرة "موجّهة" ومشحونة بالتداعيات السياسية والنفسية والعصبية... سيرة/ مقابلة، قالت في بعض المواضع كل شيء دفعة واحدة، ومن وجهة نظر منحازة سياسيًا حدّ التشدد، مع طرف ضد آخر.
والأهم، هنا أننا، ونحن نقرأ ونبحث، لم نجد النعمان الذي عرفناه وتربّينا على أدبياته/ أقواله. غابت في هذه اللحظة تحديدًا صورة الرائد التنويري في الفكر والسياسة، وفي التعليم، حيث وجدنا أنفسنا أمام قائد سياسي – كما سبقت الإشارة – في مواجهة سياسية حادة ومباشرة مع خصوم سياسيين آخرين، في حالة صراع مشتبك ومحتدم بأقصى ما يكون الكلام.
إن أسئلة المحاور "الموجهة"، لها دور توجيهي غير مباشر في صناعة وإخراج تلك الإجابات في تركيزها على السياسي، وإغفال أو إهمال البعد الحياتي والإنساني في حياة النعمان، وهو ما سبق أن أشرنا إليه في الفقرة/ الحلقة الأولى.
فالأستاذ/ أحمد النعمان، في الفقرة التي تم إيرادها – وليست مفصولة عن سياقها – أي في حديثه عن أحداث 23/24 أغسطس 1968م، نجده في المذكرات/ السيرة ينحاز لطرف سياسي – وهذا حقه المطلق – في حينه، ولكن ليس في مذكرات/ سيرة ذاتية.
والسبب، في تقديري، إلى جانب ما سبق ذكره، أنها سيرة/ مسجلة بالصوت، سُجلت والأحداث ما تزال حيّة وطريّة وحاضرة بقوة في الواقع السياسي الصراعي عند وبين الجميع. فقد رأينا قوة ذلك الانحياز، أي الانحياز للواقع السياسي في راهنيته، وفي غطائه القبلي، المعادي لفكرة وقضية بناء الدولة الحديثة، حلمه المنشود الذي نادى – النعمان – وطالب به منذ بداية رحلته النضالية، بضرورة تغليب الدولة على القبيلة، أي القبيلة كبنية اجتماعية سياسية، وليس كأفراد.
وهو الذي رفض في 1959م، الانصياع والمهادنة، حتى مع ضغوط محبيه وأصدقائه الخلّص المقربين (الزبيري)، وتلاميذه (محسن العيني، الرعدي)، في الانحياز لصالح القبيلة/ خولان ضد التعليم والمدرسة. ووقف بإصرار عنيد لا مثيل له، وحيدًا ومنفردًا كالسيف، ضد أن يتبنى مشروع "انتفاضة خولان"، لشراء السلاح، على حساب المدرسة "كلية بلقيس".
هذا هو النعمان، كما علّمني والدي محبته منذ طفولتي المبكرة، وكما تربينا – لاحقًا – على أدبياته، ناهيك عن سلوكه النظيف اجتماعيًا وأخلاقيًا ووطنيًا.
كان أبدًا مع الحق في الاختلاف فيما بين التلميذ والأستاذ في مجرى فهم الصراع السياسي في اليمن، خاصة خلال سنوات 1962–1967م، بل وما قبل ذلك بكثير.
فهو – الأستاذ – كما لاحظتم، وجد نفسه في المقابلة/السيرة/المسجلة، والأسئلة "الموجهة" ينحاز في هذا الموقف السياسي مع القبيلة، تحت ضغط التداعيات الصراعية السياسية اليومية – في حينه – في ضربها للتشكيلات/القوى الاجتماعية، والعسكرية الجمهورية الحديثة: الصاعقة، المظلات، المدفعية، المشاة. وهو العالم، والدارس للتاريخ، والفاهم بعمق لتاريخ نهب القبائل لصنعاء وجميع المدن اليمنية، من المناطق الجنوبية حتى المناطق الشمالية.
وهو تاريخ يُذكِّر بأمر الإمام/الأئمة بنهب صنعاء في التاريخ، وتحديدًا في التاريخ القريب، 1948م وفي عام 1955م، وكأن طرف 5 نوفمبر 1967م هو الوريث الشرعي للإمامة.
ولذلك جاءت حركة 5 نوفمبر 1967م لتسير على نهج الأئمة في ضرب ونهب صنعاء، ولكن هذه المرة، نهب صنعاء السياسية والعسكرية الجمهورية بتشكيلاتها وقواتها الحديثة.
خاصة وأن نص الاستاذ/ النعمان جاء ليقول:
"أرسلت القيادة إلى القبائل، والقبائل هي القوة الضاربة في اليمن ولا تزال على خطتها. ودخلت القبائل إلى صنعاء وأطبقت على هذه الأسلحة: الصاعقة والمظلات...إلخ".
وقبلها في 20 مارس 1968م، أطباقها – القبائل – على القوى الحديثة، وضربهم لمقر "المقاومة الشعبية" في مدينة الحُديدة، بهدف الاستيلاء على صفقة الأسلحة السوفيتية في ميناء الحديدة، التي كان مهندسها: الفريق، حسن العمري، والشيخ سنان أبو لحوم. في رفضهما تسليم صفقة السلاح للقوات المسلحة (الجيش)، بل للقبائل وهو ما كان.
وهنا نقرأ مفارقة النعمان لروحه، ولتاريخه المعرفي، والفكري، والثقافي : غلبة السياسي على المعرفي والفكري والثقافي.
أحمد النعمان بين لحظتين تاريخيتين: الوقوف ضد الجميع في محاولة إرغامه للاصطفاف مع القبيلة ضد المدرسة والتعليم (كلية بلقيس)، وبين انحيازه – في شرط سياسي آخر – في السيرة المسجلة والموجهة، في الموافقة الضمنية على تصفية خصومه السياسيين، ولكن هذه المرة بالاصطفاف مع القبيلة، والضباط المشائخ، والقوى التقليدية، ضد نواة التشكيلات العسكرية الجمهورية الأولى للجيش الوطني، على كل أخطاء ونواقص فكر وممارسات شباب الثورة، قليلي الخبرة والتجربة والمعرفة.
وكانت نقطة البداية السياسية في الاصطفاف مع مؤتمر "الطائف" 1965م، المؤتمر الذي أشرف عليه الملك فيصل، وعُقد في أرضه وتحت رعايته، وهي الدولة المعتدية على ثورة 26 سبتمبر 1962م، وهي التي مهّدت وعبّدت الأرض لأحداث 23/24 أغسطس 1968م، في تصفية أبطال الحصار في قلب مدينة صنعاء، وصولًا إلى قتل بعضهم وسحل بعضهم الآخر في الشوارع، كما حدث مع:
عبدالرقيب عبدالوهاب، محمد مهيوب الوحش، محمد صالح فرحان، وسجن وتشريد من تبقّى منهم في أصقاع الأرض في الداخل والخارج، وبالمقابل فتح صنعاء والسلطة للعائدين من الملكيين/الإماميين. هذا حقيقة ما تم.
أما رأي الأستاذ/ أحمد النعمان في المذكرات/المقابلة حول هذه القضية فهو كالتالي:
"في هذا الوقت من أغسطس سنة 1968م، بدأت الأمور تنجلي في اليمن وتنفتح انفتاحاً آخر. وبدأت الدعوة تعتمد على اليمنيين أولاً وقبل كل شيء، فأقبل الملكيون الذين كانوا لاجئين في السعودية والذين كانوا في الكهوف والجبال، وبدأوا يتوافدون إلى صنعاء، ومنهم قادة كانوا يقاتلون قتالاً مريراً ضد إخوانهم الجمهوريين أيام وجود المصريين."(3)
ـ لاحظوا أيام وجود المصريين ـ وليس أيام دفاع الجيش المصري عن ثورة 26 سبتمبر 1962م، ودفاعه ودعمه للثورة في جنوب اليمن.
وما زلت – شخصيًا – حتى اللحظة أتذكر صورة قاسم منصر، الملكي العائد كفاتح، - وغيره كثر - واستقباله الرسمي في ساحة بلدية مدينة الحديدة، قريبًا من "دار البوني"/ القصر الجمهوري، ضمن حفل تنصيب لقدوم الأئمة الجدد إلى قلب القيادة الجمهورية. وهي لحظة سياسية ونفسية تمثل قمة التراجو-كوميديا في السياسة اليمنية المعاصرة، من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، وتصفية القوى العسكرية والسياسية الحديثة في أحداث 23/24 أغسطس 1968م.
وإشارة الأستاذ النعمان السالفة – وغيرها – حول أن الإماميين/الملكيين، طبعًا عبر الدعم السعودي، إنما كانوا يقاتلون ويدافعون عن اليمن من سيطرة وتحكم المصريين. مع أن ذلك هو منطق تفكيرهم في تحويل السلاح إلى تجارة، وهي قضيتهم الخاصة والعامة، كمرتزقة ضد ثورة شعب أراد التحرر من استبداد إمامي "قروسطي", لا مثيل له في التاريخ السياسي العالمي.
هم، حقيقة، قوى اجتماعية وسياسية صورة للماضي الكالح، كانت تدافع عن الإمامة، وفي محاولة مستميتة لاستعادتها بدعم سعودي واستعماري. هم فقط، حسب رأي الأستاذ النعمان في المقابلة/السيرة المسجلة، "كانوا ضد إخوانهم الجمهوريين أيام الوجود المصري"!!
والذي يظهر من النص، وكأن المصريين هم المحتلين، وأن لا مشكلة في العدوان الخارجي على الثورة والجمهورية، بل المشكلة تكمن في الوجود المصري، الذي تواجد في اليمن ليس محبة في اليمن، ودفاعاً عن اليمنيين، بل لينطلق من اليمن ضد السعودية!!
إن أساس وخلفية هذا المنطق من الرؤية والتفكير، إنما يعود جزء منه إلى الصدمة السياسية، والمرارة النفسية من تجربة السجن الحربي، وإلى أخطاء البيروقراطية السياسية والعسكرية المصرية في إدارة الصراع في اليمن، ومحاولة احتكارهم للقرار السياسي الوطني اليمني.
فضلًا عن أخطاء القادة السياسيين اليمنيين، وتغليبهم تعارضاتهم الذاتية على التناقض الرئيس مع الإمامة والسعودية والاستعمار، وهو ما ساهم في تشويش الرؤية في عقولهم/تفكيرهم تجاه واقع وحقيقة الصراع وتعقيداته، تم فيها تغليب الذاتي على الموضوعي والواقعي .. تغليب السياسي، على المعرفي/ الفكري، عنوانها الخفي: الصراع على السلطة.
وليس حالة "ازدواجية السلطة"، التي استمرت قائمة من 1963 إلى 1968م، سوى أبرز العناوين لذلك الصراع، الذي لم يتم حسمه نهائيًا إلا بعد أحداث 23/24 أغسطس 1968م، تنفيذا للرغبة السعودية.
ولذلك، كان رأي الأستاذ النعمان أن المشكلة هي بين المصريين والسعوديين!! ولذلك يقول في مذكراته المسجلة:
"كنا نقول للآخرين إن أساس الخلاف هو بين مصر والسعودية، وليس بين اليمن والسعودية. ولم يكن دخول مصر إلى اليمن إلا لكي تتخذ من اليمن خطوة إلى السعودية. ولم يكن عملها في اليمن لوجه الله، ولا لوجه اليمن."(4)
المفارقة هنا أن مقاربة وشرح الأستاذ النعمان منحازة مسبقًا لطرف سياسي ضد آخر، وهذا حقه السياسي – كما سبق أن أشرنا – حيث تم اختصار واختزال كل الصراع والحرب والعدوان على ثورة اليمن، في الوجود المصري السياسي والعسكري.
بدت وظهرت المقابلة/المذكرات المسجلة، وكأنها تتبنى بالكامل رؤية وموقف الطرف الآخر/الملكي السعودي.
وفي الخطاب، كما هو واضح، ترحيب معلن باستقبال عودة الملكيين إلى قمة السلطة في صنعاء، لأنه لا فرق بين الجمهوري، والملكي، وجميعهم، يمنيون، حسب رأي الأستاذ أحمد النعمان، مع تجاهل قتل ونفي وتشريد أبطال الحصار بالمقابل، وذلك في قوله:
"ففي اليمن ينفتح الأخ على أخيه الذي كان يطلق عليه الرصاص ويصوب عليه الرشاشات، ليدخل ويقاسمه في كل شيء، في أرضه وفي السلطة وفي أي مكان. وبدأت هذه الروح تطغى في اليمن، وإذا بهم يعيدون لنا اعتبارنا، ويبحثون إعادة الجواز الدبلوماسي الذي كان سحب عندما كان البيضاني هنا (سفيرنا في لبنان).
علمًا أن من سحب الجنسية والجواز عن الأستاذ النعمان – كما سبقت الإشارة – هي سلطة وحكومة الإرياني، ولا علاقة للسفير بالأمر إلا من حيث تنفيذ القرار السياسي الذي اتخذ في ظل سلطة 5 نوفمبر 1967م."(5)
هذا هو الوجه الأول من الصورة الذي أشار إليه الأستاذ أحمد محمد نعمان، ولكنه لم يشر إلى الوجه الثاني/الآخر من الصورة. وهو أن قادة وأبطال الانتصار في إسقاط الحصار في السبعين يومًا، قد تم تصفيتهم وإزاحتهم في أحداث 23/24 أغسطس 1968م، وما بعدها، من قبل زعماء 5 نوفمبر 1967م، الذين قاموا بقتل أبطال الحصار في قلب صنعاء، وسجنوهم وشردوهم وأخرجوهم من صنعاء، التي دافعوا عنها ضد الملكيين والسعوديين، بالتعاون مع جحافل القبائل التي أطبقت على صنعاء من جميع الجهات، ليعود إليها الملكيون فاتحين بأمر سعودي.
ألم يكن النقيب عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان، رئيس أركان حرب الجيش اليمني فترة الحصار، هو رمز وبطل الحصار الأول دون منازع؟ (سُحل في شوارع صنعاء). وعلى مثنى جبران (سجن سبع سنوات – قائد المدفعية – وأطلق سراحه في فترة الحمدي، ثم أُعيد اعتقاله وما يزال مخفيًا قسريًا حتى اللحظة). وحمود ناجي سعيد (قائد المظلات – شُرد). ومحمد صالح فرحان (قائد المشاة – قُتل). ومحمد مهيوب الوحش (أحد أبطال الحصار – قُتل). والنقيب طه فوزي، أحد أبطال ورموز الحصار، الذي تم سجنه في القلعة لأكثر من ست سنوات، ثم أطلق سراحه، وأعيد اعتقاله. في يوم عرسه، وقتل، أو ما يزال مخفياً قسرياً حتى اللحظة. وجار الله عمر (أحد أبطال الحصار – سُجن). فضلًا عن سجن وتشريد المئات، وتسريح من تبقى منهم من الجيش والشرطة والأمن.
ألم يكن هؤلاء كذلك يمنيين أصلاء حسب تعبير وخطاب الأستاذ أحمد محمد نعمان، ومتمسكين ومتوحدين حول الهوية اليمنية؟
والسؤال الصعب على النفس والعقل: كيف يعود الإمامي/الملكي المحارب ضد الجمهورية طيلة سنوات 1962–1969م كفاتح، وإلى قمة السلطة، ويُخرج من البلاد – وليس فقط من السلطة – من دافع عنها طيلة هذه السنوات؟!!
وما يجب التأكيد عليه هنا، من أنه ليس هناك أي مجال للمقارنة بين دور مصر عبد الناصر، الداعم للثورة في اليمن، على كل خطايا الوجود المصري، وبين دور السعودية السياسي والعسكري العدواني في حربها على اليمن:
مصر: سند استراتيجي/ قومي، وداعم بالدم، (شهداء مصر في اليمن دفاعاً عن ثورة سبتمبر، يصل لعشرات الآلاف من الجنود والضباط)، فضلًا عن مساهمة مصر في بناء بعض المؤسسات الجمهورية الحديثة، وفي التعليم، وبناء المدارس، وحتى بالمال، كما تشير إليه العديد من الوثائق في دفع مرتبات الموظفين في بعض المراحل، وفي الدعم الاقتصادي المباشر في فترة من الفترات، وإن بشكل محدود.
السعودية: هي من كانت تقف محاربة بتوحش على الطرف النقيض.
وكلنا ما يزال يتذكر الطيارين السعوديين، والأردنيين، الذين فروا بطائراتهم، وسلموا أنفسهم وطائراتهم للسلطة الجمهورية في صنعاء، وللدولة المصرية، رافضين المشاركة في الحرب العدوانية على ثورة 26 سبتمبر 1962م.
مصر، حتى بعد انسحابها من اليمن بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967م، لم تُشكّل خطرًا على ثورة 26 سبتمبر 1962م، كما كان الحال مع السعودية، ومصر هي من "أرسلت كميات من الذخائر والمواد التموينية عن طريق الحديدة"(6)، للمساهمة في فك حصار صنعاء، في الوقت الذي كانت فيه السعودية هي من تدعم وتموّل الحصار على صنعاء، وتتدخل ضداً على إرادة الشعب اليمني في التغيير، وتُسقِط قذائفها وصواريخها على أحياء صنعاء .. فكيف نقول إن الصراع كان بين مصر والسعودية وليس بين السعودية واليمن!!؟
ولا تفسير لذلك، سوى غلبة السياسي، على المعرفي والفكري، والواقعي/التاريخي.
الهوامش: ١ـ يمكنكم العودة إلى كتاب مذكرات أحمد محمد نعمان (سيرة حياته الثقافية والسياسية)، مراجعة وتحرير: د. علي محمد زيد، تقديم: فرانسوا بورغا، نادية ماريا الشيخ، ط(1)، 2003م، مكتبة مدبولي، ص127 ٢ـ مذكرات أحمد محمد نعمان، نفس المصدر، ص: 127–128. ٣ـ مذكرات أحمد محمد نعمان، نفس المصدر، ص: 128. ٤ـ مذكرات أحمد محمد نعمان، نفس المصدر، ص: 74. ٥ـ مذكرات أحمد محمد نعمان، نفس المصدر، ص: 128. ٦ـ جار الله عمر: (مذكرات جار الله عمر، الصراع على السلطة والثروة في اليمن)، حاورته: ليزا ودين، حرره وقدّم له: فواز طرابلسي، ط(1)، 2020م، الناشر: دار المدى، ص46
#قادري_أحمد_حيدر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأستاذ محمد احمد نعمان بين المقابلة ولمذكرات والسيرة 1-4
-
الأستاذ أحمد محمد نعمان سيرة عطرة لم تكتب 1-4
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 3-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن في الممارسة السياسية 2-3
-
ناجي العلي، الوطن والفن
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 2-2
-
الشرعية المتوهمة والشرعية الحقيقية 1-2
-
سوريا بين النظام العائلي الاستبدادي والمستقبل المحهول الخلقة
...
-
سوريا بين الاستبداد الأسدي العائلي وسوريا المستقبل المحهول
-
مصطلحا اليمين واليسار في تجربة الحزب في جنوب اليمن 2-2
-
اليمين واليسار في الحزب في تجربة جنوب اليمن
-
المقاومة الفلسطينية في الواقع والخطاب الاستعماري 2-2
-
المقاومة الفلسطينية في الواقع وفي الخطاب الإستشراقي 1-2
-
المقاومة الفلسطينية بين الببطولة والنقد الخائن 3-3 الحلقة ال
...
-
المقاومة الفلسطينية بين البطولة والنقد الخائن 1, 2 من 3
-
محمد المساح إنسان فوق العادة
-
الثورتان اليمنيتان سبتمبر وأكتوبر الحلقة الثانية 2-2
-
جدلية السياسي والتاريخي في الثورة اليمنية 1-2
-
اليمن التاريخ والهوية الحلقة الأخيرة 4-4
-
لمناسبة 8 مارس اليوم العالمي للمرأة الحلقة الأولى 1 -2
المزيد.....
-
ترامب يوضح ما قام به مبعوثه ويتكوف خلال زيارته إلى غزة
-
الكونغو ورواندا تتحركان لتنفيذ اتفاق السلام رغم تعثر الالتزا
...
-
ثروات تتبخّر بتغريدة نرجسية.. كيف تخدعنا الأسواق؟
-
الإمارات والأردن تقودان عملية إسقاط جوي للمساعدات إلى غزة
-
هيئة الإذاعة العامة الأميركية على بعد خطوات من الإغلاق
-
لأول مرة.. وضع رئيس كولومبي سابق تحت الإقامة الجبرية
-
تحقيق بأحداث السويداء.. اختبار جديّة أم التفاف على المطالب؟
...
-
سقوط قتلى في إطلاق نار داخل حانة بمونتانا الأميركية
-
بوتين يعلن دخول الصاروخ الروسي -أوريشنيك- الأسرع من الصوت ال
...
-
تسبب بإغلاق الأجواء وتفعيل صافرات الإنذار.. إسرائيل تعلن اعت
...
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|