مصعب فريد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1818 - 2007 / 2 / 6 - 11:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
-لابد أن أحصل عليه إذا حدث ( المتوقع )، إن له قيمة رمزية عندي.
تفهم أخاه الطبيب, حالتي العاطفية والنفسية ووعدني خيرا,لأن قراره الطبي حاسم , وهو أحد المشاركين في العملية , و لأنه أيضا كان يعرف عمق الصداقة بيني وبين أخيه .
لا يوجد أي معنى للكون عند صديقي هذا , دون الشعر والكحول, كان يكتب الشعر بكبده لا بشيء آخر ( القصائد منقوشة هنا , هنا اللوح المحفوظ) ويشير إلى كبده ،ونحن أصدقائه , كنا لا ندري هل نتعامل معه كشاعر أم كسكير –(لا فرق ) كان يجيب , ويضيف -وبالسُكْر تدوم النعم وبالشعر يدوم الله , لا العقل ولا القلب من يأتي بالسعادة , إنه الكبد, طالما كبدي بخير أنا بخير, اللهم أعطنا خمرنا كفاف كبدنا .
كان أشيب الشَعر, فأقول له – ابيضَّ شَعرك من العرق , لقد سرق منه كل اليانسون.
لن أنسى أبدا ذات مرة حين عزمته لنشرب في بيتي , بعد أن عرفت أنه لم يأخذ جرعته الكحولية لذلك اليوم, جلسنا في الصالون وذهبت لآتي له بالذي يحبه , قال لي وقتها :
- انظر كل خلايا جسدي تتفتح الآن استعدادا للعرق , مجروري ( بلعومي) انفتح على آخره .
عدت ومعي زجاجة العرق, وضعتها على الطاولة وذهبت لآتي بالماء , لم ينتظر الماء , أمسك الزجاجة ودلق منها كمية كبيرة في فمه, وفجأة جحظت عيناه وانتفخت أوداجه وتقلصت رقبته , وتقيئ كل ما في جوفه, شاتما كل سلالتي حتى بعد أن أقسمت له أغلظ الأيمان أنني لم أكن أعلم أن ما في الزجاجة هو ماء .
- لا بد أن أمي قد استبدلت العرق بالماء حتى لا أكثر الشراب.
لم يتقيأ مرة من العرق ولكنه الآن يتقيأ من الماء .
( شريكاً أخيرا لخمرٍ... يشد على هيكل الروح جلد السماء ... ويقرع بالوجد طبل الهباء ... صراخاً يقلِّب مملكة الصمت .... للميتين ... )1 .
إنها نيرفانا الكحول إذاً ، كان شاعر تفعيلة ولكنه لا يقرأ إلا لشعراء قصيدة النثر , و يعترف أن مستقبل الشعر هو لصالح قصيدة النثر - ولكنني لن أكتب إلا تفعيلة .
ويفلسف المسألة : الوجود ألم , والشعر تعبير عن هذا الألم , وهذا يناسبه التفعيلة ، لأن فيه غنائية ما ، الآه تفعيلة يا رجل!!, البكاء, تستطيع أن تقطِّعه عروضياً وتجد له تفعيلته ,أما قصيدة النثر فهي تلبي حاجة الإنسان للحرية , وأنا أحتاج للبكاء في حضن الله أكثر من حاجتي للحرية في حديقته الخلفية , يا أخي أنا أحب أن أغني قصيدتي بفمي وجسدي وكبدي .
(بحظوة جيفة عند الكلاب ..تحل ذاكرة الشعراء..على جهات أربع موصودة .. بدم المحب .. وليس في التذكار من متملق كفء...سوى هذا البكاء..) فأمازحه -لا تفعيلي ببكيلك . و أضيف - هل ستقنعني أنك لا تستطيع التألم نثرا .
- كلا لا أستطيع , ولكن انظر, مقياس أي شعر في أي شكل , هو ترجمته إلى لغة أخرى , حيث لا تبقى غنائية ولا تفعيلة , وعندها لا ينجد القصيدة إلا شعريتها .
( عكر الضوء يخمش عيني وما من سواد.. يرد إليّ عمائي ...ولون دمي ...)
كان يأسف لحالة الشعر الآن ولِما وصل إليه.
- أعتب على قصيدة النثر بأنها سمحت لمن هب ودب أن يستغلها , وهي تعطي بطاقة اعتمادها لأي راغب ، ولكن هل يستخدم هذا الراغب هذه البطاقة , بشكل شريف ؟ لقد ولد باسمها مسوخ شعراء لا يمتون للشعرية بصلة . يا رجل ! مدينة كاللاذقية , فيها اليوم من هؤلاء الشعراء , أكثر مما أعطته الأمة الفرنسية عبر كل تاريخها .
(عاريا بين خاتمتين من الموت والشك )
كلما افتقدته , كنت أذهب لأراه منزويا في زاويته المعتادة على شاطئ البحر , ممعنا روحه فيه ، متأبطا زجاجة العرق , التي خلط محتواها بماء البحر معبرا عن ذلك - منه ماء ومنه موالح , و العرق هو الوحيد الذي( يمون ) على البحر ويجعلك تشربه بسلاسة .
(..البحر مفتاح لأسرى البر الجبان ...والبحر دالية توزع فيئها على حر الظلال .. البحر لي كمناخ عينيها ..سيحميني من الزيف القريب..)
( البحر زوادة عاشق ..البحر أرجاء تقسمها العيون ..لكَ الخضوع لكَ الخشوع أيها المتكتم ..المنذور للفقراء والأرزاء في يوم احتراق ..).
لم يدّعي يوما انه شاعر .
-أنا أحاول أن أكتب شعرا , ولكني لست بشاعر, من يستطيع أن يدّعي الشعر بعد قراءة سان جون بيرس وإيف بنفوا , لن أنشر شعري إن لم اكتب بسوية هذين الشاعرين .
كان يفاجئنا بآرائه ومواقفه الأخرى في الحياة , مرة و في أحد النقاشات , كان معنا طبيب نسائية , وكان يوجد أشخاص آخرين , كنا منهمكين بالمرح والأسئلة الأكثر حميمية عن المرأة, وكان أحد الأسئلة عن التكلفة المادية لعملية (ترقيع ) غشاء البكارة في حال اخطأ أحدنا مع فتاة ما وفض غشائها ,أجاب الطبيب - لكم , يا ملاعين , بثلاثة ألاف ليرة فقط , وتعود الفتاة عذراء , لا تخافوا , أخطِئوا وأنا أصلح وراءكم , افتحوا وانكحوا ما شئتم وأنا أخيط وراءكم . وقتها كان لا يزال خاطبا , أخذ نفس عميق من سيجارته , وسأل الطبيب - طيب , هذا للترقيع , أما الفتح , كم تأخذ عليه؟ . , رد الطبيب - لم افهم , كيف الفتح ؟.
- يعني , خطيبتي عذراء ,وأنا لا أحب منظر الدم , وأفكر أن أفض بكارتها جراحيا عند زواجنا , فكم ستأخذ مني ؟. رد الطبيب بذهول - إذا كنت جادا , فأعتقد أن هذا السؤال , هو الأول من نوعه في الشرق المفتخر بفحولته , والمتغني بفض البكارات , على كلٍ , الترقيع بثلاثة آلاف , والفتح ببلاش. وقلبنا على ظهورنا من الضحك .
( .. قادما من مسائي ... أفض بكارة حزني ... بمملكتين من النور و العتم ...)
كان مرفأ للنساء , ولا يمكن لأي امرأة أن تتحمله أكثر من مسافة قصيدة , ما إن تفرغ حمولتها من الأنوثة , ويشحنها بالشعر , حتى كانت تغادره دون رجعة , ودون أن تقدر على نسيانه . كانت المرأة تمل من ملله منها .
( وأي كلام خلقتِ بصمتكِ...حتى يفرَ فمي نحو صمتي ..أريدكِ حد البداية في سكرتي ... فأنا لا أحبذ في الأنبياء .. سوى البدء بالدعوة ..)
( في القلب متسعٌ لألف تكلسٍ ..والحبُ هو الحبُ ... زنبقة تغازل نحلها ) .
(تعِبا يجيء الحلم متكئا على عينيكِ ... كأنكِ المطرُ الذي يُتلى على حَردِ الخريفِ ..) .
في غرفته الفوضوية , كانت الرطوبة والعفن, وتفسخ الدهان على جدرانها , قد خلق تشكيلات عديدة ومتنوعة ، اختارَ أحد هذه التشكيلات العشوائية , ورسم إطارا حولها ولوّن بالأزرق خطا مائلا يقسم منطقتين رماديتين ،(ما هذا ) ( هذا أنا تشكيليا) .
( أنا مصحف فوق رمح الهزيمة ... أعلن توبة قلبي عن النبض ... واحسرتي أن تموتوا بعيدا .. وليس هناك عليٌّ جديدٌ يصدقني ..)
فشلت العملية كما توقع هو نفسه قبل إجرائها, ومات (يستحيل أن أسكر بكبد ليس لي ) مات بين ذراعي أخيه الطبيب . اتصل أخوه بي , لأستلم ما طلبته منه .
قال لي قبل توجهه للعملية (يا شبيه اليقين ...ولستُ سواك ..لتعرف من أنت..) ( دافعوا عن أحباء لكم ... عن رموشٍ معلقة فوق حبل الجفاف .... وعن موسم الكفر عند القطاف ..وسنّوا عيونا لكم ..بمخارز هذا الهتاف ... وعودوا إليّ ).
التقيت زوجته كي أواسيها وأعزيها,زوجته التي لم يكتب بها حرفا واحدا, ولم يكتب حرفا بغيرها بعدما تزوجها .
كان قد قال لها قبل العملية (هيئي لي رحيلا يليق بقلبي ...فما عاد لي قدرة الحزن القديم على الموت ... إني أحسُّك فابتدعي في المقابر... وقتا ... لينهض فيَّ الزمان فأنتِ البحار التي سقطت من يدي وأنت المكان ...) اللئيم لم يقل لها شعرا إلا عند موته .
كان يقول لي عنها- ليست زوجتي من منعني من الكتابة , ولا تنطبق عليها مقولة (المرأة التي تدخل الفراش تخرج من القصيدة ) ,كلا , ولكن أنا لست بشاعر, الشاعر الحقيقي لا يتزوج , الشاعر يعشق , يجن , يحب .الشاعر الغير مسؤول عن مصيره لا يستطيع الارتباط بمصائر آخرين . أكثر شيئين تكرههما زوجتي التبغ والعرق ,هما أحب شيئين عندي ، أحبتني من أجل قصائدي ، وأحببتها لدفئها , وعندما بدأت أبحث عن الدفء, عرفت حينها أن لا فائدة شعرية ترتجى مني , ولكن زوجتي لا تزال مقتنعة أنها حصلت على الشاعر بدلا من القصيدة .... إنها مسكينة .
الشعراء لا يموتون الشعراء يغتالهم الكون , لأنهم يتعِبونه بإعادة خلقه مرة بعد مرة .
قابلت أخاه الطبيب الذي استأصل على مسؤوليته ( وتحت إلحاحي ورغبتي) جزءا من كبد أخيه الشاعر وأعطاني إياه في زجاجة مليئة بمادة حافظة , وسألني بعد أن قدمت له التعازي – ماذا ستفعل به . أجبته – سأزرعه في ذاكرتي .
أخوه الطبيب الذي كان يوبخه لكثرة سكره , فيرد عليه مداعبا – أنا أحسن منك أنا أمشي في الشارع رافعا رأسي أنا أخو الطبيب المشهور , وأنت تمشي مطأطأ الرأس لأنك أخو السكير.
أخذت الكبد , إلى قريتي ( بسنديانة ) التي ستفتخر يوما أنها تحتضن كبد هذا الشاعر , ودفنته عند جذور دالية أمام بيتي , زرعتها خصيصا لذكراه.
الآن وبعد سنوات عديدة , وبعد أن اكتمل تقمص الشاعر روح هذه الدالية التي أجلس تحتها , هاهي ستنبت موسم سكْر جديد , كان كل عنقود قصيدة ,وكل نبيذ مخيلة , نشربه موزونا ونثرا , نشربه روح الشاعر الذي لم ينشر أي قصيدة له في حياته , لتنشرها له كل موسم, هذه الدالية المكتوب عند جذورها (هنا يرقد كبد الشاعر الذي قضى عن عمر ناهز آلاف زجاجات العرق , قضاها بالسكر والشعر) .
يا صديقي يا حبيبي ( كل ما لن أراه ثانية سوف أظل أحبه إلى الأبد )2 .
1_ كل المقاطع الشعرية بين قوسين هي للشاعر المعني . 2- هذا المقطع لشاعر لا أعرف اسمه.هذه القصة مهداة إلى روح الشاعر و.م.
#مصعب_فريد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟