|
التآكل
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 1820 - 2007 / 2 / 8 - 11:48
المحور:
الادب والفن
في الخامسة مساء، تدخل البيت بوجهها الواجم. تلقي حقيبتها على طاولة المدخل، مطلقة زفيراً ممروراً. تنفرج قسماتها قليلاً لحظة هروع طفليها راكضين من الصالة نحو المدخل الضيق. وما أن ينشغلا عنها عائدين إلى متابعة برنامج الأطفال حتى يستعيد وجهها المجهد برمه الذي لا فكاك منه. لا يحرك ساكناً. يلوذ على الأريكة السوداء الوثيرة بطرف الصالة متصنعاً متابعة فلم الرسوم المتحركة، بينما حواسه منشغلة بمقدمها، الضائق من إيقاع اليوم.. اللحظة. لقد مل من استنهاض مرحه القديم، الذي كان يستمده من العشرين عاماً التي قضياها معاً في مكانهما الأول بمدينة محاطة بالصحراء وكأنها واحة حيث المشاعر تستعير وهجها من جمر الرمل، ثم رحلة العذاب في قساوة الجبل ورجال العصابات الحالمين الذين أذاقوه ويل الغيرة وهو يرصد فوران الشهوات المحتدمات في هيجان العيون المقموعة بنواميس النضال، كان يتذكر نضالها المضني من أجل مقاومة سطوع رغبة الأجساد الصلبة الطافحة بالشهوة في صمت النظرة، في نغمة النبرة المرتجفة. وكان يلزم الصمت وشبه الحياد. كان يجد لذة فريدة، أكثر عمقاً من لحظة الولوج بها والتماهي، في لحظة إفضائها له همساً وهما يتوسدان الأرض على فراش رث في غرفة طين تكمن في سفح جبل عن اكتشافها فحوى ود رفيق جعل من نفسه أكثر حرصاً من أخ قروي. لحظتها يشعر بالزهو وهو يكتشف عنف مشاعرها وشدة تشبثها به في اضطراب وضع بشري في تلك الأماكن النائية ووسط خليط غير متجانس من البشر. ملّ محاولاته البائسة بتصنع المرح والشوق لحظة رجوعها من عملها في الكومون وسؤاله البليد عن صحتها ويومها الذي صار لا يعنيه، مثلما صار حاله لا يعنيها. لم تسأله يوماً عن أحواله إلا على مضض ولضرورة تستدعيها تقاليد المجاورة، فكيف بالعيش المشترك، وطامة عذاب ليل السرير. أصابعه المخذولة، الراجفة الساهرة الحالمة المفرودة بتوجس جوار الجسد العاري تماماً والراقد لصقه، المعطية ظهرها اللدن الباعث نيران حارقة كأنه فوهة فرن خبز، والمتصنع غفوة عميقة، غير مبالية بالشوق المنبثق من أصابعه السادرة في حلمها المستحيل، والتي تنكمش مخذولة بعد جوباتها في تلك الأرجاء الأليفة التي عادت نائية في لصوقها الوثيق. ـ مرحباً. يلتفت نحوها، ترميه بتساؤل، يدرك معناه فقد كف منذ أيام عن محاولاته الليلية العقيمة في استرجاع مجد الاحتدام القديم المتلاشي في نواح لا تطالها إلا الذكرى. ماتت أصابعه. ماتت.. لحظة انبعاث سؤال بديهي عن معنى تعريها الليلي وتوضيبها السرير بحيث لا بد من ذلك الاحتكاك المدمر، احتكاك كان يفضي طوال عشرين عاماً إلى ذروة عرفها الإنسان منذ آدم، لها رواء الماء الذي لا طعم له. ـ أهلاً. يقولها بارتباك ويعود إلى تحديقته الشاردة في ألوان الشاشة المنقذة. تزفر بعنف، وتبدأ كشأن يومها في اللوم التفصيلي عن عدم ترتيب البيت، فوضاه، تعبها. يسدر بعيداً عن رتابة النق اليومي، حالماً بعالم غير هذا، بامرأة غير هذي الشاكية النادبة المكلمة حالها طوال فترة وجودها القصيرة في البيت. ينتظر بتوتر انقضاء طقوس وجودها الخاطف، المشغول بين كيل اللوم وتناول وجبة العشاء، ومهاتفة صديقتها الدانماركية، معلمة اللغة في مدارس اللاجئين. يمعن التحديق في لحظاتها المرحة تلك وهي مندمجة في حديثها. رغم عتمة غبشة المساء كان وجهها الشاحب يتضرج بحمرة حب الرمان، حمرة تحيله إلى ليل سطح بيت أهله في الحي العصري عندما صارحته هي بحبها والتقته في اليوم التالي وغابا في أتون العناق والتقبيل، وقتها كان لا يتجاوز العشرين وهي بنت الخامسة عشر، التضرج الآسر الذي لم يره مطلقاً ما أن بلغا الدانمارك، ها هو يراه بوضوح في لحظة وجد هو خارجها تماماً. إنها تعانق سماعة الهاتف ببهجة لا شبيه لها سوى تألق ملامحها لحظة الذروة في الفراش أيام عزهِ القديم. يستعجل فروغها من طقوس ساعتي المساء. ما أن تضع سماعة الهاتف حتى يتعالى صراخها المتذمر. فيتشنج جسده في لحظة خبرها من قبل، عند اعتقاله في عتمة أقبية رطبة، وهو يتلقى السياط، رجة سلك الكهرباء. يتشنج جالداً حواسه ومتصنعاً السكينة والهدوء. ـ شبيج.. يا عزيزي شبيج. ـ ما بي شي.. سلامتك!. تقولها بسخرية، وتستدير لتصعد سلالم الدرج الخشبي المؤدية إلى غرفة النوم. تلك اللحظة.. ما أسعدها!! يطربه وقع أقدامها الصاعدة، وكأنها وقع أقدامها قبل عشرين عاماً وهي تتسلق خلسة سلالم بيت أهله لأول مرة حيث كان يأخذها إلى حضنه على الفراش الذي يعده خصيصاً لمقدمها الحلم وقتها. يتوضب ويهدأ كل شيء لحظة غيابها. يصعد مع الأطفال إلى غرفتهم، يسرد لهم قصة، ولا يكف إلى أن يسمع انتظام أنفاسهم. يتسلل في هدأة الليل منحدراً بحذر شديد في هوة السلالم، في سكون الصالة يفض كدره المقيم بطلاوة الكأس، يسفر في تعب حاله، شارداً، حالماً بغلالة سرابها القديم الذي يتراءى حيناً في الحلم، ويعري نسوة يراهن في المسابح، في المجلات، في الشواطئ، في حدائق الجيران عند الأصياف الحارة، يغور في الصمت، في التراب، في رثاثة الجسد المعذب وهو يتحول إلى ذات مفزعة من المعنى بعد الأربعين. .. وحيداً في عمق الليل يدور أقنية الستالايت، فيعثر على قناة ألمانية تعرض المباهج الرخيصة. يبدأ بالارتقاء، لينحدر بعدها إلى مسافات ذل فظيع. فيعبّ الكأس بعد الكأس، ناسياً لحظة التفريغ، ناسياً فرط الكؤوس محنة روحه اللائمة نفسها، عقب الوصول إلى الذروة، والهروع إلى مرآة المدخل الكبيرة، وصراخه المهموس، المذبوح: ـ ولك صار عمرك خمسة وأربعين سنة.. وبعدك تضرب....!! يلطم جبهته. يفزعه تشوه قسماته المتشظية بعمق المرآة. أنا ناحل وأمشي مكابر تراني وأجلد.. خاف عدواني تراني ينصت لنواح سورية حسين*. يتأرجح على حافة النحيب. يكتم نشجه المفجوع. يتشظى لاطماً قسماته، صدره، بطنه، قفا رأسه، يكلم أشباح روحه النابضة، ويعب من الخمرة عباً. تنهكه الأغاني، ينهكه النواح.. ضرب الجسد، فيخوض في يم الألم مترنحاً في مشيته نحو السلالم الخشبية خاوياً.. خاوياً مثل فراغ، يتمسك بالدرابزين الخشبي في صعوده المنهوك. يتلكأ عند باب غرفة نومهم القديمة التي صارت مثل ذكرى قديمة. يمد ذراعه البائدة. يدور أكرة الباب. فتنفسح تحت ناظريه عارية تماماً، مطلية بالنور الأحمر الخافت دانية نائية تحتل كون الفراش القديم قطعة ذكرى مرئية. يغلق الباب على كونها المتجمر قاصداً غرفة الطفلين. 3/1/ 1999 الدانمارك
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جورية الجيران
-
نخلة في غرفة
-
في ذكرى الرائي عزيز السماوي
-
موت شاعر 1 بمناسبة وفاة الشاعر الصعلوك كزار حنتوش
-
بمناسبة موت الشاعر كزار حنتوش3 موت شاعر
-
بمناسبة موت كزار حنتوش2 موت الشاعر
-
تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء
...
-
تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء
...
-
تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء
...
-
تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة- الجزء
...
-
تشوه بنية الإنسان في البيئة العربية المغلقة والقامعة
-
أزقة الروح قصة قصيرة
-
قصة قصيرة-جنية الأحلام
-
تحجر
-
العصفور
-
حصار يوسف
-
بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال عندما أدخلني
...
-
بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن
...
-
بمناسبة محاكمة صدام حسين وأعوانه بقضية الأنفال...عندما أدخلن
...
-
العمة الجميلة*
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|