صالح بوزان
الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 21:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في البداية شَكَكْتُ بمضمون هذه الدعوة، خصوصاً بعد رفض أردوغان أن يُقَدِّم أوجلان في البرلمان التركي كما طلب بخجلي، كما رفض أن يُعلِنها شخصياً في التلفزيون التركي الرسمي. بل أميل إلى الاعتقاد أن المِيت التركي أعاد صياغة الدعوة بما يتلاءم ورغبة أردوغان وبخجلي. قد يلاحظ القارئ ذلك من خلال رَكاكة تنظيم الأفكار في الدعوة، رغم أن أوجلان يكتب برصانة. ولهذه التقديرات لم أرغب في التعقيب على الدعوة عند صدورها. كنت بانتظار تسريبات قد تكشف الجوانب الخفية للدعوة. وما زاد شكوكي أكثر، ما جاء في بعض تصريحات أعضاء من قيادة حزب المساواة وديمقراطية الشعوب أن أوجلان قال مرة بأن الإعلام يُحَرِّفُ بعض أقواله.
أعتقد أن مصير هذه الدعوة سيكون الفشل لثلاثة أسباب رئيسة. السبب الأول أنها مبنية على الرغبة والبعد الذاتي فيها كبير، والثاني أن الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في تركيا ليس البيئة المناسبة لتحتضن محتوى هذه الدعوة، والثالث أن الشعب الكردي على صعيد عموم كردستان والمهجر لم يَسْتَسِغْهَا.
هناك بعض المعطيات في الدعوة تَحُوطُهَا إشكاليات في التقييم. يتحدث السيد أوجلان عن تراجع سياسة إنكار الهوية في تركيا، وأن هناك تطورات شهدتها حرية التعبير. لكن الحكومة التركية ما زالت لا تعترف بالهوية الكردية، وهي لا تستخدم مصطلح الشعب الكردي أبداً، وأوجلان أيضاً لم يستخدمه في دعوته. وبعكس ما ورد في الدعوة، يرى أغلب المهتمين بالشأن التركي أن هناك تراجعاً في حرية التعبير، ليس بالنسبة للكرد فقط، بل لعموم الشعب التركي. وهذا ما تؤكده المنظمات الحقوقية التركية والأوروبية. زد على ذلك، فإن اعتقال أعضاء حزب المساواة وديمقراطية الشعوب في العقد الأخير بلغ الآلاف، وطال الاعتقال حتى البرلمانيين ورؤساء البلديات من أعضائه، رغم أنه حزب قانوني. إضافة إلى ذلك، فأردوغان يسير باتجاه تعزيز سلطته الفردية على حساب الديمقراطية التركية الهشة أصلاً.
يتحدث السيد أوجلان أن الأتراك والكرد سعوا إلى الحفاظ على وجودهم والصمود في وجه القوى المهيمنة دون ذكر ما هي هذه القوى المهيمنة. بينما يقول التاريخ شيئاً آخر. فالأتراك جاؤوا إلى آسيا الصغرى كغزاة ومحتلين، وأقاموا دولتهم باستعباد شعوب المنطقة من الكرد والأرمن واللاز وغيرهم. ثم توسعوا باحتلال أراضي شعوب أخرى لتشكيل الإمبراطورية العثمانية. لا توجد هناك وثيقة بأن ثمة تحالفاً حدث بين السلاطين العثمانيين وممثلين عن الشعب الكردي. بعض الاتفاقيات الطارئة التي حدثت مع رؤساء القبائل الكردية كانت اتفاقيات إذعان.
لم يكن هناك رأي للكُرد في كل الحروب العثمانية الدموية. وإذا كان ما يقوله أوجلان حول تحالف تركي كردي قد حدث فعلاً بإرادة الشعبين، ففي هذه الحالة يتحمل الكرد نصيبهم من جرائم الدولة العثمانية، مثل جرائم إبادة الأرمن والسريان. يوثِّق التاريخ الكردي وقوف الكرد ضد العثمانيين طيلة ألف عام، وقاموا بعشرات الانتفاضات والثورات ضدهم. وارتكبت الدولة العثمانية بحقهم جرائم فظيعة يعرفها القاصي والداني. فمصطلح تحالف تركي كردي لا يحمل أي حقيقةٍ تاريخية.
يتحدث السيد أوجلان بأن الحداثة الرأسمالية خلال مئتي عام كان هدفها الأساسي تفكيك هذا التحالف. ونحن نعرف أن الدول الرأسمالية، ولا سيما فرنسا وبريطانيا الاستعماريتين، وقفتا ضد التوسع العثماني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كان هناك صراع بين الإمبراطوريات الثلاث: العثمانية والإنكليزية والفرنسية، حول التوسع في المستعمرات والاحتفاظ بها. لم يكن هناك أي اهتمام بريطاني أو فرنسي بالتركيبة العرقية للدولة العثمانية، سوى الاهتمام ببعض المسيحيين. عندما بدأت الدولتان البريطانية والفرنسية بإسقاط الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين، لم تلتزما بالعهود التي قدمتاها للأرمن والكرد. وبعد إسقاط الإمبراطورية العثمانية، دعمتا مصطفى كمال أتاتورك ضد اليونان وضد الطموح الكردي في الاستقلال. وطيلة القرن العشرين وحتى اليوم، تقوم الحداثة الرأسمالية بزعامة أمريكا بـتعزيز الجمهورية الأتاتوركية، وتقف ضد حقوق الشعب الكردي في كردستان تركيا.
عندما يقول السيد أوجلان بأن من الضروري إعادة تنظيم هذه العلاقة التاريخية بين الأتراك والكرد "بروح الأخوة مع مراعاة المعتقدات"، فإن هذا الاقتراح مجرد شعار عاطفي. فمصطلح "روح الأخوة" لا يحمل أي محتوى سياسي واقعي. ما المقصود بمصطلح المعتقدات؟ فالمعتقدات ليست مبادئ سياسية، وإنما هي مفاهيم لها طابع ديني، ولا علاقة لها بالمفهوم القومي والحقوق القومية. الحقوق القومية الكردية ليست معتقدات أنشأها مفكر كردي، وإنما هي حقوق واقعية تخص أي شعب من الشعوب في العالم المعاصر.
يتحدث السيد أوجلان عن الحاجة إلى مجتمع ديمقراطي في تركيا، دون أن يُعَرِّف طبيعة هذا المجتمع الديمقراطي. لماذا لم يتحدث عن نظام سياسي ديمقراطي أولاً؟ لا يمكن أن يكون هناك مجتمع ديمقراطي بدون أن تسبقه ديمقراطية سياسية. ولا يمكن إقامة مجتمع ديمقراطي بدون واقع سياسي واقتصادي يفتح الطريق له.
الديمقراطية بمفهومها الحديث هي وليدة البرجوازية الأوروبية، وكانت محصورة على طبقة الرأسماليين تماماً كما كانت ديمقراطية اليونان القديمة محصورة بـالنبلاء اليونان. نستطيع القول إن المجتمعات الغربية هي الوحيدة التي تُعدّ مجتمعات ديمقراطية بنسبة كبيرة في القرن الواحد والعشرين. ومع ذلك، لم تستطع هذه المجتمعات الديمقراطية نزع الأنياب الاستعمارية عن حكوماتها.
الديمقراطية ليست مجرد فصل السلطات وحرية الانتخابات وتبادل السلطة وحرية التعبير، بل هي قبل ذلك ثقافة وتقاليد متراكمة تحتاج إلى ما لا يقل عن جيلين تعيش في ظلها الشعوب. وهذا ما حدث للشعوب الأوروبية منذ النصف الثاني من القرن العشرين. الشعوب التركية، مثل كافة شعوب العالم الثالث، لا تملك ثقافة ديمقراطية مثل الشعب الألماني والفرنسي والإنكليزي والأمريكي. فكيف يمكن للسيد أوجلان خلق مجتمع ديمقراطي بدون مظلة سياسية ديمقراطية راسخة؟
يرى السيد أوجلان أن الحلول القائمة على النزعات القومية المتطرفة، مثل إنشاء دولة قومية منفصلة، أو فدرالية، أو حكم ذاتي، أو الحلول الثقافوية، لا تلبي متطلبات الحقوق الاجتماعية التاريخية للمجتمع. لا شك أن استخدامه لجملة "النزعات القومية المتطرفة" ليس في محلها. إنه يطلب من الشعب الكردي التخلي عن تشكيل دولة مستقلة أو فدرالية أو حتى حكم ذاتي لصالح متطلبات "الحقوق الاجتماعية التاريخية". لم يشرح لنا السيد أوجلان ما هي "متطلبات الحقوق الاجتماعية التاريخية".
يريد السيد أوجلان تجاهل الواقع التركي السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن، والانتقال مباشرة إلى ما بعد الحداثة الأوروبية الراهنة. نحن نعرف أن الكرد الذين تخلوا عن حقوقهم القومية في تركيا لا يختلف وضعهم عن وضع أي تركي. نجدهم ساسة موجودين في هرم السلطة، وأعضاء برلمان حزب أردوغان من الكرد أكثر من أعضاء برلمان حزب السلام وديمقراطية الشعوب. وهناك آلاف من الرأسماليين الكرد في تركيا أصبحوا كذلك نتيجة تخليهم عن انتمائهم القومي.
هناك مسألة أخرى غريبة في دعوة أوجلان. فلأول مرة في تاريخ الحركات الثورية المعاصرة نجد زعيم حركة ثورية، وبعد أربعين سنة من الكفاح وآلاف الشهداء وسجن دام أكثر من ربع قرن، يُسَمِّي كفاحه وكفاح حزبه بالتمرد على الدولة. وكلمة "التمرد" تعني حركة اعتباطية خالية من الفكر والمبادئ. فهل كان حزبه فعلاً حركة تمردية؟
ما دام السيد أوجلان يعتبر دعوته لعموم الكرد على الصعيد الكردستانيّ، فإنها ستصطدم بالواقع الكردي الراهن. فقادة كردستان العراق لن يتخلوا عن فدراليتهم ليندمجوا مع الدولة العراقية الطائفية والفاسدة، وقادة كرد سوريا لن يوافقوا على حل قوات سوريا الديمقراطية ليندمجوا مع ميليشيات القاعدة والجهاديين، ولن يفككوا الإدارة الذاتية لينصهروا في دولة القاعدة الطائفية لأحمد الشرع. كما أن الأحزاب الكردية في إيران، وعلى رأسها حزب PJAK، لن تترك السلاح وتحل نفسها للاندماج مع دولة الملالي الشيعية الإيرانية.
زد على ذلك أن أغلب الكرد على الصعيد الكردستاني ينظرون إلى دعوة بخجلي وأردوغان بريبة، باستثناء السيد أوجلان وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب. وقد بتنا نلاحظ في الفترة الأخيرة أن قادة هذا الحزب ما عادوا يذكرون في خطاباتهم وبياناتهم مصطلح كردستان والشعب الكردي وحقوقه. ولعل مقالة صلاح الدين دميرتاش الأخيرة تدخل ضمن هذا المسعى.
كل المعطيات بعد هذه الدعوة تشير إلى تماهي السيد أوجلان مع سياسة أردوغان الداخلية والإقليمية والدولية. فتصريحاته ضد إسرائيل، واتهامه حزب العمال الكردستاني بأنه واقع تحت سيطرة الحكومة الإيرانية، وأن حزب الاتحاد الديمقراطي وضع يده بيد إسرائيل، هي في الأصل امتداد لمسعى أردوغان لشيطنة هذين الحزبين. مع العلم أن علاقات تركيا مع إسرائيل ما زالت متينة، ولا يفكر أردوغان بتفكيكها. كما أنه في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، وقف مع إيران على الصعيد الإعلامي. فأردوغان لن يحارب إسرائيل ولا إيران، ولكنه يريد توظيف الكرد للقيام بهذه المهمة القذرة.
في ضوء ما سبق، تبدو دعوة أوجلان بعيدة عن واقع القضية الكردية وتعقيداتها الإقليمية. فهي لا تنسجم مع تطلعات الشعب الكردي ولا تأخذ بعين الاعتبار السياقات السياسية في كل جزء من كردستان. كما أن تقاطعها مع سياسات أردوغان يثير كثيرًا من التساؤلات حول استقلالية الموقف الكردي ومستقبل النضال من أجل الحقوق القومية المشروعة.
#صالح_بوزان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟