كل هذا الزلزال الذي ضرب العراق والعالم، ورج قبور موتى العصور الغاربة، وحرك مشاعر الحجر، والبقر، لدرجة أن مجانين مستشفى الشماعية خرجوا إلى الشوارع لتنظيم حركة المرور في أغرب سلوك في تاريخ الكون، ومع ذلك فإن غالبية ما يكتب هذه الأيام لا يثير شهية القرف ولا شهية النوم بل شهية الضحك.
يبدو كأننا انتقلنا من ليلة عادية إلى نهار آخر، أو خرجنا من مقهى إلى المنزل وعدنا بعد ساعات، فلا شيء مات، ولا وطن احتل، ولا سلطة سقطت، ولا ثروة نهبت، ولا كيانات جديدة تشكلت، ولا مخاطر حرب أهلية قادمة، بل قائمة، حدثت، ولا دولة سرقت، ولا آثار خربت، ولا نساء واغتصبت( تحت شعار الانتقام من مسؤولي النظام السابق الطريقة العراقية الشهيرة في تبرير السفالة)، ولا اسماء شوارع تغيرت، فصار العراقي يمشي في محلته لكنه يمشي في شوارع تكساس وفلوريدا، بل أن بعض الشوارع حملت أسماء أفلام أو حانات أو مباغي...الخ... لاشيء من هذا حدث ويحدث أبدا في العقل العراقي "المتحضر" كما يقال عادة في بعض المقاهي.
لو أن كلبا قتل في شارع أوربي علنا أمام الناس مثلا، أو حصانا دهس، أو قطا خطف في دولة التشيك، أو حمامة قتلت في السويد، أو طفلا سرق في فرنسا، أو أمراة اغتصبت وقتلت في الدنمارك، أو صيادا سرق قاربه في ألمانيا، أو زوجا ضاجع زوجته بدون رغبتها في النرويج( وهذه هنا تعتبر اغتصابا!) أو أن عاهرة خُدعت من زبون كما حصل الامر مع واحدة نرويجية قبل شهر وصارت قضية الساعة، لو أن حمارا مجلوبا من الهند أو سريلانكا ضرب في شارع غربي، لو ان كاتبا مات من الفرح في مقهى، لو أن خنفساءً دهست بدراجة، لو أن شاذا رفضوا دخوله كنيسة، لو أن سنونوة ضلت الطريق إلى دير القرية، لو... ولو حدث كل ذلك أو ربعه في أي بلد متحضر لتغير المزاج العام، والوعي العام، وأعيد النظر بقوانين، وعوقب كثيرون، وأنتحر آخرون، وتعقد فريق، وأدمن الكحول فريق آخر.
هذه شعوب تخاف من الخلل البسيط، بل التافه، لكي لا يتحول إلى ظاهرة مدمرة، ويأخذ يوما شكل الإعصار.
مرة حدث أن أختنق حتى الموت طفلان في السويد في حاوية زبل، فأعادت كل الدول الإسكندنافية النظر فورا بشكل الحاويات.
ونحن نختنق كل يوم بمليون حاوية زبل سياسية، ونقتل علنا، جهارا، على الشاشات، كأن صورتنا ناقصة بدون هذا الموت الرخيص، بدون هذا الإذلال، والمشهد مفرط العادية.
نقول مثلا ، أن المحتلين قتلوا، اغتصبوا، سرقوا، فيأتي الجواب من أصحاب معايير الطاغية، ليقال لنا، أن السلطة الفاشية قتلت، اغتصبت، سرقت أكثر.
هكذا هو الحساب وهذا هو المعيار.
نقول أن مرحلة الدكتاتور لا تصلح معيارا للحياة لأنها شاذة ودموية، ونريد عراقا يتمتع بالحرية، بالضبط هي الحرية، فيأتي الرد من اصحاب معايير الدكتاتور الذين حُبسوا في سراديب الفاشية النفسية، ومعاييرها العفنة سنوات طويلة، وصارت هذه المعايير هي الميزان والمقياس والنظرة للحياة، بأنكم صرتم تتكلمون الآن وتتظاهرون وتحتجون في الشوارع، فمن أين جاءتكم الشجاعة اليوم؟!
لذلك قلت واقول وسأقول أننا لن نعثر على الطاغية في الأنفاق والسراديب لأنه عقلية وذهنية وطريقة تفكير.
كل هذه الحروب،
وكل هذه الزلازل،
وكل هؤلاء القتلى على الأرصفة،
وكل هذا النهب العلني،
والذل العلني،
والتفكيك العلني،
والسحق العلني،
والعراقي الذي يقول عن نفسه أنه من بلد متحضر، وفيه طاقات مثقفة، ونخب حساسة، واعية، غير مبال بالمرة بما يدور حوله. ومن يقرأ كتابات بعض هؤلاء هذه الايام( في مواقع وأمكنة وصحف معروفة صارت الكتابة فيها عارا لنخب مثقفة) لا يصاب مرة أخرى لا بالقرف ولا بالنوم بل برغبة عارمة في الضحك.
إن ما يشغل نخب الفراغ والبياض التي أدخلتنا في معارك ومهاترات دونية بحجم قامتها ووعيها طوال حقبة الحصار أو الابادة ( وهي الفترة التي شهدت خروجا واسعا) والتي التحمت مع مثيلاتها واشباهها في الخارج، وهي كثيرة أيضا، ليس موضوع الوطن بالمطلق.
هؤلاء مقابل مصلحة خاصة يبصقون على الوطن كل لحظة إذا تطلب الأمر وعلى استعداد لتحويل كل قضية كبرى إلى قضية صغرى تافهة شخصية من أجل إشباع رغبة مريضة في الانتقام أو التشفي على حساب موت الناس اليومي.
وعلى استعداد لبيع الوطن وسرقت اضرحته وانصاب ابطاله من أجل صنع أبريق لقضاء الحاجة، وفي كل لحظة إذا تطلبت هذه المصلحة، وتتكفل اللغة بتبرير كل شيء.
إن كل ما يشغل هذه الأحجار البشعة، والنخب الأمية( نستثني من ذلك نخبة شجاعة وواعية ومثقفة وناضجة لكنها، بصمتها وتواضعها وعملها الهادئ ، تضيع داخل مشهد الأدعياء وحفل التنكر الواسع، لأن العربات الفارغة هي الأكثر ضجيجا) أقول أن كل ما يشغل هؤلاء هو أن فلانا كان جنديا في جيش السلطة، وفلانا صانع توابيت، والآخر كان يملك منزلا أو عربة، والرابع كان عضوا في زريبة حزبية، مع أننا نعرف كيف كان يتم الانتماء الحزبي في دوائر الأمن بالكيبل أو عن طريق الاغتصاب أو الحرمان من الخبز والحياة والنوم والحلم.
الذين يحاسبون الناس في العراق أو خارجه لأنهم ظلوا أحياءً، وهذه تهمة، عليهم أن يعرفونا بأنفسهم جيدا. ماذا كانوا يفعلون طوال المرحلة الفاشية؟
القادة والشركاء الذين صنعوا الفاشية ورسخوا أقدامها هم الآن عادوا مرة أخرى إلى موقع السلطة، لكن أحدا من أصحاب معارك الصغار أو معارك الديوك لا يجرؤ على فتح فمه بكلمة عن هؤلاء ولو في سرير النوم لأن رهاب الخوف من السلطة يجري في الدم.
الآخرون ضحايا.
والضحايا ضحايا في كل زمان ومكان.
الشركاء يقتسمون السلطة بالخوف والتهديد أو الابتزاز أو الرشاوى أو الإغراء أو الغفلة أو الطموح، والجموع في الداخل والخارج تتساقط من الضيم أو الجوع أو الرصاص أو الحنين.
وهؤلاء أصحاب المعارك الصغيرة الذين يجدون دعما من مواقع وصحف معروفة على مقاس أصحابها، لماذا لا ينسحبون إلى الظل أو الظلام حين لا يجدون في أنفسهم القدرة على كتابة محفزة أو التقاط ظاهرة مفيدة للحوار أو النقاش العام أو العثور على قانون سياسي أو اجتماعي يخدم الاجماع الوطني ويعزز السلم الأهلي، ويساهم في بناء وحدة وطنية قائمة على التنوع، والدعوة إلى وحدة الأرض( في وطن مشكوك في أن يستمر موحدا لخمس سنوات قادمة لأن أسس تقسيمه قد حفرت على الحجر)، أو الكتابة عن مخاطر نشوب حرب أهلية قادمة أو قائمة تهدد الباقي من الأحياء؟
لكن هل حقا يستطيع هؤلاء خوض معارك فكرية وثقافية وسياسية كبيرة ومثمرة ومنتجة إذا كانوا هم أقزاما في السياسة وفي الثقافة وفي السلوك؟
المعارك الكبيرة يخوضها أو تخوضها النساء الكبيرات أو الرجال الكبار، والمعارك الصغيرة مفصلة على مقاس أصحابها، وهؤلاء تنظر إليهم بكل أنواع المكبرات فلا ترى غير التراب والأرض والأحذية بتعبير أنسي الحاج لكنهم أبطال الورق الأبيض.
حملات غوغاء وصبيان من هذا الطرف أو ذاك عن ضحايا قدامى أو جدد مع أن الوطن يسرق ويخرب ويحطم علنا وتباع فيه حتى الأنقاض.
الذين سرقوا الكراسي يتهمون الذين سرقوا أعمدة الضوء، والذين فككوا المصانع يتهمون الذين فككوا القصيدة، والذين كتبوا في الداخل يتهمون الذين كتبوا في الخارج وبالعكس، والذين طاردوا الفارين في الخارج ووشوا عليهم بكل أنواع الوشايات بما في ذلك الدعوة لسجنهم، يتهمون الذين طاردوا الناس في الداخل مع أن المبدأ واحد، والذين قتلوا علنا يشهرون بالذين قتلوا سرا، ومن شاركوا في الانقلاب الدموي في 68 وطردوا في خصام على المنصب لا على الموقف، صاروا أبطالا على الفضائيات، والذين تحالفوا مع الفاشية ثم مع الاحتلال يتهمون من يرفض التحالف بالعجز والتخلف العقلي والسياسي والفكري، وكانت التهمة السابقة هي التوفيقية، والذيلية، والانتهازية، والتطرف اليساري والبرص الثقافي والنفسي، والذين قبضوا "أجرة العازف!" من الأجهزة الأمريكية مقابل دعم الحرب يتهمون الذين كانوا يتقاضون رواتبهم في العراق لكي يعيشوا ولو بقرف، والذين فروا "بالدخل" بعد كسر أقفال المتجر من العراق صاروا أبطالا هربوا، في نسختهم الملونة والمنقحة والمزيدة، مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة في العراق بسبب ثوريتهم المفرطة في السرير، والذين يسهرون في ملهى ليالي بغداد، يدينون الذين يسهرون في ملهى ألف ليلة وليلة، وغجر غرب بغداد يدينون كاولية شرق بغداد في الكمالية...الخ.
متى نكف عن هذا المهرجان الفج وننظر إلى قاماتنا بمرآة حقيقية وليست مقعرة ونرى أحجامنا الحقيقية( بعد كل هذا الانتفاخ المرضي) ونحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه أوفي الأقل الحفاظ على ما تبقى من بشر أحياء وحفنة أنقاض ؟
بعد هزيمة النازية نشأت في ألمانيا عقدة نفسية شعبية عامة هي عقدة الشعور بالذنب، وقد ظهر علم نفس جديد مختص بذلك، وفي العراق وبعد سقوط الفاشية نشأت، وكانت في مرحلة كمون، عقدة الشعور بالانتفاخ المرضي نتيجة الزهو الفارغ الذي زرعته السلطة من جهة( بشعارات شعب الذرى) أو الذي زرعته الأحزاب( شعب الحضارة العريقة) فلا الذرى تتكون بهذا الفراغ العقلي، ولا الحضارة القديمة تكون مبررا لهذا الخواء العارم.
كل شيء في المزاد العلني. فلم الزهو الأجوف؟ حتى أنقاض الحديد صار الأطفال يبيعونها لجنود الاحتلال. حتى جنود الاحتلال( وهذا درس لو كنا نعقل) تمردوا على شروط حياتهم السيئة وطالبوا بالعودة، وهم في حالة نصر عسكري، وأسقطوا إمبراطورية، وقالوا بالفم الميلان أنهم ضجرون من هذا الوطن!
سابقا حين كنا نطالب بنقد العقل السياسي العراقي وأجراء تفكيك للشخصية العراقية )لأن هذه الركعة من ذاك البابوج( أوكيفما تكونون يولى عليكم، وقراءة المفكر الكبير الذي ظلم حيا وميتا المرحوم علي الوردي، والكف عن تقديس أخطاء الجماهير لأسباب حزبية، وكيف أن الحداثة الأوربية تأسست على النقد الفكري العميق كان يقال لنا من هؤلاء العجزة والمخصيين عقليا وذهنيا ونفسيا وروحيا:
ـ نحن الآن نشتبك مع سلطة ولا وقت عندنا للتفكير!
وتلك حجة العاجز.
ما الذي يمنع هؤلاء من التفكير اليوم وقد قام جنود المارينز وكالة عنهم بإسقاط السلطة والدولة والمجتمع والمستقبل؟
هل يمنعهم النوم؟
الحمّام؟
الصابون؟
الجنس؟
السوق، الشعر،البرد، العادة الشهرية، دور النشر، دور الحضانة، منظمة المؤتمر الإسلامي، الدخان، العولمة،أوجاع الكلى، التصحر، الصلع، الشخير، أو أن الشماعة التي كانوا يعلقون عليها كل شيء قد تهاوت وهم اليوم في مرحلة خلق شماعة جديدة لتعليق كل شيء، غير مبالين في زحمة معاركهم الصغيرة، بالوطن وقد سرقوا منه حتى الأنقاض؟