أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم طلبه سلكها - مهارات التفكير الفلسفى - مهارة الدهشة واثارة التساؤل-















المزيد.....



مهارات التفكير الفلسفى - مهارة الدهشة واثارة التساؤل-


ابراهيم طلبه سلكها

الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 17:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مهارات التفكير الفلسفى
مهارة الدهشة واثارة التساؤل
أولا: تعريف الدهشة
ترى لورانس فانين أن الدهشة تمثل الطريق نحو المعرفة، فهي السعي الدائم نحو "الفهم". ومن هذا المنطلق، يصبح التفلسف بمثابة يقظة فكرية تدفع الإنسان للتأمل والتساؤل المستمر حول العالم المحيط به، في محاولة للوصول إلى فهم أعمق وأكثر وضوحًا.(1)
وعامة تُعرف الدهشة، في السياق الفلسفي، على أنها "حالة" يتأثر بها العقل البشري، نتيجة تعرضه أو اطلاعه على شيءٍ جديد، أو غريب، أو شيءٍ غير مألوفٍ لا يقدر على فهمه واستيعابه، كما تعرف الدهشة الفلسفية كذلك على أنها "شعور" يراود الإنسان، ويساهم في إنارة عقله، والتوصل إلى إجاباتٍ بخصوص القضايا والمسائل التي تثير الحيرة لديه، وعندما تسود الدهشة على الإنسان أو تصيبه؛ فإنها تحفزه على إثارة التساؤلات، ووقف التكتم أو التجاهل بخصوص وجوده، ووجود العالم الذي يعيش فيه والكون، كما أنها تدفعه إلى التأمل وملاحظة كل ما يحيط به، بغرض إيجاد الإجابات التي ترضي حيرته وفضوله، وتعتبر الدهشة الفلسفية طريقًا يوصل بدورهِ إلى الحكمة، وقد حظيت بأهمية كبيرة في اليونان القديمة؛ بل إنها قد ولدت هناك، ونالت في ذلك الوقت اهتمام اثنين من أعظم الفلاسفة الإغريق، وهما أفلاطون وأرسطو، وبالنسبة لأفلاطون، فقد اعتبر أنّ الدهشة هي الطريق المُوصل إلى الحقيقة، وتحديدًا إلى حقيقة الوجود، في حين أنّ أرسطو اعتبر الدهشة دليلاً على الوعي بأنّ هناك ما يحتاج إلى التحقق والبحث بخصوصه، وأنها تساهم في إيجاد الحلول للشكوك التي تحوم حول الحقيقة. ولقد أكد سقراط أن الدهشة هى بداية الفلسفة حيث تمكننا من ادراك ان العالم يصعب فهمه او تفسيره ، وانه ليس امرا مسلما به ، وان ما يفعله الانسان غير مهم. فالعقل الانسانى حين يندهش لايتوقف عن اثارة التساؤلات.(2)
ثانيا: أهمية الدهشة
من المعروف فلسفيًا أن فقدان الدهشة يعني فقدان الحياة، حيث إن الروتين والعادات يعيقان رغبة الإنسان في الاستكشاف والمعرفة. على العكس، فإن الدهشة تزيل الألفة عن الأشياء وتكسر بساطتها، مما يحفز العقل على التساؤل والبحث. لذلك، يُعرّف الفيلسوف نفسه كإنسان يرفض التكيف مع العالم وعاداته، مُقدِّرًا كل لحظة من التأمل والتساؤل. كما قال أرسطو: "ما دفع الناس في البداية وما يدفعهم اليوم إلى البحث الفلسفي هو الدهشة." وبالتالي، تُعتبر الدهشة جوهر الفلسفة، فهي المحرك الأساسي للفكر الفلسفي. يتجاوز الفيلسوف مجرد الدهشة أمام الظواهر الغريبة ليشعر بالدهشة حتى أمام أكثر الأشياء ألفة. على سبيل المثال، كانت دهشة نيوتن من الظاهرة البسيطة لسقوط التفاحة نحو الأرض بدلاً من السقوط للأعلى، مما أدى به إلى اكتشاف قانون الجاذبية.
ترى الفيلسوفة جان هرش* أن الدهشة استبدت بكثير من الفلاسفة عبر تاريخ الفكر الغربى الذى يمتد لأكثر من ألفى سنة ، تلك الدهشة التى منها ولدت الفلسفة0 وهى التى تعمل على اثارة الأسئلة الجوهرية .. وأن نندهش تلك هى الخاصية المميزة للانسان0 وعندما يقرأ المرء تاريخ الفكر الغربى سيعرف قدرته على الدهشة ، فى دهشة غيره 0 سيتمكن من التعرف عليها والاعتراف بها .. هذه هى سيرورة الانسان الخلاقة ، السيرورة التى بوسعها أن تقود القارىء الى أن يتفلسف بنفسه.(3)
تقول جان هارش:" .. هل مايزال بوسع انسان القرن العشرين أن "يندهش " أو يتعجب على الأقل؟ اننا نحيا فى عصر العلم ، اننا نعتقد فى كوننا نعرف كل شىء ، أو على الأقل نستطيع معرفة كل شىء0لكن سيظل دائما ثمة بشر يندهشون0 ان الدهشة هى أساس الشرط الانسانى .ولايكفى ان يعاصر المرء كبار العلماء حتى يفلت من نير الجهل بل ان من الفيزائيين أنفسهم من لايكف عن الاندهاش .. ذاك أن كتبهم مليئة بالدهشة الفلسفية والميتافيزيقية الشبيهة باندهاش الأطفال .(4)
ونجد الدهشة عند الناس الذين عاشوا فى بداية العصر اليونانى القديم فى القرن السادس قبل الميلاد .. وبالدهشة يملك كل واحد منا قدرا من التجربة الفلسفية ، التى تميزه عن غيره ، فكلما واجهنا اختيارا فعليا وجب علينا الحسم فيه ، الا وساءلنا أنفسنا لامساءلة فلسفية ، دون أن ننتبه الى الأمر. الأطفال فى سن الخامسة ، تقريبا ، يطرحون أسئلة فلسفية ، شأنهم شأن الشباب فى سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة. والحقيقة ان الدهشة الفلسفية لمفكرى الماضى تشهد على القوة الخلاقة والقدرة على الابداع التى تميزنا نحن البشر ، حيث كانت تتمتع بكل الجدة فى عصرها. لقد كانوا ذوى عقول نيرة ، كانوا فلاسفة قادرين على الاندهاش ، قادرين على مجاوزة مايبدو بديهيا فى الحياة اليومية.(5)
وهكذا تؤكد الفيلسوفة لورانس فانين أن الفلسفة تنطلق من حالة الدهشة وإثارة التساؤلات، حيث تشير إلى أن نشأة الفلسفة لدى الإغريق كانت مدفوعة بالدهشة، لكنها لم تكن دهشة بسيطة، بل كانت دافعًا للفضول الفكري والتأمل العميق. في البداية، كان التركيز على التساؤلات المتعلقة بالظواهر ومحاولة فهمها. ورغم ارتباط الفلسفة في العصور القديمة بالشعائر والأساطير وأنواع من المعتقدات، إلا أنها سرعان ما انفصلت عن هذه الروابط. ومع ذلك، ظل سؤال أصل العالم قائمًا بقوة: لماذا يوجد البشر؟ ولماذا توجد الأشياء والعالم؟ كان الانشغال الفلسفي في بداياته يدور حول معرفة الطبيعة ومبادئها المختلفة، وفهم العلة الأولى لكل شيء، مع السعي المستمر للتأمل في هذه القضايا الأساسية.(6)

يعكس هذا الفضول الفكري روح الشباب الحقيقية للفكر، حيث يمثل مرحلة الطفولة في حياة الإنسان، التي يبدأ فيها بملاحظة العالم من حوله ويتساءل ببراءة عن طبيعة الأسئلة نفسها. في هذه اللحظة، يشعر الإنسان بالعالم، ويتفاعل معه، ويستشعر جماله كما لو كان في حديقة مليئة بالاكتشافات. تجسد هذه اللحظة فضولًا بسيطًا ومبهجًا، وتعكس أصالة الوعي الإنساني. ومع ذلك، فإن هذه الأصالة تتراجع مع تزايد النزعات الاصطناعية والفردانية التي تنتشر بسرعة في مجتمعاتنا الحديثة. تؤدي هذه النزعات إلى تقليص فضولنا الفطري، وتدفعنا نحو أنماط تكيّف محدودة ومقيدة نتيجة لهذه التغيرات.(7)

على عكس اللامبالاة التي تجعلنا كائنات منعزلة وغير مهتمة بالجديد، تُعتبر الدهشة حالة من الذهول والقدرة على المفاجأة. إنها تدفعنا نحو ما يثير التفكير، وتحثنا على تبني سلوك فكري نقدي. فالدهشة تمثل منهجًا من التساؤلات نستكشف من خلاله وعينا بالعالم. الشخص الذي يتساءل هو من يدرك جهله، ويُعتبر هذا الإدراك الخطوة الأولى نحو المعرفة. لأن من لا يدرك أنه يجهل شيئًا لن يسعى للتحرر من قيود هذا الجهل. كانت الدهشة القوة المحركة التي ألهمت المفكرين الأوائل للغوص في التأملات الفلسفية، إذ تنبع موضوعاتها من الظواهر التي تفاجئنا وتحفزنا على التساؤل: "لماذا تكون الأمور على هذا النحو؟". وبالتالي، فإن التساؤل يُعبر عن المشاركة في يقظة الفكر وسعيه المستمر نحو الفهم.(8)
يبدو أن الدهشة وإثارة التساؤل تقودان إلى المعرفة، وهذا ما توضحه لورانس ڤانين، حيث تشير إلى أن الدهشة تمثل توجهًا نحو المعرفة. تقول: "باندهاشي أعي جهلي، وأسعى نحو المعرفة فقط لأعرف، وليس لتلبية مطلب عادي".ومن هذا المنطلق، يصبح التفلسف حالة من اليقظة الفكرية التي تدفع الإنسان لاستكشاف ذاته والعالم من حوله، متحررًا من الأهداف النفعية، ومنفتحًا على البحث عن الحقيقة من أجلها.(9)
لقد تبين لنا أن التفلسف يبدأ أولًا باستعداد فكري خاص، كما يتضح من اشتقاق الكلمة ذاتها. فكلمة philosophia تنحدر من الفعل philein، الذي يعني المحبة، والاسم Sophia، الذي يعني الحكمة. هذا الحب يدفعنا للاندفاع نحو الحكمة والسعي لنصبح حكماء. والحكمة هنا تشير إلى امتلاك معرفة ما، وهي معرفة تخص الكائن العاقل. ومن ثم، فإن الفيلسوف هو صديق الحكمة الذي يسعى بحب وإصرار إلى حيازتها وبذل الجهد المستمر لتحقيقها.(10)
ولكن .. كيف ندرك هذه الحكمة؟من الناحية النظرية، تمثل الحكمة المعرفة والعلم، وهي البحث المستمر عن الحقيقة. أما من الناحية العملية، فإنها تشير إلى سلوك الحكيم الذي يتميز بالاعتدال والرزانة. يُعتبر الفيلسوف شخصًا يمتلك المعرفة، ويُحسن ضبط نفسه في مختلف الظروف. يستخدم فكره ليُحسن التصرف، كما يتصرف وفقًا للقيم الخيّرة، لأن التجربة تظهر أن الحكيم يحب قيم الحق، والجمال، والعدالة، والاعتدال، والخير، وبتلك القيم يُكمل ذاته. كما يتميز الحكيم بفكر شغوف وديناميكي، مجتهد في سعيه لتحقيق هذا المقام. وعليه، أن يندهش من الأشياء ليبدأ في مساءلة العالم دون كلل أو ملل، باحثًا عن الفهم العميق للحياة.(11)
الخلاصة: تُعتبر الفلسفة منذ بداياتها أداةً رئيسة للتأمل والبحث عن الحقيقة من خلال ممارسة السؤال، وكان سقراط ، أبو الفلسفة، أبرز من اتبع هذه الطريقة. يتميز السؤال الفلسفي بطبيعته بأنه يحمل شكًا مسبقًا في الإجابة، حيث يُعتبر الجواب معرفة غير مكتملة. يُطرح هذا السؤال فقط على من يُعتقد أنه يمتلك المعرفة، بهدف كشف تناقضاتها أو تعزيز فهمها. يُبرز هذا المنهج السقراطي أهمية الحوار والمساءلة كوسيلة للوصول إلى حكمة أعمق وفهم أكثر تعقيدًا للوجود والإنسان.
والدهشة هى المحرك الأساسي للتفلسف، حيث تدفعنا إلى طرح أسئلة حول أنفسنا والأشياء التي نعتقد أننا نفهمها. بمعنى آخر، تنشأ الفلسفة من لحظة اندهاش العقل ورغبته في استكشاف ماهية الأشياء وجوهرها. وقد عبّر الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر عن هذا المفهوم بقوله: "إن اندهاش الفكر يعبر عن نفسه بالسؤال" ، مما يبرز أن الفلسفة تبدأ في اللحظة التي يتوقف فيها العقل أمام المألوف، متسائلاً عن حقيقته وما وراءه، لتبدأ بذلك رحلة البحث عن الحقيقة والمعرفة.
ويمكن القول ان الجوهر الأساسي في الخطاب الفلسفي هو السؤال، الذي يُعتبر العنصر المميز له عن غيره من أنماط التفكير. إن استمرار الفلسفة عبر العصور منذ بدايتها يعود إلى اعتمادها على طرح الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات نهائية. فلو كانت الفلسفة تكتفي بالإجابات، لكانت قد انتهت منذ زمن بعيد. لكن قدرة الفلسفة على إعادة صياغة الأسئلة، بل وحتى التساؤل حول طبيعة السؤال نفسه، هي ما يمنحها حيوية دائمة وتجدد مستمر. وقد عبّر كارل ياسبرز عن ذلك بقوله: "السؤال في الفلسفة أهم من الجواب، فكل جواب يصبح سؤالاً جديدًا"، مما يعكس الطبيعة الديناميكية للفلسفة كبحث مستمر عن الحقيقة.
واذا كان ذلك كذلك يمكن تحديد أهداف الدهشة كما يلى:
1- إثارة مشاعر القلق تجاه الظواهر الكونية والقضايا المتعلقة بالحياة، وهو قلق يدفع الفرد إلى السعي نحو المعرفة وفهم ما يحيط به. يُعتبر هذا القلق، بما يحمله من تساؤلات وجودية، المدخل الرئيسي للوصول إلى الحقيقة. فالدهشة تُحفز الفيلسوف على تحويل هذا القلق إلى سؤال فلسفي منهجي، مما يجعله أداة للبحث العميق عن الحقيقة والمعرفة، ويبرز دور الدهشة كعنصر أساسي في انطلاق الفكر الفلسفي والإبداع العقلي.

2- تنشيط الحس الداخلي الذي يضيء العقل، مما يتيح للإنسان إظهار ما كان مخفيًا أو في الظل إلى ساحة الواقع. يتم هذا الإظهار بعد المرور بمرحلتي الملاحظة الدقيقة والتأمل العميق، حيث تصبح الدهشة دافعًا لتحليل الظواهر وفهم معانيها. ومن خلال هذا التفاعل بين العقل والحس، يسعى الإنسان للعثور على إجابات للأسئلة التي لطالما حيرت الفكر البشري، مما يجعل الدهشة نقطة انطلاق أساسية نحو المعرفة والتفكير الفلسفي.
3- الوصول إلى حالة من السمو الفكري، حيث تُعتبر الدهشة أرقى ما يمكن أن يحققه الإنسان. فهي تعكس براءة الإنسان وحريته، إذ تُظهر قدرته على الانفتاح على العالم واستعداده لاستكشاف المجهول. ينبع هذا الاندهاش من وعي الإنسان بالعلم وفهمه لطبيعة الوجود المحدود، مما يدفعه للتساؤل والتأمل والسعي نحو فهم أعمق وشامل للكون والحياة، وبالتالي يرتقي تفكيره إلى آفاق أكثر سموًا وشمولًا.
4- تثير في لحظات معينة أسئلة عميقة تتعلق بحياتنا، مما يدفعنا للبحث عن الحقيقة والتأمل في جوهر الوجود. هذه الدهشة تشكل الأساس الأول للفكر الفلسفي، حيث تفتح أمامنا أبواب التساؤل التي تقود إلى المعرفة. الفلسفة، كما تُعرض في الكتب والمكتبات، ليست مجرد تجميع للأفكار، بل هي تعبير عن دهشة الإنسان تجاه العالم. وقد كانت هذه الدهشة هي المحرك الأساسي لفلاسفة عظماء، الذين أسسوا الطريق للعلم والتقدم، إذ لم يكن بالإمكان بناء العلم دون أن تسبقه تلك الدهشة الفلسفية التي حفزت العقول على البحث والاكتشاف.
5-تعمل الدهشة الفلسفية على إحياء التساؤلات المنطقية التي طرحها الفلاسفة عبر العصور، حيث تسعى لتفسير الظواهر والأحداث التي تحيط بنا. إنها تحفز العقل على إعادة التفكير في الأسئلة الوجودية والجوهرية، مما يدفعه للبحث عن إجابات عميقة تكشف غموض تلك التساؤلات. ومن خلال هذا المسار التأملي والتحليلي، تتيح الدهشة للإنسان الوصول إلى نتائج وإجابات تُثري فهمه للوجود، وتساهم في تشكيل رؤية فلسفية أعمق لحياته والعالم من حوله.(12)
ثالثا : أنواع الدهشة
1-الدهشة الطبيعية
يعبر مفهوم الدهشة الطبيعية عن الشعور الذي يختبره الإنسان عند مواجهته لموقف غير متوقع أو مفاجئ، مما يؤدي إلى حالة من الذهول والانفعال القوي. يرافق هذا الانفعال مشاعر وجدانية وعاطفية نتيجة التعرض لشيء غير مألوف أو استثنائي. من الناحية النفسية، تترافق الدهشة مع شعور بالتوتر والحيرة، وأحيانًا الألم، حيث يحدث صراع داخلي في العقل عندما يجد صعوبة في فهم حدث أو ظاهرة معينة. هذا الصراع المعرفي يحفز التفكير والبحث، مما يعكس قدرة العقل على التفاعل مع المجهول والمثير للدهشة. (13) ولهذه الدهشة الطبيعية أو العادية خصائص عديدة منها:
1-انها شعور فطري يرافق الإنسان منذ لحظة ولادته، حيث تمنحه فضولًا لاستكشاف العالم من حوله وطرح تساؤلات بسيطة حول الظواهر اليومية. إنها قدرة فطرية تدفع العقل للتفاعل مع كل ما هو جديد أو غير مألوف، مما يثير التساؤلات والرغبة في البحث. من ناحية أخرى، فإن الاعتياد على رؤية الأشياء بشكل طبيعي يعكس إحدى سمات الدهشة الطبيعية، حيث يتوقف الإنسان عن طرح الأسئلة ويتكيف مع الظواهر حتى تصبح جزءًا من روتينه اليومي، مما يؤدي إلى تراجع شعوره بالدهشة تجاه ما يراه بشكل معتاد.
2-عندما تثير التساؤلات، غالبًا ما تبدأ تلك الدهشة بالمشكلات اليومية التي يواجهها الإنسان، والتي لا يوليها الكثيرون اهتمامًا كبيرًا. ومع ذلك، يمكن أن تتطور هذه الأسئلة البسيطة تدريجيًا لتصبح مشكلات أكثر عمقًا وتعقيدًا. تشترك الدهشة الطبيعية بين جميع البشر، فهي جزء من التجربة الإنسانية المشتركة التي تحفز العقل على التساؤل عن العالم المحيط به، وتفتح آفاق البحث والاكتشاف التي قد تؤدي إلى فهم أعمق وأوسع للوجود.
3- هذه الأسئلة البسيطة التى تثيرها الدهشة الطبيعية يمكن أن تفتح الأفق تدريجيًا للانتقال إلى قضايا أعمق وأكثر تعقيدًا. فعندما يتوقف الفرد للتفكير في الأمور التي يعتبرها طبيعية أو بديهية، يتطور تفكيره ليشمل مسائل وجودية أو فلسفية، مما يؤدي إلى رحلة بحث أعمق عن الحقيقة والمعنى.
4-هى سمة مشتركة بين جميع البشر، فهي جزء من تجربتنا الإنسانية الفطرية. منذ لحظة ولادتنا، نبدأ في التفاعل مع ما يحيط بنا بعيون مليئة بالدهشة، مما يعكس فضولنا الفطري لاستكشاف العالم وفهمه. هذه الدهشة تفتح أمامنا المجال لطرح الأسئلة وتحدي المفاهيم المألوفة، مما يعزز التفكير والبحث. ومع مرور الزمن، تبقى الدهشة عنصراً أساسياً في التجربة البشرية، مما يجعلها رابطاً مشتركاً بين الثقافات المختلفة عبر العصور والأماكن.(14)
2-الدهشة العلمية
ترتبط الدهشة العلمية ارتباطًا وثيقًا بالعالم المادي والطبيعي، حيث يُعتبر الفهم والتفسير المحرك الأساسي لها. بينما تنشأ الدهشة الطبيعية من الظواهر اليومية التي نراها بأعيننا، فإن الدهشة العلمية تظهر عندما يواجه الإنسان أحداثًا أو ظواهر غير مفهومة تمامًا، مما يدفعه للبحث عن تفسيرات منطقية وعلمية. هذا النوع من الدهشة يعزز من روح الاكتشاف والتجربة، ويشكل أساسًا لفهم الظواهر الطبيعية وتفسيرها من خلال المنهج العلمي، مما يسهم في تقدم المعرفة في مجالات مثل الفيزياء والكيمياء وعلم الفضاء.
عندما نسأل المفكرين والعلماء عن الدافع الأساسي وراء انخراطهم في العلم، نجد أنهم غالبًا ما يتحدثون عن شعور بالدهشة. لذا، يمكننا أن نبدأ دراستنا للتجربة الشاملة للعلم من خلال تحليل الدور الذي يلعبه التعجب أو الدهشة في العملية العلمية. يعرَّف التعجب بشكل رسمي من خلال ثلاثة جوانب: أولاً، كشيء يثير العجب ويجذب الانتباه؛ ثانيًا، كشيء يثير الإعجاب والسرور؛ وثالثًا، كشيء يترك الشخص في حالة من الانبهار والتساؤل. بناءً على ذلك، يمكن أن يكون هذا التقسيم الثلاثي الذي تقدمه دلالات التعجب بمثابة دليل إرشادي في سعيّنا لفهم أسباب ظهور العلم وما يمكن أن يؤدي إليه.(15)
وهكذا تتسم الدهشة العلمية بثلاثة أبعاد مترابطة تعكس طبيعتها المدهشة والمتعددة الأوجه:
1-المفاجأة والجذب: الدهشة هي استجابة لما هو غير متوقع، ما يثير اهتمام العقل ويجذبه نحو استكشاف المجهول.
2-الإعجاب والبهجة: تنطوي الدهشة على شعور بالاحترام والجمال تجاه ما يتم اكتشافه أو ملاحظته.
3-الاندهاش والتساؤل: تثير الدهشة حالة من الفضول العميق، ما يدفع الإنسان إلى طرح الأسئلة ومحاولة الوصول إلى إجابات.
لتوضيح ذلك علينا أن نبدأ من نقطة الصفر: ما الذي يحفز الجهود العلمية في الأساس؟ بعبارة أخرى ، ما الذي يدفع العقل البشري للبحث عن المعرفة التي ستتحول في النهاية إلى علم؟ إذا استفسرنا من ذوي الخبرة، وهم العلماء المبدعون، فإن إجابتهم ستكون متطابقة. إذا سألنا العلماء المبدعين أنفسهم عن دافعهم الأول لممارسة العلم، فالإجابة تأتي بالإجماع: الشعور بالمفاجأة.(16)
من الناحية النفسية، يحتاج الإنسان إلى المفاجأة كي يبدأ رحلته في ممارسة العلم. فالعلم، في جوهره، هو السعي نحو معرفة جديدة، ولا يمكن تحفيز هذا السعي إلا عندما يتحدى الواقع التوقعات المألوفة. ولا يسعى أحد إلى اكتشاف معرفة جديدة إلا عندما يتفاجأ بالطريقة التي تسير بها الأمور، بدلاً من اعتبارها أمراً بديهياً. ويعبر الإجماع الشعبي عن ذلك بوضوح: " ما نعتاد عليه يوميًا يصبح تافهًا في نظرنا؛ لا يثير فضولنا ولا يدفعنا للتساؤل". العلم يبدأ حيث تتوقف العادة، ويستمر في دفع الإنسان للتفكر في العالم بعيون جديدة. فكل اكتشاف علمي جديد هو نتيجة لهذه المفاجأة الأولى، التي تجعل الإنسان يعيد النظر في الأشياء المألوفة، ليرى فيها إمكانات غير متوقعة. وتكون هذه المفاجأة من نوع معرفي، بمعنى مزدوج. المعنى الأول هو الإدراك المفاجئ بأن العالم، رغم كونه قابلاً للمعرفة، إلا أن الإنسان لم يستكشفه بعد. وبالتالي، فإن ما يدفع الإنسان لممارسة العلم هو الرغبة في استكشاف الأمور بوضوح ، لكنه تم تجاهلها أو التغاضي عنها حتى الآن.(17)
للحصول على مثال يوضح الدور الذي لعبه الشعور بالدهشة في نشوء العلم، يمكن أن نجد مثالًا قويًا في حياة اثنين من أعظم رواد فيزياء الكم ، وهما نيلز بور و فيرنر هايزنبرج. كما هو معروف، يتميز هذا المجال من العلوم بالمعادلات الرياضية المعقدة للغاية ويتعامل مع كائنات لا يمكن للإنسان رؤيتها مباشرة أو تصورها بشكل ملموس.. ، ومن المتوقع أن يكون العلماء الذين يدرسون هذا المجال مدفوعين بمفاهيم متعلقة بالرياضيات البحتة والمنطق الصارم . ومع ذلك، عندما نسأل بور وهايزنبرج عن سبب اختيارهما أن يصبحا فيزيائيين كميين، فإن إجابتهما الواضحة هي: الشعور بالدهشة. لقد اندهشا من أن الأشياء التي نراها في التجارب اليومية كانت كما هي، وتفاجآ بأن الناس لم يلاحظوا شيئًا مثيرًا في هذا السياق، مما دفعهما لتكريس حياتهما لاكتشاف ذلك.(18)
فعادةً ما يشعر العالم بالدهشة في بداية مسيرته، عندما يدرك أن العالم قابل للفهم ولكنه لا يزال مجهولاً. وتزداد دهشته عندما يحقق هدف سعيه، أي عندما يكتشف بوضوح الطبيعة التي كان يسعى لفهمها. المفاجأة هنا ليست في مواجهة شيء أعظم أو أكثر إثارة مما كان متوقعًا. ولتمييز هذا النوع من العجب عن النوع الأول، يمكننا الإشارة إلى الإعجاب والمشاعر المرتبطة به، مثل الفرح والشعور بالمكافأة والإشباع.(19)
عندما نفكر في العملية العلمية، غالبًا ما نتصور العلماء كمخلوقات عقلانية بحتة، بعيدة عن العاطفة، تركّز فقط على البيانات والمنطق. ومع ذلك، فإن التجربة العلمية تُظهر عكس ذلك تمامًا. إن عواطف العلماء جزء لا يتجزأ من عملية الاكتشاف، وهي تعزز بشكل كبير دافعهم للاستمرار في البحث. العديد من العلماء يتحدثون عن مشاعرهم العاطفية المتعلقة بالاكتشافات العلمية. على عكس التصور التقليدي عن العلماء كـ منطقيين فقط، يتضح أن الإثارة والتشويق هما جزء من جوهر العمل العلمي. هذا يعني أن الخبرات العاطفية لا تقل أهمية عن التحليل العقلاني في تحفيز العلماء على مواصلة استكشافهم. إحدى المقارنات التي يستخدمها العلماء لوصف مشاعرهم هي التشبيه الذي يقارن السعي العلمي بالبحث عن الذهب. يشبّه العالم العلمي نفسه بـ المنقب عن الذهب الذي يقضي أيامه في الجرف والبحث، أحيانًا دون نتيجة تذكر، فقط ليكتشف فجأة كتلة صلبة من الذهب. تلك اللحظة من الاكتشاف هي اللحظة التي يُدرك فيها المنقب مكافأته العاطفية، وهي التي تدفعه لمواصلة عمله الجاد. عندما يتحدث العلماء عن الإثارة التي يشعرون بها عند تحقيق اكتشاف جديد، فإنهم يصفون نوعًا من التجربة العاطفية التي تعوض عن المشقة. كما ذكر العلماء: "أكبر إثارة بالنسبة لنا هي رؤية تأثير جديد لأول مرة"، وأن هذه اللحظات التي تحدث مرة أو مرتين في السنة، تستحق كل الجهد الذي بذله.(20)
وهكذا يتتضح لنا أن الانخراط العاطفي العميق للعلماء في البحث يعكس أن العلم ليس مجرد فكر عقلاني جاف، بل هو عملية حية تحتوي على مشاعر من الإثارة والدهشة والبهجة. هؤلاء العلماء، الذين يقضون سنوات في العمل المضني، يدركون أن الفائدة العاطفية التي يحصلون عليها من لحظة الاكتشاف تجعل كل الجهد يستحق العناء.
ويؤكد العلماء بشكل متكرر أن السعي للمعرفة لا يقتصر فقط على جمع الحقائق أو حل المعادلات الرياضية، بل يتضمن تجربة عاطفية عميقة. كما يشير الكيميائيين البارزين إلى هذه الفكرة بشكل مثير: "هناك شيء واحد يتعلق بالعلم وهو أن البحث عن الفهم أكثر إثارة بكثير مما كنا نتوقعه عندما كنا صغارا" . هذه التجربة العاطفية التي يتحدث عنها الكيميائيين تُظهر أن العلم لا يمكن اختزاله في مجرد نتائج أو فرضيات، بل هو رحلة شغف وإثارة لا يمكن التنبؤ بها بالكامل.(21) وهذا يشير إلى أن الدهشة تتجاوز التوقعات الأولى لدى العلماء عند بداية رحلتهم العلمية. هذا الشعور يجعل العلم أكثر من مجرد وسيلة للوصول إلى حقائق؛ إنه رحلة استكشاف مليئة بالمفاجآت غير المتوقعة.
من الواضح أن الجانب العاطفي للإعجاب يلعب دورًا حيويًا في البحث العلمي. ولكن إذا كانت مشاعر العالم جزءًا من العملية العلمية، كيف يمكننا تقييم هذا الوضع؟ هل يعتبر رد فعل العالم شيئًا ذاتيًا، وتفريغًا للتوتر النفسي غير المرتبط بالمحتوى الموضوعي للعلم؟ يبدو أن العديد من الفلاسفة يرون ذلك، بينما يملك العلماء وجهة نظر مختلفة تمامًا. على سبيل المثال، عبّر أحد الكيميائيين لإيدسون عن سعادته تجاه العلم بطريقة ملهمة، حيث قال: "بالنسبة لي، العلم مثير للغاية. لا أقول إن الرضا يأتي فقط من حل المشكلة؛ بل إن الرضا الحقيقي – بالنسبة لي – يكمن في تحقيق الفهم."(22)
والشعور الذاتي يترافق هنا مع وعي الإبداع الموضوعي، كما يحدث في مجالات الفن والفلسفة. "تُشبه هذه المتعة إلى حد ما تلك التي يشعر بها أي شخص يحل الكلمات المتقاطعة، لكنها تتجاوز ذلك بكثير، وربما تكون أكثر إرضاءً من المتعة التي تُكتسب من الأعمال الإبداعية في مجالات أخرى غير الفن. إنها تتجلى في الإحساس باختراق أسرار الطبيعة، واكتشاف خفايا الخلق، وإضفاء بعض المعنى والنظام على جزء من العالم الفوضوي، مما يُحقق إرضاءً فلسفياً."(23)
في ضوء ما تم ذكره، نفهم لماذا يصر العلماء المبدعون على أن العلم هو في جوهره رؤية نظرية، تختلف تمامًا عن النتائج العملية التي قد يتوقعها الإنسان من العلم نفسه. كما يصف دي برولي، " العلم يشبه البرق المفاجئ الذي يضيء أفقًا من التناغمات لم تكن معروفة من قبل، ويجلب معه شعورًا يشبه الفرح الإلهي . هذه اللحظات من التناغم الكوني تمنح العلم قيمته الجوهرية، وهي التي تجعل العلماء يستمرون في السعي وراء الفهم العميق للطبيعة دون أن يدخروا جهدًا أو يسعوا إلى الربح."(24)
وهكذا تبين لنا أن الدهشة تلعب دورًا محوريًا في بداية المسار العلمي، حيث تحفز الباحث على البدء في استكشاف الواقع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تبقى الدهشة مستمرًة بعد أن يتمكن العلم من تقديم تفسيرات ونظريات ثابتة للظواهر؟ هل الدهشة عنصر مؤقت ينشأ فقط في مرحلة التكوين العلمي، أم أنها تظل جزءًا لا يتجزأ من التجربة العلمية نفسها؟.هذه هى القضية الأخرى التى ينبغى علينا استكشافها لفهم الدور الذي يلعبه العجب في علاقته بالعلم.
هناك نوعين من العجب:العجب الناتج عن الجهل: هذا النوع من العجب ينشأ عندما يكون الإنسان غير مدرك للآليات أو القوانين التي تحكم ظاهرة معينة. على سبيل المثال، الأطفال أو البسطاء قد يتفاجؤون بحيل السحرة أو المحرضين، ولكن هذا العجب يتلاشى بمجرد كشف الخدعة أو تفسير الظاهرة. والعجب الناتج عن الفهم: وهو النوع الذي يرتبط بالفكر التأملي والعلمي. هذا العجب لا ينبع من الجهل، بل من التقدير العميق للتناغم، والبساطة المذهلة، أو التعقيد الذي يكشفه العلم في الطبيعة. إنه نوع من الدهشة التي تصاحب فهمًا أعمق للعالم. السؤال الأساسي هنا هو: هل يؤدي العلم إلى "قتل" العجب من خلال تقديم تفسيرات دقيقة للظواهر، أم أنه يعمق شعورنا بالعجب من خلال الكشف عن الأبعاد الخفية للواقع؟ للإجابة عن هذا السؤال، دعونا نستعرض آراء اثنين من أبرز المفكرين: إرنست ماخ وألبرت أينشتاين.(25)
إرنست ماخ، كفيزيائي وفيلسوف، كان ملتزمًا برؤية صارمة تجعل من العلم أداة للقضاء على الجهل وتبسيط الفهم البشري للعالم. موقفه من العجب متجذر في رؤيته الفلسفية، حيث يرى أن الدهشة ليست خاصية موضوعية للعالم، بل هي رد فعل شخصي نابع من نقص المعرفة أو من الارتباك أمام ظاهرة جديدة. الدهشة شخصية بحتة: أي أنها لا تنبع من الطبيعة ذاتها أو من الظاهرة الملاحظة، بل من حالة الشخص الذي يواجهها. العجب مؤقت: عندما يفهم الإنسان الظاهرة أو يكيف عاداته الفكرية معها، يتلاشى العجب. الهدف الأساسي للعلم ، في نظر ماخ ، هو إزالة الغموض والتخلص من المفاجأة. فالعلم يُمكِّن العقول النشطة من استيعاب ما هو جديد بسرعة، مما يجعل الدهشة غير ضرورية . كما قال : " الجدة تثير الدهشة لدى الأشخاص الذين اهتزت عاداتهم الفكرية وتشتت بسبب ما يشاهدونه. لكن عنصر الدهشة لا يكمن أبدًا في الظاهرة أو الحدث الذي يتم ملاحظته، بل مكانه في الشخص الذي يراقب." الأفراد ذوو العقول الأكثر نشاطاً يسعون على الفور لتكييف أفكارهم بما يتماشى مع ما لاحظوه، وهكذا يصبح العلم في النهاية العدو الطبيعي للدهشة."(26)
باختصار: يرى ماخ أن العلم، في جوهره، ليس أكثر من تنظيم للانطباعات الحسية وتكييف للعقل مع الواقع. هذا التعريف يجعل من العجب ظاهرة مؤقتة ناتجة عن عدم تكيّف الفكر مع الظواهر الجديدة. ولكن، في هذا السياق، يبدو أن العلم يتعارض مع الشعور بالدهشة. إذ أنه من الواضح أنه لن يكون هناك مجال للدهشة عندما يتكيف عقل الإنسان مع مجموعة من الانطباعات الحسية. بل، وفقًا لهذا الافتراض، يجب أن يكون العكس هو الصحيح. وهذا يعني أن العلم لا يقتصر على تدمير الدهشة، بل يترك الإنسان أيضًا مع شعور بخيبة الأمل. فالتكيف في النهاية يؤدي إلى إدراك أن الأشياء تصبح بديهية وتفقد قيمتها العملية. وهذا هو جوهر مبدأ ماخ. كما يقول : " في الواقع، كل تقدم تنويري يتم إحرازه في العلم يصاحبه شعور معين بخيبة الأمل. فنحن نكتشف أن ما بد لنا رائعًا ليس أكثر روعة من الأشياء الأخرى التي نعرفها غريزيًا ونعتبرها بديهية... حيث يتبين أن لغزنا لم يعد لغزًا؛ فهو يختفي في العدم، ويأخذ مكانه بين ظلال التاريخ."(27)
باختصار، يتسم موقف ماخ بالوضوح والشفافية، لكنه ليس مستندًا بشكل مباشر إلى تجربته الشخصية كعالم. بل هو تعبير عن تفسيره الفلسفي لعلم الميكانيكا.(28)
وعند الانتقال إلى وجهة نظر أينشتاين، نجد أنفسنا في بيئة مختلفة تمامًا. كان أينشتاين على دراية تامة بأعمال ماخ التاريخية والفلسفية، بل إنه أشار إلى أن لها تأثيرًا إيجابيًا معينًا على نشوء نظريته النسبية.(29)
ومع ذلك، لم يقتصر الأمر على عدم توافق آينشتاين مع وجهة نظر ماخ حول العجب، بل إنه تمسك بوضوح بفرضية معاكسة تمامًا. بالنسبة له، لا يوجد أدنى شك في أن العلم ، بدلاً من أن يقضي على العجب، يسهم فعليًا في تحقيقه. فكلما زادت الدهشة ، زاد تقدم العلم نفسه. فما هو السبب وراء إدانته؟ يمكننا أن نقول بثقة إن هذا السبب يعود إلى تجربته الشخصية كمبدع علمي. يظهر نص واحد بشكل خاص، وهو جزء من رسالة خاصة إلى صديق، المصدر التجريبي لقناعة آينشتاين بوضوح. يقول: "أنت تعتبر أنه من الغريب أنني أرى العالم (بقدر ما يمكننا الحديث عنه) كأعجوبة أو لغز خارجي. يجب أن نتوقع بشكل بديهي وجود عالم لا يمكن فهمه بأي شكل من الأشكال بواسطة الفكر. يمكن للمرء (وهذا أفضل، ينبغي) أن يتوقع أن العالم يجب أن يظهر أنه يخضع للقانون فقط بقدر ما نتدخل من خلال تنظيمه بأنفسنا. سيكون ذلك نوعًا من النظام مثل الترتيب الأبجدي. على النقيض من ذلك، فإن نوع الانتظام الذي ينتج، على سبيل المثال، من نظرية نيوتن في الجاذبية، له طابع مختلف تمامًا، على الرغم من أن بديهيات النظرية قد وضعت."(30)
ومع ذلك نجد ماكس بلانك يؤكد أن العجب ليس مجرد تجربة عابرة ترافق بدايات العلم، بل هو عنصر يتزايد مع كل تقدم علمي. ويستند هذا العجب إلى خصائص أساسية تتعلق بوحدة القوانين الطبيعية وتوسع نطاقها غير المتوقع. يشدد بلانك على أن العجب في العلم ينبع من التفاعل مع نظام الكون الموحد والمترابط. هذه الوحدة، إلى جانب النطاق غير المتوقع للقوانين الطبيعية، تجعل العلم وسيلة دائمة لتوسيع آفاق الإنسان وتعزيز شعوره بالدهشة أمام روعة العالم. كما يقول بلانك: "إذا نظرنا إلى الأمر بعمق، فإن العجب الحقيقي يكمن في أننا نواجه قوانين طبيعية تنطبق على البشر من جميع الأجناس والأمم. وهذه حقيقة ليست بديهية على الإطلاق. والعجب الآخر هو أن جزءًا من هذه القوانين، بالنسبة لمعظم الناس، له نطاق لا يمكن توقعه مسبقًا، مما يزيد من عنصر العجائب في بنية الصورة الكونية مع اكتشاف كل قانون جديد."(31)
يتعلق الأمر بالطريقة الغريبة التي يتغير بها العلم نفسه على مر القرون. من حيث المبدأ ، لا ينبغي لأحد أن يفاجأ بتغير العلم. فالأشياء تتغير بمرور الوقت، والرجال يتغيرون أيضًا. ومن ثم، فمن المتوقع أن تكون معرفة الإنسان بالطبيعة عرضة للتغيير. ومع ذلك، فإن قابلية العلم للتغيير تثير الدهشة لأن كل المستجدات التي يكتشفها العلم لا تمحو النظرة العلمية السابقة للعالم، ولكنها ببساطة تعمل على تحسينها واستكمالها. وهذا أمر مثير للدهشة لأنه يبدو ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية. للاستشهاد بلانك ، مرة أخرى، :"لكن الظرف الذي يدعو إلى دهشة أكبر من أي وقت مضى، لأنه ليس أمرا بديهيا بطبيعة الحال ، هو أن صورة العالم الجديد لا تمحو الصورة القديمة، بل تسمح لها بالوقوف في كليتها، و ويضيف فقط شرطًا خاصًا لها... بينما يتكشف العدد الكبير من الظواهر الطبيعية التي يتم ملاحظتها في جميع المجالات بغزارة أكثر ثراءً وتنوعًا، فإن الصورة العلمية للعالم، المشتقة منها، تتخذ دائمًا شكلاً أكثر وضوحًا وتحديدًا. إن التغيرات المستمرة في الصورة العالمية لا تعني بالتالي تذبذبًا غير منتظم في خط متعرج، بل تعني تقدمًا وتحسنًا واكتمالًا".(32)
وبهذا يمثل تطور العلم بالنسبة لبلانك عملية مدهشة لأنها تتميز بخصائص التراكمية والوضوح المتزايد. هذه الظاهرة، التي تجمع بين التغير المستمر والحفاظ على المكتسبات السابقة، تجعل العلم أكثر من مجرد نشاط معرفي؛ إنه رحلة مستمرة نحو الكمال، مما يعزز العجب والإعجاب في قلوب العلماء والمتأملين.
و في ختام التأمل في أعجوبة العلم، يبرز الفيزيائي لويس دي برولي سؤالًا أساسيًا: لماذا يمكن للعلم أن يوجد أصلًا؟ يشير دي برولي إلى أن وجود العلم نفسه هو أعجوبة تتجاوز الاكتشافات الفردية، إذ إنه يكشف عن توافق مذهل بين العقل البشري وقوانين الطبيعة.
خلاصة القول: يتضح أن العجب والعلم مرتبطان بشكل وثيق، ليس فقط كحالة نفسية تنطلق منها عملية الاكتشاف العلمي، بل كخاصية أساسية تتجدد مع كل تقدم علمى للطبيعة. فالمبدعون الكبار في العلم هم الأكثر شعورًا بالدهشة، لأنهم يقفون في مواجهة مباشرة مع النظام الدقيق للطبيعة. وبدلاً من أن يُفهم العلم كعملية باردة تحل الألغاز وتزيل الغموض، يتضح أنه تجربة إنسانية متكاملة تعيد للإنسان إحساس العجب والدهشة. بهذا، يصبح العلم مصدرًا لإثراء الروح الإنسانية وتعميق رؤيتنا للعالم والطبيعة.وعليه، يمكن القول إن العجب هو جوهر العلم وروحه الحية، وهو ما يجعل العالم والطبيعة أكثر إشراقًا وإلهامًا مع كل اكتشاف جديد.(33)
3-الدهشة الفلسفية
تُعتبر الدهشة الفلسفية من الخصائص الجوهرية للتفكير الفلسفي، حيث تمثل حالة ذهنية يتغير فيها تصور الإنسان للأشياء، مما يجعلها تبدو مختلفة عن مظهرها المعتاد. في هذه الحالة، تتلاشى المعاني التقليدية التي يدركها العقل، مما يفتح المجال للتساؤل والاستكشاف. تنبع الدهشة هنا من الجهل أو نقص الفهم الكافي، وهما عنصران أساسيان يحفزان التفكير الفلسفي ويعكسان المرحلة الأولى في رحلة البحث عن المعرفة. من خلال هذه الدهشة، يبدأ الفيلسوف في طرح الأسئلة التي تقوده إلى اكتشافات جديدة وفهم أعمق للعالم من حوله.(34)
الدهشة الفلسفية ليست مجرد فضول عابر، بل هي تأمل عميق بامتياز. فهي لا تكتفي بتفسير الظواهر، بل تسعى لاكتشاف معانٍ أعمق وراءها. من خلال تحليل المعاني التقليدية للأشياء، تهدف الدهشة الفلسفية إلى تجاوز التفسيرات السطحية وكشف القيود الخفية التي تحيط بها. وبهذا، تصبح الدهشة أساسًا للفلسفة ، حيث تعمل كمحفز للتساؤل المستمر والبحث الذي لا ينتهي. وقد أشار أرسطو إلى أن الدافع الأساسي وراء الدراسات الفلسفية هو الدهشة، وهو ما بدأ به الفلاسفة اليونانيون الذين اعتبروا أن التفكير الفلسفي ينطلق عندما تتعطل المعرفة التقليدية ويشعر العقل بدهشة تدفعه للبحث عن الحقيقة.(35) ولهذه الدهشة الفلسفية خصائص عديدة منها:
1- الدهشة الفلسفية تتطلب نوعًا من المعاناة الذهنية والعاطفية، حيث تنبع من حالة التوتر والقلق التي يختبرها الإنسان عند مواجهته للأسئلة الجوهرية المتعلقة بالوجود والمعنى. هذه الدهشة ليست مجرد شعور عابر، بل هي حالة دائمة من التساؤل العميق، تتطلب من الفرد القدرة على الاستمرار في طرح الأسئلة دون انقطاع. إنها دعوة للبحث المستمر عن الحقيقة والتأمل في الأبعاد الأكثر عمقًا للواقع، مما يدفع الفيلسوف إلى تجاوز الإجابات السطحية والسعي نحو أفكار ونظريات تفسر الظواهر من منظور أوسع.
2-الدهشة الفلسفية تُعتبر السؤال الجوهري الذي ينطلق منه الفكر الفلسفي، وهو يتجلى في سؤال "ما هو الوجود من حيث هو موجود؟" هذا السؤال لا يركز على الوجود الفردي أو المحدد للأشياء، بل يتناول الوجود في جوهره وعناصره الأساسية. إنه تساؤل عميق يعكس السعي نحو فهم شامل للواقع كما هو، بعيدًا عن التصورات التقليدية. هذه الدهشة تُعد مصدرًا لكل تساؤل فلسفي آخر، حيث تدفع الفيلسوف إلى محاولة فك رموز المعنى الكامن وراء الوجود والبحث عن تفسير أعمق لماهية الأشياء، مما يفتح أمامه آفاقًا لا حصر لها من التأمل الفلسفي.
3-الدهشة الفلسفية تمثل الفعل الذي يدفع الإنسان لتجاوز حدود عالمه المألوف، ويشجعه على الخروج من نطاق ذاته المحدودة ليتأمل في أعمق الأسئلة الوجودية. إنها لحظة من الوعي العميق تفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة للتفكير، مما يمكّنه من استكشاف معانٍ ومعارف تتجاوز تجربته الشخصية وعالمه الحسي. من خلال هذه الدهشة، يسعى الإنسان للتفاعل مع الوجود بشكل أوسع، محاولًا فهم القوانين الكونية والحقائق الكامنة وراء الظواهر، مما يقوده إلى رحلة من التفكير المستمر والمستقل.
4-الدهشة الفلسفية تحول النظرة التقليدية واليومية إلى العالم إلى رؤية أعمق وأشمل، حيث تتحرر من أي أغراض عملية أو نفعية. إنها سعي غير مشروط نحو المعرفة من أجل المعرفة ذاتها، بعيدًا عن أي أهداف خارجية أو منافع مباشرة. في هذه اللحظة، لا يكون الهدف من التفكير هو إيجاد حلول للمشكلات الحياتية أو تحسين الظروف الراهنة، بل هو السعي لفهم الحقيقة في جوهرها، دون تحيز أو مصلحة. وبهذا، تصبح الفلسفة رحلة تأملية في الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود والواقع، حيث تتجاوز الفرد لتتناول المفاهيم الكونية والعامة.
5-الدهشة الفلسفية تنبع من أعماق الإنسان وتجربته اليومية، حيث تبدأ تساؤلاتها من تجاربه الشخصية وواقعه المعيش. فهي ليست منفصلة عن العالم الإنساني، بل تنبع من فهم أعمق لوجود الإنسان ذاته. من خلال هذه الدهشة، يسعى الفيلسوف إلى استكشاف معاني الحياة والوجود، ويتساءل عن جوهر الإنسان وكينونته، محاولًا اكتشاف الحقيقة التي تتجاوز الظواهر والأحاسيس المألوفة. وبالتالي، تكشف هذه الدهشة الفلسفية عن طبيعة الإنسان وتحدياته، وتدفعه لإعادة التفكير في معاني الحياة والوجود والعلاقات بين الأفراد والمجتمع.(36)
وسوف نتتبع حركة الفكر الفلسفى لمعرفة مواقف بعض الفلاسفة من الدهشة , فلقد رأى كل من أفلاطون وأرسطو أن الدهشة تشكل المحرك الأساسي للفكر الفلسفي. بالنسبة لأفلاطون، يُعتبر الاندهاش نقطة البداية لكل شيء، وهو الشرارة التي تحفز التساؤلات في عقل الفيلسوف حول العالم والوجود. ويعبر أفلاطون عن ذلك بقوله: "لا يوجد أصل أو مبدأ آخر في الفلسفة سوى رثاء الاندهاش"، مما يدل على أن الدهشة هي ما يدفع الإنسان للبحث عن المعرفة الحقيقية. من جهته، يؤكد أرسطو أن الدهشة هي التي حفزت البشر على التفكير الفلسفي وممارسة البحث العقلي حول العالم والحياة. وفقًا لأرسطو، يُعتبر الاندهاش بداية عملية التفكير الفلسفي، حيث يدفعنا للتساؤل عن الأمور التي نعتبرها عادة مسلمات في حياتنا اليومية.(37)
وعند تأملنا في هذه العبارات، يمكننا تحديد ثلاثة عناصر رئيسة للفلسفة:
أولاً: هناك "تجربة داخلية ترافق تصورنا للعالم" تعكس نوعًا من الوعي. قد ترتبط هذه التجربة بتقديرنا للظواهر الطبيعية أو الفلسفية التي تبدو معقدة أو غامضة، مما يثير فينا شعورًا بالشفقة تجاه محدوديتنا في فهم أو إدراك هذه الظواهر. هذا النوع من "الشفقة" يمكن أن يكون إدراكًا مدهشًا لوجود أشياء لا نستطيع السيطرة عليها أو فهمها بشكل كامل، لكنه يثير فينا الرغبة في الفهم والتفسير. الطبيعة، مثل أمواج البحر وحركة النجوم، تثير تساؤلات حول أصلها ومعناها، مما يدفعنا للبحث عن إجابات. قد تبدو بعض الأمور بديهية للبعض، لكن هذه الظواهر العادية تصبح مليئة بالدهشة عندما ننظر إليها من منظور فلسفي أو تأملي. كما أشار أرسطو، تلعب حواسنا، وخاصة حاسة البصر، دورًا مهمًا في دفعنا نحو التفكير والتفسير. حواسنا هي الوسيلة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا، ومن خلالها نلاحظ أشياء قد تبدو طبيعية، لكنها تحمل في طياتها أسرارًا ومعجزات تتطلب منا التأمل والتحقيق. إن هذا الشعور بالدهشة والتساؤل عن العالم هو ما يحفز الفكر الفلسفي ويساهم في تطوره.
ثانيا: نجد أنفسنا في حالة من الإعجاب أمام هذا العالم الغريب الذي يبدو كأنه يحمل أسرارًا خفية. يوجهنا حدسنا إلى أن هناك نظامًا كونيًا متخفيًا في طيات هذا العالم المدهش، ومع ذلك، فإنه يكشف عن نفسه لعقولنا الفضولية. إن تجربة الإعجاب المرتبطة بهذه الدهشة تدفعنا إلى الاقتناع بأن العالم في جوهره هو كيان واحد متماسك، حيث يتعين علينا التمييز بين الجوهر والمظهر. إن ظهور العديد من الظواهر التي نلاحظها يرتبط بطريقة ما بجوهر النظام الداخلي لكل شيء. فهم هذا الجوهر والنظام الكوني ليس بالأمر السهل. إن الدهشة والإعجاب تدفعاننا للقيام بما هو مطلوب، وهو ممارسة التأمل والتفكير. وليس في قدرتنا أن نرى هذا النظام الكوني الخفي وهو يكشف عن نفسه، بل يتجلى فقط من خلال الفكر.
إن التمييز بين عالم الإدراك المتعدد الأبعاد وعالم الفكر الموحد يعكس أيضًا الفارق بين الباطن والظاهر، والداخلي والخارجي. لا يمكن اكتشاف الجوهر الداخلي للعالم وحقيقته إلا من خلال العقل الداخلي. يتماشى جوهر العالم مع العالم الداخلي للعقل. بينما يتجلى العالم من خلال سلسلة لا نهائية تقريبًا من الظواهر، فإن هذا يتوافق مع الإدراك الخارجي. في تاريخ الفلسفة، كانت الحقيقة المتعلقة بهذا العالم الخارجي هي الهدف الرئيسي للفلاسفة؛ وفي النهاية، تمكنت الفلسفة من اكتشاف العالم الداخلي للعقل البشري عبر مسيرتها.
ثالثًا: من عناصر الدهشة الفلسفية: الافتراض بأن جوهر العالم ذو طبيعتين متباينتين ومتكاملتين، الأولى ثابتة ومقررة تعكس النظام والتناغم الكوني، والثانية متحركة ومتغيرة تعبر عن التحول والصيرورة المستمرة. هذا التباين يصبح واضحًا عندما نتأمل في الطبيعة؛ فبينما تبرز الطبيعة ديناميكيتها وحركتها الدائمة من خلال تغير الفصول أو حركة الأجرام السماوية، فإن الفكر الإنساني، خاصة عند التعبير عنه كتابة، يسعى لتثبيت المعاني وتحديدها ضمن قوالب ثابتة. إن هذه التجربة الجوهرية لتعارض الوجود والصيرورة ليست مجرد تناقض، بل هي الدافع وراء السؤال الفلسفي الأساسي الثالث الذى يشغل الفلسفة بأكملها: كيف يمكن فهم العلاقة بين ما هو ثابت ومطلق، وما هو متغير ومتجدد؟.
هكذا تؤدي الدهشة إلى الفلسفة: إن جوهر العالم، الذي يتجاوز مجرد الإدراك، هو كيان متماسك واحد. يتم التعبير عن هذا الجوهر من خلال العقلانية البشرية. هناك ارتباط ما بين المفاهيم الأبدية للعقل البشري وتنوع الطبيعة وزوالها. هذه التأملات قادت الفلسفة اليونانية في بداياتها إلى محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة أساسية: ما هو جوهر العالم وما الذي يجعل منه كيانًا متماسكًا؟، كيف يمكن لـالعقل البشري أن يعبر عن هذا الجوهر الكوني؟ و ما العلاقة بين المفاهيم الأبدية والتغير المستمر في الطبيعة؟.(38)
تبدو الفلسفة الغربية وكأنها تنطلق من دهشة أفلاطون الناتجة عن إدانة المدنية لسقراط والحكم عليه بالموت. يتساءل أفلاطون: لماذا لم يُفهم سقراط؟ ولماذا أُدين هذا الرجل الذي لم يُسئ إلى أحد، بل كان مواطنًا طيبًا وشجاعًا؟ رجل اكتفى بدعوة الناس إلى معرفة أنفسهم، وردّ العالم إلى العقل الذي أنشأه. عندما يقرأ الإنسان أفلاطون، يشعر بوضوح أنه ينظر إلى ما حدث وكأنه فضيحة حقيقية. ورغم أن مثل هذه الفضائح لم تكن دائمًا بهذا العنف كما كان الحال مع موت سقراط، فإنها تستمر وتتكرر. ويبدو أن نسبة تكرارها تتناسب مع حزن الفيلسوف حين يلاحظ أن الحقائق التي يرى أنها أساسية ومهمة تُقابل بالعناء والاحتقار، رغم أنها الحقائق التي يجب أن تفرض نفسها على كل ضمير نزيه. وهكذا، يبقى صوت سقراط، الذي خنقته المدينة، حاضرًا في عقولنا كنداء عاطفي يدعونا إلى التحاور مع الآخرين عبر العصور، ونعني هنا التحاور الفلسفي الذي يسعى لفهم الإنسان والعالم.(39)
إذا كانت المعرفة تبدأ بالإحساس، فإنه من الضروري تحليل هذا الإحساس والحكم عليه باستخدام الفهم، وصولًا إلى الفهم الخالص الذي يصوغه العقل في شكل فكرة. يتعلق الأمر هنا بالخروج من كهف أفلاطون، ومغادرة عالم المظاهر والظنون للانطلاق نحو التأمل في الحقيقة. فالظن لا يصمد طويلًا أمام اختبار النقد، ولهذا يتطلب الوصول إلى المعرفة عملاً شاقًا للتحقق من مضامين الأفكار، إما لإثباتها أو لرفضها، في سبيل تحقيق فهم أعمق وأكثر رسوخًا للحقيقة.(40)
وهكذا، فإن التفلسف يقتضي الفهم كأساس للتعلم والمعرفة، تلك المعرفة التي تقوم على الذوق والإدراك الواعي. كما يتطلب تحرير أفكارنا من الانفعالات والأوهام التي تشوشها. ومن هذا المنطلق، تصبح الفلسفة رغبة حقيقية في المعرفة، وهي تتطلب ما تتطلبه أي عرفة جادة: أدلة وبراهين واضحة يمكن أن تُنشر وتُعمم، وتفرض نفسها على كل العقول اليقظة، واعدة بالوصول إلى الحقيقة. علاوة على ذلك، تتسم الفلسفة بطابع نقدي، إذ تجعل من المعارف المكتسبة موضوعًا لها، متسائلة عن طبيعتها، ومداها، وحدودها. ومن خلال هذا النقد، نكتشف أن وراء كل فكرة توجد الذات التي جعلتها ممكنة. بذلك تظهر الفلسفة كمعرفة للمعرفة، تهدف إلى فهم أعمق لأصل الأفكار ومضمونها.(41)
يتضح موقف أرسطو هنا من مقولته الشهيرة التي تربط بين الدهشة والتفلسف: "لقد بدأ الناس بالتفلسف من خلال الدهشة." يمكن تعليم الآخرين كيفية استخدام تقنيات الفلاسفة، لكن لا يمكن تعليمهم إثارة الدهشة، لأنها شعور ذاتي ينبع من الفضول الداخلي والقدرة على رؤية العالم بمنظور جديد.(42)

لا شك أن الإنسان السعيد هو الذي لا يظل عالقًا في نفس الاتجاه، بل هو الذي يحول نظره بعيدًا عن الرؤية العامة، من يُحسن إحباط الوهم، ويتوجه نحو السعي للمعرفة. يمتلك هذا الشخص مرونة فكرية وحيوية تؤهله للازدهار العقلي، حيث يبني فكره من خلال استثمار المعرفة بطريقة ديناميكية. وكان شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) يرى أن الفلسفة تنبع من العقل ومن وجودنا الذي يفرض نفسه أمامه، بوصفه لغزًا يثير في الإنسان رغبة مستمرة في البحث عن حلول له.(43)




الهوامش
1-لورانس ڤانين- ڤيرنا: الإنسان المهموم "العلاجيات الفلسفية"، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، 2023، ص 31.
2-ضحى الطلافيح : مفاهيم فى الفلسفة ، ماذا تعنى الدهشة الفلسفية؟ , عالم الفلسفة ، 22ديسمبر 2022م شبكة المعلومات الدولية النت ، 25/7/2023م
*ولدت جان هاش فى جنيف سنة 1910، وبعد مسار دراسى فلسفى طويل تتلمذت فيه على يد ياسبرز ، وعرفت فيه فلاسفة كبارا من قبيل هيدجر ، انتهى بها المطاف استاذة فلسفة فى بكلية جنيف ،ورئيسة قسم الفلسفة باليونسكو ، بالاضافة الى تمثيلها سويسرا فى الجهاز التنفيذى لهذه المنظمة.كان تأثيرها حاسما فى تدريس الفلسفة وفى تاريخها ، وحصلت اعترافا دوليا بقيمتها فكريا وآدبيا.خلفت العديد من الكتب والدراسات والترجمات ، من بينها " الوهم الفلسفى "1936، و" العدو هو العدمبة "1981 ، بالاضافة الى ترجمة عدد من أعمال الفيلسوف الألمانى كارل ياسبرز .. توفيت سنة 2000.( جان هارش : الدهشة الفلسفية تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا ، منشورات الجمل ، بيروت ، لبنان ، 2019، ص 1)
3- جان هارش : الدهشة الفلسفية ، تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا ، منشورات الجمل ، بيروت ، لبنان ، 2019، ص 4
4-د.فارس راتب الأشقر : فلسفة التفكير ونظريات فى التعلم والتعليم ،دار زهران للنشر والتوزيع ، المملكلة الأردنية الهاشمية ، ط1، 1431ه-2011م ، ص 6
5-المرجع نفسه, ص7
6-لورانس ڤانين- ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ترجمة: محمد شوقي الزين، دار الروافد الثقافية، ط1، 2021، ص ص 29-30.
7-المرجع نفسه، ص 41.
8-المرجع نفسه، ص ص 41- 42.
9- المرجع نفسه ، ص 34.
10-المرجع نفسه، ص 56

11-المرجع نفسه، ص ص 56- 57.
12-عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، مؤسسة هنداوى سى آى سى ، ص ص 57
راجع أيضا
جان هارش : الدهشة الفلسفية ، تاريخ للفلسفة، ترجمة محمد آيت حنا ، منشورات الجمل ، بيروت ، لبنان ، 2019، ص ص 5-9

13-علي صبيح التميمي، الدولة في الفلسفة السياسية، نظرية بناء الدولة ، دار أمجد للنشر والتوزيع ، ج1،ط 1، 2016 ، ص ص26-28
14-د. عبد الله شمت المجيدل، تطور الفكر الفلسفي من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة المعاصرة، ص 35.

15- Cantore, Scientific Man. The Humanistic Significance of Science (New York: ISH Publications, 1977), p-95.
16- Der Teil und das Ganze: Gespräche im Umkreis der Atomphysik (Munich: Piper, 1969),p-600
17-E. Cantore, Op-Cit, p-95.
18-Ibid,p-96
19-Loc-Cit
20- F. Bello in P.C. Obler, and H. Estrin, eds., The New Scientists: Essays on the Methods and Values of Modern Science (New York: Doubleday Anchor Books, 1962), p. 81.
21- E. Cantore, Op-Cit, p-97
22-B.T. Eiduson, Scientists: Their Psychological World (New York: Basic Books, 1962), p. 110.
23-M. Born, My Life and Views (New York: Scribner, 1968), pp. 47f.
24-L. de Broglie, Physics and Microphysics, trans. M. Davidson (New York : Grosset & Dunlap, 1966), p. 208.
25-E.Cantore, Op-Cit, p-99
26-E. Mach, “On Transformation and Adaptation of Scientific Thought,” in his Popular Scientific Lectures, trans. T.J. McCormack (La Salle, Ill.: Open Court, 1943), pp. 214-235, especially p. 224.
27-E. Mach, “The Economical Nature of Physical Inquiry,” in Popular Scientific Lectures, pp. 186-213, especially p. 41.
28-E.Cantore, Op-Cit, p-99
29- Einstein’s Autobiographical Notes, in P.A. Schilpp, ed., Albert Einstein, Philosopher-Scientist (New York: Harper Torchbooks, 1959), p. 21
30- Einstein, Lettres à Maurice Solovine (Paris : Gauthier- Villars, 1956), p. 114 letter dated March 30, 1952.
31-M. Planck, Scientific Autobiography and Other Papers, p. 93
32-Ibid, pp. 98-100.
33-E.Cantore, Op-Cit, p-106
34- Anders Schinkel : "Wonder, Mystery, and Meaning", published onlinen: 29,Nov2018,p-293
35-د.عبد الله شمت المجيدل ، مرجع سابق، ص 35
36-عبد الغفار مكاوي، مدرسة الحكمة، مؤسسة هنداوى سى آى سى، ص ص 80 -95(بتصرف)
37-Robbert Veen:Introduction to philosophy , Three elements of philosophy,August 25,2018,p-1
38- Loc-Cit
39-فريناند ألكييه: معنى الفلسفة، ترجمة: حافظ الجمالي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 36.
40-المرجع نفسه، ص ص 42- 43.

41-المرجع نفسه، ص 66.

42-Oleksandr Kulyk: On the Possibility to Teach Doing Philosophy, ASIANetwork Exchange A Journal for Asian Studies in the Liberal Arts, December 2018,pp-4-7
43-لورانس ڤانين – ڤيرنا: لماذا نتفلسف؟ سبل الحرية، ص 40.



#ابراهيم_طلبه_سلكها (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مهارات التفكير الفلسفى ( الحوار)
- الحرية والتعددية عند الفيلسوفة حنه أرندت
- مشكلة المعرفة فى الفلسفة
- موقف اشفيتسر من الحضارة
- نظريات نشوء الحضارات
- الكفاءة والأداء اللغويان عند تشومسكى
- الكانطية الجديدة
- أسس الأخلاق .. الفيلسوف والترستيس
- دراسة اللغة بين القديم والحديث عند فيرث
- فرنسيس بيكون (1561- 1626)
- التغير اللغوى وتطور المجتمع
- تعريف مابعد الحداثة
- عثمان أمين وفلسفته الجوانية
- الفيلسوف تشومسكى
- مفهوم الحضارة
- موقف زكى نجيب من الميتافيزيقا
- فلسفة الأخلاق النسوية
- فلسفة اللغة العادية
- التحول اللغوى فى الفلسفة
- الفيلسوف الأسبانى أونامونو


المزيد.....




- مع استمرار غموض موقف السعودية.. قائمة حضور قمة بريكس بغياب ز ...
- خال من البشر.. مصور يسكتشف الجمال السريالي لمصنع سيارات كهرب ...
- من هو الدالاي لاما وكيف يعمل مبدأ التناسخ في البوذية التبتية ...
- خلال ساعات الليل.. موجة هجمات متبادلة بالمسيّرات بين روسيا و ...
- جسد صغير مثقل بالحرب.. طفل مصاب بتلف دماغي في غزة يُصارع للب ...
- ألمانيا - دعاوى جديدة ضد تعليق البت في طلبات اللجوء عند الحد ...
- الفكر الريعي
- قادة مجموعة بريكس في ريو دي جانيرو لمواجهة سياسة دونالد ترام ...
- فيديو: أول ظهور علني للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي منذ ا ...
- هجوم مستوطنين مسلحين على بلدة بيتا جنوبي نابلس


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ابراهيم طلبه سلكها - مهارات التفكير الفلسفى - مهارة الدهشة واثارة التساؤل-