أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغير














المزيد.....

فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغير


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8394 - 2025 / 7 / 5 - 11:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في قلب السعي الإنساني لفهم العالم والوجود، تبرز فلسفة العلوم كرافدٍ فكري بالغ الأهمية، لا يقتصر دوره على تحليل المعارف العلمية، بل يتجاوز ذلك ليغوص في جوهر الكيفية التي ننتج بها المعرفة، ونحدد من خلالها علاقتنا بالواقع. إنها ليست مجرد تنظير أكاديمي، بل ممارسة نقدية تُسائل الأسس والمفاهيم والمناهج التي تقوم عليها التجربة العلمية، وتعيد مساءلة ما نعتبره حقائق ومعايير للصدق. فحين نتأمل العلم من منظور فلسفي، لا نكتفي بطرح سؤال "ماذا نعرف؟"، بل نذهب إلى أعمق من ذلك: "كيف نعرف؟"، "ولماذا نثق بهذا النوع من المعرفة دون غيره؟"، "وما الذي يجعل من المعرفة العلمية مميزة عن باقي أنماط الفهم البشري؟".

تشتبك فلسفة العلوم مع أسئلة جوهرية تمسّ جوهر العقل الإنساني: هل العلم مجرد تجميع للحقائق التجريبية، أم أنه طريقة مخصوصة للنظر إلى العالم وتفسيره؟ هل النظريات العلمية تصف الواقع كما هو، أم أنها مجرد أدوات تقريبية تُبنى على مفاهيم جزئية وقابلة للمراجعة؟ هل العلم يتطور وفق خط تصاعدي مستمر، أم عبر ثورات وانقطاعات وتغيرات جذرية؟ هذه الأسئلة لا تظل حبيسة قاعات البحث الفلسفي، بل تمتد آثارها إلى المختبرات والمجتمعات والضمير الجمعي، إذ تكشف حدود العلم وتضع إطارًا لمشروعيته ومنهجيته وأخلاقيته.

فلسفة العلوم تسهم في ترسيخ التفكير النقدي، ليس فقط داخل الأوساط الأكاديمية، بل في العقل العام. من خلال تقصي بنية المناهج العلمية، تعمل على تنقية التفكير من أوهام الاستنتاج المسبق والتعميم المتسرع، وتدعو إلى الحذر من الوقوع في مغالطات ما يُعرف بالعلم الزائف. إنها تُذكّرنا أن المعرفة ليست أبدًا مطلقة، وأن التواضع العلمي شرط ضروري لسلامة البحث واكتماله. كما أنها تفضح الاستعجال في تحويل الفرضيات إلى يقينيات، وتُبرز هشاشة كثير من النماذج حين تواجه الواقع في تعقيده وتشظيه.

وعلى مستوى أعمق، تؤثر فلسفة العلوم في الطريقة التي نفهم بها الكون والوجود. هي التي تدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الكون منظمًا وفق حتمية صارمة، أم أنه يتضمن جوانب من الاحتمال والعشوائية. وهي التي تفتح النقاش حول السببية، وتعيد تفكيكها من كونها مجرد تراتبية زمنية إلى بنية معقدة تتداخل فيها عوامل متشابكة. كذلك تساعدنا على التحرر من اختزال الواقع إلى ما هو قابل للقياس فقط، وتفتح أعيننا على تعددية الرؤى الممكنة، وعلى أن الحقيقة قد تكون أكثر اتساعًا من معايير التجربة المعملية وحدها.

ولعل الأثر الأبرز لفلسفة العلوم يتجلى في علاقتها بالمجتمع. فهي تضع العلم في سياقه التاريخي والثقافي، وتُحذّر من تغوّله حين ينفصل عن قيم الإنسان وحقوقه. إنها تطرح أسئلة أخلاقية لا غنى عنها: هل يحق للعلم أن يتجاوز الحدود الإنسانية بحجة التقدم؟ ما حدود تدخل العلماء في شؤون الحياة العامة؟ وهل يمكن للعلم أن يكون محايدًا في عالم مشحون بالمصالح والصراعات؟ هذه الأسئلة تزداد إلحاحًا في زمن تهيمن فيه التكنولوجيا على القرار السياسي، وتُبنى السياسات العامة على نماذج رياضية قد لا تأخذ في الاعتبار هشاشة البشر وتعقيد حياتهم.

ليس غريبًا إذًا أن نجد فلسفة العلوم تتدخل عند الأزمات المفاهيمية الكبرى في التخصصات العلمية، كما حدث في الفيزياء عند بروز ميكانيكا الكم، أو في الأحياء عند النقاش حول الجينوم والوعي. تسهم هذه الفلسفة في تأطير التحولات الكبرى، وتوفير لغة تحليلية تساعد على إعادة بناء المفاهيم من الداخل، بل وفي بعض الأحيان تعيد توجيه مسارات البحث العلمي نفسها نحو آفاق جديدة لم تكن ممكنة لولا هذا التدخل الفلسفي.

وفي عصرنا الحاضر، تجد فلسفة العلوم نفسها أمام تحديات غير مسبوقة. الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، يطرح سؤالًا خطيرًا: هل يمكن أن تُنتج الآلات معرفة علمية حقيقية؟ هل الخوارزميات قادرة على الاكتشاف، أم أنها تعيد تنظيم ما ينتجه العقل البشري؟ وفي ضوء أزمة التكرار في نتائج البحوث العلمية، تتصدى فلسفة العلوم لمراجعة أسس التجريب والمنهجية وتدعو إلى انضباط علمي صارم يحترم المعايير ولا يرضخ لضغوط السوق أو الأيديولوجيا. أما التحديات المناخية، فتدفعها إلى مساءلة العلاقة بين العلم والقيم، وإلى المطالبة بعلم يتحمل مسؤوليته تجاه الحياة لا يكتفي بالوصف والتفسير.

هكذا يتضح أن فلسفة العلوم ليست ترفًا نظريًا، بل ضرورة معرفية وأخلاقية وثقافية. إنها الحارس النقدي للعقل العلمي، والضمير الذي يُذكّر بأن كل معرفة تحمل ضمنًا تصورًا عن الإنسان والعالم. إنها تدعونا إلى التفكير بعمق في ما نعرفه، وكيف نعرفه، ولماذا نثق به، وماذا يعني ذلك لحياتنا الفردية والجماعية. وفي عالم تتزايد فيه السلطات التي تدّعي امتلاك الحقيقة، تُعيد فلسفة العلوم الاعتبار للشك الإيجابي، للفضول الخلاق، وللحرية الفكرية بوصفها الشرط الأول لكل تقدم إنساني أصيل.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرآن الناطق بالعقل: الجذور التأسيسية لعلم الكلام الإسلامي
- غرس الانقسام : كيف أعاق الكيان الصهيوني وحدة الأمة العربية
- في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...
- جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمع ...
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...
- الذكاء الاصطناعي في المشهد الاتصالي: من أداة مساندة إلى لاعب ...
- الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطن ...
- من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط


المزيد.....




- سوريا .. حرائق الغابات تلتهم مساحة أكبر من دمشق وتشكل اختبار ...
- رسائل -تلغرام- وعروض مالية.. وثائق تكشف كيف جنّدت إيران جواس ...
- -إمارة الخليل- مقترح تقدم به شيوخ فلسطينيون للسلام مع إسرائي ...
- بين تغيّر المناخ والتوترات الجيوسياسية: كندا تدخل معركة -كاس ...
- فيديو دعائي جديد منسوب لـ-حسم-.. وتكهنات بمحاولة لإحياء نشاط ...
- بعد خلافه مع ترامب إيلون ماسك يعلن تأسيس حزب جدبد
- غزة: جولة مفاوضات جديدة غير مباشرة بين إسرائيل وحماس في الدو ...
- 4 أسئلة عن آخر تطورات مقترح الاتفاق بين حماس وإسرائيل
- اتهامات للصين بالسعي لتقويض مبيعات طائرة رافال الفرنسية
- محللان: المقاومة قدمت مرونة كبيرة ونتنياهو لن يوقف حرب غزة


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة المعرفة العلمية: تفكيك اليقين وبناء المعنى في عالم متغير