أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل














المزيد.....

في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 11:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يُعد الوعي من أكثر المفاهيم الفلسفية إشكاليةً وثراءً، وقد مثّل محورًا مركزيًا في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، حيث انطلق من لحظة الشك الديكارتي، ومرّ بمفاهيم الجوهر عند سبينوزا، وتشكل الظاهرات عند هوسرل، وانغماس الكائن في العالم عند هايدغر. كل من هؤلاء الفلاسفة تناول الوعي من زاوية مخصوصة، تكشف عمق رؤيته للعالم والوجود والذات، وتؤسس لمدرسة فلسفية متمايزة.

ديكارت: الوعي كجوهر مفكر مستقل

في قلب المشروع الفلسفي لديكارت، يتجلى الوعي بوصفه جوهرًا مفكرًا قائمًا بذاته، وهو الأساس الذي تقوم عليه كل معرفة يقينية. ففي لحظة الشك الراديكالية، حينما شك في كل شيء – الحواس، الجسد، العالم – لم يستطع أن يشك في فعل الشك ذاته، أي في وجود ذات تشكّ. ومن هنا أطلق عبارته الشهيرة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (Cogito ergo sum)، والتي شكلت حجر الأساس في الفلسفة الحديثة. الوعي، بالنسبة لديكارت، ليس مجرد حالة شعورية، بل هو ماهية الكائن الإنساني، وهو وجود متعالٍ ومنفصل عن الجسد، أي "جوهر مفكر" يختلف عن "الجوهر الممتد" الذي هو المادة. لقد أقام ثنائية بين النفس والجسد، بين الوعي والمادة، وهو ما سيطلق لاحقًا جدلًا واسعًا في تاريخ الفلسفة حول العلاقة بين الذهن والعالم. في نهاية المطاف، يرى ديكارت أن الوعي يتمتع بنقاء داخلي، وأنه هو الذي يمنح العالم الخارجي معناه ومعقوليته.

هايدغر: الوعي كتجربة وجودية منفتحة على العالم

أما هايدغر، فينسف الفكرة الديكارتية من جذورها، ويعيد صياغة مفهوم الوعي في أفق وجودي يربطه بـ"الكائن في العالم" (Dasein). فالوعي، في فلسفة هايدغر، ليس جوهرًا مفكرًا مستقلاً، بل هو شكل من أشكال الانكشاف الوجودي، إنه انفتاح الكائن الإنساني على العالم من خلال "الهمّ" (Sorge) و"الانشغال" بالوجود. لا يمكن فهم الوعي من خلال التأمل الذاتي المنغلق، بل من خلال علاقة الكائن بالعالم، وبالزمن، وبالآخرين. الكائن البشري، وفق هايدغر، لا يعي ذاته أولًا ثم يتجه نحو العالم، بل هو منغمس منذ البدء في عالم له دلالة، وعليه أن يستخرج إمكاناته الوجودية ضمن هذا الانغماس. الوعي ليس شيئًا داخليًا، بل هو حركة وجودية مشروطة بالزمن والتاريخ والفناء، ولهذا فإن هايدغر يعارض الفهم التقني أو النفسي للوعي، ويعيد ربطه بجوهر الإنسان بوصفه كائنًا مَقدورًا له أن يكون أو لا يكون.

هوسرل: الوعي كتدفق مقصدي ومرآة للمعنى

ينتقل هوسرل بالوعي من مستوى الجوهر الميتافيزيقي إلى مستوى التجربة الظاهراتية المحضة، حيث يؤسس منهجه القائم على "الردّ الفينومينولوجي" (epoché) لتحرير الوعي من الافتراضات الخارجية. الوعي، في فلسفة هوسرل، هو دائمًا وعي بشيء ما، أي أنه مقصدي بطبيعته (Intentionality)، وهو ليس مجرد حالة ذهنية داخلية، بل علاقة حية بين الذات والموضوع. من خلال التحليل الظاهراتي، يصبح الوعي هو الحقل الذي تنكشف فيه الظواهر بوصفها معطيات مباشرة للتجربة. يذهب هوسرل إلى أن كل وعي يحمل داخله بُعدًا زمانيًا، وأن التجربة الحية للوعي تحتوي على تدفق مستمر من "الحاضر"، و"التوقع"، و"التذكر"، وهي ما تؤسس للمعنى. بهذا المعنى، يصبح الوعي ليس فقط شرطًا لإدراك العالم، بل هو ذاته مصدر المعقولية والمعنى. وبهذا، يشكل مشروع هوسرل ثورة معرفية، تنقل مركز الفلسفة من موضوعية العالم إلى ذاتية الوعي كمرآة نقية لتكوين الواقع.

سبينوزا: الوعي كتعبير عن وحدة الكينونة

أما سبينوزا، فقد رفض الثنائية الديكارتية بين النفس والجسد، واعتبر أن الوعي ليس جوهرًا مستقلًا، بل هو نمط من أنماط التجلي داخل الجوهر الواحد، الذي هو "الله أو الطبيعة" (Deus sive Natura). في فلسفته المونيزمية (وحدة الوجود)، ليس هناك انفصال بين الذهن والجسد، بل هما تعبيران عن ذات الجوهر من منظورين مختلفين: الذهني والجسدي. الوعي، إذن، لا ينبثق من "أنا" منعزلة عن العالم، بل هو تدفق ضروري ضمن قوانين الطبيعة. لا مكان للحرية المطلقة أو الإرادة الحرة بالمعنى الكلاسيكي، بل الوعي يتدرج من حالات أدنى (كالإدراك الجزئي) إلى حالات أعلى (كالحدس العقلي)، ويبلغ ذروته عندما يدرك الإنسان أن وجوده جزء من نظام كلي تحكمه الضرورة. وفي هذا الإدراك، يكمن نوع من "الحرية المعرفية"، حيث يتحرر الإنسان من الأوهام والانفعالات، ويحقق نوعًا من السلام العقلي، أو ما يسميه سبينوزا بـ "حب الله العقلي".

يتضح من تتبع هذه الرؤى المتنوعة أن مفهوم الوعي في الفلسفة ليس فكرة ثابتة، بل هو مرآة لتحولات الفكر الإنساني من الذاتية الميتافيزيقية إلى التجربة الوجودية، ومن التأمل العقلي إلى الانخراط الظاهراتي، ومن الانقسام الثنائي إلى الوحدة الكونية. كل فيلسوف منهم قدّم بناءً مفاهيميًا عميقًا للوعي، يعكس عصره، وينير عصورًا بعده. فمن الكوجيتو الديكارتي إلى الدازاين الهايدغري، ومن القصدية الهوسرلية إلى الضرورة السبينوزية، يبقى الوعي لغزًا حيًّا، مفتوحًا على الأسئلة، ومفعمًا بالإمكانات.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ميادين المعارك إلى خوارزميات السيطرة: كيف يعيد الذكاء الا ...
- العقل الأداتي في الفكر المعاصر: قراءة نقدية في أطروحة يورغن ...
- برمجة الضمير: حين تعاد صياغة الأخلاق في زمن الخوارزميات
- العقل في مواجهة المادة: رؤية كانط الأخلاقية في زمن النزعة ال ...
- الظلال النووية : الصراع الأمريكي الإسرائيلي ضد طموحات إيران ...
- الاقتصاد الخوارزمي : حين يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل قوانين ...
- تحوّلات الدولة الفاشلة: عندما يفقد القلم والعنف والسلطة معنا ...
- الرقابة الذكية والأمن العام: بين الحماية والهيمنة
- الدولة الإسلامية بوصفها دولة الوقت: نحو تخييل سياسي يتجاوز ا ...
- اللعب بالنار: التحالف الأمريكي الإسرائيلي يفتح أبواب الجحيم ...
- باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية
- التحالفات المرتبكة: الحرب الإسرائيلية الإيرانية تحت مجهر الس ...
- جذور الحكمة ونُظُم الحياة: أديان شرق آسيا وصناعة الوعي الجمع ...
- المدن الذكية في العالم العربي: بين الحلم الرقمي والتحديات ال ...
- الذكاء الاصطناعي في المشهد الاتصالي: من أداة مساندة إلى لاعب ...
- الرقمنة الكبرى: تحولات الثقافة والاتصال في زمن الذكاء الاصطن ...
- من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط
- صعود المؤثرين: قادة الرأي في زمن الخوارزميات
- صناع الوعي: الفلاسفة الذين أعادوا تشكيل العالم
- الانفجار العظيم: من لحظة البدء إلى حدود المعنى


المزيد.....




- ترامب يؤكد رغبة حماس في هدنة بغزة ويعلن إرسال أسلحة دفاعية ل ...
- -شهر واحد لتدمير كل شيء-.. ما العملية الأوكرانية السرية لإبا ...
- ليبيا - بنغازي: ماذا وراء استقبال المشير الليبي خليفة حفتر و ...
- هل التقى الرئيس السوري فعلاً بنتنياهو؟
- موريتانيا: خطوة مفاجئة من حزب تواصل قبل الحوار الوطني المرتق ...
- الحوثيون يعلنون غرق ناقلة بضائع عقب هجومهم عليها قبالة اليمن ...
- نتنياهو يسلم ترامب رسالة ترشيحه لجائزة نوبل ويؤكد: نعمل مع و ...
- تلغراف: مركز أبحاث بلير عمل على خطة -ريفييرا ترامب- لغزة
- خبير عسكري: المقاومة تعتمد خططا محكمة وتتفوق بهندسة الواقع ا ...
- عاجل | نتنياهو: التقيت وزير الخارجية روبيو وأجريت معه محادثة ...


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - في رحاب الوعي: من ديكارت إلى هايدغر، ومن سبينوزا إلى هوسرل