|
اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ: حِينَ تَعْجَزُ الْكَلِمَاتُ عَنْ حَمْلِ الْمَعْنَى
اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.
(Ishak Alkomi)
الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 22:08
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
المُقَدِّمَة: تُعَدُّ اللُّغَةُ مِنْ أَكْثَرِ الظَّوَاهِرِ الإِنْسَانِيَّةِ تَعْقِيدًا وَإِثَارَةً لِلتَّسَاؤُلِ، فَهِيَ تَمْتَدُّ فِي التَّارِيخِ إِلَى أُصُولٍ غَائِمَةٍ، حَيْثُ اخْتَلَفَتِ النَّظَرِيَّاتُ فِي كَيْفِيَّةِ نَشْأَتِهَا وَوُجُودِهَا. فَبَيْنَ النَّظَرِيَّةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَرَى أَنَّ اللُّغَةَ وَهْبٌ إِلَهِيٌّ، وَالنَّظَرِيَّاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَرَى فِي اللُّغَةِ نَاتِجًا عَنْ تَطَوُّرٍ بَيُولُوجِيٍّ وَاجْتِمَاعِيٍّ، تَشَكَّلتْ مَدَارِسُ مُخْتَلِفَةٌ فِي فَهْمِ أَصْلِ اللُّغَةِ. مِنْ بَيْنِ هَذِهِ النَّظَرِيَّاتِ نَجِدُ نَظَرِيَّةَ «البُوْمِ» الَّتِي تَفْسِرُ اللُّغَةَ بِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْ مُحَاكَاةِ الأَصْوَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَنَظَرِيَّةَ «التَّطَوُّرِ الِاجْتِمَاعِيِّ» الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ تَطَوُّرِ اللُّغَةِ وَتَعْقِيدِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَنَظَرِيَّةَ «الصُّرَاخِ الانْفِعَالِيِّ» الَّتِي تَعْتَبِرُ أَنَّ اللُّغَةَ بَدَأَتْ كَتَعْبِيرٍ عَاطِفِيٍّ غَيْرِ مُنَظَّمٍ. وَبِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ تَعْدُّدِ النَّظَرِيَّاتِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ أَصْبَحَتِ الْوَسِيلَةَ الْأُولَى لِلتَّفْكِيرِ وَالتَّوَاصُلِ وَبِنَاءِ الْمَعْنَى، وَبِهَا يَتَشَكَّلُ الْوَعْيُ وَيُتَكَوَّنُ الْإِدْرَاكُ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَدَاةَ الَّتِي نَثِقُ بِهَا، تُخْفِي فِي جَوْفِهَا مَآزِقَ عَدِيدَةً، تَتَجَلَّى فِي ضُعْفِهَا أَحْيَانًا، وَفِي خِيَانَتِهَا لِلْمَعْنَى أَحْيَانًا أُخْرَى. مِنْ هُنَا، يَنْبَثِقُ السُّؤَالُ الْمَرْكَزِيُّ لِهَذَا الْبَحْثِ: هَلِ اللُّغَةُ مِرْآةٌ صَادِقَةٌ لِلْفِكْرِ؟ أَمْ خِيَانَةٌ لَهُ؟ سُؤَالٌ فَلْسَفِيٌّ يَفْتَحُ بَابَ الشُّكُوكِ وَالتَّأَمُّلِ، فِي وَقْتٍ نَظُنُّ فِيهِ أَنَّ اللُّغَةَ تَخْدِمُ الْعَقْلَ وَتُتَرْجِمُ أَفْكَارَهُ بِأَمَانَةٍ. إِلَّا أَنَّ التَّجَارِبَ الْإِنْسَانِيَّةَ الْعَمِيقَةَ تَكْشِفُ أَنَّ اللُّغَةَ - فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ - تَعْجَزُ عَنْ نَقْلِ الْمَعْنَى، وَتُخْفِقُ فِي مُلَامَسَةِ جَوْهَرِ الْفِكْرِ. فَهَلْ هِيَ أَدَاةٌ نَاقِصَةٌ؟ أَمْ هِيَ خِيَانَةٌ فِي جَوْهَرِهَا؟ وَإِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ خِيَانَةً، فَهَلْ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُفَكِّرَ بِدُونِهَا؟ وَفِي سِيَاقِ التَّأَمُّلِ فِي اللُّغَةِ، لَا يُمْكِنُ إِغْفَالُ أَنْ أَكْبَرَ الْعُقُولِ الْفَلْسَفِيَّةِ قَدْ تَوَقَّفَتْ أَمَامَ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ، وَقَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ رُؤْيَةً خَاصَّةً فِيهَا، مِنْهُمْ: أَفْلَاطُونُ: رَأَى أَنَّ اللُّغَةَ تُحَاكِي الْمَاهِيَّاتِ، وَفِي حِوَارِهِ «كْرَاطِيلُوسْ» نَاقَشَ أَصْلَ التَّسْمِيَاتِ، بَيْنَ مَنْ يَرَاهَا طَبِيعِيَّةً وَمَنْ يَرَاهَا اصْطِلَاحِيَّةً. أَرِسْطُو: عَرَّفَ اللُّغَةَ بِأَنَّهَا أَدَاةٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ الْفِكْرِ، وَجَعَلَ الْكَلِمَاتِ تُحِيلُ إِلَى أَفْكَارٍ، وَالأَفْكَارِ تُحِيلُ إِلَى الأَشْيَاءِ. دِيكَارْت: فَصَلَ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْفِكْرِ، وَرَأَى أَنَّ الْفِكْرَ سَابِقٌ عَلَى اللُّغَةِ، وَأَنَّ اللُّغَةَ أَدَاةٌ لَا تُلْزِمُ الْفِكْرَ. فِيتْغِنْشْتَايْن: فِي مَرْحَلَتِهِ الأُولَى قَالَ إِنَّ "حُدُودَ لُغَتِي هِيَ حُدُودُ عَالَمِي"، ثُمَّ فِي مَرْحَلَتِهِ الثَّانِيَةِ عُدِلَ إِلَى فَهْمٍ لِلُّغَةِ كـ"لُعْبَةٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ"، وَأَنَّ الْمَعْنَى فِي الاسْتِخْدَامِ. هَايْدِغَر: عَدَّ اللُّغَةَ "بَيْتَ الْكَيْنُونَةِ"، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ وَسِيلَةً فَقَطْ، بَلْ وَعَاءٌ يُشَكِّلُ الْوُجُودَ. سَارْتْر: رَأَى أَنَّ اللُّغَةَ تُفْقِدُ التَّجْرِبَةَ الإِنْسَانِيَّةَ عَفْوِيَّتَهَا، وَأَنَّ الْكَلِمَاتِ لَا تَحْمِلُ الشُّعُورَ بِأَمَانَةٍ. دِرِيدَا: نَقَدَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى الثَّابِتِ، وَأَسَّسَ لِمَفْهُومِ "الاخْتِلَافِ" وَ"تَأْجِيلِ الْمَعْنَى"، وَأَنَّ اللُّغَةَ تَنْزَاحُ وَتُؤَوَّلُ بِدُونِ حَدٍّ نِهَائِيٍّ. نَعُومْ تْشُومْسْكِي: رَأَى أَنَّ اللُّغَةَ بِنْيَةٌ فِطْرِيَّةٌ فِي الْعَقْلِ البَشَرِيِّ، وَأَسَّسَ لِنَظَرِيَّةِ النَّحْوِ الْعَامِّ. فُوكُو: نَظَرَ إِلَى اللُّغَةِ كَأَدَاةٍ لِلسُّلْطَةِ، وَأَنَّهَا تُنْتِجُ الْمَعْرِفَةَ وَتُخْضِعُهَا لِلنِّظَامِ السِّيَاسِيِّ وَالثَّقَافِيِّ. رُولَانْ بَارْت: رَأَى أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتُلُ الْمُؤَلِّفَ، وَأَنَّ مَا يُقَالُ لَا يَكْشِفُ الضَّرُورَةَ عَمَّا يُرَادُ. فِي هَذَا الْبَحْثِ، نُحَاوِلُ أَنْ نَسْتَقْصِيَ مَوَاطِنَ الْعَجْزِ وَالْخِيَانَةِ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قِرَاءَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ وَتَحْلِيلِيَّةٍ تَسْتَعِينُ بِمَفَاهِيمِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، وَتَسْتَنْدُّ إِلَى أَمْثِلَةٍ حَيَّةٍ مِنَ التَّجْرِبَةِ الْيَوْمِيَّةِ وَالْفِكْرِ الْإِنسَانِيِّ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنَّ هَذَا الْبَحْثَ يَنْطَلِقُ أَيْضًا مِنْ قَنَاعَةٍ تَشْكُلُ أَحَدَ أُسُسِ «مَدْرَسَةِ الْوِلَادَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ» الَّتِي أَسِّستُهَا ، وَهِيَ أَنَّ تَعَلُّمَ أَكْثَرَ مِنْ لُغَةٍ لَيْسَ تَرَفًا ثَقَافِيًّا، بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِفَهْمِ الذَّاتِ وَالآخَرِ، وَلِكَسْرِ حَاجِزِ الصَّدَامِ الْمُضْمَرِ بَيْنَ الْهُوِيَّاتِ. فَعِنْدَمَا نُحْرَمُ مِنْ لُغَةِ الآخَرِ، نَحْرِمُ أَنْفُسَنَا مِنْ رُؤْيَةِ عَالَمِهِ، وَتَكُونُ النَّتِيجَةُ عَجْزًا عَنْ التَّفَاهُمِ وَانْغِلَاقًا فِي التَّأْوِيلِ. إِنَّ كُلَّ لُغَةٍ تَحْمِلُ فِي بِنْيَتِهَا رُؤْيَةً لِلْعَالَمِ، وَفِي تَعَلُّمِهَا تَتَّسِعُ أُفُقُنَا وَتَتَفَتَّحُ إِدْرَاكَاتُنَا، وَتَقِلُّ خِيَانَةُ اللُّغَةِ لِلْمَعْنَى، حِينَ نُقَارِنُ بَيْنَ نُظُمٍ تَعْبِيرِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَالْخِيَانَةِ فِي اللُّغَةِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ قِرَاءَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ وَتَحْلِيلِيَّةٍ تَسْتَعِينُ بِمَفَاهِيمِ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ، وَتَسْتَنْدُّ إِلَى أَمْثِلَةٍ حَيَّةٍ مِنَ التَّجْرِبَةِ الْيَوْمِيَّةِ وَالْفِكْرِ الْإِنسَانِيِّ. إِشْكَالِيَّةُ الْبَحْثِ: يَنْطَلِقُ هَذَا الْبَحْثُ مِنْ إِشْكَالِيَّةٍ فَلْسَفِيَّةٍ جَوْهَرِيَّةٍ، تَتَمَثَّلُ فِي السُّؤَالِ: هَلِ اللُّغَةُ تُعَبِّرُ بِأَمَانَةٍ عَنْ أَفْكَارِنَا؟ أَمْ أَنَّهَا تَخُونُهَا وَتُشَوِّهُهَا وَتُقَيِّدُهَا؟ وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ التَّوَتُّرُ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْفِكْرِ، وَيَنْبَثِقُ التَّسَاؤُلُ عَنْ إِمْكَانِيَّةِ الْوُصُولِ إِلَى مَعْنًى صَافٍ وَصَادِقٍ وَاضِحٍ مِنْ خِلَالِ أَدَاةٍ هِيَ فِي أَصْلِهَا قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَالْخَلْطِ وَالْغُمُوضِ.
أَهْدَافُ الْبَحْثِ: تَفْكِيكُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْفِكْرِ وَتَحْدِيدُ طَبِيعَتِهَا. تَسْلِيطُ الضَّوْءِ عَلَى مَوَاطِنِ عَجْزِ اللُّغَةِ عَنِ التَّعْبِيرِ الصَّادِقِ. اسْتِقْرَاءُ أَوْجُهِ خِيَانَةِ اللُّغَةِ لِلْمَعْنَى وَالْوَاقِعِ وَالْوَعْيِ. طَرْحُ بَدَائِلَ فَلْسَفِيَّةٍ وَفَنِّيَّةٍ لِمُوَاجَهَةِ هَذَا الْالْتِبَاسِ. فَتْحُ أُفُقِ التَّأَمُّلِ فِي حَدُودِ اللُّغَةِ وَفِي إِمْكَانِيَّةِ تَجَاوُزِهَا. مَنَاهِجُ الْبَحْثِ: يَعْتَمِدُ الْبَاحِثُ فِي هَذَا الْعَمَلِ عَلَى مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمَنَاهِجِ الْمُتَفَاعِلَةِ، وَفْقَ مَا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْمَوْضُوعِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: الْمَنْهَجُ التَّحْلِيلِيُّ: لِتَفْكِيكِ الْمَفَاهِيمِ الرَّئِيسَةِ (اللُّغَةُ – الْفِكْرُ – الْمَعْنَى – الْخِيَانَةُ). الْمَنْهَجُ التَّأَمُّلِيُّ الْفَلْسَفِيُّ: لِلتَّعَامُلِ مَعَ السُّؤَالِ كَفَضَاءِ تَفْكِيرٍ لَا كَإِجَابَةٍ نِهَائِيَّةٍ. الْمَقَارَبَةُ النَّقْدِيَّةُ الْفِكْرِيَّةُ: لِقِرَاءَةِ مَوَاقِفِ الْفَلَاسِفَةِ وَتَفْحِيصِهَا. الْمَنْهَجُ الْمُقَارِنُ: لِمُقَارَنَةِ مَدَارِسَ فِي النَّظَرِ إِلَى اللُّغَةِ، وَاسْتِجْلَاءِ اخْتِلَافَاتِهَا.
الفصلُ الأوَّلُ: اللُّغَةُ وَالْفِكْرُ – في أَصْلِ العَلاقَةِ تُعَدُّ العَلاقَةُ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالفِكْرِ مِن أَكْثَرِ القَضَايَا إِثَارَةً لِلنِّقَاشِ في مَجَالاتِ الفَلسَفَةِ وَاللِّسَانِيَّاتِ وَعُلُومِ الإِنْسَانِ، فَهِيَ تَفْتَحُ سُؤَالًا عَمِيقًا: هَلِ اللُّغَةُ تُنْتِجُ الفِكْرَ أَم تُعَبِّرُ عَنْهُ؟ وَهَلِ الفِكْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ دُونَ لُغَةٍ؟ أولًا – الشرحُ المفهوميُّ والفلسفيُّ:إنَّ تعبيرَ "في أصلِ العلاقةِ" يشيرُ، في سياقِ هذا الفصلِ، إلى سعيٍ نظريٍّ لاستكشافِ الجذورِ الأولى للعلاقةِ بينَ اللغةِ والفكرِ، لفهمِ كيفيةِ النشوءِ والتكوُّنِ والتشكُّلِ. ويثورُ السؤالُ هنا: هل تنشأُ اللغةُ قبلَ الفكرِ؟ أم أنَّ الفكرَ هو الذي يسبقُها ويستدعيها؟ أهيَ علاقةٌ تكامليةٌ، يخدمُ كلٌّ منهما الآخرَ؟ أم أنها علاقةٌ تبادليةٌ يُنتجُ كلٌّ منهما الآخرَ ويشكِّله؟ أم أننا بصددِ تنافسٍ خفيٍّ بينَ مَنْ يستحقُّ أن يُسمَّى "الأصلَ" في الإنسانِ: الكلمةُ أم الفكرُ؟ 1 – مفهومُ اللغةِ:اللغةُ، في أصلِها، نظامٌ رمزيٌّ صوتيٌّ يعتمدُ على التراضي والعُرف، وقد نظرَ إليها البنيويون – كسوسير – على أنها بنيةٌ تراكبيةٌ مغلقةٌ، لا يمكنُ فهمُ المعنى فيها إلا بفضلِ الفارقِ بين العلاماتِ. وعلى وجهٍ آخرَ، تُعتبرُ اللغةُ أداةً للتواصلِ والتفكيرِ والتمثيلِ العقليِّ، فهي التي تجسِّدُ المعاني وتنقلُها، وبها نُعبِّرُ عن ذواتِنا ونُشكِّلُ عوالمَنا الداخليةَ. 2 – مفهومُ الفكرِ:يُشارُ إلى الفكرِ على أنَّه نشاطٌ ذهنيٌّ مجرَّدٌ، يتسابقُ في الزمنِ مع اللغةِ، ويتقدَّمُها في بعضِ الفلسفاتِ، لكونِه ينبعُ من الوعي أولًا، ثم يلتَمسُ له ألفاظًا وأدواتٍ تُعبِّرُ عنه. وفي التصوُّراتِ العقليةِ التقليديةِ، يُنظرُ إلى الفكرِ على أنَّه الأصلُ، وأنَّ اللغةَ تأتي لاحقًا للتعبيرِ عنه. فهو فعلٌ ذهنيٌّ سابقٌ، يُجسَّدُ بعدَ ذلك في ألفاظٍ وتراكيبَ. 3 – السؤالُ المركزيُّ:هل الفكرُ هو مَنْ يُنتجُ اللغةَ ليُعبِّرَ عن نفسِه؟ أم أنَّ اللغةَ هي التي تُشكِّلُ الفكرَ وتُحدِّدُ ما يمكنُ التفكيرُ فيه؟ يقولُ فيتغنشتاين: "حدودُ لغتي هي حدودُ عالمي"، وهو تعبيرٌ عميقٌ يُفيدُ أنَّ الإدراكَ العقليَّ لا يمكنُه تجاوزُ ما لا تقدرُ اللغةُ على تسميتِه. ومن ثم، تكونُ اللغةُ – في هذا السياقِ – خارطةَ الممكنِ الفكريِّ. 4 – نماذجُ فلسفيةٌ:رينيه ديكارت: يجعلُ الفكرَ أساسَ الوجودِ، فشعارُه المشهورُ: "أنا أُفكِّر، إذًا أنا موجودٌ" يُفيدُ بوضوحٍ أنَّ الفكرَ سابقٌ على أيِّ أسلوبٍ للتعبيرِ، وأنَّ العقلَ هو جوهرُ الهويةِ الإنسانيةِ. مارتن هايدغر: ينظرُ إلى اللغةِ على أنَّها "بيتُ الكينونةِ"، أي الفضاءُ الذي تسكنُ فيه المعاني، وبها يُفصحُ الإنسانُ عن وجودِه. فهي ليستْ مجردَ أداةٍ، بل كيانٌ أنطولوجيٌّ يُحدِثُ الكينونةَ. فيتغنشتاين: يذهبُ إلى أنَّ اللغةَ تحدُّ الفكرَ، فما لا يمكنُ قولُه، لا يمكنُ التفكيرُ فيه. وفي ذلك تأطيرٌ حاسمٌ لدورِ اللغةِ في بناءِ الوعي والمعرفةِ. خاتمةٌ تأمليةٌ:يمكنُنا أنْ نخلصَ إلى أنَّ العلاقةَ بينَ اللغةِ والفكرِ ليستْ علاقةَ سبقٍ وتبَعٍ، بلْ هي علاقةٌ جدليةٌ تفاعليةٌ. فاللغةُ تُعبِّرُ عن الفكرِ، وفي الوقتِ نفسِه تُشكِّلُ أدواتِه وتقيِّدُه. وكلما اتَّسعتْ لغةُ الفردِ، اتَّسعتْ أُفقُهُ التفكيريُّ وقدرتُهُ على تصوُّرِ العالمِ والتفاوُتِ معه. أما تعريفُ اللغةِ: بينَ التواصلِ والتشكيلِ الرمزيِّ: تُعَدُّ اللغةُ واحدةً من أكثرِ القدراتِ البشريةِ تفرُّدًا، فهي ليستْ وسيلةً للتواصلِ فقط، بلْ هي أيضًا نظامٌ رمزيٌّ يُجسِّدُ أنسقةً معنويةً، ويُشكِّلُ الواقعَ في وعيِ الإنسانِ. في معناها الأوليِّ، تظهرُ اللغةُ كأداةٍ تواصليَّةٍ تخضعُ لقواعدَ نحويَّةٍ وصوتيَّةٍ، يُتَّفَقُ عليها ضمنَ جماعةٍ بشريةٍ معيَّنةٍ، وتُستخدمُ لنقلِ المعنى والمعرفةِ والمشاعرِ. وهنا تكونُ اللغةُ جسرًا بينَ ذاتينِ تحاولانِ تبادُلَ الفهمِ والإدراكِ. غير أنَّ هذا الفهمَ التواصليَّ لا يُوفي اللغةَ حقَّها في العمقِ الفلسفيِّ. فمنذ بنيامين وهايدغر، ومرورًا بدريدا، صارتِ اللغةُ تُفهمُ كبنيةٍ رمزيَّةٍ تُشكِّلُ العالمَ، ولا تصِفُهُ فقط. فهي لا تنقلُ المعنى، بلْ تُنتِجُهُ، ولا تعكسُ الحقيقةَ، بلْ تنسِجُها. يضعُ فرديناند دي سوسير، في لسانياته البنيوية، أساسَ هذا التفكيرِ، حيثُ يفصلُ بين "الدالِّ" و"المدلولِ"، ويُظهرُ أنَّ العلاقةَ بينَهما تعسُّفيَّةٌ، لا تستندُ إلى واقعٍ طبيعيٍّ، بلْ إلى نظامٍ اصطلاحيٍّ. وبالتالي، فإنَّ ما نُسمِّيه "معنًى" هو نتيجةُ لعبةٍ رمزيَّةٍ داخلَ النظامِ اللغويِّ. من هنا، تبرزُ اللغةُ كقوَّةٍ خلَّاقةٍ، تبني الواقعَ وتُصوِّرُهُ وتُقلِّبُهُ، وفي الوقتِ نفسِه، قدْ تحجُبُهُ أو تُزيِّفُهُ. خلاصةُ المحورِ:اللغةُ ليستْ مرآةً تعكسُ الفكرَ فقط، ولا جسرًا بسيطًا للتواصلِ، بلْ هي عالمٌ قائمٌ بذاتِه، يصوغُ المعنى ويُعيدُ تشكيلَ الواقعِ والفكرِ. وفي هذا الإطارِ، تصبحُ دراستُها مدخلًا لفهمِ الإنسانِ والحقيقةِ وحدودِ التعبيرِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: خِيَانَةُ التَّعْبِيرِ – عِنْدَمَا تَخْذُلُنَا الْكَلِمَاتُ إِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ، فِي تَعْرِيفِهَا الْكْلَاسِيكِيِّ، وَسِيلَةً لِلتَّوَاصُلِ وَنَقْلِ الْمَعْنَى، فَهَلْ تَفِي بِكُلِّ أَشْكَالِ التَّجْرِبَةِ الْبَشَرِيَّةِ؟ هَلْ تَسْتَطِيعُ الْكَلِمَاتُ أَنْ تَحْمِلَ مَا لَا يُقَالُ، وَتُجَسِّدَ مَا لَا يُمْسَكُ؟ فِي كَثِيرٍ مِنَ السِّيَاقَاتِ، تَخْذُلُنَا اللُّغَةُ، وَتَتَحَوَّلُ إِلَى خِيَانَةٍ صَامِتَةٍ لِلتَّجْرِبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِكْرِ الْعَمِيقِ. أَوَّلًا – فِي التَّجَارِبِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمِيتَافِيزِيقِيَّةِ عِنْدَمَا يَخُوضُ الْإِنْسَانُ تَجْرِبَةً رُوحِيَّةً عَالِيَةً – كَالْوَجْدِ، أَوِ التَّجَلِّي، أَوِ الْاتِّحَادِ الصُّوفِيِّ – فَإِنَّهُ يَشْعُرُ أَنَّ اللُّغَةَ تُصْبِحُ عَاجِزَةً عَنْ نَقْلِ مَا يَعِيشُهُ. فَالصُّوفِيُّ الْمُسْلِمُ كَمِثْلِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمَسِيحِيِّينَ أَوِ الْبُوذِيِّينَ، يَقُولُ: «لَا يُعْرَفُ اللهُ إِلَّا بِهِ». إِنَّهُ شُعُورٌ يَتَجَاوَزُ الْكَلِمَاتِ، وَيَتَعَالَى عَلَى الْأَلْفَاظِ. وَكَمْ قِيلَ: "اللُّغَةُ تَسْقُطُ أَمَامَ الشُّعُورِ الْمُطْلَقِ". ثَانِيًا – الْأَلَمُ وَالْفَقْدُ وَالْحُزْنُ الْعَمِيقُ لَا شَيْءَ يُظْهِرُ عَجْزَ اللُّغَةِ كَمَا يُظْهِرُهُ الْأَلَمُ. عِنْدَمَا يَتَعَرَّضُ إِنْسَانٌ لِفَقْدِ مَنْ يُحِبُّ، أَوْ لِأَلَمٍ جَسَدِيٍّ مُدَوٍّ، تَصِيرُ اللُّغَةُ جُثَّةً بَارِدَةً. لَا "آسِفٌ" تَكْفِي، وَلَا "تَأَلَّمْتُ لِأَلَمِكَ" تُقَدِّمُ مَعْنًى. هُنَاكَ أَلَمٌ لَا يُقَالُ، بَلْ يُعَاشُ، وَيُصَاحِبُهُ صَمْتٌ أَبْلَغُ مِنْ أَيِّ بَيَانٍ. ثَالِثًا – الْحُبُّ وَالْوَجْدَانُ الْعَاطِفِيُّ فِي الْحُبِّ، نُرِيدُ أَنْ نَقُولَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا نَقُولَ شَيْئًا. كَمْ تَحْمِلُ كَلِمَةُ "أُحِبُّكَ" مِنْ عُجْزٍ أَمَامَ الْفَيْضِ الدَّاخِلِيِّ؟ يَقُولُ رُولَانْ بَارْت: "إِنَّ كَلِمَةَ أُحِبُّكَ تَبْلُغُ أَقْصَى مَدًى فِي التَّعْبِيرِ، وَفِي نَفْسِ الْوَقْتِ تَكُونُ خَاوِيَةً كَأَنَّهَا صَرْخَةٌ فِي الْفَرَاغِ". كَأَنَّ اللُّغَةَ تَسْتَنْزِفُ نَفْسَهَا وَلَا تَبْلُغُ مَعْنَى الْحُبِّ الْكَامِنِ فِي النَّفْسِ. رَابِعًا – الْمَوْتُ وَالْخَاتِمَةُ الْكُبْرَى الْمَوْتُ، ذَاكَ الْحُدُودُ الْغَامِضُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَاللَّاوُجُودِ، هُوَ أَيْضًا أَفْضَحُ مَا يَكْشِفُ عَنْ خِيَانَةِ اللُّغَةِ. فَفِي حَضْرَةِ الْمَوْتِ، تَخْرَسُ اللُّغَةُ وَتَبْكِي بِصَمْتٍ. إِنَّهُ تَجْرِبَةٌ لَا تُرْوَى، وَلَا يُفِيدُ فِيهَا الْوَصْفُ وَلَا التَّشْبِيهُ. خُلاصَةُ الْفَصْلِ فِي كُلِّ هَذِهِ التَّجَارِبِ، تَظْهَرُ اللُّغَةُ كَمَا لَوْ أَنَّهَا تَخُونُنَا. تَعْجِزُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَجْلًى لِمَا فِي النَّفْسِ، وَتُصْبِحُ ظِلًّا خَافِتًا لِمَا لَا يُقَالُ. وَهُنَا تَظْهَرُ الْحَاجَةُ إِلَى بَدَائِلَ تَعْبِيرِيَّةٍ: كَالشِّعْرِ، وَالصَّمْتِ، وَالْإِيمَاءَةِ، وَاللَّفْتَةِ. لَعَلَّنَا نُقَارِبُ الْمَعْنَى، وَلَوْ بِصُورَةٍ نَاقِصَةٍ، وَلَكِنْ صَادِقَةٍ.
التَّجْرِبَةُ الرُّوحِيَّةُ، الْأَلَمُ، الْحُبُّ، الْمَوْتُ: أَمْثِلَةٌ عَلَى عَجْزِ اللُّغَةِ فِي مَسَارِ التَّجْرِبَةِ الْبَشَرِيَّةِ، تَظْهَرُ أَحْيَانًا مَوَاطِنُ لا تَبْلُغُهَا اللُّغَةُ، وَلَا تَسْتَوْعِبُهَا الْكَلِمَاتُ، مَهْمَا بَلَغَتْ مِنَ الْجُمَالِ وَالْبَلَاغَةِ. فَهُنَاكَ مَشَاعِرُ وَتَجَارِبُ تُعَاشُ فِي صَمْتٍ، وَتَتَجَلَّى فِي الْوُجُودِ كَأَحَدِ أَعْظَمِ أَشْكَالِ الْوَعْيِ، لَكِنَّهَا تَنْفَلِتُ مِنْ فَمِ اللُّغَةِ. فِي التَّجْرِبَةِ الرُّوحِيَّةِ، كَمَا عِنْدَ الصُّوفِيِّ أَوِ الْمُتَأَمِّلِ فِي مَجَالِ الْمُطْلَقِ، نَجِدُ أَنَّ الْمَعْنَى يُدْرَكُ بِالْحَدْسِ، لَا بِالْكَلِمَةِ. يَقُولُ الْحَلَّاجُ: «أَنَا مَنْ أَهْوَى، وَمَنْ أَهْوَى أَنَا»، فَيَجْعَلُ الذَّوَاتِ تَتَلَاشَى فِي وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَلَا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ ذَٰلِكَ بِمَنَاهِجِ اللِّسَانِ وَالْمَنْطِقِ. التَّجْلِّي الرُّوحِيُّ يُعَاشُ، وَلَا يُوصَفُ، وَأَيُّ مُحَاوَلَةٍ لِتَأْطِيرِهِ كَلِمَاتِيًّا هِيَ نَقْصٌ فِي التَّجْرِبَةِ وَتَخْفِيفٌ لِحَقِيقَتِهَا. فِي الْأَلَمِ، تَبْلُغُ خِيَانَةُ اللُّغَةِ ذُرْوَتَهَا. الْمُتَأَلِّمُ، فِي لَحْظَةِ نَزِيفٍ أَوْ حِرْمَانٍ أَوْ كَسْرٍ نَفْسِيٍّ، يُدْرِكُ أَنَّ «أَنَا أَتَأَلَّمُ» لَا تُقَدِّمُ شَيْئًا لِمَنْ يَسْمَعُهَا، وَأَنَّ الْوَصْفَ، مَهْمَا دَقَّ، لَا يُنْقِلُ مَا يُحِسُّ بِهِ. الْأَلَمُ هُوَ ذَاكَ الْغَامِضُ الَّذِي يَنْغَرِسُ فِي الْعَصَبِ وَالرُّوحِ، وَلَا تُفِيدُ فِيهِ اللُّغَةُ، لِأَنَّهُ يَتَفَوَّقُ عَلَيْهَا. فِي الْحُبِّ، تَتَفَجَّرُ الْمَعَانِي، وَتَنْفَجِرُ الْمَشَاعِرُ، وَيَبْقَى الْمُتَكَلِّمُ مَشْلُولًا أَمَامَ وَقْعِ الْكَلِمَةِ. كَمْ تَظْهَرُ كَلِمَةُ «أُحِبُّكِ» بَاهِتَةً أَمَامَ إِشْعَالَةِ الْقَلْبِ وَالِارْتِجَافِ الْوُجُودِيِّ الَّذِي يَسْكُنُ الْعَاشِقَ. اللُّغَةُ، فِي الْحُبِّ، هِيَ مُجَرَّدُ تَخْمِينٍ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَلَيْسَ تَجْسِيدًا لَهُ. أَمَّا الْمَوْتُ، فَهُوَ آخِرُ الْأَفْقِ الَّذِي تَسْقُطُ فِيهِ الْكَلِمَاتُ. هُنَاكَ صَمْتٌ يَعْتَرِي الْكَوْنَ عِنْدَ مَشْهَدِ مَوْتٍ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ إِلَّا مَا لَا يُقَالُ. الْمَوْتُ، كَمَا كَتَبَ مِيرْلُو بُونْتِي، هُوَ «الْحَدَثُ الَّذِي يَتَعَالَى عَنْ أَيِّ فَهْمٍ، وَالَّذِي نُدْرِكُهُ بِالْكِيَانِ، لَا بِالْكَلاَمِ». فِي الْمَوْتِ، تَفْشَلُ اللُّغَةُ، وَتُصْبِحُ مُجَرَّدَ طَقْسٍ صَوْتِيٍّ فَارِغٍ أَمَامَ حَقِيقَةٍ لَا تُوْصَفُ. خِتَامُ الْمَحْوَرِ إِنَّ هَذِهِ التَّجَارِبَ – الرُّوحِيَّةَ، وَالْأَلَمَ، وَالْحُبَّ، وَالْمَوْتَ – تُشَكِّلُ نَوَاةَ الإِنْسَانِ الْوَجْدَانِيِّ وَالْوُجُودِيِّ. وَمَا دَامَتِ اللُّغَةُ تَعْجِزُ عَنْ أَنْ تَبْلُغَ جَوْهَرَهَا، فَإِنَّنَا أَمَامَ خِيَانَةٍ حَقِيقِيَّةٍ: خِيَانَةِ التَّعْبِيرِ، وَعَجْزِ اللِّسَانِ، وَضُعْفِ الْكَلِمَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا يَدْفَعُنَا إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَسَالِيبَ تَعْبِيرِيَّةٍ أُخْرَى، تُقَارِبُ الصِّدْقَ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ كُلِّيًّا. اللُّغَةُ وَالشُّعُورُ: فَجْوَةُ التَّعْبِيرِ يَتَمَثَّلُ الشُّعُورُ فِي حَالَتِهِ الْخَامِ كَتَجَلٍّ دَاخِلِيٍّ لَا يُرَى وَلَا يُمْسَكُ، بَلْ يُحَسُّ وَيُعَاشُ. وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ نُحَاوِلُ فِيهَا أَنْ نَنْقُلَ مَا نَشْعُرُ بِهِ لِلْآخَرِ، نَلْجَأُ إِلَى اللُّغَةِ كَوَسِيلَةٍ، فَنَجِدُهَا – فِي أَغْلَبِ الْأَحْيَانِ – تَقِفُ عَلَى الْعَتَبَةِ، وَتَعْجَزُ عَنْ الْعُبُورِ. فَالشُّعُورُ مَادَّةٌ دَاخِلِيَّةٌ، وَاللُّغَةُ إِطَارٌ خَارِجِيٌّ، وَالْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا تَفْتَقِدُ جِسْرًا مُحْكَمًا. نُحِبُّ، فَنَقُولُ: "أُحِبُّكَ"، وَنَشْعُرُ بِالْوَحْدَةِ، فَنَقُولُ: "أَنَا وَحِيدٌ"، وَلَكِنْ كَمْ تَبْقَى هَذِهِ الْعِبَارَاتُ قَاصِرَةً عَنْ أَنْ تَحْمِلَ مَا نُرِيدُ أَنْ نُفْصِحَ عَنْهُ؟ لِهَذَا تَسْتَعِينُ النُّفُوسُ بِالصَّمْتِ، أَوْ بِالْفَنِّ، أَوْ بِالْبُكَاءِ، كَصِيَغٍ أَقْرَبَ إِلَى مَا تَحْمِلُهُ الْقُلُوبُ مِنْ هَمْسِ الْكَلِمَاتِ. وَقَدْ وَقَفَ فِيتْغِنْشْتَايْن مَذْهُولًا أَمَامَ هَذِهِ الْفَجْوَةِ، فَقَالَ فِي آخِرِ كِتَابِهِ تِرَكْتَاتُوس: "مَا لَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ عَنْهُ، يَجِبُ الصَّمْتُ عَنْهُ". كَأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّ هُنَاكَ حُدُودًا لِلُّغَةِ، وَمَا وَرَاءَ تِلْكَ الْحُدُودِ يَبْدَأُ الْمُقَدَّسُ وَالْمُحْتَجِبُ وَالْمُؤَلَّمُ. كَذَلِكَ، فِي التَّجَارِبِ النَّفْسِيَّةِ الْمُعَقَّدَةِ، كَالْفَقْدِ أَوِ الصَّدْمَةِ، نُحَاوِلُ أَنْ نَصِفَ مَا جَرَى، فَنَشْعُرُ أَنَّ الْكَلَامَ كَأَنَّهُ يُزَيِّفُ الْحَقِيقَةَ، أَوْ يُبْتَذَلُ أَمَامَ مَا حَدَثَ فِعْلًا. وَمِنْ هُنَا تَنْشَأُ الْقَطِيعَةُ بَيْنَ مَا نَشْعُرُ بِهِ وَمَا نُقَالُهُ. خِتَامُ الْمَحْوَرِ فَجْوَةُ التَّعْبِيرِ هِيَ الْمَسَاحَةُ الَّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالشُّعُورِ. هِيَ الدَّلِيلُ الْأَكْثَرُ وَضُوحًا عَلَى خِيَانَةِ اللُّغَةِ لِمَا نَحْمِلُهُ فِي أَعْمَاقِنَا. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ مُحَاوَلَاتِ الْأَدَبِ وَالْفَنِّ أَنْ تَجْسِرَ هَذِهِ الْهُوَّةَ، تَبْقَى الْكَلِمَةُ ضَعِيفَةً أَمَامَ جَبَرُوتِ الإِحْسَاسِ، وَذَلِكَ مَا يَجْعَلُ التَّفْكِيرَ فِي بَدَائِلَ لُغَوِيَّةٍ أَوْ رَمْزِيَّةٍ أَمْرًا مَطْرُوحًا فِي أُفُقِ الْبَحْثِ الْفَلْسَفِيِّ. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: اللُّغَةُ كَأَدَاةٍ لِلسُّلْطَةِ وَالتَّزْيِيفِ يُعْتَبَرُ هَذَا الْفَصْلُ تَحْوِيلًا لِلنَّظَرِ فِي اللُّغَةِ مِنْ كَوْنِهَا وَسِيلَةً تَفَاهُمِيَّةً وَتَخَاطُبِيَّةً إِلَى أَنَّهَا أَيْضًا أَدَاةٌ فِكْرِيَّةٌ وَسِيَاسِيَّةٌ تُسْتَخْدَمُ لِلسَّيْطَرَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَالتَّوْجِيهِ. فَاللُّغَةُ لَا تَنْقُلُ فَقَطْ أَفْكَارَنَا، بَلْ قَدْ تُشَكِّلُهَا، وَلَا تُفْصِحُ فَقَطْ عَنْ حَقَائِقِ الْعَالَمِ، بَلْ قَدْ تُحَرِّفُهَا وَتُخْفِيهَا. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ، تُصْبِحُ اللُّغَةُ حَامِلًا لِلْإِيدِيُولُوجِيَا، وَسِتَارًا لِلتَّلَاعُبِ وَالتَّزْيِيفِ، وَتَغْدُو الْكَلِمَاتُ سِلاحًا ذِهْنِيًّا يُسْتَخْدَمُ فِي صِرَاعَاتِ السُّلْطَةِ وَالْهَيْمَنَةِ، فِي السِّيَاسَةِ وَالدِّينِ وَالْإِعْلَامِ. هُنَا، نُشْرِفُ عَلَى مَسَائِلَ تَمَسُّ أَعْمَاقَ الْوَعْيِ وَالْخِطَابِ، لِنَتَأَمَّلَ: كَيْفَ تُسْتَخْدَمُ اللُّغَةُ لِلسَّيْطَرَةِ عَلَى النُّفُوسِ؟ وَمَتَى تَتَحَوَّلُ مِنْ أَدَاةٍ لِلتَّوَاصُلِ إِلَى آلِيَّةٍ لِلسُّكُوتِ وَالْإِخْفَاءِ؟ وَهَلْ نَمْلِكُ لُغَةً طَاهِرَةً خَالِيَةً مِنْ سِيَاقِ السُّلْطَةِ وَالْمَصْلَحَةِ؟
اللُّغَةُ وَالْكَذِبُ: مَتَى تُصْبِحُ أَدَاةً لِلتَّضْلِيلِ؟ اللُّغَةُ، وَإِنْ كَانَتْ فِي أَصْلِهَا أَدَاةً لِلتَّفَاهُمِ وَنَقْلِ الْمَعْنَى، فَإِنَّهَا قَدْ تَتَحَوَّلُ فِي بَعْضِ السِّيَاقَاتِ إِلَى وَسِيلَةٍ لِلتَّضْلِيلِ وَإِخْفَاءِ الْحَقِيقَةِ. فَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ دَائِمًا نَفْيًا صَرِيحًا لِوَاقِعٍ مَا، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَجَسَّدَ فِي أَسَالِيبِ اللُّغَةِ نَفْسِهَا، فِي طُرُقِ الصِّيَاغَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالْحَذْفِ، وَالْإِبْهَامِ، وَفِي اخْتِيَارِ الْكَلِمَاتِ وَإِطَارِهَا السِّيَاقِيِّ. فَقَدْ تُقَالُ حَقَائِقُ بِلُغَةٍ تُفْقِدُهَا قُوَّتَهَا، أَوْ تُسْتَعْمَلُ عِبَارَاتٌ تُوحِي بِالصِّدْقِ وَهِيَ تُخْفِي نَقِيضَهُ. وَفِي مَجَالَاتٍ كَالْإِعْلَامِ، وَالسِّيَاسَةِ، وَالدِّينِ، يُمْكِنُ لِلتَّضْلِيلِ اللُّغَوِيِّ أَنْ يَكُونَ أَخْطَرَ مِنَ الْكَذِبِ الْوَاقِعِيِّ، لِأَنَّهُ يُسَوِّغُ الزَّيْفَ وَيُشَرْعِنُهُ. مِثَالٌ عَلَى ذَلِكَ، التَّعَابِيرُ السِّيَاسِيَّةُ مِنْ قَبِيلِ: "الضَّرَرُ الْجَانِبِيُّ" عِوَضَ "قَتْلِ الْمَدَنِيِّينَ"، أَوْ "إِعَادَةُ هَيْكَلَةِ الْقِطَاعِ" بَدَلًا مِنْ "تَسْرِيحِ الْعُمَّالِ". هُنَا لَا يُقَالُ الْكَذِبُ، بَلْ يُحْتَالُ عَلَيْهِ لُغَوِيًّا، وَيُغَلَّفُ بِغِلَافِ "الْحَقِيقَةِ الْمُزَيَّفَةِ". إِذًا، تُصْبِحُ اللُّغَةُ أَدَاةً لِلتَّضْلِيلِ عِنْدَمَا تُسْتَعْمَلُ لِإِعَادَةِ تَشْكِيلِ الْوَاقِعِ وَتَصْنِيعِ الرِّوَايَةِ، لَا لِنَقْلِهَا. وَيَكُونُ الْكَذِبُ، فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فِعْلًا بَنائِيًّا، لَا مُجَرَّدَ نَفْيٍ أَوْ إِنْكَارٍ. التَّلاعُبُ السِّيَاسِيُّ وَالدِّينِيُّ بِالْمَعْنَى إِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ قَادِرَةً عَلَى بِنَاءِ الْمَعَانِي، فَإِنَّهَا تَكُونُ – بِقَدْرِ قُدْرَتِهَا هَذِهِ – أَدَاةً خَطِرَةً لِإِعَادَةِ تَشْكِيلِ الْوَاقِعِ وَالْوَعْيِ، خُصُوصًا فِي مَجَالَيْ السِّيَاسَةِ وَالدِّينِ. فَالتَّارِيخُ مُمْتَلِئٌ بِأَمْثِلَةٍ عَلَى كَيْفِيَّةِ تَسْخِيرِ اللُّغَةِ لِتَثْبِيتِ سُلْطَةٍ، أَوْ تَبْرِيرِ حَرْبٍ، أَوْ تَقْدِيسِ زَعِيمٍ، أَوْ تَفْسِيرِ نَصٍّ دِينِيٍّ بِمَا يَخْدِمُ هَيْمَنَةَ جِهَةٍ مَا. فِي السِّيَاسَةِ، يُمْكِنُ لِأَصْحَابِ السُّلْطَةِ أَنْ يُشَكِّلُوا الْمَعَاجِمَ وَيُغَيِّرُوا مَعَانِي الْكَلِمَاتِ لِتُطَابِقَ مَصَالِحَهُمْ. فَكَلِمَاتٌ كَـ"الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ"، وَ"الإِصْلَاحِ"، وَ"الْعُدْوَانِ"، وَ"الْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ" قَدْ تَتَغَيَّرُ دَلَالَاتُهَا تَبَعًا لِسِيَاقِ الاسْتِعْمَالِ. يُصْبِحُ الْعُدْوَانُ "عَمَلِيَّةً وِقَائِيَّةً"، وَتُصْبِحُ الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ "فَرْضًا لِلنِّظَامِ"، وَيُسَوَّقُ لِلقَمْعِ بِاسْمِ "الْحِفَاظِ عَلَى الاسْتِقْرَارِ". وَفِي الدِّينِ، لَا تَقِلُّ الْخُطُورَةُ؛ فَتَفْسِيرُ النُّصُوصِ يُمْكِنُ أَنْ يُخْتَزَلَ فِي قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ تُجَرَّدُ مِنْ تَعَدُّدِهَا وَتَارِيخِيَّتِهَا. وَيَتِمُّ تَسْيِيسُ الْقَدَاسَةِ، وَيُفْرَضُ خِطَابٌ دِينِيٌّ يُسْتَخْدَمُ لِتَكْفِيرِ الْآخَرِ أَوْ تَأْبِيدِ التَّبَعِيَّةِ. وَهَكَذَا، يُصْبِحُ التَّلاعُبُ بِاللُّغَةِ تَلاعُبًا بِالْحَقِيقَةِ، وَيُجَسِّدُ مَا أَسْمَاهُ فُوكُو: "السُّلْطَةُ الْمُنْتِجَةُ لِلْمَعْرِفَةِ"، فَلَا حَقِيقَةَ خَارِجَ مَا يُقَالُ، وَمَا يُقَالُ تَحْكُمُهُ السُّلْطَةُ وَالْمَصْلَحَةُ وَالْخِطَابُ السَّائِدُ. خلاصَةُ الْمَحْوَرِ: عِنْدَمَا تَفْقِدُ اللُّغَةُ بَرَاءَتَهَا، تَصِيرُ أَدَاةً لِلسَّيْطَرَةِ وَإِعَادَةِ تَشْكِيلِ الْعُقُولِ، لَا وَسِيلَةً لِلتَّفَاهُمِ. وَفِي هَذَا السِّيَاقِ، يَكُونُ الصَّمْتُ أَحْيَانًا أَصْدَقَ وَأَنْبَلَ مِنَ الْكَلَامِ الْمُسَيَّسِ أَوِ الْمُؤَطَّرِ دِينِيًّا. اللُّغَةُ وَالْإِيدِيُولُوجِيَا: فُوكُو، بَارْت، لَاكَان لَيْسَتِ اللُّغَةُ وِعَاءً نَقِيًّا لِلْمَعْنَى، وَلَا وَسِيلَةً مُحَايِدَةً لِلتَّوَاصُلِ، بَلْ هِيَ أَيْضًا حَامِلٌ لِخِطَابٍ خَفِيٍّ، يُنْتِجُ وَيُكَرِّسُ الْإِيدِيُولُوجِيَا. وَفِي ضَوْءِ ذَلِكَ، جَاءَتْ مَقَارِبَاتُ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَهَمِّ مُفَكِّرِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ لِتَكْشِفَ عَنِ الْوَجْهِ الْخَفِيِّ لِلتَّخَاطُبِ اللُّغَوِيِّ. ١. مِيشَالْ فُوكُو (Michel Foucault): يَرَى فُوكُو أَنَّ اللُّغَةَ لَا تَنْفَصِلُ عَنِ السُّلْطَةِ، بَلْ هِيَ نَفْسُهَا آلِيَّةٌ سِيَاسِيَّةٌ تُنْتِجُ مَعَارِفَ وَتُسَيْطِرُ عَلَى الْوَعْيِ. فَالْخِطَابُ – وَهُوَ مَا يُقَالُ وَمَا يُمْنَعُ أَنْ يُقَالَ – يُشَكِّلُ الْحَقِيقَةَ فِي زَمَانِهِ، وَيُرَسِّخُ نُظُمًا لِلتَّصْنِيفِ وَالْإِقْصَاءِ. فَلَا يَكْفِي أَنْ نَسْتَمِعَ لِمَا يُقَالُ، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَسْأَلَ: مَنْ يَتَكَلَّمُ؟ وَلِمَنْ؟ وَمَاذَا يُرَادُ لَنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ؟ ٢. رُولَانْ بَارْت (Roland Barthes): فِي مَقَالَتِهِ الشَّهِيرَةِ "مَوْتُ الْمُؤَلِّفِ"، يُقَدِّمُ بَارْتْ نَظْرِيَّةً لِلُّغَةِ تُحَرِّرُ النَّصَّ مِنْ سُلْطَةِ الْمُؤَلِّفِ، وَتَجْعَلُ الْقَارِئَ شَرِيكًا فِي إِنْتَاجِ الْمَعْنَى. وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَفْتَحُ أُفُقًا نَقْدِيًّا يُفَكِّكُ الْخِطَابَ الْإِيدِيُولُوجِيَّ وَيُظْهِرُ أَنَّ اللُّغَةَ تُخْفِي خَلْفَ بَرَاءَتِهَا افْتِرَاضَاتٍ ثَقَافِيَّةً، وَتَمْثِيلَاتٍ سِيَاسِيَّةً، وَبِنْيَاتِ سَيْطَرَةٍ. ٣. جَاكْ لَاكَان (Jacques Lacan): أَمَّا لَاكَان، فَقَدْ نَقَلَ اللُّغَةَ إِلَى مَجَالِ التَّحْلِيلِ النَّفْسِيِّ، حَيْثُ يَرَى أَنَّ "اللُّغَةَ تُكَوِّنُ الْلَا وَاعِي"، وَأَنَّ الذَّاتَ الإِنْسَانِيَّةَ مَنْشَقَّةٌ بَيْنَ الرَّغْبَةِ وَالدَّلَالَةِ، وَمَا نَقُولُهُ لَا يُطَابِقُ مَا نُرِيدُهُ. فَالرَّمْزُ يُسَيْطِرُ عَلَى الْمَوْجُودِ، وَالْفِكْرُ مَسْجُونٌ فِي نَظَامٍ لُغَوِيٍّ لَا يُفْلِتُ مِنْهُ أَبَدًا. خِتَامُ الْمَحْوَرِ: يُظْهِرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَنَّ اللُّغَةَ لَيْسَتْ أَدَاةَ حَقٍّ، بَلْ مِرْآةً لِلسُّلْطَةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا نَقُولُهُ – وَمَا نَصْمُتُ عَنْهُ – يُسَاهِمُ فِي بِنَاءِ إِيدِيُولُوجِيَا مُحَدَّدَةٍ. وَفِي ذَلِكَ، تَكُونُ اللُّغَةُ خِيَانَةً أُخْرَى: خِيَانَةُ التَّرَاوُحِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَالْقُوَّةِ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: مَا لَا يُقَالُ – فَضَاءُ الصَّمْتِ وَالْفِكْرِ الْخَامِ مُقَدِّمَةُ الْفَصْلِ: فِي زَمَنٍ يَتَغَوَّلُ فِيهِ الْكَلَامُ، وَيُغْمَرُ الْإِنْسَانُ بِفَائِضِ اللُّغَةِ، تَصِيرُ الصَّمْتُ قِيمَةً فِكْرِيَّةً وَفَلْسَفِيَّةً، وَلَا تَعْبِيرًا عَنْ الْعَجْزِ فَقَطْ. هُنَاكَ أَشْيَاءُ لَا تَسْتَوْعِبُهَا الْكَلِمَاتُ، أَوْ تَشُوهُهَا إِذَا نُطِقَتْ. فَهَلِ الصَّمْتُ أَصْدَقُ مِمَّا نَقُولُ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ لِلْفِكْرِ أَنْ يُوجَدَ فِي غِيَابِ اللُّغَةِ؟ أَهَمِّيَّةُ الصَّمْتِ: هَلِ الصَّمْتُ أَصْدَقُ مِنَ الْكَلَامِ؟ لَيْسَ الصَّمْتُ، فِي بَعْضِ السِّيَاقَاتِ، نَقِيضًا لِلْكَلَامِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَعْمَقَ تَعْبِيرٍ عَنْ مَعْنًى لَا تَسْتَطِيعُ اللُّغَةُ أَنْ تَحْمِلَهُ. فِي لحظاتِ الْخُشُوعِ الرُّوحِيِّ، أَوِ الْوُجُودِ الْجَمِيلِ، أَوِ الْفَقْدِ الْمُفَاجِئِ، أَوِ الْحُبِّ الْكَبِيرِ، يَصِيرُ الصَّمْتُ تَفَاعُلًا ذَاتِيًّا مَعَ عَالَمٍ لَا يُرِيدُ أَنْ يُتَرْجَمَ، بَلْ يُرِيدُ أَنْ يُعَاشَ وَيُدْرَكَ بِالْحُضُورِ الْخَفِيِّ. فِي الثَّقَافَاتِ الشَّرْقِيَّةِ، كَالْفَلْسَفَةِ الطَّاوِيَّةِ وَالْبُوذِيَّةِ، يُعْتَبَرُ الصَّمْتُ لُغَةَ الْحَقِيقَةِ، وَيُقَالُ: "الصَّوْتُ الْحَقِيقِيُّ لَا يُقَالُ". أَمَّا فِي الْفَلْسَفَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَيَرَى مَارْتِن هَايْدِغَر أَنَّ "اللُّغَةَ مَنْزِلُ الْكَيْنُونَ"، لَكِنَّ الصَّمْتَ هُوَ الْمَجَالُ الَّذِي يَتَشَكَّلُ فِيهِ الْفِكْرُ قَبْلَ أَنْ يَتَشَظَّى إِلَى كَلِمَاتٍ. كَذَلِكَ، يَقُولُ فِيتْغِنْشْتَايْن: (عَمَّا لَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ فِيهِ، يَجِبُ أَنْ نَصْمُتَ) وَهُنَا يُصْبِحُ الصَّمْتُ فِعْلَ فَلْسَفَةٍ، لَا تَهَرُّبًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ، بَلْ تَوْقِيرًا لِمَا يَفُوقُهَا. خَاتِمَةُ الْمَحْوَرِ: إِنَّ الصَّمْتَ لَيْسَ غِيَابًا لِلدِّلَالَةِ، وَلَا فَرَاغًا، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفْصَحَ مِنَ الْكَلَامِ. إِنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي يُحْتَرَمُ فِيهِ الْمَعْنَى، وَيُتْرَكُ لِيَتَجَلَّى دُونَ تَقْيِيدٍ لُغَوِيٍّ. وَمِنْ هُنَا، فَالصَّمْتُ لَا يُنَافِي اللُّغَةَ، بَلْ يُكْمِلُهَا، وَيُشِيرُ إِلَى مَا تَعْجَزُ عَنْهُ. الْوَعْيُ غَيْرُ اللُّغَوِيِّ (الْحَدْسُ، الْفَنُّ، التَّأَمُّلُ...) فِي عَالَمٍ تَسُودُهُ الْكَلِمَةُ، يَظَلُّ الْوَعْيُ غَيْرُ اللُّغَوِيِّ مَجَالًا خَفِيًّا وَعَمِيقًا، يُعَبِّرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ عَنْ مَعَانٍ وَتَجَارِبَ لَا تَسْتَوْعِبُهَا النُّظُمُ اللُّغَوِيَّةُ التَّقْلِيدِيَّةُ. هُنَاكَ أَشْكَالٌ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْفَهْمِ، كَالْحَدْسِ، وَالْإِشْرَاقِ الدَّاخِلِيِّ، وَالتَّجْلِّي الْجَمَالِيِّ، تَتَفَاعَلُ فِي النَّفْسِ دُونَ أَنْ تَسْبِقَهَا كَلِمَةٌ أَوْ يُلْحِقَهَا تَعْبِيرٌ. فِي التَّأَمُّلِ الصُّوفِيِّ – سَوَاءٌ فِي التَّرَاثِ الْإِسْلَامِيِّ (كَمَا عِنْدَ ابْنِ عَرَبِي وَالْحَلَّاجِ) أَوْ فِي الْبُوذِيَّةِ وَالطَّاوِيَّةِ – يُسْتَبْعَدُ اللِّسَانُ لِتُتْرَكِ الرُّوحُ لِتُسَافِرَ فِي مَدَارِكِهَا الْخَامَةِ. الْفَنُّ، بِوَجْهِهِ الْبَصَرِيِّ أَوِ الْمَوْسِيقِيِّ، يُشَكِّلُ مِثَالًا نَاصِعًا عَلَى الْوَعْيِ غَيْرِ اللُّغَوِيِّ، فَفِي لَوْحَةٍ أَوْ نَغْمَةٍ، تَنْفَجِرُ مَعَانٍ وَمَشَاعِرُ لَا تَسْتَطِيعُ أَيُّ جُمْلَةٍ تَقْلِيدِيَّةٍ أَنْ تَجْسُدَهَا. الْحَدْسُ هُوَ أَيْضًا مِفْتَاحٌ غَيْرُ لُغَوِيٍّ، يَكْشِفُ عَنْ مَعْرِفَةٍ فَوْرِيَّةٍ، لَا تَسْتَنْدُ إِلَى نَظَرِيَّةٍ، وَلَا تَخْضَعُ لِشَرْحٍ، بَلْ يَسْبِقُ كُلَّ تَفْكِيرٍ صَرِيحٍ، كَمَا فِي إِلْهَامِ الشُّعَرَاءِ أَوِ اسْتِبْصَارِ الْفَلَاسِفَةِ. خَاتِمَةُ الْمَحْوَرِ: الْوَعْيُ غَيْرُ اللُّغَوِيِّ يُثْبِتُ أَنَّ اللُّغَةَ لَيْسَتِ الْوَسِيلَةَ الْوَحِيدَةَ لِلْإِدْرَاكِ وَالتَّفْكِيرِ. وَرُبَّمَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ تَنْبُتُ فِي صَمْتٍ، وَتَتَجَلَّى فِي لَحْنٍ، أَوْ لَوْنٍ، أَوْ نَظْرَةٍ، دُونَ كَلِمَاتٍ. هَلْ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الْحَقِيقَةِ خَارِجَ اللُّغَةِ؟ لَقَدِ اقْتَرَنَ إِدْرَاكُ الْحَقِيقَةِ طَوِيلًا بِقُدْرَةِ اللُّغَةِ عَلَى تَسْمِيَتِهَا وَتَحْدِيدِهَا. وَلَكِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ تَتَزَعْزَعُ إِذَا مَا تَأَمَّلْنَا تَجَارِبَ الْوُجُودِ الْكُبْرَى الَّتِي تَنْفَلِتُ مِنْ قَبْضَةِ التَّعْبِيرِ، وَتُدْرَكُ بِشَكْلٍ حَسِّيٍّ، حَدْسِيٍّ، أَوْ رُؤْيَوِيٍّ، كَمَا فِي لَحَظَاتِ الْوَحْيِ، أَوِ التَّجَلِّي الْجَمَالِيِّ، أَوِ الْفَهْمِ الْفَوْرِيِّ الَّذِي يَسْبِقُ التَّسْمِيَةَ. يُقَدِّمُ مَارْتِن هَايْدِغَر نَظْرِيَّةً جَرِيئَةً حَيْثُ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَيْسَتْ مُطَابَقَةً بَيْنَ اللُّغَةِ وَالشَّيْءِ، بَلْ هِيَ انْكِشَافُ الْكَيْنُونَةِ، وَهَذَا الْانْكِشَافُ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ قَبْلَ الْكَلِمَةِ، وَقَدْ يَفْضَحُهَا إِذَا حَاوَلَتْ تَأْطِيرَهُ. وَيُفَكِّكُ رُولَانْ بَارْت الْعِلَاقَةَ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى، مُعْلِنًا "مَوْتَ الْمُؤَلِّفِ"، لِيُحَرِّرَ النَّصَّ وَالْقَارِئَ، وَلِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى يُولَدُ أَحْيَانًا مِنْ خَارِجِ مَا يُقَالُ. كَذَلِكَ، فِي الْفُلْكْلُورِ وَالْمِيثُولُوجِيَا، تَتَجَلَّى الْحَقَائِقُ فِي أَشْكَالٍ رَمْزِيَّةٍ، وَصُوَرٍ بَصَرِيَّةٍ، وَتَجَارِبَ طَقْسِيَّةٍ لَا تَتَكَلَّمُ كَلِمَاتٍ، وَلَكِنَّهَا تُخَاطِبُ الْوُجُودَ بِلُغَةٍ أُخْرَى. خَاتِمَةُ الْمَحْوَرِ: إِنَّ الْحَقِيقَةَ، فِي جَوْهَرِهَا، أَعْظَمُ وَأَعْقَدُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ فِي لُغَةٍ. وَرُبَّمَا كَانَ الصَّمْتُ، أَوِ الرَّمْزُ، أَوِ الشُّعُورُ الْمُجَرَّدُ، هُوَ السَّبِيلُ الْأَصْدَقُ لِمُقَارَبَتِهَا.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: نَحْوَ لُغَةٍ جَدِيدَةٍ أَمْ فِكْرٍ بِلَا لُغَةٍ؟ مُقَدِّمَةُ الْفَصْلِ:بَعْدَ أَنْ وَقَفْنَا عَلَى خَوْنِ اللُّغَةِ لِلْمَعْنَى، وَعَجْزِهَا عَنِ الْإِحَاطَةِ بِتَجَارِبِ الْوُجُودِ الْعَصِيَّةِ عَلَى التَّعْبِيرِ، يَثُورُ السُّؤَالُ: هَلْ نُجَدِّدُ اللُّغَةَ؟ أَمْ نُغَادِرُهَا؟ هَلْ نُطَوِّرُهَا حَتَّى تَقْتَرِبَ مِنَ الْفِكْرِ الْخَامِ، أَمْ نَبْحَثُ عَنْ أَشْكَالٍ جَدِيدَةٍ لِلتَّفْكِيرِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى نُطْقٍ وَلَا كَلِمَةٍ؟ دَعَوَاتٌ لِتَجْدِيدِ اللُّغَةِ (دِرِيدَا، فِيتْغِنْشْتَايْن الثَّانِي...)لَمْ يَكُنِ التَّشْكِيكُ فِي قُدْرَةِ اللُّغَةِ عَلَى نَقْلِ الْمَعْنَى مُجَرَّدَ نَقْدٍ سَطْحِيٍّ، بَلْ تَحَوَّلَ عِنْدَ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ إِلَى دَعْوَةٍ جَذْرِيَّةٍ لِتَجْدِيدِ اللُّغَةِ، أَوْ لِإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي صِلَتِهَا بِالْفِكْرِ وَالْعَالَمِ. فِيتْغِنْشْتَايْن الثَّانِي: اللُّغَةُ كَلُعْبَةٍ فِي مَرْحَلَتِهِ الثَّانِيَةِ، أَصْبَحَ لُودْفِيغ فِيتْغِنْشْتَايْن أَقَلَّ تَشَدُّدًا فِي نَظَرِيَّةِ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْعَالَمِ، وَطَوَّرَ مَفْهُومًا جَدِيدًا أَطْلَقَ عَلَيْهِ "لُعْبَةُ اللُّغَةِ". وَفْقًا لَهُ، لَيْسَ هُنَاكَ نِظَامٌ وَاحِدٌ لِلُّغَةِ، بَلْ هِيَ نُظُمٌ كَثِيرَةٌ تَتَشَكَّلُ بِحَسَبِ سِيَاقِ الِاسْتِعْمَالِ. هَذِهِ الرُّؤْيَةُ تَفْتَحُ الْبَابَ أَمَامَ تَعَدُّدِ الْمَعَانِي وَتَكْسِيرِ الْمَرْجِعِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ. دِرِيدَا: تَفْكِيكُ اللُّغَةِ وَأُسْطُورَةُ الْمَعْنَى أَمَّا جَاك دِرِيدَا، فَقَدْ ذَهَبَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَشْرُوعِهِ التَّفْكِيكِيِّ. يَرَى دِرِيدَا أَنَّ اللُّغَةَ تُخْفِي قَدْرَ مَا تُظْهِرُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى مُؤَجَّلٌ دَوْمًا، وَأَنَّ كُلَّ نَصٍّ يَحْمِلُ فِيهِ عُنْصُرَ تَقْوِيضِ نَفْسِهِ. اللُّغَةُ لَا تَعْكِسُ الْحَقِيقَةَ، بَلْ تَنْتِجُهَا، وَهِيَ فِي ذَاتِهَا نِظَامٌ لَا يُوَفِّي بِوَعْدِ التَّوَاصُلِ. خَاتِمَةُ الْمَحْوَرِ: تَدْفَعُنَا هَذِهِ الطُّرُوحَاتُ إِلَى التَّفْكِيرِ فِي أَنَّ اللُّغَةَ لَيْسَتْ قَدَرًا مُحْتُومًا، بَلْ حَيِّزًا يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُ وَتَفْكِيكُهُ وَإِعَادَةُ بِنَائِهِ، وَأَنَّ الْوَعْيَ النَّقْدِيَّ لَهَا هُوَ الْخَطْوَةُ الْأُولَى نَحْوَ تَحْرِيرِ الْفِكْرِ مِنْ قُيُودِهَا. هَلْ نَحْتَاجُ إِلَى لُغَةٍ شِعْرِيَّةٍ، رَمْزِيَّةٍ، أَوْ جَسَدِيَّةٍ؟ إِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ التَّقْلِيدِيَّةُ، بِمَا تَحْمِلُهُ مِنْ قَوَاعِدَ وَمَعَاجِمَ وَمُرَكَّبَاتٍ نَحْوِيَّةٍ، تُخْفِقُ أَحْيَانًا فِي نَقْلِ مَا يَجُولُ فِي الذِّهْنِ أَوِ الرُّوحِ، فَهَلْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْوَاعٍ جَدِيدَةٍ مِنَ التَّعْبِيرِ؟ لُغَاتٍ تَسْتَعِينُ بِالرَّمْزِ، بِالْإِيمَاءِ، بِالشِّعْرِ، أَوْ بِالْجَسَدِ نَفْسِهِ كَمِرْآةٍ لِلْمَعْنَى؟
١– اللُّغَةُ الشِّعْرِيَّةُ: النَّفَاذُ إِلَى جَوْهَرِ التَّجْرِبَةِ اللُّغَةُ الشِّعْرِيَّةُ تَخْرُجُ مِنْ قَالَبِ التَّقْرِيرِ وَالتَّعْبِيرِ الْمُبَاشِرِ، لِتَبْنِيَ جُمَلًا تَنْبُضُ بِالْإِيقَاعِ وَالصُّورَةِ وَالْغُمُوضِ. هِيَ لُغَةٌ لَا تُقَدِّمُ الْمَعْنَى عَلَى طَبَقٍ، بَلْ تَجْعَلُهُ يُقَاوِمُ الْفَهْمَ وَيُغْرِي بِالْقِرَاءَةِ. فِي الشِّعْرِ، لَا تَكُونُ اللُّغَةُ أَدَاةً، بَلْ مَجَالًا لِلتَّجَلِّي. مِثَالٌ: تَأَمَّلْ قَوْلَ مَلَارْمِيه: "إِنَّ تَسْمِيَةَ شَيْءٍ، هِيَ إِفْنَاؤُهُ، وَإِنَّمَا الْإِيحَاءُ هُوَ الْجَوْهَرُ." ٢– اللُّغَةُ الرَّمْزِيَّةُ: لُغَةُ الْعُبُورِ إِلَى الْمَعْنَى الْغَائِبِ اللُّغَةُ الرَّمْزِيَّةُ تَفْتَحُ أُفُقَ التَّأْوِيلِ وَالْإِسْقَاطِ الذَّاتِيِّ، وَتُتِيحُ لِلْقَارِئِ أَنْ يُسَاهِمَ فِي صُنْعِ الْمَعْنَى، لَا أَنْ يَتَلَقَّاهُ فَقَطْ. وَفِي هَذِهِ اللُّغَةِ، كُلُّ عُنْصُرٍ يُمْكِنُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ عُمْقًا وَغِيَابًا. مِثَالٌ: فِي النُّصُوصِ الصُّوفِيَّةِ، يَسْتَخْدِمُ الْكُتَّابُ أَلْفَاظًا ظَاهِرُهَا جَسَدِيٌّ، بَاطِنُهَا رُوحِيٌّ: "الشَّرَابُ، الْوَصْلُ، الْغَيَابُ، السُّكْرُ..." ٣– اللُّغَةُ الْجَسَدِيَّةُ: عِنْدَمَا يَنْطِقُ الْجَسَدُ مَا لَا تَقْدِرُ الْكَلِمَاتُ عَلَيْهِ الْإِيمَاءَاتُ، وَالْحَرَكَاتُ، وَالْإِيْقَاعُ الْجَسَدِيُّ، كُلُّهَا أَشْكَالٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَهِيَ تَسْبِقُ اللُّغَةَ الْمَنْطُوقَةَ تَارِيخِيًّا وَعَصَبِيًّا. فِي الرَّقْصِ، فِي النَّظَرَةِ، فِي الْمَسْرَحِ، يُوجَدُ مَا يُقَالُ بِلَا أَلْسِنَةٍ. مِثَالٌ: فِي مَسْرَحِ جِرْزِي غْرُوطُوفْسْكِي وَبِينَا بَوْش، يُصْنَعُ الْمَعْنَى مِنَ الْجَسَدِ الْمُتَشَكِّلِ فِي الْفَرَاغِ، وَتُسْتَبْدَلُ اللُّغَةُ الْكَلَامِيَّةُ بِكِيَانٍ بَصَرِيٍّ تَفَاعُلِيٍّ. خَاتِمَةُ الْمَحْوَرِ: إِنَّ تَسَاؤُلَنَا هُنَا يُفْضِي إِلَى حَقِيقَةٍ هَامَّةٍ: أَنَّ اللُّغَةَ لَيْسَتْ وَاحِدَةً، وَلَا تَجْرِي فِي قَنَاةٍ وَاحِدَةٍ. إِذَا عَجَزَتِ اللُّغَةُ الْخَطَابِيَّةُ، فَقَدْ تُفْصِحُ الشِّعْرِيَّةُ، وَإِذَا تَشَوَّشَ الْمَعْنَى فِي الْكَلِمَةِ، قَدْ تَفْضَحُهُ الْإِشَارَةُ، وَإِذَا غَابَ التَّعْبِيرُ، قَدْ يَنْطِقُ الْجَسَدُ. اللُّغَةُ كَقَدَرٍ أَمْ أُفُقٍ يُمْكِنُ تَجَاوُزُهُ؟ إِذَا كَانَتِ اللُّغَةُ تَحْدُّ الْفِكْرَ، وَتُشَكِّلُ رُؤْيَتَنَا لِلْعَالَمِ، فَهَلْ نَحْنُ مَحْكُومُونَ بِهَا؟ أَمْ يُمْكِنُنَا تَخَطِّي قُيُودِهَا، وَاخْتِرَاعُ أُفُقٍ جَدِيدٍ لِلْفَهْمِ وَالتَّوَاصُلِ؟ ١– اللُّغَةُ كَقَدَرٍ: يَرَى بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ، وَعَلَى رَأْسِهِمِ فِيتْغِنْشْتَايْن الأَوَّل وَهَايْدِغَر، أَنَّ الْإِنْسَانَ مُقَيَّدٌ بِاللُّغَةِ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَكِّرَ خَارِجَهَا، بَلْ هِيَ تَصُوغُ كَيْنُونَتَهُ وَتُقَرِّرُ حُدُودَ فَهْمِهِ. قَوْلُ فِيتْغِنْشْتَايْن الْمَشْهُورِ: "حُدُودُ لُغَتِي هِيَ حُدُودُ عَالَمِي."وَعِنْدَ هَايْدِغَر، اللُّغَةُ لَيْسَتْ أَدَاةً، بَلْ "بَيْتُ الْكَيْنُونَةِ"، وَفِي غِيَابِهَا، يَغِيبُ الْكَائِنُ ذَاتُهُ. ٢– اللُّغَةُ كَأُفُقٍ لِلتَّجَاوُزِ:فِي الْمُقَابِلِ، يَظْهَرُ فِيتْغِنْشْتَايْن الثَّانِي، وَمَعَهُ دِيرِيدَا، وَيَتَّخِذُونَ مَوْقِفًا يَفْتَحُ الْبَابَ لِتَفْكِيكِ اللُّغَةِ وَتَجَاوُزِهَا. فِيتْغِنْشْتَايْن الثَّانِي يَرَى أَنَّ مَعْنَى اللُّغَةِ فِي اسْتِخْدَامِهَا، وَأَنَّ لَا مَعْنًى ثَابِتٌ وَمُطْلَقٌ، وَبِذَلِكَ تُصْبِحُ اللُّغَةُ مَرِنَةً، قَابِلَةً لِلتَّطْوِيعِ وَالتَّجْرِبَةِ. أَمَّا دِيرِيدَا، فَيَكْشِفُ أَنَّ اللُّغَةَ نِظَامُ فُرُوقٍ وَغِيَابَاتٍ، وَأَنَّ الْمَعْنَى يُؤَجَّلُ دَائِمًا (différance)، مِمَّا يَجْعَلُ كُلَّ نُصٍّ قَابِلًا لِلتَّفْكِيكِ وَالتَّعْدِيدِ وَاللَّعِبِ. ٣– مَا بَيْنَ الْقَدَرِ وَالأُفُقِ: رُبَّمَا نَحْنُ مَحْكُومُونَ بِاللُّغَةِ، وَلَكِنَّنَا نُعِيدُ اخْتِرَاعَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ. الشِّعْرُ، الْفَنُّ، الْمُوسِيقَى، الْجَسَدُ، وَحَتَّى الصَّمْتُ، هِيَ مَجَالَاتٌ نُحَاوِلُ فِيهَا أَنْ نُفْلِتَ مِنْ سُلْطَةِ اللُّغَةِ، لِنَبْلُغَ مَا لَا يُقَالُ. تَقْيِيمٌ فَلْسَفِيٌّ وَتَحْلِيلِيٌّ لِبَحْثٍ: «اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ» تَمْهِيدٌ: يَنْدَرِجُ بَحْثُ «اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ» ضِمْنَ الْمَشَارِيعِ الْفِكْرِيَّةِ الَّتِي تُحَاوِلُ مُسَاءَلَةَ الْعَلَاقَةِ الْمُعَقَّدَةِ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْفِكْرِ، خَارِجَ حُدُودِ الْمَدَارِسِ الْفَلْسَفِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، وَمِنْ مَنْظُورٍ وُجُودِيٍّ تَأَمُّلِيٍّ ذِي طَابِعٍ نَقْدِيٍّ. يَمِيلُ النَّصُّ إِلَى إِدَانَةِ اللُّغَةِ، بِوَصْفِهَا عَائِقًا أَمَامَ تَدَفُّقِ الْفِكْرِ، أَوْ بِوَصْفِهَا خِيَانَةً لَهُ، مَا يُذَكِّرُ – ضِمْنًا – بِمَقُولَاتِ جَاك دِرِيدَا حَوْلَ «اخْتِنَاقِ الْمَعْنَى دَاخِلَ اللُّغَةِ»، وَبِأَطْرُوحَاتِ مِيرْلُو-بُونْتِي حَوْلَ الْجَسَدِ الْمُتَجَسِّدِ فِي اللُّغَةِ، دُونَ أَنْ يُحِيلَ الْبَحْثُ مُبَاشَرَةً إِلَى تِلْكَ الْمَرَاجِعِ. الْمَرْجِعِيَّةُ الْفَلْسَفِيَّةُ: الْمَرْجِعِيَّةُ الْفَلْسَفِيَّةُ فِي هَذَا الْبَحْثِ ضِمْنِيَّةٌ أَكْثَرَ مِنْهَا مُبَاشِرَةً. فَالْبَاحِثُ لَا يُقَدِّمُ إِحَالَاتٍ صَرِيحَةً، وَلَكِنْ يُمْكِنُ لِلْقَارِئِ الْمُتَمَرِّسِ أَنْ يَسْتَشْرِفَ حُضُورًا غَيْرَ مُعْلَنٍ لِأَسْمَاءٍ فَلْسَفِيَّةٍ، مِثْلَ: جَاك دِرِيدَا: مِنْ خِلَالِ تَفْكِيكِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، وَاسْتِحْضَارِ مَفْهُومِ «الْخِيَانَةِ» كَانْزِيَاحٍ دَاخِلَ النِّسْيَجِ اللُّغَوِيِّ. مُورِيس مِيرْلُو-بُونْتِي: مِنْ خِلَالِ التَّلْمِيحِ إِلَى الْبُعْدِ الْجَسَدِيِّ لِلتَّفْكِيرِ، وَأَنَّ اللُّغَةَ نَفْسَهَا فِعْلٌ جَسَدِيٌّ يَتَجَسَّدُ وَيُجَسِّدُ الْفِكْرَ. بُول رِيكُور: عَبْرَ الصِّرَاعِ بَيْنَ إِرَادَةِ التَّعْبِيرِ وَحُدُودِ الْوَسِيطِ اللُّغَوِيِّ. لُغَةُ الْبَاحِثِ: يَتَمَيَّزُ إِسْحَق قَوْمِيٌّ بِلُغَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ تَأَمُّلِيَّةٍ، تَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيقَاعِ الدَّاخِلِيِّ وَالشَّاعِرِيَّةِ، مَعَ تَمَكُّنٍ نَحْوِيٍّ وَصِيَاغِيٍّ ظَاهِرٍ. وَهُوَ يَكْتُبُ أَكْثَرَ بِرُوحِ "الْفَيْلَسُوفِ الْمُتَصَوِّفِ" مِنْ رُوحِ الْفَيْلَسُوفِ الْأَكْثَرِ تَقْعِيدًا وَإِحَالَةً. لُغَتُهُ تُجَاوِرُ الشِّعْرَ وَتُجَادِلُ الْفِكْرَ. عَنَاصِرُ الْقُوَّةِ فِي الْبَحْثِ: ١ – جُرْأَةُ الطَّرْحِ وَخُرُوجُهُ عَنْ الْأَنْسَاقِ الْأَكْتُوبِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ. ٢ – تَوْظِيفُ اللُّغَةِ كَمَوْضُوعٍ وَكَوَسِيطٍ فِي آلٍ وَاحِدٍ. ٣ – الْهَاجِسُ الْوُجُودِيُّ الَّذِي يُؤَطِّرُ الرُّؤْيَةَ وَيُضْفِي عَلَيْهَا مَعْنًى كَوْنِيًّا. مُلَاحَظَاتٌ نَقْدِيَّةٌ:غِيَابُ الْإِحَالَاتِ الْمَرْجِعِيَّةِ يُضْعِفُ مِنَ الْبِنَاءِ الْحِجَاجِيِّ لِلْبَحْثِ. كَانَ بِالْإِمْكَانِ إِغْنَاءُ النَّصِّ بِاقْتِبَاسَاتٍ دَقِيقَةٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَاطِعِينَ مَعَهُ. أَحْيَانًا تَطْغَى الشَّاعِرِيَّةُ عَلَى التَّحْدِيدِ الْمَفْهُومِيِّ. التَّقْيِيمُ الْعَامُّ: بَحْثُ «اللُّغَةُ كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ» هُوَ نَصٌّ فَلْسَفِيٌّ تَأَمُّلِيٌّ، يُشَكِّلُ إِضَافَةً ذَاتَ فَرَادَةٍ فِي الْمَشْهَدِ الْفِكْرِيِّ الْعَرَبِيِّ الْمُعَاصِرِ. وَإِسْحَق قَوْمِيٌّ هُوَ صَوْتٌ يَكْتُبُ مِنَ الْهَامِشِ، لَكِنَّهُ يَحْمِلُ فِي هَذَا الْهَامِشِ مَشْرُوعًا عَابِرًا لِلحُدُودِ، وَيَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْرَأَ كَصَوْتٍ فَلْسَفِيٍّ وُجُودِيٍّ لُغَوِيٍّ حُرٍّ. التَّوْصِيَةُ: يُنصَحُ بِإِعَادَةِ نَشْرِ الْبَحْثِ بِنُسْخَةٍ مُحَقَّقَةٍ عِلْمِيًّا، مَعَ إِشَارَاتٍ وَهَوَامِشَ وَمَرَاجِعَ فَلْسَفِيَّةٍ، وَيُفَضَّلُ تَرْجَمَتُهُ إِلَى لُغَاتٍ أَجْنَبِيَّةٍ لِأَجْلِ تَعْرِيفِ الْقَارِئِ الْغَرْبِيِّ بِهَذَا النَّفَسِ الْفِكْرِيِّ الْمُسْتَقِلِّ. خَاتِمَةُ الْفَصْلِ: اللُّغَةُ لَا تَكُونُ خِيَانَةً فِي ذَاتِهَا، وَلَكِنْ فِي حُدُودِهَا. وَعِنْدَمَا نَعْرِفُ هَذِهِ الْحُدُودَ، يَبْدَأُ الْفِكْرُ الْحُرُّ. فَالسُّؤَالُ لَا يَكُونُ: هَلْ نَتَكَلَّمُ؟ بَلْ: كَيْفَ نَجْعَلُ مَا نَقُولُهُ يَقْتَرِبُ مِنْ جَوْهَرِ مَا نَشْعُرُ بِهِ؟ نَظْرَةُ "مَدْرَسَةِ الْوِلَادَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ": نَحْوَ مَنْهَجٍ لُغَوِيٍّ تَرْبَوِيٍّ جَدِيدٍ تَرَى "مَدْرَسَةُ الْوِلَادَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ" أَنَّ إِعَادَةَ النَّظَرِ فِي النِّظَامِ التَّعْلِيمِيِّ يَبْدَأُ مِنَ اللُّغَةِ، لَيْسَ كَمَادَّةٍ فَقَطْ، بَلْ كَبِنْيَةٍ حَامِلَةٍ لِلْهُوِيَّةِ وَالْفِكْرِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّعَايُشِ. وَفْقًا لِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ، يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الطِّفْلُ أَرْبَعَ لُغَاتٍ خِلَالَ مَرَاحِلِهِ الدِّرَاسِيَّةِ الْأُولَى: ١. اللُّغَةُ الْوَطَنِيَّةُ، بَصِفَتِهَا الْوِعَاءَ الْجَامِعَ لِلْهُوِيَّةِ وَالثَّقَافَةِ الْقَوْمِيَّةِ. ٢. لُغَاتُ الْمُكَوِّنَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ ، وَفِي مُقَدِّمَتِهَا اللُّغَةُ الْآرَامِيَّةُ السُّرْيَانِيَّةُ الْآشُورِيَّةُ، لِقِدَمِهَا وَجُذُورِهَا الْأَبْجَدِيَّةِ، ثُمَّ اللُّغَةُ الْكُرْدِيَّةُ والعبرية في سورية والعراق ولبنان وإسرائيل والضفة والقطاع وشرقي الأردن . أما في مصر وتونس والجزائر والمغرب . فلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ عِنْدَ اللُّغَةِ الأَمَازِيغِيَّةِ، وَاللُّغَةِ الْقِبْطِيَّةِ، كَلُغَتَيْنِ تَحْمِلَانِ تُرَاثًا هُوِيَّاتِيًّا وَفِلْسَفِيًّا عَمِيقًا، وَقَدْ تَعَرَّضَتَا لِلتَّهْمِيشِ وَالتَّغْيِيبِ، فَكَانَتَا شَاهِدَتَيْنِ أَيْضًا عَلَى خِيَانَةِ اللُّغَةِ لِذَاتِهَا، حِينَ تُجَرَّدُ مِنْ وُجُودِهَا وَتُجْبَرُ عَلَى الصَّمْتِ. كلّ هذا لِإِرْسَاءِ فِكْرِ التَّعَايُشِ وَاحْتِرَامِ التَّعَدُّدِ. ٣. لُغَتَانِ عَالَمِيَّتَانِ (كَمِثْلِ الْإِنْجِلِيزِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ، أَوِ الْإِسْبَانِيَّةِ وَالصِّينِيَّةِ)، لِفَتْحِ آفَاقِ التَّوَاصُلِ مَعَ الْعَالَمِ. وَهَذَا التَّعَلُّمُ اللُّغَوِيُّ الْمُتَعَدِّدُ يَسْتَنِدُ إِلَى مَبْدَأِ أَنَّ الطِّفْلَ، فِي سِنِّهِ الْمُبَكِّرَةِ، يَمْتَلِكُ قُدْرَةً عُضْوِيَّةً طَبِيعِيَّةً عَلَى اسْتِقْبَالِ اللُّغَاتِ بِسُهُولَةٍ، إِذَا تَوَفَّرَتْ آلِيَّاتٌ تَعْلِيمِيَّةٌ نَاجِعَةٌ، تَجْمَعُ بَيْنَ اللَّعِبِ وَالْغِنَاءِ وَالتَّكْرَارِ وَالِانْغِمَاسِ الْمُبَاشِرِ. وَبِذَلِكَ، تُصْبِحُ اللُّغَةُ جِسْرًا لِلْإِنْسَانِيَّةِ، لَا حَاجِزًا، وَيُفَكُّ ارْتِبَاكُ الْهُوِيَّةِ، وَتُقَوَّى أَدَوَاتُ الْفَهْمِ وَالْحِوَارِ وَالْمُصَالَحَةِ. الخِاتمَةُ بَعْدَ هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْفِكْرِيَّةِ الْمُتَعَمِّقَةِ فِي مَتَاهَاتِ اللُّغَةِ وَأَسْئِلَةِ التَّعْبِيرِ وَالتَّفْكِيرِ، نَعُودُ إِلَى سُؤَالِنَا الْمَرْكَزِيِّ: هَلِ اللُّغَةُ خَائِنَةٌ لِلْفِكْرِ؟ لَا يُمْكِنُنَا، بَعْدَ كُلِّ مَا طَرَحْنَاهُ، أَنْ نَسْتَسْلِمَ لِإِجَابَةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقَةٍ، فَفِي أَحْيَانٍ تَكُونُ اللُّغَةُ أَدَاةً لِلتَّفْكِيرِ، وَفِي أُخْرَى تَغْدُو قَيْدًا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَصِلُ فِي حَالَاتٍ مُعَيَّنَةٍ إِلَى دَرَجَةِ الْخِيَانَةِ، خُصُوصًا عِنْدَمَا تُسْتَخْدَمُ لِلتَّضْلِيلِ، أَوْ تَعْجَزُ عَنْ نَقْلِ مَا لَا يُقَالُ، كَالْأَلَمِ وَالْحُبِّ وَالْمَوْتِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا الْبَحْثِ كَيْفَ أَنَّ اللُّغَةَ تُشَكِّلُ الْوَاقِعَ وَتُؤَطِّرُهُ، وَكَيْفَ أَنَّهَا تَتَعَالَقُ مَعَ السُّلْطَةِ وَالْأَيْدِيُولُوجِيَا، وَأَنَّ الصَّمْتَ وَالْفِكْرَ الْخَامَ وَالْفَنَّ وَالْحَدْسَ قَدْ يَكُونُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ. مَوْقِفُنَا الْفِلْسَفِيُّ، كَمَا تَصُوغُهُ مَدْرَسَةُ الْوِلَادَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ، لَا يَقِفُ عِنْدَ تَشْخِيصِ الْمَشْكِلَةِ، بَلْ يَدْعُو إِلَى إِعَادَةِ تَخْيِيلِ اللُّغَةِ، وَفَتْحِ آلِيَّاتٍ جَدِيدَةٍ لِلتَّعْبِيرِ، تَجْمَعُ بَيْنَ اللُّغَةِ وَالْجَسَدِ وَالصُّورَةِ وَالصَّمْتِ، وَتُؤْمِنُ بِقُدْرَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْخَلْقِ اللُّغَوِيِّ، لَا الِاسْتِسْلَامِ لِقُيُودِ التُّرَاثِ وَالْمُعْجَمِ. كَمَا تَأْتِي دَعْوَتُنَا فِي الْخِتَامِ إِلَى تَبَنِّي نِظَامٍ تَعْلِيمِيٍّ يُقَرِّبُ اللُّغَاتِ وَيُفَكِّكُ حَوَاجِزَ التَّفَاهُمِ بَيْنَ الْمُكَوِّنَاتِ، وَيَزْرَعُ فِي الطِّفْلِ حُبَّ الِانْفِتَاحِ عَلَى اللُّغَاتِ وَالثَّقَافَاتِ، لِكَيْ لَا تَكُونَ اللُّغَةُ سَبَبًا فِي صِرَاعٍ، بَلْ جِسْرًا نَحْوَ وَعْيٍ كَوْنِيٍّ يُحْسِنُ الْإِصْغَاءَ وَالْإِبْدَاعَ وَالتَّعَايُشَ. فَلْتَكُنْ خِتَامًا اللُّغَةُ وَعْدًا لَا خِيَانَةً، وَأُفُقًا لَا قَيْدًا، وَحِينئِذٍ... لَعَلَّ الْمَعْنَى يَبْتَدِئُ. ((دراسة تحليلية ـ نقدية ـ فلسفية لبحث: "اللُّغَة كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ" إعداد: إسحق قومي – شاعرٌ وباحثٌ سوريٌّ مُقيمٌ في ألمانيا أولًا: التحليل المفهوميّ والفلسفيّ ينطلق البحث من أطروحةٍ جريئة تُشكِّل عنوانه: «اللُّغَة كَخِيَانَةٍ لِلْفِكْرِ»، وهي فرضيّة تنتمي إلى مسارٍ تفكيكيّ وفينومينولوجيّ يُقارب العلاقة بين اللغة والفكر من جهة التوتر والتنازع، لا التكامل فقط. هذا العنوان ـ في ذاته ـ يحفز القارئ نحو مساءلة مركزية: هل اللغة، باعتبارها أداة للتعبير، قادرة على نقل الفكر كما هو؟ أم أنها تشوِّه جوهره وتخونه، إمّا بسبب محدوديتها أو بسبب آلياتها الرمزية الاصطلاحية؟ الباحث يُبني فكرته انطلاقًا من قناعة فلسفية متماسكة: أن اللغة كقالبٍ جاهز، تقف على حدود الفكر ولا تواكبه أبدًا بكليته. وبالتالي، فإن اللغة لا تُجسِّد الفكر بل تخونه عبر اختزاله، تأطيره، وتأويله قسرًا ضمن البُنى النحوية والدلالية، التي لا تُطابق دائمًا التجربة الداخلية أو الإدراك العقلي الحر. ثانيًا: الأسس الفلسفية التي يستند إليها البحث التقابل بين الأصل والوسيط:يُفهم من البحث أن الفكر هو "الأصل" الأسبق زمنيًّا ومفهوميًّا، بينما اللغة هي "الوسيط" الناقص، الذي يحاول مطاردة الأصل دون أن يُدركه بالكامل. استحضار أفكار هايدغر وفتغنشتاين ودي سوسير بشكل غير مباشر: هايدغر يقول إن اللغة "بيت الكينونة"، ولكن الباحث ينقض ذلك جزئيًّا بالقول إن هذا "البيت" قد يكون قفصًا لا منزلًا. أما دي سوسير، الذي بيَّن أن العلاقة بين الدال والمدلول اصطلاحية لا طبيعية، فيُوظَّف ضمن النقد الموجه لبنية اللغة. سؤال المعنى والكينونة:الباحث يُشير إلى أن اللغة لا تُعبِّر عن الجوهر، بل تُعيد إنتاج "نُسخ" منه. ومن ثمّ، فإن الكينونة الفكرية تفلت دائمًا من أسر التعبير اللغوي. ثالثًا: الملاحظات النقدية على البنية والأسلوب لغة البحث غنية وذات بُعد أدبي شعري أحيانًا، مما يُكسب النص جمالًا تعبيريًّا، لكنه في بعض المواضع يجنح إلى الغموض أو الانزياح، وهو ما قد يُربك القارئ المتخصّص باللسانيات أو الفلسفة التحليلية. المرجعية الفلسفية ضمنية أكثر منها مباشرة. كان بالإمكان إغناء النص بإحالاتٍ واضحة إلى المفكرين الذين يتقاطع معهم البحث، مثل: جاك دريدا، موريس ميرلو-بونتي، بول ريكور، وغيرهم. الطرح جريء وغير تقليدي، ولكنه في حاجة إلى أمثلة أو نماذج تطبيقية تدعم الادعاء (كجمل أو أفكار تُظهر كيف تخون اللغة الفكر في واقع الاستخدام). رابعًا: التقييم العام أهمية البحث:البحث يُعيد فتح ملفّ فلسفيّ عميق ظلّ في قلب الفلسفة الغربية منذ سقراط وحتى فتغنشتاين: العلاقة بين الكلمة والمعنى، بين العقل واللسان، بين الجوهر والتعبير. أصالة الطرح:الفكرة المركزية بأن اللغة تُخون الفكر وليست فقط "ناقصته" أو "ظلّه"، تُعتبر طرحًا إبداعيًّا متجاوزًا للمقاربات التوفيقية التقليدية. ضعف نسبي في التوثيق الأكاديمي المباشر، إذ لا تُوجد إحالاتٌ واضحة إلى مصادر أو نصوص فلسفية، رغم وجود الحضور الفلسفي الضمني. قوّة لغوية واضحة لدى الباحث إسحق قومي، تمكّنه من خلق شبكة مفاهيمية وشعرية في آنٍ واحد، تجعل من القراءة تجربة فكرية وجمالية. خامسًا: تأمل ختامي – بين الصمت والكلمة يرتقي هذا البحث في نهايته ليطرح سؤالًا وجوديًّا: هل الصمت أصدقُ من اللغة؟ حين يعجز التعبير عن احتواء الشعور أو الفكرة، ربما يكون الصمتُ هو الوفاء الحقيقيّ للفكر. وهنا يصل الباحث إلى لحظة هايدغرية، يلتقي فيها الصمت بالكينونة. التوصية :يُوصى بنشر البحث ضمن دراسات الفكر الفلسفيّ المعاصر واللسانيات النقدية، بعد مراجعة لغوية طفيفة، وتدعيمه بمراجع واضحة ومقاطع تحليلية مقارنة. ويُعتبر الباحث إسحق قومي صاحب رؤية فلسفية مستقلّة، تجمع بين الشعر، التفكيك، والتأمُّل الوجودي. رأيي في الباحث السوري إسحق قومي، استنادًا إلى ما اطلعت عليه من كتاباته وأبحاثه، يمكن أن يُصاغ من زوايا متعددة: أوّلًا: من حيث الهوية الفكرية إسحق قومي لا ينتمي إلى مدرسة فلسفية جامدة أو تقليدية، بل يتميّز بأسلوب هجينيّ بين الشعر والفكر الفلسفي والنقد الثقافي، ما يجعله أقرب إلى فلاسفة الوجدان والتجربة المعاشة (كألبير كامو، أو حتى ميشيل سير)، منه إلى فلاسفة البناءات المفاهيمية الصارمة. يكتب من موقع المنفى، والانتماء الثقافي العابر للأطر الإثنية والدينية، ويبدو صوته مزيجًا بين مفكّر وجودي ومثقف مقاوم للتنميط. ثانيًا: من حيث الموضوعات الفلسفية التي يتناولها الباحث يشتغل على أسئلة كبرى مثل:اللغة والفكر،الوجود والموت ،الهوية والاختلاف،الديانة والفكر الإنساني. الحقيقة والسلطة:وهو في هذا يدخل مباشرة في قلب الفلسفة المعاصرة، ولكن من بوابة الكتابة الحرّة غير المؤسّسة أكاديميًّا، ما يمنحه جرأة ونَفَسًا غير خاضع لقوالب أكاديمية محكمة، وأيضًا يعرضه للتجاهل من قبل المؤسسات الأكاديمية التقليدية. ثالثًا: من حيث اللغة والأسلوب. إسحق قومي صاحب لغة عربية عالية، مرهفة، ومُشكَّلة غالبًا، ما يُكسب نصوصه ثقلًا لغويًّا لا يتوفر لكثير من المفكرين المعاصرين. لغته تَسِمُها شاعرية ميتافيزيقية، تجعل من فكره أقرب إلى صوفيّة فلسفية، تأملية، متجذرة في الذات والموروث. رابعًا: التقييم في سياق الفكر العالمي. إذا أردنا وضع إسحق قومي في خريطة الفكر العالمي، فهو لا يزال خارج «الدائرة المؤسّسة للفلسفة الغربية» (التي تقتصر عادةً على الأسماء المكتوبة بالفرنسية، الألمانية، أو الإنجليزية)، لكنه من حيث الطاقة التأملية والعمق الوجودي، يُقارن بمفكرين كبار في المسارات الهامشية مثل: إميل سيوران (روماني الأصل) في تأمله في الوجود والعدم. بول ريكور في جدله بين اللغة والمعنى. ميشيل دو سيرتو في مزجه بين الحياة اليومية والفكر. وربما حتى جبران خليل جبران في مزجه بين الشعر والفلسفة الروحية. خامسًا: ملاحظات ختامية قوّته الحقيقية تكمن في قدرته على مساءلة الموروث، وابتكار لغة نقدية جديدة دون أن يتنكر لعمقه السوري والمشرقي. نقطة تطوره المستقبلية ستكون في التوثيق المنهجي والانفتاح على حوار مباشر مع فلاسفة العالم بلغاتهم، إما بالترجمة أو الترجمة الذاتية.
وقبلَ أن أنتهيَ منَ الدراسةِ، أتركُ هذا التقييمَ. قييمٌ فلسفيٌّ وتحليليٌّ لبحثٍ: «اللُّغةُ كخيانةٍ للفكرِ» تمهيدٌ: يندرجُ بحثُ «اللُّغةُ كخيانةٍ للفكرِ» ضمنَ المشاريعِ الفكريّةِ التي تُحاولُ مساءلةَ العلاقةِ المُعقّدةِ بينَ اللُّغةِ والفكرِ، خارجَ حدودِ المدارسِ الفلسفيّةِ التقليديّةِ، ومن منظورٍ وجوديٍّ تأمّليٍّ ذي طابعٍ نقديٍّ. يميلُ النصُّ إلى إدانةِ اللُّغةِ، بوصفِها عائقًا أمامَ تدفّقِ الفكرِ، أو بوصفِها خيانةً له، ما يُذكّرُ – ضمنًا – بمقولاتِ جاك دريدا حولَ «اختناقِ المعنى داخلَ اللُّغةِ»، وبأطروحاتِ ميرلو-بونتي حولَ الجسدِ المتجسّدِ في اللُّغةِ، دونَ أن يُحيلَ البحثُ مباشرةً إلى تلكَ المراجعِ. المرجعيّةُ الفلسفيّةُ: المرجعيّةُ الفلسفيّةُ في هذا البحثِ ضمنيّةٌ أكثرَ منها مباشرةً. فالباحثُ لا يُقدّمُ إحالاتٍ صريحةً، ولكنْ يمكنُ للقارئِ المُتمرّسِ أن يستشرفَ حضورًا غيرَ مُعلنٍ لأسماءٍ فلسفيّةٍ، مثلَ: جاك دريدا: من خلالِ تفكيكِ العلاقةِ بينَ المعنى واللّفظِ، واستحضارِ مفهومِ «الخيانةِ» كانزياحٍ داخلَ النسيجِ اللّغويِّ. موريس ميرلو-بونتي: من خلالِ التلميحِ إلى البُعدِ الجسديِّ للتفكيرِ، وأنّ اللُّغةَ نفسَها فعلٌ جسديٌّ يتجسّدُ ويُجسّدُ الفكرَ. بول ريكور: عبرَ الصراعِ بينَ إرادةِ التعبيرِ وحدودِ الوسيطِ اللّغويِّ. لُغةُ الباحثِ:يتميّزُ إسحق قوميٌّ بلُغةٍ فلسفيّةٍ تأمّليّةٍ، تجمعُ بينَ الإيقاعِ الداخليِّ والشاعريّةِ، مع تمكّنٍ نحويٍّ وصياغيٍّ ظاهرٍ. وهو يكتبُ أكثرَ بروحِ "الفيلسوفِ المتصوّفِ" من روحِ الفيلسوفِ الأكاديميِّ المُحيلِ. لُغتُهُ تُجاورُ الشعرَ، وتُجادلُ الفكرَ. عناصرُ القوّةِ في البحثِ:جرأةُ الطرحِ وخروجُهُ عن الأنساقِ الأكتوبيّةِ المعهودةِ. توظيفُ اللُّغةِ كموضوعٍ وكوسيطٍ في آنٍ واحدٍ. الهاجسُ الوجوديُّ الذي يُؤطّرُ الرؤيةَ ويُضفي عليها معنًى كونيًّا. ملاحظاتٌ نقديّةٌ:غيابُ الإحالاتِ المرجعيّةِ يُضعفُ من البناءِ الحِجاجيِّ للبحثِ. كان بالإمكانِ إغناءُ النصِّ باقتباساتٍ دقيقةٍ من الفلاسفةِ المتقاطعينَ معَهُ. أحيانًا تطغى الشاعريّةُ على التحديدِ المفهوميِّ. التقييمُ العامُّ:بحثُ «اللُّغةُ كخيانةٍ للفكرِ» هو نصٌّ فلسفيٌّ تأمّليٌّ، يُشكّلُ إضافةً ذاتَ فرادةٍ في المشهدِ الفكريِّ العربيِّ المعاصرِ. وإسحق قوميٌّ هو صوتٌ يكتبُ من الهامشِ، لكنّهُ يحملُ في هذا الهامشِ مشروعًا عابرًا للحدودِ، ويستحقُّ أن يُقرأَ كصوتٍ فلسفيٍّ وجوديٍّ لغويٍّ حرٍّ. التوصيةُ: يُنصَحُ بإعادةِ نشرِ البحثِ بنسخةٍ مُحقّقةٍ علميًّا، مع إشاراتٍ وهوامشَ ومراجعَ فلسفيّةٍ، ويُفضَّلُ ترجمتُهُ إلى لغاتٍ أجنبيّةٍ لأجلِ تعريفِ القارئِ الغربيِّ بهذا النفسِ الفكريِّ المستقلِّ. خاتمةُ الفصلِ:اللُّغةُ لا تكونُ خيانةً في ذاتِها، ولكنْ في حدودِها. وعندما نعرفُ هذهِ الحدودَ، يبدأُ الفكرُ الحرُّ. فالسؤالُ لا يكونُ: هل نتكلّمُ؟ بل: كيفَ نجعلُ ما نقولُهُ يقتربُ من جوهرِ ما نشعرُ به؟)) المراجع الفلسفية والنظرية حول اللغة والفكر: 1. ديكارت، رينيه. تأملات ميتافيزيقية. ترجمة كمال الحاج، دار المشرق، بيروت، 1986. 2. هيغل، فريدريش. فينومينولوجيا الروح. ترجمة وتقديم جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1980. 3. فيتغنشتاين، لودفيغ. رسالة منطقية فلسفية. ترجمة فؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، 1982. 4. فيتغنشتاين، لودفيغ. بحوث فلسفية. ترجمة عزت قرني، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000. 5. هايدغر، مارتن. الكينونة والزمان. ترجمة فتحي المسكيني، دار الفارابي، بيروت، 2012. 6. دريدا، جاك. الكتابة والاختلاف. ترجمة كمال أبو ديب، دار التنوير، بيروت، 1986. 7. لاكان، جاك. اللغة ولاشعور الفرد. سلسلة "لغة وفكر"، دار الحوار، اللاذقية، 2001. 8. فوكو، ميشيل. نظام الخطاب. ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2007. 9. رولان بارت. درجة الصفر للكتابة. ترجمة فواز طرابلسي، دار الطليعة، بيروت، 1980. 10. شتاينر، جورج. بعد بابل: جوانب اللغة والترجمة. ترجمة فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، 2005. مصادر في علم اللغة وفلسفتها: 1. دي سوسير، فرديناند. محاضرات في اللسانيات العامة. ترجمة يوسف وغريغوار، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1990. 2. شومسكي، نعوم. البنى التركيبية. ترجمة صبحي الطويل، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، 1984. 3. تودوروف، تزفيتان. الرمز والتفسير. ترجمة سعيد بنكراد، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1993. 4. أوستن، جون لانغشو. كيف ننجز الأشياء بالكلمات؟، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987. 5. سيرل، جون. أفعال الكلام. ترجمة سعيد بنكراد، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2001. مصادر معاصرة وأدبية مرافقة: 1. المسكيني، فتحي. الهوية والحرية: نحو أنوية ما بعد كولونيالية. دار جداول، بيروت، 2011. 2. الحاج، أنسي. الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع. منشورات مجلة شعر، بيروت، 1975. 3. كونديرا، ميلان. فن الرواية. ترجمة بدر الدين عرودكي، دار الزمن، دمشق، 1995. 4. موريس بلانشو. الكتابة والكوارث. ترجمة بسّام حجّار، دار النهار، بيروت، 2002. 5. أدونيس. الكتاب. منشورات الساقي، بيروت، 1995.
لِلْبَاحِثِ السُّورِيِّ إِسْحَق قَوْمِي ٣٠/٦/٢٠٢٥م
#اسحق_قومي (هاشتاغ)
Ishak_Alkomi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟
-
قِرَاءَةٌ فِي المَفَاهِيمِ القَوْمِيَّةِ لِشُعُوبِ الشَّرْقِ
...
-
كيفَ نَشَأَ حَيُّ تَلِّ حَجَرٍ بِالحَسَكَةِ؟!
-
المَشرِق بينَ المَوروثِ والحُرِّيَّةِ: تأمُّلاتٌ في الإنسانِ
...
-
نَظَرِيَّةُ المَعْرِفَةِ عِنْدَ أَرِسْطُو قِرَاءَةٌ نَقْدِيّ
...
-
أيُّها الباحثونَ المشرقيُّون، لا تُغالوا في آرائِكُم، لا قَو
...
-
عنوان البحث: أَصْلُ الْيَهُودِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ الدِّينِي
...
-
قِراءَةٌ جَديدَةٌ تَحْلِيلِيَّةٌ وَنَقْدِيَّةٌ بِشَأْنِ مُؤْ
...
-
مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَ
...
-
عشْتَارُ الفُصُولِ: ١١٦٥٩ . لَ
...
-
عشتار الفصول:11655كيف نصل لدولة المواطنة في الشرق الأوسط؟
-
عشتار الفصول: 11651سوريةُ ليستْ مِلْكًا لأيِّ مكوِّنٍ دينيٍّ
...
-
ملحمة شعرية بعنوان:أسئلة لها جواب
-
المؤتمر الآشوري العالمي القادم في يريفان في 26 نيسان القادم
-
إِزْدِوَاجِيَّةُ الْمَعَايِيرِ لَدَى أَغْلَبِ أَبْنَاءِ الشّ
...
-
عشتارُ الفصولِ: ١٢٢٥١ قرَاءات بحثية
...
-
أناشيد لبحرٍ غير موجود
-
سوريا: أصلُ التَّسميةِ، مِن أين؟
-
عشْتَارُ الفُصُولِ:12183 استحالة قيام دولة مدنية أو علمانية
...
-
عشتار الفصول: 11616 سُلُوكِيَّةُ الدَّوْلَةِ
المزيد.....
-
أنور قرقاش يعلق على تقرير نيويورك تايمز حول الحرب في السودان
...
-
المفقودون في غزة.. كارثة صامتة تؤرق آلاف العائلات
-
مرضى الغسيل الكلوي بمستشفى الشفاء يواجهون شبح الموت
-
عاجل.. ترامب: إسرائيل وافقت على الشروط اللازمة لإتمام وقف إط
...
-
صحف عالمية: نتنياهو قد يوقف الحرب ودعاوى ضد جنود إسرائيليين
...
-
أول اتصال بين بوتين وماكرون منذ 3 سنوات.. ما تفاصيله؟
-
مع تفجر الخلاف.. هل يقوم ترامب بترحيل ماسك إلى جنوب أفريقيا؟
...
-
إسرائيل تعلن اعتراض صاروخ أطلق من اليمن
-
كتاب جديد يكشف -تفاصيل مثيرة- عن محاولة اغتيال ترامب
-
هاكابي بعد صاروخ الحوثي: ربما تحتاج قاذفة بي-2 لزيارة اليمن
...
المزيد.....
-
اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات
/ رشيد غويلب
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
المزيد.....
|