أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - داود تلحمي - اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل















المزيد.....



اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل


داود تلحمي

الحوار المتمدن-العدد: 1813 - 2007 / 2 / 1 - 12:02
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


مع إنتهاء العام 2006، تبدو توقعات هيئة البث البريطانية (بي بي سي)، في مادة نشرتها على صفحتها بالانكليزية على شبكة الإنترنت في تشرين الثاني/نوفمبر 2005، قد تحققت.
هذه المادة الإخبارية التحليلية حملت عنواناً هادئاً: "أميركا اللاتينية تواجه عام تغيير". وأوردت في متنها الكلمات التالية: "من المفترض أن تجري إثنتا عشرة عملية انتخاب رئاسية في أميركا اللاتينية بين نوفمبر 2005 ونهاية العام 2006. وهذه الإنتخابات تغطي سبعة من البلدان الثمانية الأكثر سكاناً في المنطقة: البرازيل، المكسيك، كولومبيا، بيرو، فنزويلا، تشيلي، والإكوادور". والبلدان الخمسة الأخرى التي تجري فيها انتخابات خلال الفترة نفسها هي، بالترتيب الزمني: هوندوراس، بوليفيا، كوستا ريكا، هاييتي، ونيكاراغوا.
وتضيف مادة "بي بي سي": "من المرجح أن يكون صائباً الحديث عن أن الأحزاب والحكومات اليسارية هي حالياً أقوى في أميركا اللاتينية منها في أي مكان آخر في العالم... لقد اتجهت الأحزاب اليسارية في هذه المنطقة لتحقيق نتائج جيدة من خلال إقتراح شيء مختلف عن سياسات السوق الحرة السائدة التي اتبعتها الحكومات السابقة، واعدةً شيئاً أكثر للفقراء، ومستخدمةً ورقة معارضة بوش، بالإعتماد على عدم شعبية الحرب في العراق بشكل عميق، ومتحدثةً عن تكتيل منطقة أميركا اللاتينية".

إكتساح يساري في إنتخابات العام المنصرم

ومع إنتهاء العام 2006، تبيّن أن المرشحين اليساريين للرئاسة نجحوا، خلال الفترة المشار إليها أعلاه، في ستة من البلدان الإثني عشر التي جرت فيها إنتخابات للرئاسة، من بينها 4 من البلدان السبعة الأكثر سكاناً في المنطقة. علماً بأن البلد الثامن بين البلدان الأكثف سكاناً في هذه المنطقة هو الأرجنتين. وهو بلد جرى فيه، في ربيع العام 2003، انتخاب رئيس، إسمه نستور كيرتشنير، ينتمي الى التيار اليساري في الحزب البيروني (نسبة الى الرئيس الشعبوي القومي الأسبق، في أواسط القرن العشرين، خوان بيرون).
وقد مارس كيرتشنير، منذ انتخابه، سياسة مناهضة لصندوق النقد الدولي ووصفاته الإقتصادية والمالية، وتقارب مع الأنظمة اليسارية الأخرى في القارة، بما في ذلك مع فنزويلا ورئيسها أوغو تشافيس. كما شهدت إحدى مدن بلده، الأرجنتين، وهي مدينة مار دل بلاتا، في أوائل العام 2005، قمة لمنظمة الدول الأميركية، التي تضم مبدئياً كافة دول القارة، بشمالها وجنوبها ووسطها وجزر البحر الكاريبي، قامت خلالها غالبية الدول اللاتينية، بما فيها الأرجنتين نفسها، برفض مقترح الرئيس الأميركي الشمالي جورج بوش بشأن معاهدة السوق الحرة لبلدان القارة كافة، أي بمشاركة الولايات المتحدة، وهو رفض أدى الى تأجيل البت في الموضوع، وعملياً الى تجميده، وحتى دفنه، كما صرّح رئيس فنزويلا. وهو موقف شكّل تحدياً قوياً لإدارة واشنطن وسياستها المهيمنة سابقاً على أنحاء القارة.
والبلدان الستة التي أنتخب فيها، خلال العام المنقضي المشار إليه، مرشحون يساريون للرئاسة هي: تشيلي (ميتشيل باتشيليت)، بوليفيا (إيفو موراليس)، الإكوادور (رفائيل كورييا)، نيكاراغوا (دانييل أورتيغا)، بالإضافة الى إعادة إنتخاب رئيسين بارزين من بين رؤساء هذه الموجة اليسارية، هما رئيس أكبر بلدان القارة مساحةً وسكاناً - 190 مليون نسمة-، البرازيل (لويس ايناسيو دا سيلفا، المشهور بلقب " لولا")، وأخيراً وليس آخراً، رئيس أحد أهم البلدان النفطية في العالم، فنزويلا (أوغو تشافيس).
وفي ثلاثة من البلدان الستة الأخرى التي جرت فيها انتخابات رئاسية، حقق مرشحو اليسار نتائج قوية، بحيث كان الفارق بينهم وبين المرشحين الناجحين ضئيلاً، وذلك في كل من كوستا ريكا، وبيرو، والمكسيك. وفي الأخيرة، ثاني أكبر بلدان أميركا اللاتينية سكاناً (أكثر من 105 ملايين نسمة)، ذهب المرشح اليساري الى حد التشكيك بانتصار مرشح اليمين، واعتبر أن الفارق ضئيل جداً، بضعة آلاف من الأصوات، الى حد يتطلب إعادة فرز الأصوات يدوياً، وهو ما لم تستجب له المحكمة الإنتخابية العليا إلا في دوائر محدودة عددياً. مما جعل المرشح اليساري (أندريس مانويل لوبيس أوبرادور، المعروف بالأحرف الأولى لهذا الإسم، "أملا") يعتبر النتائج غير شرعية، ويدعو الى تنظيم إعتصامات وتظاهرات شعبية واسعة في العاصمة وفي أنحاء البلد، ثم لتنظيم حفل تنصيب له كرئيس موازٍ وتشكيل هيئات حكم موازية للإدارة التي نصّبت رسمياً.
***
وما لفت الإنتباه في هذه النتائج أن الرئيسين اللذين خضعا لإعادة الإنتخاب، وهما "لولا" دا سيلفا في البرازيل وتشافيس في فنزويلا، حققا نتائج متقدمة، أكثر من ستين بالمئة من الأصوات لتشافيس منذ الدورة الأولى، ولـ"لولا" في الدورة الثانية. وذلك بالرغم مما أثير من إشكالات متعلقة بمحاولات شراء بعض مسؤولي حزب الرئيس "لولا" في البرازيل لأصوات عدد من نواب الأحزاب الأخرى في البرلمان لتوفير أغلبية لبعض مشاريع القرارات، حيث لا أغلبية لحزب "لولا" فيه. وكذلك بالرغم من المحاولات الحثيثة والقوية التي بذلتها إدارة جورج بوش في واشنطن لدعم مرشح اليمين في فنزويلا ومحاولة إسقاط تشافيس عبر صناديق الإقتراع، بعد أن فشل إسقاطه بالقوة المسلحة والتخريب الإقتصادي.
ومثل هذه المحاولات الأميركية لدعم مرشحي اليمين ومحاربة مرشحي اليسار جرت أيضاً في بلدان القارة الأخرى التي جرت فيها انتخابات خلال العام ذاته، ومن بينها نيكاراغوا، حيث كان الأميركيون يجاهرون بمعارضتهم لعودة الرئيس السانديني اليساري الأسبق دانييل أورتيغا الى الحكم، ويحرّضون علناً ضده. ولكنهم فشلوا في محاولتهم هذه. وبالمقابل، نجحوا في بيرو في منع نجاح مرشح اليسار الإستقلالي، أويّانتا أومالا، لصالح مرشح من التيار الإجتماعي الديمقراطي المصنف عادةً في الوسط أو يسار الوسط، وهو ألان غارسيا، الذي سبق وكان رئيساً للبيرو بين العامين 1985 و1990. وكان رئيساً فاشلاً بشكل مريع على الصعيدين الإقتصادي والأمني، حيث بلغ التضخم والفقر نسباً عالية، من جهة، واتسع نطاق عمليات تنظيم "الطريق المضيء" المعارض العنيفة في البلد. ولم تكن هناك مراهنة أميركية، في البداية، عليه، وحتى عدم ثقة باحتمالات فوزه، لكن فشل مرشحة الحزب اليميني الرئيسي في الدورة الأولى للإنتخابات حوّل الدعم الأميركي واليميني المحلي إليه، بالرغم من سجله السابق، بهدف إفشال مرشح اليسار، المتعاطف علناً مع تجربة فنزويلا ورئيسها تشافيس. وهكذا، عاد ألان غارسيا رئيساً لبيرو، بعد أن كان قد جاهر بأنه، خلافاً للرؤساء اليساريين الجدد في القارة، مناصر لاتفاقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة.
وهكذا، عملياً، لم ينجح بشكل قوي مرشحون يمينيون إلا في بلد واحد من بلدان القارة متوسطة الحجم، وهو كولومبيا (45 مليون نسمة)، حيث الرئيس السابق المجدد له في الإنتخابات الأخيرة، ألفارو أوريبي، يلقى دعم واشنطن الإقتصادي والعسكري، بما في ذلك في مواجهة حركات يسارية مسلحة مناهضة لحكمه.
والمعارضة المسلحة ظاهرة نادرة في القارة حالياً، بعد أن كانت واسعة الإنتشار في بلدان القارة قبل عقود قليلة. لكن كولومبيا كانت، خلال سنوات طويلة، مسرحاً لإضطرابات مستمرة، ونشاط واسع لتجار المخدرات، وخاصة الكوكايين المشتق من نبتة الكوكا، والذي بحجة محاربته ومحاربة تهريبه الى الولايات المتحدة، استمر تواجد عسكري أميركي في البلد ومارس الأميركيون نشاطاً عسكرياً مباشراً. ويتهم الأميركيون التنظيمين المسلحين اليساريين الرئيسيين، القوات المسلحة الثورية الكولومبية وجيش التحرير الوطني، بأنهما يقومان أيضاً بالإتّجار بالمخدرات، وبهذه الحجة يقومون بالمشاركة في محاربتهما. وواقع الأمر أن اليسار الكولومبي جرّب التحول الى العمل السياسي العلني في العقدين الأخيرين، ولكن كوادره وقادته تعرّضوا الى حملات تصفية وقتل متلاحقة على أيدي "فرق الموت" اليمينية، المشاع أنها قريبة من أوساط جيش السلطة.
أما البلدان الباقيان، هوندوراس، في أميركا الوسطى، وهاييتي في بحر الكاريبي على مقربة من كوبا، وهما بلدان صغيران نسبياً (زهاء الـ7 ملايين نسمة للأولى، وأقل من 9 ملايين للثانية)، فقد نجح في انتخابات الرئاسة في الأولى منها مرشح يميني تقليدي، ومرشح وسطي في الثانية. علماً بأن هذا البلد، أي هاييتي، الأفقر والأشد بؤساً في كل القارة، والمأهول حصراً بمواطنين سود من أصول إفريقية، تعرّض في السنوات الأخيرة لإنقلاب مدعوم من الولايات المتحدة أسقط رئيساً شعبياً منتخباً ديمقراطياً وذا نزعة إستقلالية، واجتاحت قوات أميركية البلد بحجة وقف هجرة المواطنين منه بطرق غير شرعية الى الولايات المتحدة، وأخيراً جاءت قواتٍ دولية تحلّ مكان الأميركيين لحفظ الأمن، بعد أن استشرت الفوضى.
ولتكتمل الصورة، لا بد من الإشارة الى إن نظاماً يسارياً آخر كان قد نجح في الإنتخابات الرئاسية والتشريعية، في العام 2004، في بلد صغير أيضاً (أكثر قليلاً من ثلاثة ملايين نسمة) في أميركا الجنوبية، هو أوروغواي، الواقعة الى الجنوب من البرازيل والشرق من الأرجنتين على ساحل المحيط الأطلسي الجنوبي.

الظل العالي للنظام اليساري في كوبا

وهنا ينبغي التشديد على أهمية وجود النظام اليساري التاريخي (منذ العام 1959) في جزيرة كوبا، في البحر الكاريبي (11 مليون نسمة تقريباً)، وحجم تأثيره الكبير. خاصة وأن هذا النظام الذي قاده رئيسه فيديل كاسترو طوال هذه الفترة وحتى مرضه الأخير في صيف العام 2006، وإن وصل الى الحكم عبر ثورة مسلحة، إلا انه كان له دائماً دور سياسي ومعنوي كبير مؤثر على أوضاع عموم القارة اللاتينية، بما في ذلك في متابعة العمليات الإنتخابية في عموم القارة خلال السنوات الأخيرة.
حيث إن العديد من الرؤساء اليساريين الجدد في القارة كانوا على اتصال طويل مع كاسترو، وبقي بعضهم زواراً دائمين لكوبا، يتداولون مع رئيسها ويستشيرونه حتى في بعض القضايا التي تخص بلدانهم. وهذا هو، مثلاً، حال الرئيس الفنزويلي تشافيس والرئيس البوليفي إيفو موراليس، وحال الرئيس الأسبق المعاد انتخابه مؤخراً في نيكاراغوا، دانييل أورتيغا، الذي أقام لفترات طويلة في كوبا، بعد أن أنهيت في العام 1990 المرحلة السابقة من حكمه وحكم حزبه السانديني.
وتعبير "سانديني" هو إشارة الى أوغوستو ساندينو، أبرز قادة المقاومة في البلد ضد القوات الأميركية الشمالية المحتلة له في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين. وكانت نيكاراغوا في الثمانينيات الماضية، وهي تحت حكم الساندينيين، قد شهدت حرباً إستنزافية طويلة على البلد واقتصاده المتواضع على أيدي مجموعات "كونتراس" المحتشدة على حدوده، والتي كانت، كما لم يكن سراً في يوم من الأيام، ممولةً ومدعومة ومسلحة ومدربةً من وكالة المخابرات الأميركية، كما شارك "خبراء" إسرائيليون في تدريبها.
وليس مستغرباً، في ظل هذا الدور الحيوي لكوبا في عموم القارة، أن تصدر مقالة مطولة في مجلة "فورين أفّيرز" الدورية الأميركية النافذة، في عددها المؤرخ لشهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2007، تحمل عنوان "الإنتصار الأخير لفيديل". وكاتبة المقالة جوليا سوايغ هي مديرة دراسات أميركا اللاتينية في مجلس العلاقات الخارجية، المركز البحثي والدراسي الأميركي الشهير الذي تصدر عنه الدورية.
ومن المفيد الإشارة هنا أيضاً الى كون مرشح المعارضة اليسارية في السلفادور، وهو بلد صغير آخر في أميركا الوسطى (زهاء 7 ملايين نسمة)، حصل في انتخابات الرئاسة التي جرت في العام 2004 على زهاء 36 بالمئة من الاصوات في الدورة الأولى و45 بالمئة في الدورة الثانية للإنتخابات، وهو الفلسطيني الأصل شفيق حنضل. وقد خسر لصالح مرشح اليمين، إلياس انطونيو سقا، الفلسطيني الأصل أيضاً ومن نفس المدينة الفلسطينية التي تنتمي إليها عائلة حنضل، وهي بيت لحم. وقد جرت انتخابات تشريعية في هذا البلد في آذار/مارس 2006، بعد رحيل شفيق حنضل في الشهر الأول من العام ذاته، فحازت القائمة اليسارية التي كان يقودها، وهي قائمة جبهة فارابوندو مارتي للتحرر الوطني، على زهاء 40 بالمئة من الأصوات، وجاءت، من حيث عدد الأصوات، في المرتبة الأولى، حتى قبل حزب الرئيس المنتخب.

تاريخ طويل من الكفاح التحرري والثورات في القارة

هذه التحولات نحو اليسار في القارة الأميركية اللاتينية خلال السنوات القليلة الماضية لها أسباب محددة، أشار إليها باقتضاب تحليل هيئة البث البريطانية المذكور أعلاه. وهو أسباب تؤكد بمجملها أن ظاهرة النجاحات اليسارية الراهنة مختلفة تماماً عن المحطات اليسارية والوطنية الإستقلالية الموقعية السابقة في القارة. وبالتالي هي، على الأرجح، ظاهرة عميقة وطويلة الأمد وليست عابرة.
فهي تختلف، بالتأكيد، عن صيغة تداول السلطة الجاري موسمياً، مثلاً، في أوروبا بين الأحزاب اليمينية والتقليدية، من جهة، وتلك الإشتراكية أو الإجتماعية الديمقراطية (يسار الوسط) من جهة أخرى. فلليسار في "العالم الثالث"، بما فيه ذلك اليسار المعتدل الذي نراه في بعض دول أميركا اللاتينية، خصائص مختلفة لها علاقة بمشكلات الفقر وضعف التطور.
فالتحولات التي يسعى إليها بعض زعماء هذا اليسار اللاتيني (وخاصة في فنزويلا وبوليفيا، وعلى الأرجح في الإكوادور أيضاً، على أرضية إعلانات ومواقف الرئيس الجديد المنتخب رفائيل كورييا) هي تحولات جذرية تعمل على إحداث تغيير عميق في النظم السياسية والإقتصادية – الإجتماعية في هذه البلدان. وحتى اليسار الأقل جذرية في برامجه السياسية وفي ممارساته، كما في البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وغيرها، فله توجهات مناهضة للعولمة الرأسمالية بقوة، وهو ما ليس حال اليسار الأوروبي الإجتماعي الديمقراطي.
ومعروف أن أميركا اللاتينية شهدت في الماضي حركات تحررية وإستقلالية عديدة، بعد استقلالها عن إسبانيا والبرتغال في مطلع القرن التاسع عشر، تارةً ضد الإجتياحات الأميركية الشمالية (في المكسيك، كوبا، نيكاراغوا...)، وتارةً أخرى ضد الإقطاع وكبار ملاكي الأراضي (الثورة المكسيكية في الفترة بين العام 1910 وأواخر العشرينيات الماضية)، وأطواراً من أجل تطوير البلد وتحسين الظروف المعيشية لمواطنيه الأفقر، ومن أجل استعادة السيطرة على الثروات الوطنية وتحجيم نفوذ الشركات الكبرى، الأميركية الشمالية غالباً. فكان هناك، مثلاً، النظام القومي الشعبوي الذي أقامه خوان بيرون في الأرجنتين (1946-1955)... وحكم اليساري الإستقلالي هاكوبو أربنس في غواتيمالا (1951-1954)... واليساري جواو غولارت في البرازيل (1961-1964)... واليساري سلفادور أليندي – تلفظ أييندي بالإسبانية- في تشيلي (1970-1973). والثلاثة الأخيرون، وكلهم منتخبون ديمقراطياً، أطيح بهم بإنقلابات عسكرية مدعومة من واشنطن، بحجج تعاطفهم مع الشيوعية والمعسكر السوفييتي. وقد تحدثنا أعلاه عما حصل أيضاً مع النظام السانديني في نيكاراغوا (1979-1990).
ويمكن الحديث، في هذا السياق، عن المحاولات العديدة للإطاحة بالنظام اليساري في كوبا، بما في ذلك بالقوة ومحاولات الإغتيال، وأشهرها غزوة خليج الخنازير في نيسان/أبريل 1961 الفاشلة، التي أشرفت على تنظيمها المخابرات المركزية الأميركية.
ولكن في الظروف الدولية والإقليمية التي نشأت في العقدين الأخيرين، تحول العديد من الحركات الثورية المسلحة في القارة الى العمل السياسي الديمقراطي فأصبحت أحزاباً علنية، بعضها وصل مؤخراً الى الحكم في سياق العمليات الإنتخابية، كما هو الحال في أوروغواي (حركة توباماروس) ونيكاراغوا وبعض الأحزاب اليسارية المؤتلفة مع حركة تشافيس في فنزويلا، وغيرها. وفي حالات أخرى، شكّلت هذه الأحزاب معارضة سياسية قوية، كما هو الحال في السلفادور. بينما استمرت حركات مسلحة ذات شأن، كما أشرنا أعلاه، في بلد مثل كولومبيا، المتاخمة لفنزويلا غرباً.

العوامل التي سهّلت النجاحات الأخيرة لليسار

ويمكن ذكر جملة من الأسباب الأبرز لهذا الإنعطاف في تاريخ القارة اللاتينية بهذا الشكل الواسع غير المسبوق، يمكن اختصارها بالعناوين التالية:
* تدهور الأوضاع المعيشية وتفاقم الفقر في القارة على أرضية تطبيق وصفات العولمة الرأسمالية، بدفع من صندوق النقد الدولي والإدارات الأميركية، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين خاصة.
* نهوض ملموس للنشاط السياسي والمطلبي لقطاعات واسعة من المواطنين في بلدان القارة، وخاصة سكان البلاد الأصليين، المطلق عليهم تعبير "الهنود الحمر"، الذين كانوا، لفترة طويلة في الماضي مهمّشين وبعيدين عن المشاركة في العمل السياسي.
* توسع التحالفات السياسية المناهضة لليمين ولنتائج العولمة الرأسمالية، لتشمل قطاعات متنوعة من المجتمع، بما في ذلك بعض الأوساط الدينية المناهضة للظلم، وأحياناً حتى قطاعات من الفئات الوسطى.
* تراجع قدرة الولايات المتحدة على التدخل المباشر، بعد انتشار الممارسات الديمقراطية في البلدان الأميركية اللاتينية، وتنامي قوة المجتمعات المدنية فيها، وتعدد الحركات الشعبية ذات الصيغ المطلبية المنظمة. وتراجع الدور الأميركي في القارة تفاقم بعد تورط الولايات المتحدة في حروب أفغانستان والعراق، ومحاولاتها الحثيثة لاحتلال الفراغ الناجم عن إنهيار الإتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، كما والمناطق المحيطة بالصين، المنافس القوي المحتمل للولايات المتحدة في المستقبل المنظور.
* بروز قيادات محلية في عدد من بلدان المنطقة ذات سمات كاريزمية وقدرة على تحقيق التفاف واسع حول برامجها وتنظيماتها، وخاصة بعد نجاح تشافيس في فنزويلا وإنجازاته الداخلية والإقليمية ودوره الداعم للحركات اليسارية والتحررية في بلدان القارة.
* تعزز حضور قوى عالمية أخرى في القارة، بما فيها الصين، على الأصعدة الإقتصادية والتجارية والإستثمارية، يمكن أن يكون، وغيره من البلدان الصاعدة في العالم، بديلاً قوياً للولايات المتحدة في حال إتخاذها إجراءات حصار أو مقاطعة إقتصادية من قبلها، كما كان الحال من كوبا في العقود الماضية. دون أن يعني ذلك دوراً سياسياً مباشراً للصين وراء الحركات اليسارية، التي، كما ذكرنا، تنطلق من أوضاع بلدانها الخاصة، وطاقات شعوبها.
***
فقد واجهت أميركا اللاتينية، كما مناطق أخرى في العالم، في ربع القرن المنصرم، محاولات فرض توصيات صندوق النقد الدولي على بلدان القارة تحت عنوان "الإصلاح الإقتصادي"، وذلك في سياق التحولات العاصفة لعملية انتشار العولمة الرأسمالية، إبتداءً من أميركا الشمالية وبلدان أوروبا الغربية، منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات الماضية، وخاصة بعد وصول مارغريت ثاتشر الى السلطة في بريطانيا عام 1979 واستلام إدارة رونالد ريغن لزمام الرئاسة في الولايات المتحدة في مطلع العام 1981. وإن كانت الإجراءات الأولى المبشّرة بعصر العولمة، وإنتشار تطبيقات ما سمي بـ"الليبرالية الجديدة" على الصعيد الإقتصادي، بدأت بالظهور المتدرج والمتلاحق قبل ذلك، من خلال تنامي الشركات العالمية ما فوق القومية، وتزايد الضغوط الممارسة من قبل الدول الرأسمالية الغنية، وفي المقدمة الدولة الأغنى، الولايات المتحدة، من أجل إزالة كافة العوائق أمام حركة الأموال والرساميل والسلع، والتدخلات الإقتصادية المختلفة، بما فيها المضاربات المالية التي سهّل تنامي وسائل الإتصالات حجمها وقدرتها على التأثير الواسع على أوضاع بلدان العالم.
ومعروف أنه، بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، التي شهدت خلالها كافة قطاعات الإقتصاد الأميركي انتعاشاً واسعاً لتلبية متطلبات المعارك على مختلف الجبهات، كانت واشنطن بحاجة الى فتح أسواق جديدة لاستيعاب هذا الحجم المتزايد من الإنتاج الفائض في حالة السلم. وهو ما دفعها لاتباع جملة من السياسات، من بينها رصد أموال كبيرة لإعادة إحياء إقتصادات أوروبا واليابان المدمرة بحيث تتطور احتياجاتها اللاحقة وقدراتها الشرائية من السلع والخدمات الأميركية، لتستوعب قسماً مهماً من فائض الإنتاج هذا، وهو ما حدث فعلاً، وساهم في نهضة بلدان أوروبا واليابان إقتصادياً خلال سنوات، كما ساهم في انتعاش الإقتصاد الأميركي نفسه في العقدين الأولين بعد الحرب العالمية.
ثم سعت واشنطن لفتح مزيد من الأسواق عبر محاولات الحلول في بلدان "العالم الثالث" مكان الدول الإستعمارية الأوروبية المنهكة بالحرب العالمية. وهو ما حدث، مثلاً، في منطقتنا العربية بعد حرب السويس الثلاثية ضد مصر في العام 1956، حيث تسارع بعدها فقدان الإستعمارين البريطاني والفرنسي لنفوذهما في المنطقة لصالح الولايات المتحدة بالدرجة الأولى. ولكن بقيت عقبات في وجه هذا التمدد الأميركي، وخاصة حركات التحرر ونزعات تعزير الإستقلال الوطني وما ترافق معها من تحالفات تقيمها هذه الحركات والبلدان التي تحمل نفس طموحاتها مع الإتحاد السوفييتي وبلدان التجربة الإشتراكية الأخرى.
وشهدت العقود التالية للحرب العالمية، في هذا السياق، سلسلة من الحروب التي قادتها الولايات المتحدة تحت يافطة محاربة الشيوعية وتمدد نفوذ الإتحاد السوفييتي، وفي الواقع، بالضرورة، من أجل توسيع نطاق نفوذها وهيمنتها في أنحاء العالم، وبطبيعة الحال لتوسيع المجال أمام غزوها الإقتصادي وتمدد شركاتها ومصالحها في كل مكان متاح.
وهكذا، شهد العالم حرب كوريا في أوائل الخمسينيات، بقيادة الولايات المتحدة، التي تمكّنت في حينه من أخذ غطاء من هيئة الأمم المتحدة... الى حرب فييتنام التي خاضتها واشنطن في الستينيات وأوائل السبعينيات ضد حركة التحرر واليسار في البلد وعموم الهند الصينية... الى حروب محلية وإقليمية في مناطق أخرى من العالم، بما فيها منطقتنا العربية المشرقية، عبر إسرائيل ولاحقاً بشكل مباشر، حيث كانت واشنطن تغذي هذه الحروب وتدفع عبرها بمصالحها الإقتصادية والإستراتيجية قدماً. وطوال هذه المرحلة التاريخية، كان الغطاء الأيديولوجي، أي محاربة الشيوعية والإتحاد السوفييتي، يسهم في التعمية عن طبيعة الأهداف الحقيقية لهذه الحروب.
هذه السياسات الأميركية كانت لها كلفتها المادية والمعنوية بالنسبة لواشنطن، وخاصة حرب فييتنام، التي كانت لها تأثيرات على الوضع الإقتصادي والمالي الأميركي، بحيث أصبح لدى الولايات المتحدة في العام 1971 عجز في الميزان التجاري، وذلك لأول مرة في القرن العشرين. وفي نفس هذه السنة، أعلن الرئيس الأميركي، آنذاك، ريتشارد نيكسون، التخلي عن قابلية تحويل الدولار الى الذهب، التي نص عليها النظام النقدي العالمي الذي أقرّ في العام 1944 في المؤتمر الذي انعقد في بلدة بريتون وودز الأميركية، لتنظيم الوضع النقدي والعلاقات التجارية بين دول الحلفاء الأربعين، ولاحقاً دول العالم الرأسمالي كله. وقد تأسست، انطلاقاً من هذا المؤتمر، مؤسسات هامة لعبت دوراً كبيراً في الحياة الإقتصادية والمالية العالمية، وأولها صندوق النقد الدولي، ومن ثم البنك الدولي، وكذلك منظمة "غات" لتنظيم التعرفة والجمرك في التبادلات التجارية، وهي المنظمة التي انبثقت عنها لاحقاً، في العام 1995، منظمة التجارة العالمية، التي تضم حالياً أكثر من 150 دولة.
وبفعل هذه الأزمة الإقتصادية التي أخذت تتفاقم في الستينيات والسبعينيات في الولايات المتحدة، وتنعكس على بلدان رأسمالية متطورة أخرى، سعت مراكز القوة الإقتصادية المؤثرة في هذه البلدان الى الدفع باتجاه إعادة تنظيم اقتصاداتها الداخلية على حساب الطبقات الضعيفة وخاصة قطاعات العمال والموظفين، من جهة، كما عملت على توسيع نطاق نشاطها الإقتصادي العالمي عبر اتفاقات التجارة الحرة، التي تكسر الحواجز الجمركية والحمائية للبلدان الأضعف، وتساهم بالتالي في اجتياح السلع والخدمات والرساميل الخارجية لهذه البلدان، بما يحقق لشركات القوى الإقتصادية الأكبر أرباحاً متزايدة، تعوضها عن تراجع معدلات أرباحها في السنوات السابقة.
وكانت أميركا اللاتينية في تلك الحقبة، في معظمها، تحت سيطرة أنظمة عسكرية أو سلطوية قمعية. لكن الأمور بدأت تتغير في الثمانينيات، خاصة بعد هزيمة العسكريين الحاكمين في الأرجنتين عام 1982 في الحرب التي ردت بها بريطانيا على محاولتهم إستعادة السيطرة على جزر فوكلاند (مالفيناس، وفق التسمية الأرجنتينية) الواقعة جنوبي غربي المحيط الأطلسي على بعد زهاء الخمسمئة كيلومتر من شواطئ الأرجنتين. في هذه المناخات الجديدة، أخذت الأنظمة السلطوية والعسكرية تترك المجال لنظم مدنية تعددية اعتمدت الإنتخابات الديمقراطية. وترافق هذا التحول على الصعيد السياسي مع دعوات "الليبرالية الجديدة" الأميركية ونصائح صندوق النقد الدولي الناجمة عن عملية العولمة الرأسمالية التي تحدثنا عنها.
وقد ذهبت بعض التطبيقات لهذه السياسات الإقتصادية الجديدة في بعض البلدان الأميركية اللاتينية بعيداً في الإلتزام والرضوخ لوصفات صندوق النقد الدولي، مما نتج عنه، عكس ما كان يروّج له دعاة العولمة ومحاسنها المزعومة، تراجع كبير في الأوضاع الإقتصادية عامة، وفي الأوضاع المعيشية لغالبية السكان، الذين شهدت مداخيلهم تدهوراً متزايداً. وبدأت الإنهيارات النقدية والإقتصادية تتلاحق في هذه البلدان منذ مطلع التسعينيات وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين (المكسيك 1994، الأرجنتين 2001-2002،...)، وهي انهيارات امتدت تأثيراتها الى معظم بلدان القارة، الى جانب إنعكاسات وصلت إليها أيضاً من الإنهيارات الشبيهة التي حصلت في جنوب شرق آسيا عامي 1997-1998 (تايلاند، إندونيسيا، ماليزيا، كوريا الجنوبية، الخ...). وكلها تطورات فاقمت من نسبة الفقر في بلدان المنطقة.
وتشير الإحصاءات الإقتصادية المنشورة الى أنه، في حين زاد معدل الناتج القومي الإجمالي للفرد لدول أميركا اللاتينية بين العامين 1960 و1980، أي قبل تطبيقات وصفات "الليبرالية الجديدة"، بحدود 92 بالمئة، مع إحتساب نسب التضخم، لم تتجاوز الزيادة في العشرين عاماً اللاحقة، 1980-2000، الـ9 بالمئة. وحتى بلد غني بالنفط مثل فنزويلا، وهو سابع بلد منتج وخامس بلد مصدّر للنفط في العالم، تراجع معدل الناتج القومي للفرد فيه بين العامين 1980 و1998، عام انتخاب أوغو تشافيس، بنسبة 35 بالمئة!
في حين اتسع عدد الفقراء في أحد البلدان الأكثر تطوراً إقتصادياً في القارة، وهو الأرجنتين، من مليون مواطن عام 1990 الى 14 مليوناً عام 2001. وعموماً، فإن أي نمو كان يحدث في أي من بلدان المنطقة، كانت المستفيدة الأكبر منه تلك الشرائح العليا من المجتمعات، وخاصة تلك المرتبطة بالمؤسسات الأجنبية (الأميركية غالباً). هذا، في حين واصلت نسبة الفقر تصاعدها. وهو ما تم تسجيله أيضاً في بلد نفطي آخر في أميركا الجنوبية مثل الإكوادور، وبلد غني بالغاز والمعادن مثل بوليفيا، التي أضحت، عشية انتخاب اليساري موراليس رئيساً في أواخر العام 2005 البلد الأفقر في أميركا الجنوبية، والثاني في مرتبة الفقر في عموم القارة، بعد هاييتي، الواقعة في البحر الكاريبي.

انتخاب تشافيس في أواخر 1998... المنعطف

وجاء انتخاب أوغو تشافيس في كانون الأول/ديسمبر 1998 واستلامه رئاسة فنزويلا في شباط/فبراير من العام التالي ليؤشر الى انعطافة في مسيرة المنطقة، باتجاه تدعيم النهج الإستقلالي تجاه الولايات المتحدة، والمناهض لتوصيات صندوق النقد الدولي وسياسات "الليبرالية الجديدة" والعولمة الرأسمالية، والنهج الساعي الى حل المشاكل المعيشية الملحّة لغالبية السكان المبتلاة بالفقر الشديد. وكل ذلك أعطى هذا النظام والأنظمة التي تشكلت لاحقاً في القارة على دربه طابعاً يسارياً واضحاً.
وطرح تشافيس، مباشرة بعد تسلمه لمهمته الرئاسية، على إستفتاء شعبي، فكرة انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. فوافق 72 بالمئة من الناخبين على هذا المقترح. فتم انتخاب الجمعية التأسيسية في العام ذاته (1999)، ونجح 95 بالمئة من أنصار وحلفاء تشافيس في هذه الجمعية، مما سهّل مهمة وضع دستور جديد يتناسب مع الرؤية السياسية- الإجتماعية الجديدة التي حملها تشافيس. وهو دستور تم إقراره في كانون الأول/ديسمبر من العام 1999 ذاته. وجرى، على أساس هذا الدستور، انتخاب الجمعية الوطنية الجديدة (البرلمان)، في تموز/يوليو 2000. وأعيد انتخاب تشافيس رئيساً على أساس هذا الدستور، بأغلبية 60 بالمئة من الأصوات، ولمدة حكم تدوم ست سنوات قابلة للتجديد.
وأقر تشافيس، خلال الأشهر الأولى لولايته الجديدة، سلسلة من الإجراءات لتوفير الضمان الصحي الشامل للمواطنين والتعليم المجاني حتى المستوى الجامعي، كما أصدر مرسوماً بتوزيع الأراضي. ومن خلال إجراءات لضبط رأس المال والإقتصاد، تمكّن من تخفيض نسبة التضخم في نهاية العام 2001 الى 13،4 المئة، وهي النسبة الأدنى في البلد منذ 14 عاماً.
لكن القوى اليمينية التي كانت تسيطر على مقدرات البلد في السابق لم تستسلم، وعادت للعمل على التصدي للنظام اليساري الجديد وعرقلة تطبيقاته البرنامجية، وحتى حاولت الإطاحة به. ووصلت الأمور في نيسان/أبريل 2002 الى حد ترتيب عملية إنقلابية عسكرية- مدنية بمشاركة قطاعات من الجيش وأوساط القطاع الخاص الرأسمالي وبعض النقابات المسيطر عليها من الأحزاب المعارضة، وذلك بعلم ودعم من إدارة جورج بوش الإبن، كما اتضح لاحقاً. وذهب تورط رئيس الولايات المتحدة الى حد إعلان تأييده علناً للحركة الإنقلابية، واعتبارها شرعية!! لكن قطاعات الجيش التي بقيت وفية لتشافيس، مدعومةً بتظاهرات شعبية واسعة، خاصة من القاعدة الإجتماعية الفقيرة المستفيدة من القرارات الإجتماعية للنظام اليساري، تمكّنت من إحباط الإنقلاب خلال 48 ساعة وإعادة تشافيس الى السلطة.
ولم تتوقف محاولات التخريب بعد ذلك. فعملت أوساط المعارضة اليمينية على تعطيل القطاع النفطي، المصدر الرئيسي للدخل في البلد، من خلال إضرابات شاملة ووقف الإنتاج من قبل إدارة الشركة النفطية وموظفيها، الذين سعى تشافيس لاستبدالهم بعد إضراب الشهر الأخير من العام 2002 والشهر الأول من العام 2003. وبعد التغلب على هذه المشكلة، عملت حكومة تشافيس طوال العام 2003، على تنفيذ سلسلة من البرامج لمحو الأمية، ولحماية حقوق سكان البلاد الأصليين ("الهنود الحمر")، ثم لتسهيل مواصلة الشبان دراساتهم العليا.
ومنذ مطلع العام 2003، تجندت المعارضة اليمينية للإستفادة من بند في الدستور الجديد، الذي أقرّ في بداية حكم تشافيس، يتيح سحب الثقة من أي مسؤول منتخب، بما في ذلك الرئيس، بعد مضي نصف ولايته، عبر عملية إستفتاء شعبية تقام إذا ما تقدم 20 بالمئة على الأقل من مجموع الناخبين المسجلين بطلب بهذا الاتجاه. وقد عمل أنصار المعارضة على جمع تواقيع طلب الإستفتاء، الى أن تمكنوا من جمع العدد المطلوب. وبعد التدقيق في التواقيع من قبل المجلس الوطني للإنتخابات، تم طرح الثقة بالرئيس تشافيس في إستفتاء جرى في آب/أغسطس 2004، فكانت النتيجة أن 59 بالمئة من الناخبين رفضوا سحب الثقة من الرئيس. وهو ما أعطى تشافيس شرعية قوية لمواصلة تطبيق سياساته الجذرية.
هذا، في وقت كان فيه تشافيس قد استقدم خبراء وعمالاً من كوبا وبلدان أخرى لإصلاح ما تضرر في القطاع النفطي، بحيث تم استئناف الضخ. وعلى أرضية إرتفاع أسعار النفط بعد الغزو الأميركي – البريطاني للعراق، تمكّنت فنزويلا من تأمين عائدات كبيرة، بلغت عشرات المليارات من الدولارات سنوياً. مما سمح لتشافيس، ليس فقط بتغطية تكاليف عمليات تعليم ومحو أمية وعلاجات طبية مجانية لقطاعات واسعة من الجماهير الفقيرة في البلد، مستعيناً بكادر تعليمي وطبي من عشرات الآلاف من المعلمين والأطباء الكوبيين الذين استقدموا لهذا الغرض، وإنما أيضاً بتوفير مساعدات لهذه القطاعات الفقيرة لتأمين متطلبات الحياة الأساسية، والبدء بمشاريع تطويرية للبلد بمساعدة دول أميركية لاتينية وأوروبية وآسيوية.
وفي الوقت ذاته، قدمت حكومة تشافيس كميات من النفط ومشتقاته، بأسعار مخفضة، لعدد من بلدان أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي الفقيرة، وحتى لبعض المناطق الفقيرة في الولايات المتحدة نفسها، بما فيها منطقة نيو أورلينز في جنوب الولايات المتحدة، ذات الإغلبية السوداء، المنكوبة بإعصار كاترينا المدمر عام 2005، وحتى بعض الأحياء الفقيرة في مدن أميركية أخرى، بما فيها نيويورك.
كما ساعد تشافيس بعض دول أميركا اللاتينية بتقديم قروض مسهّلة لتسديد الديون التي تراكمت عليها خلال فترات الأزمات ومرحلة سيطرة صندوق النقد الدولي على سياساتها الإقتصادية.
فقد ساعد الأرجنتين، إحدى الدول الأكثر تطوراً صناعياً واقتصادياً في القارة اللاتينية، كما ذكرنا، على تنفيذ القرار الذي أعلنته في كانون الأول/ديسمبر 2005 بإنجاز تسديد ما تبقى عليها من ديون لصندوق النقد الدولي، وحجمها آنذاك كان 9،8 مليار دولار. حيث عرضت فنزويلا تقديم زهاء ربع المبلغ (2،5 مليار)، بحيث تخلصت هذه الدولة من ديونها للهيئات الدولية، بعد أقل من أربعة أعوام على الأزمة النقدية والإقتصادية الطاحنة التي شهدها البلد، وأطاحت بعدد من رؤسائه المتلاحقين خلال أسابيع.
وجدير بالتذكير أن الرئيس الأرجنتيني الذي انتخب في أيار/مايو 2003، نستور كيرتشنير، الذي ينتمي، كما ذكرنا، الى الجناح اليساري من الحزب البيروني (نسبة الى الرئيس الشعبوي الأسبق خوان بيرون)، أثبت كفاءة عالية في نشل بلده من أزمته، لا بل وتطوير وضعه الإقتصادي بسرعة ووتيرة عاليتين خلال هذه السنوات القليلة، متحدياً بشكل سافر ومتواصل كل نصائح وتوصيات صندوق النقد الدولي، الذي قال عنه كيرشنير "إنه تعامل مع بلدنا كمقاول ومشجع لسياسات تسببت بالفقر والألم لشعب الأرجنتين".
وجدير بالذكر أن صندوق النقد الدولي، الذي يضم 184 دولة، تتمتع فيه الولايات المتحدة بنفوذ رئيسي، بحكم نسبة مشاركتها في تمويل الصندوق، مما جعل هذه المؤسسة المالية أداة رئيسية في فرض السياسات الأميركية على الصعيدين النقدي والإقتصادي في أنحاء العالم، وخاصة تطبيقات العولمة الرأسمالية، "الليبرالية الجديدة"، بما يشمل رفع القيود الحمائية على الواردات الخارجية، على حساب المنتوجات المحلية للبلدان الضعيفة إقتصادياً، وتوسيع نطاق سيطرة القطاع الخاص والإستثمارات الخارجية على حساب القطاع العام، من خلال نظام الخصخصة الشهير، الخ...
وما فعله تشافيس مع الأرجنتين، اقترح فعله مع الإكوادور الفقيرة في العام 2005 من خلال إعلان استعداده لشراء السندات التي طرحتها الحكومة هناك للبيع لدعم اقتصاد البلد، في وقت لم يكن فيه الحكام هناك من الصف الجديد من القادة اليساريين في القارة... وربما أعطت هذه السياسة ثمارها بعد فترة وجيزة، في إنتخابات الرئاسة التي جرت دورتاها في شهري 10 و11 من العام 2006 في الإكوادور، حيث نجح فيها، وبنسبة عالية من الأصوات (57 بالمئة)، مرشح اليسار المؤيد لسياسات تشافيس، الإقتصادي الشاب رفائيل كورييا.
وعندما كانت بوليفيا على وشك خسارة 170 مليون دولار هي قيمة صادراتها السنوية من حبوب الصويا لكولومبيا، التي أقدمت في نيسان/أبريل 2006 على توقيع إتفاقية تجارة حرة ثنائية مع الولايات المتحدة، بما يعطي الأولوية لاستيراد هذه المادة من الولايات المتحدة، تقدمت فنزويلا لشراء المنتوج البوليفي. كما قدمت لهذا البلد الأفقر في أميركا الجنوبية قرضاً بقيمة 100 مليون دولار لتطبيق برنامجه في الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي، ومساعدات متنوعة أخرى لإنجاح تجربة نظام إيفو موراليس، الرئيس اليساري الجديد هناك.
ولترسيم ومأسسة سياسات الدعم الإقتصادي هذه، اقترح تشافيس إنشاء "بنك الجنوب" لتمويل التنمية في القارة اللاتينية، برأسمال أولي قدمته فنزويلا قيمته خمسة مليارات دولار. ومثل هذه السياسات المتبعة من قبل النظام اليساري في فنزويلا تدخل في سياق أحد ركائز برنامجه السياسي- الإقتصادي الإستراتيجي، والمتمثل في العمل على إقامة كتلة اقتصادية، ولاحقاً سياسية، لبلدان القارة اللاتينية، لدعم توجهها الإستقلالي والتطويري، بعيداً عن تدخل أو مشاركة المارد الأميركي الشمالي ذي النزعة الإمبراطورية.
وتشافيس، في هذا المجال، يستوحي طموحه التكاملي التوحيدي للقارة اللاتينية من الشخصية التاريخية التي ارتبط اسمها في مطلع القرن التاسع عشر بمعارك استقلال ومحاولات توحيد بلدان القارة اللاتينية، سيمون بوليفار (1783-1830)، المولود في كراكاس، عاصمة فنزويلا الحالية، والذي ربط تشافيس إسمه باسم البلد، مطلقاً على البلد اسم جمهورية فنزويلا البوليفارية.

دور نشط للصين على الصعيد الإقتصادي... و"مبدأ مونرو" الأميركي في مهب الريح

وكما في مناطق عديدة من العالم، دخلت الصين بقوة الى القارة اللاتينية في السنوات الأخيرة، في ظل فورتها الإقتصادية الهائلة في العقدين الأخيرين، وحاجتها المتزايدة للمواد الأولية، وخاصة مصادر الطاقة، النفط والغاز، ومختلف المعادن، كما وحاجتها لأسواق جديدة لمنتوجاتها الغزيرة والمتنوعة. وقد عقدت، بالفعل، في السنوات الأخيرة، عدة اتفاقيات تجارية مع معظم دول القارة. كما عمدت الى استثمار مبالغ كبيرة في عدة بلدان هناك لتطوير البنى التحتية أو إنشاء المشاريع الجديدة.
وهكذا، فإن عدة عوامل تساعد الآن بلدان أميركا اللاتينية على تعزيز إستقلالها الإقتصادي والسياسي تجاه الولايات المتحدة، في ظل تراجع قدرة واشنطن والمؤسسات المتأثرة بقرارها، كصندوق النقد الدولي، على الضغط على هذه البلدان أو ابتزازها لإبقائها تحت الخيمة الأميركية الشمالية. وهي ضغوطات وابتزازات، كانت مدعومة في الماضي أحياناً بتدخلات عسكرية مباشرة، أو إجراءات ترهيب وتلويح بالعمل العسكري، وأدامت هكذا لفترة طويلة صلاحية ما سمّي بـ"مبدأ مونرو"، على اسم الرئيس الأميركي الشمالي الأسبق، جيمس مونرو، الذي أعلن عام 1823، رفض تدخل بلدان خارجية، وخاصة البلدان الأوروبية، في شؤون القارة الأميركية، بشمالها ووسطها وجنوبها. وهو ما عنى عملياً احتكار واشنطن للنفوذ في هذه القارة، وما فتح الباب أمام كل أشكال التدخل الأميركي الشمالي في شؤون القارة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، اجتاحت قوات الولايات المتحدة جزيرة كوبا في العام 1898 وفرضت عليها سيطرتها. وتواصل نفوذ واشنطن المباشر أو غير المباشر على الجزيرة عملياً حتى نجاح الثورة التي قادها فيديل كاسترو وانتصرت بدخول ثواره الى هافانا في اليوم الأول من العام 1959. وإزاء النزعة الإستقلالية للنظام الذي أقامه كاسترو بعد وصوله الى السلطة والتوجهات اليسارية لهذا النظام، فرضت واشنطن على كوبا حصاراً إقتصادياً خانقاً، وهو حصار ما زال مستمراً حتى الآن، أي للعقد الخامس على التوالي. وقد أوجد هذا الحصار ظروفاً داخلية صعبة في هذا البلد الصغير نسبياً ذي الموارد المحدودة، خاصة في الفترة التي تلت إنهيار الإتحاد السوفييتي ومنظومة "كوميكون" الجماعية الإقتصادية التي كان يقودها، وكانت كوبا عضواً فيها، في مطلع التسعينيات الماضية.
ولم تشهد كوبا إنفراجاً واسعاً في وضعها الإقتصادي إلاّ بعد أن بدأت الأنظمة اليسارية الجديدة في القارة تنفتح عليها، وخاصة فنزويلا، التي قدمت لها كوبا مساعدات بشرية وتقنية من خلال إرسال عشرات الآلاف من المعلمين لمحو الأمية والأطباء لمعالجة الفقراء والتقنيين لإعادة تشغيل القطاع النفطي بعد الإضرابات الإجهاضية التي تعرض لها، كما أشرنا أعلاه. وتلقت كوبا مقابل هذه الخدمات والمساعدات، التي امتدت لاحقاً الى بلدان أخرى في القارة، كميات من النفط ومشتقاته تسد حاجاتها، وأشكالاً أخرى من الدعم الإقتصادي، ترسّمت لاحقاً بإقامة إتفاقية "البديل البوليفاري للقارة الأميركية"، التي شملت حتى الآن كلاً من فنزويلا وكوبا وبوليفيا، وهي صيغة بديلة للصيغة التي طرحتها واشنطن لمنطقة التجارة الحرة للقارة، وتم رفضها من غالبية بلدان القارة.
وفيما كانت إدارة جورج بوش، في الأشهر الأخيرة، بعد أن تمكنت في الماضي من استبعاد كوبا من منظمة الدول الأميركية الجامعة لبلدان القارة الشمالية والجنوبية والوسطى كلها، تترقب رحيل فيديل كاسترو، وتستعد لإرسال أنصارها من المهاجرين الكوبيين في أراضيها والمقيمين خاصة في ولاية فلوريدا الجنوبية الواقعة على مقربة من كوبا لإعادة السيطرة على كوبا عبرهم، وفيما هللت جموع المهاجرين اليمينيين هؤلاء لمرض فيديل كاسترو وخضوعه لعملية جراحية جدية تطلبت تسليمه السلطة في كوبا الى حلقة من القيادات في الحزب الحاكم والدولة، اكتشف الأميركيون أن شيئاً ما لم يتغير في كوبا بعد غياب كاسترو المرضي الطويل، وأن لا تظاهرة واحدة خرجت أو حركة احتجاج ظهرت في الشارع تؤشر الى استعجال التخلص من النظام الحاكم. مما دفع بعض المختصين في الشؤون الكوبية واللاتينية في الولايات المتحدة الى دعوة إدارة واشنطن الى إعادة النظر في رؤيتها لكوبا ولافتراضها هشاشة النظام فيها (أنظر في هذا المجال المقال المشار إليه أعلاه: "الإنتصار الأخير لفيديل" في دورية "فورين أفّيرز" الأميركية النافذة، عدد كانون الثاني/يناير 2007).

نهوض سكان البلاد الأصليين ("الهنود الحمر")

ومن المهم الإشارة أيضاً، كما ورد أيضاً أعلاه، الى عنصر جديد وبالغ الأهمية في الوضع في أميركا اللاتينية خلال العقدين الأخيرين، وهو صعود دور ونشاط أصحاب البلاد الأصليين (المطلق عليهم خطأً تعبير "الهنود الحمر")، واهتمامهم المتجدد بالشأن السياسي والعام.
فخلال قرون طويلة من المذابح والإضطهاد والتهميش، كانوا خلالها يشكلون جسماً رئيسياً من القطاعات الأفقر في العديد من بلدان أميركا اللاتينية، وخلال عقود من الديكتاتوريات العسكرية ومن الأنظمة الأوليغاركية التي كانت تحتكر فيها شريحة محدودة من المجتمع، وأحزاب تقليدية مرتبطة بها، بالأساس من ذوي الأصول الأوروبية، إدارة الدول والتعاقب على قيادتها وحكمها، رأى أصحاب البلاد الأصليون أن أفقاً جديداً برز بعد الإنفتاح الديمقراطي الذي فرض نفسه إثر انهيارات الأنظمة الديكتاتورية.
وهكذا، بينما لم يتمكن إرنستو غيفارا في أواخر الستينيات الماضية من تحريك قطاعات المزارعين ذوي الأصول "الهندية الحمراء" واستمالتهم لحركته الثورية في جبال بوليفيا الفقيرة، بات هؤلاء، في السنوات الأخيرة، قطاعاً هاماً في الحركة السياسية اليسارية المعارضة للوضع القديم. وبما أنهم يشكلون غالبية السكان في بلد مثل بوليفيا، تمكّن قائد يساري برز من صفوفهم، أي من أهل البلاد الأصليين، هو إيفو موراليس، وهو من قومية أيمارا، من النجاح في انتخابات الرئاسة في أواخر العام 2005. وبدأ، بدوره، بتطبيق برنامجه الجذري، القريب من برنامج تشافيس في فنزويلا، على صعيد تعزيز إستقلالية إقتصاد البلد وتأميم ثرواته الطبيعية وتغيير نظامه السياسي- الإجتماعي، والتعاون والتكامل مع بلدان أميركا اللاتينية الأخرى، بما في ذلك وخاصة في المرحلة الراهنة مع كوبا وفنزويلا.
هذه المعطيات الجديدة ساهمت كلها بقوة في إضعاف تأثيرات واشنطن وصندوق النقد الدولي وقدرتهما على ممارسة الضغوط والإبتزازات، وفتحت المجال أمام انضمام بلدان أخرى في القارة اللاتينية، كما ذكرنا، الى النادي المتسع الحجم للبلدان التي تحكمها أنظمة يسارية.

أية آفاقٍ لهذا التمدد اليساري؟

من الضروري هنا أن نعيد التأكيد على أن الأنظمة اليسارية الجديدة في أميركا اللاتينية متنوعة السياسات والخيارات والإستراتيجيات طويلة الأمد. فهناك فروقات كبيرة بين توجهات فنزويلا وبوليفيا، وربما الإكوادور في ظل رئيسها الجديد كورييا، وهي توجهات تحررية جذرية تعمل على تغيير عميق لمجتمعاتها ونظامها الإقتصادي – الإجتماعي باتجاه يطلقون هم عليه اسم الإشتراكية، بسماتٍ وخصائص متميزة وجديدة، أطلق عليها تشافيس اسم "إشتراكية القرن الحادي والعشرين"، وبين توجهات وسياسات أنظمة يسارية أخرى اتخذت طرقاً عملية وبراغماتية حذرة في المجالين السياسي والإقتصادي أقرب الى النهج الإصلاحي التدريجي، سواء في البرازيل، أو تشيلي، أو الأرجنتين، أو حتى أوروغواي التي تحكمها جبهة يسارية عريضة.
وليس واضحاً بعد أي طريق من الطريقين سيختار الحكم الجديد في نيكاراغوا، برئاسة دانييل أورتيغا، قائد الحركة الساندينية التي حكمت البلد في الثمانينيات الماضية، ببرنامج وتحالفات جذرية آنذاك، في حين أنه خفّف كثيراً من لهجته اليسارية في حملته الإنتخابية الأخيرة في العام 2006، ووسّع تحالفاته كثيراً، الى حد أن نائبه، أي نائب الرئيس الذي انتخب في إطار قائمته، كان، في فترة سابقة، من الشخصيات السياسية في حركة "كونتراس" المناهضة للحكم السانديني في الثمانينيات الماضية.
ولكن، وبالرغم من هذه الفروقات بين الأنظمة اليسارية الجديدة، هناك جوامع وتوجهات هامة مشتركة بينها تميّز بين ظاهرة النجاحات اليسارية الحالية وتلك التي حصلت في الماضي بأشكال جزئية وأقل اتساعاً: فكل هذه الأنظمة تسعى الى توسيع هامش الإستقلالية السياسية والإقتصادية لبلدان أميركا اللاتينية تجاه واشنطن، وهو ما ظهر بوضوح في قمة الدول الأميركية في مدينة مار دل بلاتا الأرجنتينية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2005، كما أشرنا، حين رفضت غالبية الدول اللاتينية، الممثلة برؤسائها، مشروع اتفاقية التجارة الحرة الجماعية التي عرضها الرئيس الأميركي الشمالي جورج بوش المشارك في المؤتمر، وكانت في مقدمة المعارضين، الى جانب فنزويلا طبعاً، دول السوق المشتركة للجنوب "ميركوسور"، البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وباراغواي، الذين اعتبروا مشروع الإتفاقية مؤذياً لاقتصاداتهم الوطنية (والدولة الأخيرة، باراغواي، لا يحكمها نظام يساري).
ولا بد من الإشارة الى أن البلدان القليلة في القارة اللاتينية التي عقدت أو تتجه لعقد إتفاقات تجارة حرة مع الولايات المتحدة تشهد تحركات واسعة داخلية مناهضة لهذه الإتفاقات وداعية الى إلغائها، بسبب الضرر الذي تلحقه باقتصادها، وخاصة في المجال الزراعي، نظراً لكون القطاع الزراعي في الولايات المتحدة مدعوماً مالياً من الدولة هناك، مما يجعل المنافسة غير متكافئة في سياق تطبيقات التجارة الحرة وإزالة العوائق الجمركية.
ومن المفيد الإشارة هنا الى أن الرئيس المنتخب للإكوادور، رفائيل كورييا، كان قد أعلن، حتى قبل الإنتخابات، أنه ينوي في حال انتخابه إلغاء مشروع إتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. وهو موقف ربما كان أحد الأسباب الهامة التي كانت وراء النسبة العالية من الإصوات، غير المتوقعة قبل ذلك بأسابيع، التي حصل عليها في الدورة الثانية من الإنتخابات الرئاسية، في مواجهة مرشح اليمين ألفارو نوبوا، وهو أحد أكبر رجال الأعمال وأغنى رجل في البلد، وقد أنفق أموالاً طائلة في حملته الإنتخابية، دون جدوى.
والى جانب هذه النزعة الإستقلالية الواسعة في أنحاء أميركا اللاتينية، هناك أيضاً المنحى المتزايد لدى هذه الأنظمة، بتلاوينها المختلفة للعمل من أجل التعاون البيني والتكامل بين الدول اللاتينية. ومن الواضح أن تشافيس، تحديداً، يرى المستقبل في سياق هذه العملية التكاملية التي يمكن أن تتطور بشكل متدرج باتجاه صيغة تقترب شيئاً فشيئاً من حلم سيمون بوليفار، مرجعية تشافيس التاريخية، وهو حلم توحيد أميركا اللاتينية على أساس هذا البرنامج الإستقلالي التنموي القائم على خيارات وطنية يسارية.
وكما اتضح في أكثر من مناسبة، من الواضح أن هناك توجهاً جماعياً لدى الأنظمة اليسارية، بتلاوينها المختلفة، لبناء علاقات دولية مشتركة على أسس جديدة أكثر تكافؤاً ونفعاً للأطراف المعنية. وهو ما سعت إليه هذه الأنظمة في دعواتها لقمة مع الدول العربية عقدت في البرازيل في ربيع العام 2005، وكان التجاوب الرسمي العربي فيها محدوداً للأسف، وقمة أخرى مع الدول الإفريقية عقدت في عاصمة نيجيريا في خريف العام 2006.

تجربة أميركية لاتينية متميزة في التعاطي مع المسألة الدينية

ومن المفيد هنا الإشارة الى أن هذا النموذج الأميركي اللاتيني لليسار له سمات خاصة، مختلفة في عدد من الجوانب، عن سمات التجارب اليسارية التاريخية التي شهدناها في الماضي، في مجال التعاطي مع مسألة الدين والتدين، مثلاً.
فالمسألة الدينية تعامل معها اليسارالمعاصر في أميركا اللاتينية بطريقة فيها درجة عالية من النفس الخلاّق. فرجال الدين هناك لم يكونوا، خاصة في نصف القرن الأخير، جميعهم بالضرورة حلفاء للنفوذ الأجنبي (الأوروبي، ثم الأميركي الشمالي)، أو مرتبطين بالشرائح والنظم المستبدة الحاكمة في بلدان القارة. بل حدث هناك انقسام بين من هم من بين رجال الدين (والدين الغالب في أميركا اللاتينية هو المسيحية الكاثوليكية) منحازون الى الشرائح الحاكمة، من جهة، وأولئك الذين اختاروا الإنحياز الى الفئات الشعبية المقهورة والفقيرة، وحتى الى الحركات اليسارية والثورية المسلحة.
فلا زال هناك حديث في هذه القارة، مستمر منذ أواسط القرن العشرين، عن الطروحات التي أطلق عليها تعبير "لاهوت التحرير". والمقصود تنظيرات وأفكار رجال الدين الذين انحازوا لصالح الفئات البائسة والمضطهدة في مجتمعاتهم، ووجدوا تقاطعات واسعة مع الإتجاهات اليسارية النشطة هناك في تلك المرحلة. وتتحدث تلك المرحلة عن رجال دين ذهبوا الى حد حمل السلاح ضد الأنظمة المستبدة والتابعة للأجنبي، ومنهم الثائر الكولومبي الشهير، الأب كاميلو تورّيس، الذي كان مشاركاً في حركة مسلحة يسارية واستشهد في ميدان المعركة في كولومبيا في العام 1966، ونسب إليه القول أنه "لو كان المسيح حياً اليوم، لكان ثائراً مسلحاً (فدائياً، أو من رجال الغوار)".
ومن بين أنصار هذا المفهوم الإنساني التقدمي للدين أيضاً رجال دين وصلوا الى مراتب عليا في الكنيسة، كما هو حال كبير أساقفة سان سلفادور، أوسكار روميرو، الذي انتقد وعارض علناً سياسات حكومة السلفادور العسكرية اليمينية في أواخر السبعينيات الماضية، وحتى اعترض على انتقاد بابا الكنيسة الكاثوليكية يوحنا بولس الثاني ابان زيارة له الى السلفادور لـ "لاهوت التحرير". وقد كلفت هذه المواقف الأسقف روميرو حياته، في بلد مضطرب آنذاك كالسلفادور، فكان هدفاً للإغتيال، حيث أطلقت مجموعة من" فرق الموت" التابعة لليمين السلفادوري النار عليه وهو يقوم بالقداس في الكنيسة في عاصمة السلفادور في آذار/مارس 1980.
وتجري الإشارة أيضاً في هذا المجال الى سمة مميزة، على هذا الصعيد، كانت للنظام السانديني اليساري الذي وصل الى السلطة في نيكاراغوا في العام 1979. فقد شارك في الثورة الساندينية وفي الحكم اللاحق عدد من رجال الدين اليساريين، من بينهم الأب ميغيل ديسكوتو، الذي أصبح وزيراً لخارجية الحكم السانديني، والأب إرنستو كاردينال، الذي صار وزيراً للثقافة.
وفي مقابل هذه النماذج، وقف عدد من كبار رجال الدين الكاثوليك في أميركا اللاتينية ضد القوى المقاومة وضد اليسار، وانحازوا الى جانب السلطات الحاكمة. وشجّعهم على ذلك الموقف النقدي الحاد للتيار الديني اليساري في القارة الذي اتخذه البابا يوحنا بولس الثاني، وكذلك مستشاره يوزف راتسنغر، الذي أصبح مؤخراً البابا بينيديكتوس السادس عشر.
وجدير بالذكر أن كتاباً صدر، في أواسط الثمانينيات الماضية، هو نص حوار طويل أجراه مع الزعيم الكوبي فيديل كاسترو أحد رجال الدين البرازيليين من أنصار "لاهوت التحرير"، واسمه فراي (الراهب) بيتّو. وتناول الكتاب في ما تناول موقف كاسترو من الدين والعلاقة الممكنة بين المسيحيين واليساريين. ومن بين ما قاله كاسترو في الحوار هو أن لا شيء يحول دون مشاركة المسيحيين المؤمنين في الحركات الثورية، وأن هناك آلاف التقاطعات بين الشيوعية والمسيحية أكثر مما هناك من التقاطعات بين الرأسمالية والمسيحية. وقد أشار كاسترو في هذا الكتاب الى اهتمامه ومتابعته لدور رجال الدين المسيحيين في الثورة الساندينية في نيكاراغوا، وهو تطور اعتبره عنصراً مهماً في مسيرة الحركات اليسارية التحررية في القارة اللاتينية. ويبدو أن هذا الكتاب الحواري، الذي نشر بالبرتغالية والإسبانية ثم ترجم للغات أخرى، كان له تأثير كبير على أوساط واسعة من قرائه، ليس فقط في أميركا اللاتينية، وإنما أيضاً في أوساط مهتمة في بلدان أخرى، كما تظهر بعض التعليقات المنشورة على شبكة الإنترنت من بعض قراء هذا الكتاب في بلد كالولايات المتحدة.
تحدثنا عن هذا الموضوع بسبب كون بعض الحركات اليسارية المعاصرة في أميركا اللاتينية غالباً ما تتحدث عن مرجعياتها الفكرية اليسارية والمسيحية في آن واحد. وهو حال أوغو تشافيس في فنزويلا، الذي أشار مراراً في تصريحاته الى هذه المرجعية المزدوجة، مركّزاً على الجانب المناصر للفقراء والمضطهدين في التراث المسيحي الأول، وفي المقولات المنسوبة للمسيح بهذا الشأن. والأمر نفسه ينطبق على حزب الشغيلة في البرازيل، الذي شارك في تأسيسه في العام 1980 رئيس البرازيل الحالي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، وهو حزب كان منذ البداية تجمعاً من مجموعات من النقابيين والناشطين اليساريين والمثقفين والمسيحيين اليساريين. وحتى الرئيس المنتخب الجديد للإكوادور، رفائيل كورييا، يقدم نفسه كمسيحي يساري.
وهكذا، من الواضح أن التيارات اليسارية الأميركية اللاتينية المعاصرة ليس فقط لا تصطدم مع الدين والتدين، وإنما تعتبر الجمهور الواسع الفقير والمضطهد في هذه القارة، وهو في الغالب جمهور متدين، كما هو الحال في مناطق أخرى من العالم، هذا الجمهور هو، بطبيعة الحال، قاعدة اجتماعية وسياسية مفترضة للحركات السياسية اليسارية الساعية الى تغيير جذري لصالح هذه الجماهير، بالدرجة الأولى. وهو ما تظهره الآن، ليس فقط أقوال، وإنما أفعال الحكومات اليسارية الجديدة في القارة، وخاصة تلك التي ترفع برامج تغيير جذرية، كما يظهره التجاوب الذي تلقاه هذه الحكومات في الأوساط الشعبية والفقيرة.
***
بقي أن نعيد التأكيد ان ما يجري في أميركا اللاتينية من تقدم واسع للخيار اليساري هو منعطف تاريخي بالنسبة للقارة. وهو ليس تكراراً لظواهر وحالات موسمية شعبوية ويسارية شهدتها القارة في الماضي، على غرار تلك التي تحدثنا عنها أعلاه. وهو ما يعني أن العملية ستستمر، وتتجذر، على الأرجح. وهو تطور هام يحتاج الى متابعة واستخلاص الدروس المفيدة بالنسبة للشعوب والمناطق الأخرى في "العالم الثالث" خاصة، بما في ذلك منطقتنا.
وجدير بالإشارة في سياق تسجيل الطابع العميق لهذا التطور في أميركا اللاتينية، أنه، حتى في البلدان التي لم ينجح فيها المرشح اليساري للرئاسة، حقق التيار اليساري حضوراً قوياً في المجالس النيابية والبلدية، وأصبح قوةً مؤثرة في الحياة السياسية. وهكذا، فحتى إذا تصاعدت لاحقاً الحملات العدائية ومحاولات إجهاض هذه التحولات من قبل الولايات المتحدة وأنصار سياساتها المحليين، فإن هناك قواعد جديدة للعمل فرضت نفسها في مجمل القارة اللاتينية والكاريبي.
فهذا التلاقي التاريخي بين اليساريين القدماء والجدد، وذوي الأصول "الهندية الحمراء"، والمسيحيين المتنورين وكل المناصرين للفقراء والمضطهدين، والذي تواكب مع انكشاف مثالب وعيوب، إن لم نقل كوارث، نظام العولمة الرأسمالية الذي حاولت واشنطن فرضه على مجمل القارة اللاتينية، فتح الأبواب أمام ما اعتبره تقرير آخر نشر على موقع هيئة البث البريطانية (بي بي سي) على الإنترنت في ربيع العام 2006 "خسارة الولايات المتحدة لأميركا اللاتينية". حيث يقول كاتب التقرير: "إنها واحدة من أهم قصص عالم العام 2006، وأقلها إشارة إليه...لقد خسر جورج دبليو بوش أميركا اللاتينية".
***
يبقى أن نرى في المستقبل القريب كيف يمكن أن تحقق هذه الأنظمة اليسارية برامجها على الأرض، وكيف يمكن ليس فقط أن تحافظ على قاعدتها السياسية الإجتماعية (أكثر من 60 بالمئة من الناخبين في إعادة انتخاب كل من تشافيس في فنزويلا ولولا دا سيلفا في البرازيل في الأشهر الأخيرة من العام 2006)، وإنما كيف يمكن أن توسع هذه القاعدة باتجاه شرائح أخرى من المجتمع، وتذهب باتجاه تقليص القاعدة السياسية الإجتماعية للمعارضة الملتفة حول الشرائح العليا ذات المصالح المرتبطة غالباً بالشركات الأجنبية والفئات الطفيلية الثرية، أي نواة اليمين الصلبة، بما يجعل هذه الشرائح مهمّشة سياسياً واجتماعياً، بعد أن كانت هي التي تقوم بتهميش اليسار والإتجاهات التحررية والقطاعات الشعبية عامةً طوال عقود طويلة.
ولا شك، مثلاً، أن وضع بلد مثل البرازيل أكثر تعقيداً من وضع فنزويلا أو بوليفيا، بسبب حجم البلد، ولكون الحزب اليساري الذي ينتمي إليه الرئيس" لولا" في البرازيل لا يملك أغلبية في الهيئات التشريعية، مما يضطره الى عقد صفقات مع الأحزاب الأخرى لتمرير مشاريعه التشريعية والتطويرية، بالرغم من كون النظام السياسي في البرازيل نظاماً رئاسياً، كما في الولايات المتحدة، يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة.
أما الوضع في فنزويلا، كما ذكرنا، فهو حالياً مؤاتٍ جداً لمشروع تشافيس الجذري. حيث لديه، الى جانب أغلبيته الكبيرة في إنتخابات الرئاسة التجديدية الأخيرة، سيطرة كاملة على المجلس التشريعي، لكون المعارضة فضّلت، ابان انتخاب المجلس عام 2005، مقاطعة الإنتخابات، على الأغلب بسبب ضعفها وعدم قدرتها على إبراز ديناميكية موحدة للتيار اليميني الذي تمثله، والذي لم يكن له رأس واحد قادر على منازلة رأس اليسار الحاكم. وإن كانت أوساط اليمين، بدفع من الإدارة الأميركية، نجحت في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة في الإتفاق على مرشح واحد لها في مواجهة، غير ناجحة، لشعبية تشافيس الهائلة.

نحو عالم جديد؟

وهكذا، فإن العالم يتحرك بقوة تحت أعيننا. فالسياسات العدوانية لإدارة جورج بوش الأميركية اليمينية، وتخبطها في مشاكل واسعة إثر مغامرتها الفاشلة في العراق، فاقمت من عزلتها الدولية والعداء الواسع لسياساتها الإمبريالية الكونية. وبالمقابل، نشهد الصعود الكبير للصين كقوة عالمية مرشحة لتصبح دولة عظمى في ظرف سنوات، وحسب العديد من المحللين، لتتجاوز حتى الولايات المتحدة إقتصادياً خلال زهاء الثلاثة عقود. كما نشهد صعود قوى عالمية أخرى، من بينها الهند، ودوراً محتملاً أبرز لروسيا الإتحادية عالمياً خلال السنوات القادمة، دوراً أكثر إستقلالية على الصعيد الدولي وخاصة تجاه الولايات المتحدة.
كل ذلك الى جانب هذه الديناميكية الداخلية المثيرة للتحولات الجارية في القارة الأميركية اللاتينية، التي تفتح الباب أمام مستقبل مهم ومؤثر عالمياً للقارة الأميركية اللاتينية، خاصة إذا ما تمكّن قادتها من جمع كياناتها ودولها في مشروع تاريخي كبير، وصل تشافيس في أحد تصريحاته الى حد وضعه في سياق طموح كبير لجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أميركياً لاتينياً.
وهو طموح كبير، وربما أكبر من إحتمالات العقود الأولى من القرن. لكن شيئاً ما تحرك في هذه القارة المغبونة... قارة السكان الأصليين المضطهدين والمهمّشين منذ الغزو الأوروبي في أواخر القرن الخامس عشر... وقارة السود الذين استجلبوا من القارة الإفريقية كعبيد للعمل في المزارع والمناجم التي كان البيض يسيطرون عليها... وقارة كل ذوي الخيارات اليسارية والإنسانية النبيلة، خيارات التحرر الناجز والإستقلال ومواجهة التحدي التاريخي الذي فرضته قوى الإستغلال والهيمنة والإفقار المتفاقم، في الماضي، كما في مرحلة العولمة الرأسمالية المتوحشة التي نعيش.
إنها ربما بدايات تبلور تلك العولمة البديلة على الأرض، بعد أن كان شبان العالم وقواه الطموحة والتواقة للعدالة وكرامة الإنسان قد رفعوا راياتها منذ أواخر القرن العشرين في شوارع المدن والعواصم العالمية التي كانت تلتقي فيها قمم الأغنياء ومؤسساتهم المالية والإقتصادية.
والذين استمعوا الى الإغنية الوطنية التي أنشدها الشيخ إمام في أواخر ستينيات القرن العشرين "غيفارا مات"، يدركون اليوم أن البصمات التي تركها غيفارا على هذه القارة بموته المأساوي، الى جانب تضحيات الآلاف من رفاق الدرب والطريق من أنصار الخيار التحرري الإستقلالي اليساري في تلك القارة المشتعلة والمليئة بالطموح، كانت، في نهاية المطاف، أقوى من رصاصات وحروب جلاديهم، وزرعت بذوراً في أرض تبيّن الآن أنها خصبة جداً، بالطموحات والآمال الكبيرة، وبالتطلعات الإنسانية التواقة للعدل والحرية. فربما مات إرنستو غيفارا ورفاق دربه الكثر في أنحاء القارة... لكن الرسالة وصلت.
أوائل العام 2007
* نشرت هذه المقالة التحليلية في الفصلية الفلسطينية "سياسات" التي تصدر عن معهد السياسات العامة في رام الله – البيرة وغزة، والتي صدر عددها الأول (شتاء 2007) مؤخراً.



#داود_تلحمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحديات تواجهها المساحة العربية في عصر العولمة الرأسمالية
- اليسار الجذري والديمقراطية التعددية هل يلتقيان؟ فنزويلا قالت ...
- الأيديولوجيا والسياسة... إستقلال نسبي، وضوابط ضرورية
- إنتصارات اليسار في أميركا اللاتينية -الخلفيات والآفاق
- داود تلحمي في حوار مع العربية ضمن برنامج السلطة الرابعة
- المؤرخ والعالم الاجتماعي مكسيم رودنسون... نموذج مختلف للإستش ...
- بعد خمسين عاماً من الانتصار التاريخي في - ديان بيان فو
- نحن والإنتخابات الأميركية: -إزاحة- اليمين المتطرف... وبلورة ...
- بعد صدور القرار 1515 لمجلس الأمن حول -خارطة الطريق
- في ذكرى ثورة (7 نوفمبر) الاشتراكية، وفي ظل تنامي قوة المارد ...


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - داود تلحمي - اليسار يرسم خارطة جديدة لأميركا اللاتينية، ومشروع عالم بديل