أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد إبريهي علي - الدوافع العليا، طلب الإعتراف والسياسة: أفكار وتداعيات















المزيد.....



الدوافع العليا، طلب الإعتراف والسياسة: أفكار وتداعيات


أحمد إبريهي علي

الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 16:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الإنسان لا يُختزل إلى رغبات غرائزه تنسق بعقلانية أداتية لتعظيم إرضائها، دائما يوجد الإحساس بالواجب والحفاظ على الإحترام الذاتي والكرامة، وحب الفضيلة ونشدان الكمال. كذلك من الخطأ الفادح هيمنة المنهج التجريبي الوضعي قي دراسة وقائع السياسة ومحاكمتها بالفرضية العقلانية، لأن في هذا المنهج تبرير مغالبة القوى الكبرى للتسلط على الشعوب وإنتهاك حقوقها في الأمن والإستقلال والرخاء، وبطش الأقوياء بالضعفاء. لا بد من إعادة الإعتبار للفلسفة والضوابط المعيارية، يجوز ولا يجوز، هذا حق وذاك باطل، عدل وظلم، وإدانة العدوان والغطرسة والتجبر، والتذكير بالقانون والأعراف الشريفة، وشحذ همم الأجيال الجديدة لإلتزام القيم العليا والنضال من أجلها.
تعريف أولي للمفهوم

الإعتراف Recognition إهتمام فكري، معرفة وتمييز، تقدير، وينصرف المفهوم الفلسفي والسياسي للإعتراف إلى الإقرار بالحقوق والإعتبار والإستحقاق والمكانة للآخرين أوإعتراف الآخرين لنا بمثلها. الإعتراف بالضرورة متبادل لأنك تطلب الإعتراف ممن تعتقد بأهليته لذلك فلا يُطلب الإعتراف ممن لا يُعترف به. ينتظر ممن يتمثل المساواتية في أخلاقه ان يقبل الإعتراف من الجميع ويسره ذلك ويبادلهم بمثله. ذاك ما بين الأفراد أو الفرد والمجتمع، وكذلك تدرس هذه الورقة المجموعات او الجماعات موضوعا رئيسا لها.
فماذا يعني الإعتراف بالجماعة الثقافية، دينية او اثنية، فهل هو إعتراف بها بذاتها أم بالأفراد الذين ينتمون إليها. هذه تسمى المكانة الأنطولوجية للجماعة، فلها شخصية يتجه إليها الإعتراف بقدر أصالة وجودها بإستقلال عن أفرادها التي تتكون منهم. الإعتراف فيما بين الجماعات بصفتها هويات لا غنى عنه سبيلا لفهم حركاتها وما تصدر عنه من مبررات وجودها إلى جانب الأفراد المواطنين والمجتمع الوطني. وصار بذلك مكونا لا ينفصل عن أية نظرية للعدالة حديثة ومقنعة.

التفاوت والدوافع العليا
الإنسان كما يحتاج ويرغب في الطعام والرفاه المادي كذلك لديه قيم اخرى معنوية تتملك وجدانه، عدا الإيثار الغريزي إذ يفتدي الوالد ولده بحياته. فالأنانية والنفعية لا تُفّسر سلوك العسكري العراقي الذي إحتضن الإنتحاري الملتف بالحزام الناسف وضحى بنفسه لإنقاذ الناس. أوالشاب الفرنسي الموهوب بالرياضيات Galois في العشرين من عمره ايام ثورة 1830 وافق على المبارزة مع أحد انصار الملكية، إستجابة للتحدي وهو لا يًحسِن إستخدام السلاح ليتقي وصمة الجبن بالموت، " الموت خير من ركوب العار". وأمضى الليلة التي سبقت المبارزة لتدوين ما توصل إليه في نظرية المجموعات وجبر المنطق سلّمها لمدرّسِهِ وذهب إلى خياره الصعب.
مثل هذه الوقائع معروفة في حاضر مجتمعاتنا وتاريخها، تؤكد أن الإنسان لا يُختزل إلى رغبات غريزية يحاول الحساب العقلاني تهذيبها، بل ثمة دوافع أخرى للسلوك تتصل بالواجب المحض والفضيلة والكرامة. هذا القسم من الشخصية الإنسانية منبع المعنى في الحياة، وإليه تعزى الحاجة المشروعة للإعتراف حق للفرد على ألاخرين، إذ يغذي التقدير الذاتي عنده وهو شرط الحياة الطيبة والشراكة الإيجابية. كما يتطلب سلْم المجتمع وإستقراره الإعتراف المتبادل فيما بين جماعاته، دينية واثنية ومناطقية ومهنية وفئات واوساط تتخذ صفة الهوية.
لنبدأ من إفلاطون عن سقراط

النفس بالمنظورالأفلاطوني الذي تكشف عنه محاورات سقراط بثلاة اقسام، واحد للرغبات او الشهوات، والثاني للعقلانية، ويعتمد التنظير الإقتصادي المعاصرعليهما في تفسير السلوك بما يسمى الإستمثال المقيد اي تعظيم صافي العوائد او المنافع مع الإذعان لقيود الإمكانية. لأن الرغبات عديدة متنافسة فلابد من تقييمها لتعظيم مجموع العوائد او المنافع أو وضعها في تسلسل تبعا للأولويات .., وهكذا. أما القسم الثالث فيسمى Thymos الجانب الروحي مسؤول عن مُثل عليا، تخرج عن دائرة الرغبات المقيدة بالحساب العقلاني المُوجِّه والرادع. التيموس مكان الغضب والفخر وأحكام المعنى، الانسان لا يرغب فقط في أشياء خارجة عنه، غذاء ومسكن ...، بل يتلهف توقا إلى تقييم او حكم إيجابي بجدارته الأخلاقية وإستحقاقه للكرامة ياتي من داخله شعورا بالإحترام الذاتي، يتغذى من المجتمع المحيط معترفا بجدارته.
سقراط، في جمهورية إفلاطون، لا يرى الثيموس خاصة يتساوى فيها جميع الناس او تتخذ صيغا مختلفة للحضور فيهم، إنما تظهر فقط لدى فئة منهم في مدينته المتخيلة. لا نتبنى توصيف سقراط للدوافع العليا وتفاوت البشر في حظهم منها بل لأنها، في الأدبيات المتداولة تمثل بداية التفكير المدون حول هذه المسألة والسلوك المرتبط بها. كان سقراط يراها في الحُرّاس لأنهم شجعان يضحون بأنفسهم من اجل المدينة، ولا يتحلى بها التجار ولا الإداريون المتمرسون في الحساب العقلاني. يقصد سقراط بالحراس الفرسان النبلاء وهولاء في الرتبة الأولى وموضع القيادة في اليونان الكلاسيكية، وبقيت هكذا في أوربا ومنهم الملوك والأرستقراطيون إلى زوال الإقطاع، وفيما بعد توارث أحفادهم مكانة إجتماعية عالية في بعض الدول إلى يومنا.

أتفق مع سقراط في وجود وفاعلية القسم الثالث للنفس البشرية، لكنّ موضعتها في فئة إجتماعية أو جماعة دون غيرها هذه تعكس ثقافة الأرستقراطيين انفسهم في عصره. والتي يعترض عليها فلاسفة المدرسة الكلبية Cynicism واول منظريها تلميذ سقراط Antisthenesأواخر القرن الخامس قبل الميلاد. الكلبيون يرون هؤلاء الذين أعلى سقراط شأنهم متطفلين وقساة مثل وحوش ضارية على بقية المجتمع، وخَلَفَهم اسوا منهم لأنهم إضافة على سيئات أسلافهم لم يكتسبو المكانة بأنفسهم.
البشرعند الكلبيين حيوانات عاقلة ويتوقف تحقيق هدف الحياة ونيل السعادة على الفضيلة إنسجاما مع الطبيعة، ويستشعرالأنسان طبيعيا العقل بالحياة البسيطة المتحررة من القيود الإجتماعية. الكلبيون يتعمدون علناً إحتقار الرغبات التقليدية في الثروة والقوة والمجد والإعتراف الإجتماعي. تضاءلت الكلبية بعد القرن الثالث قبل الميلاد ثم عادت وانتعشت في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الميلادي الاول. يمكن فهم الكلبية رفضا أقصى للرغبات والعقلانية، وبهذا لا يبقى سوى القسم الثالث من النفس البشرية الذي يستوطنه الزهد دون تكلف، والتحرر مما اضافه المجتمع على الطبيعة، وكانهم يريدون العودة إلى وضع الطبيعة كما تصوره جِيَن جاك روسو واسطورة البدائي النبيل.
الذين تعوّدوا الفوقية يغضبون أشد الغضب عندما يُنظر إليهم خلاف ما يتوقعون. في تلك المجتمعات لا يستند الشرف إلى إنجازات فعلية بل هو عرف راسخ، ديمقراطية أثينا كانت ضمن تلك الطبقية البغيضة كما نراها الآن. أما الديمقراطية المعاصرة فقد إستبدلت الإعتراف لبعض الناس بالتفوق والأفضلية والإمتياز Megalothymia بإعتراف متبادل بالمساواة Isothymia يشمل الجميع، المجتمعات التي كانت تعترف فقط لنخبة قليلة العدد صارت تعترف لأي إنسان بالمساواة الطبيعية الأصيلة. هذا المبدأ الذي توصلت إليه البشرية بعد كفاح طويل حري بمجتمعاتنا إعتماده شاملا لأفراد وجماعات الجغرافية البشرية للوطن بأكمله دون تمييز عرقي أو ديني أو طائفي أو طبقي.
بين الزمن القديم وعصرنا

عندما يُعتَرف لأحد أو فئة بالعلو والأفضلية يُحرم الكثيرون من أي إعتراف بقيمتهم أو إستحقاقهم الإنساني. والعجيب أن سقراط ومؤيديه يرون بقية البشر من غير الحراس أيضا لديهم النفس الثالثة، الثيموس، إذ يفخرون لكن بماذا عندما يصفعهم النبيل ...وكأن المذلة تناسبهم. أما الكلبية وما على شاكلتها فتمثل موقفا نقديا جذريا من مألوف المجتمعات الأرستقراطية، حيث الإعتقاد العميق أن الشرف والإعتبار لا يستحقه كائنا من يكون بل فقط لمن يعرض حياته للخطر.
الأرستقراطيون يرون أنفسهم أفضل من الآخرين ويطلبون من أي آخر الإقرار بذلك " إعتَرِف بأني أفضل منك وأكثر إستحقاقا للرئاسة والسلطة"، ثم تنغرس قيمهم في المجتمع كله تنقض المساواة وتُكرّس التراتبية. وهذه لا تنسحم مع القيم الليبرالية والمجتمع المعاصر المساواتي الذي يقوم على منهج آخر " أعتَرِفُ لك بنفس الحق في المواطنة والحرية والكرامة واطلب منك الإعتراف بمثلها لي" .
قيم التفاضل بين الناس على اساس الإنتماء القبلي والأسري موجودة بقوة في حاضر العرب وماضيهم الإجتماعي والسياسي. وكلما أوغلت الممارسات الثقافية في الإبتعاد عن قيم المساواتية يزداد الشغف في الرئاسة والسلطة ويشتد النزاع من أجلها لذاتها. في الزمن القديم كانت الوراثة الأسرية للمكانة الإجتماعية شائعة. وهكذا جاءت السلالات الملكية في اوربا من أحفاد فرسان القبائل الألمانية التي أسقطت الأمبراطورية الرومانية وأسست على انقاضها ممالك وإمارات.
والإمبراطوريات الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة أيضا سلالات تنتهي صعودا إلى عبد مناف بن قصي رئيس قريش والد الشقيقين التوأم هاشم وعبد شمس والد أمية وجد عتبة المعروف بالمبارزة التي بدأت بها معركة بدر. وإلى نفس الأصل كانت دول سلالات في اليمن والحجاز وشمال افريقيا واسبانيا.
الطريف بعد غزو المغول لبغداد، أُخِذت أسرة عباسية إلى مصر وبويع هناك المستنصر بالله الثاني لتستمر الخلأفة رمزية حتى عام 1517 عندما إحتل العثمانيون مصر، . قالوا تنازل بها الخليفة محمد المتوكل على الله للسلطان سليم. العثمانيون سلالة من قبيلة كايي فرع من الترك الأوغوز المهاجرين من آسيا الوسطى في القرن الثالث عشر الميلادي.
إجتمعت لبني هاشم أعلى خصائص الأسرة النبيلة بمقومات ذاتية رسخها صفاء التنشئة، وقدمت صورا فريدة في الإستعداد للتضحية وجسارة الروح، والتطلع خارج المالوف، ورفعتها النبوة إلى ذروة مستحيلة المنال. نضع هذه امامنا، ثم ننظر إلى أهمية المكانة والرئاسة في قمة هرم القيم لدى قريش ونتأمل. ونضيف أحادية الترابية، ومن مضامينها إستبعاد وجود رئاسة روحية بموازاة السلطة السياسية بِنديّة وتكافؤ كما شهدت اوربا القرون الوسطى.
بذلك يمكن تفسير الكثير من الأحداث منذ البعثة النبوية وفيما بعد، وهي نتاج التكوين النفسي– الثقافي المشغول بالمكانة والمفاضلة والتنافس والنزاع حولها. تناقلته أجيال المسلمين، وخاصة العرب، في مشاعرهم ومواقفهم إلى يومنا. تلك الخلفية إلى جانب عوامل اخرى أقل فاعلية، تُفسّرمقاومة التنوع والإعتراف وما يقتضيه من سريان مبادئ التعددية.
القاعدة العرفية، ذلك الزمن وحتى الثورة الفرنسية، أن الرئاسة لأسرة تتوارثها أجيالها ، أما الان فهي في سائر الناس. كان الخروج على ذلك المبدأ في زمنه نشازاً وسوء خلق، كما ان الخروج على المساواتية في زماننا معيب ومسؤؤل عن فظاعات العنصرية والفاشية. العرف يتغير ولا نحاكم قيم الزمن القديم بما ألفناه. في زماننا السيادة للشعب وليست لأسرة ولا لأحد كائنا من يكون، والذي يتنكر للسيادة الشعبية خارج على أخلاق السياسة لا ينتمي لعصره.
العبودية كانت شائعة في العالم وأكثر العبيد في الإمبراطورية الرومانية من أسرى الحروب، فلماذا نتوقع إختفاءها في الإمبراطوريات والدول الإسلامية ذلك الزمن. وقد إستمرت في أوربا حتى في العصر الحديث وبدء تحريمها مطلع القرن التاسع عشر تدريجيا. تركت العبودية بصماتها حيث بقي التمايز بين البشر والمزاج العنصري في ثقافات الشعوب لكنها واعية لهذه الأمراض فتبنت المساواتية التي تترسخ اكثر فاكثر. الناس يختلفون في الثروة والمهنة والدورالإجتماعي لكنهم سواسية في الكرامة وحقوق الإنسان كافة بما فيها السياسية.

أفكار في طلب الإعتراف


روسو لا يتفق مع هوبز أن الإنسان عنيف شرّير أناني في وضع الطبيعة، ولا يُقِر ما ذهب إليه لوك حول الملكية الخاصة لدى الإنسان الاول، ولا مع سقراط ومحاوره أديمانتوس أن الثيموس جزء مكون في النفس البشرية. أن مشاعر الفخر والرغبة في إعتراف الآخرين لم تكن موجودة عند الإنسان الأول في وضع الطبيعة. في القرون اللاحقة وُجِد المجتمع، اوامر وعلاقات وقواعد سلوك وتقاليد خارج الفرد، وهذه بذاتها منعت تحقيق الإنسان لمكنوناته وبالتالي سعادته. ينسب روسو التفاوت إلى المجتمع والملكية الخاصة، مثل الماركسيين، فدوافع الحسد والتنافس والنزاع والحرب ليست أصيلة في النفس البشرية بل جاءت فيما بعد. ويرى فوكوياما هذا التنظير مسوغا للثورة لتغيير نظام المجتمع كي تختفي الشرور كما يتصور الثوار. فليست النفس الداخلية بل الخارج الإجتماعي طمس الفطرة الطيبة.
من تحليل روسو وضع فوكوياما الهوية Identity مكان الثيموس السقراطي دون وساطة منهجية واضحة. وعندي لا يتناقض المنظور السقراطي مع روسو، لأن سقراط تناول التكوين النفسي لمجتمع طبقي حاد التمايز، الفئة العليا تطلب الإعتراف بالأفضلية، والبقية ترتاح للإنسجام مع وضعها.أساس الهوية إدراك الإنسان للإختلاف بين صورته عن ذاته المختبئة في داخله والتي يعتقد أنها حقيقته والدور المرسوم له في محيطه، أو كما يبدو في المجتمع وهي الذات الخارجية، وعندما يرفع القيمة الأخلاقية لذاته الداخلية، ويطلب الأعتراف من المجتمع بها وهي الهوية تعلن حضورها. يعبر طلب الإعتراف يعبر عن الإعتداد بالذات الحقيقية للإنسان.
والعنصر الآخر في الهوية يتصل بمفهوم الكرامة إذ لا يقتصر مطلب الإعتراف على فئة ضيقة من الناس بل يشمل الجميع فيصبح سياسيا. الله سبحانه وتعالى نهى البشر عن التفاضل فيما بينهم على حَسب ونسب وثروة وغيرها، لأن الأكرم هو الأتقى، والتقوى محلها القلب الذات الداخلية للإنسان يعلمها الله عز وجل وبهذا ليس لنا إلا المساواتية فيما بيننا وما عدا ذلك لله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير)( الحجرات:13) ؛ ( هو أعلم بمن إتقى)(النجم:32).
وفي المدونات الإسلامية كثيرا ما يشار إلى المساواة بين البشر بإختلاف ألوانهم ولغاتهم وغنيهم وفقيرهم والرث والمتانق وهم سواسية في شرف الإنتساب لآدم...وهكذا. وفي المسيحية، ايضا، إن الله خلق البشر متساوون في نظره مؤهلون للخلاص والرحمة جميعم، والكرامة البشرية مرتبطة بالقدرة على الإختيار الأخلاقي. ويذكّر القرآن الكريم كثيرا بقدرة الإنسان على الإختيار الأخلاقي. وهو مفصِل التلازم بين الحرية والمسؤولية في الفلسفة.
عند الفيلسوف إيمانؤيل كانت الإرادة الخيرة هي القدرة على الإختيارالأخلاقي الصحيح، وهي أعلى تجليات الخير المحض. وتأتي من الإستطاعة في إتباع القواعد المجردة للعقل لذاتها وليست أدوات لتحقيق نتائج في رفاه او سعادة. أي إكتشاف الواجب الأخلاقي لذاته بعيدا عن العقلانية الأداتية. الكائنات الإنسانية أخلاقية تختار بإستقلال عن بيئتها المادية وليست مكائن تشتغل بقوانين الفيزياء ، هكذا يرى كانت، ولذلك ينبغي النظر إليها غايات بذاتها وليست أدوات.
لأن الأخلاقية ليست حسابا منفعيا للنتائج تتمثل في تعظيم سعادة الإنسان بل هي الإختيار الأخلاقي ذاته. السمو بالإنسان فوق إشتراطات المادة وثنائية الرغبة والقيد العقلاني ضروري، عمليا، لإدامة الزخم الأخلاقي. وهذه الأطروحة لا تفسر كل السلوك البشري بل بعضه وكله لبعض الأفراد، رموز الهداية الأخلاقية. ولذلك لا يمكن فهم التاريخ جيدا بالإصرار على إستبعاد تلك الدوافع العليا بحجة انانية الإنسان المحكوم بالعقلانية الأداتية.
الكائن الإنساني فاعل أصيل وتدور الكرامة حول إرادته الناشئة عنه وليست بسبب خارجي وقد إرتضى الفيلسوف هيغل هذا الربط بين الإختيارالأخلاقي والكرامة الإنسانية. وعند هيغل ، أيضا، الكائن الإنساني فاعل حر أخلاقيا، وليس مجرد حاسبة عقلانية لتعظيم إرضاء الرغبات، وقد جعل هيغل الإعتراف بتلك الفاعلية الأخلاقية في مركز الشرط الإنساني. والتاريخ البشري يحركه الكفاح من أجل الإعتراف الذي يأتي أولا من المحارب الذي يريد التضحية بحياته في معركة دموية ليس من أجل الأرض والثروة بل طلبا للإعتراف ذاته.
لكن هذا الإعتراف في النهاية لا يكفي عندما يأتي ممن ليست لديه كرامة، حسب هيغل، وينتهي الإشكال عندما يكتسب هؤلاء الكرامة التي حرموا منها بالعمل لتحويل العالم إلى مكان ملائم لحياة الإنسان. وعندما نضع ما توصل إليه بلغة السياق هنا يكون الإعتراف العقلاني الوحيد هو المتبادل بين الجميع بأن الكرامة الإنسانية مشتركة، وقد رأى ذلك الإعتراف الكوني في مبادئ الثورة الفرنسية بعد معركة ينا عام 1806.
وقد تصور آنذاك أن التاريخ وصل نهايته، بينما تصور الشيوعيون منتصف القرن ذاته ان نهاية التاريخ في الشيوعية تبدأ رحلة الإنسان نحوها عند سقوط نظام الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، وعند فوكوياما كانت نهاية التاريخ في سيادة الديمقراطية الليبرالية بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي. ورغم إختلاف تفسير حركة التاريخ في التصورات الثلاثة لكنه يسعى نحو المساواتية ليستقر هناك يهنا براحة الضمير.
الكائن الإنساني فاعل أصيل وتدور الكرامة حول إرادته الناشئة عنه وليست بسبب خارجي، وقد إرتضى الفيلسوف هيغل هذا الربط بين الإختيارالأخلاقي والكرامة الإنسانية. وعنده الكائن الإنساني فاعل حر أخلاقيا، وليس مجرد حاسبة عقلانية لتعظيم إرضاء الرغبات، وقد جعل هيغل الإعتراف بتلك الفاعلية الأخلاقية في مركز الشرط الإنساني.
الثورة الفرنسية التي حمل جنود نابليون مبادئها على ظهور الخيل تمثل لهيغل بشرى بالديمقراطية الليبرالية التي تقوم على الحقوق الفردية والكرامة المتساوية. لكن فرنسا، آنذاك، في واقعها السياسي وقوانينها لم تتسع ديمقراطيتها للجميع هذه تطلبت أكثر من قرن آخر. لكن الفيلسوف الشاب في عنفوان التطلع إلى ذروة تاريخ الروح لا يرى هذه التفاصيل. بل يفهم ان العواطف الجياشة التي تطلقها أحداث مثل الثورة في أساسها كفاح من أجل الكرامة فالذات الداخلية ليست مجرد تأمل شخصي انها حرية يراد لها أن تتجسد بحقوق وقوانين.
مع ذلك مطلع القرن التاسع عشر صارت اغلب عناصر المفهوم الحديث للهوية حاضرة: التمييز بين الذات الداخلية والخارجية، وإعلاء قيمة الذات الداخلية على الترتيبات المجتمعية القائمة، وهذه المسألة جوهر الفردانية التي تقوم عليها الليبرالية. والمهم أن كرامة الذات الداخلية تعتمد على حريتها الأخلاقية، والنظر إلى ان كل البشر يشتركون في تلك الحرية وطلب الإعتراف بالذات الداخلية. هذا التصور هو أساس النظام الذي يكتنف التنوع بالتعددية في ظل ديمقراطية ليبرالية تتسع للعدالة الإجتماعية وبخلافه يبقى التفاوت وقد يتصلب في فئوية لا تسمح لمبدأ المساواتية عدا الشكل بلا مقابل موضوعي يشهد على حقيقته.
مطلع القرن التاسع عشر بدء الإفتراق بين هوية تقوم على الفردانية وقد أسهبنا في بيانها، وهوية جماعاتية أبرز ما أفصحت عنه في القومية والدينية السياسية أي تعريف الجماعة بعقيدة دينية.

نظريات في الهوية والإعتراف
غالبا ما يشار إلى ورقة تايلور عام 1994 الذي لاحظ العديد من الأنشطة السياسية تعبر عن الحاجة للإعتراف او المطالبة به، وانها حركات الجماعات الثقافية. الأهمية الخاصة للإعتراف من علاقته بالهوية. ولأن الهوية تتشكل بالإعتراف أو غيابه، فإن عدم الإعتراف مؤلم هو نوع من الإضطهاد يسجن الإنسان في وجود مشوه وضئيل. يشير تايلور إلى هيغل الذي يفهم أن الهوية الفردية لا تتكون من عالمها الداخلي معزولا بل من خلال التفاعل مع الآخرين يتشكل تصور الفرد عن نفسه. أشار تايلور إلى ما بيّنا مضمونه آنفا بأن إنهيار التراتبيات التقليدية التي تضع الشرف في أفراد الفئة العليا دون سائر الناس أدى إلى التصور الحديث للكرامة، الذي إستقر على مبادئ القيمة الذاتية للكائن الأنساني غيرالقابلة للإلغاء والمساواة الكونية في إستحقاق الكرامة. المفهوم الحديث يقوم على المُثل الديمقراطية الحديثة بخلاف الشرف التقليدي الذي لا ينسجم مع الديمقراطية.

إلى جانب المساواة في الإنسانية والمواطنة يسعى الأفراد إلى التميز بالجهد لمراكمة إنجازات ثم طلب الإعتراف بالفرق وهذا يتناقض مع مبدا الإعتبار المتساوي، يستعير تعبير روسو التطلع لإعجاب المحيطين، مع نمط السلوك هذا يتآكل إستقلال الفرد. ما يخفف من وطأة التنافس للتميز إنه متاح للجميع لا شخصي ليس مثل رتب المجتمع القديم المتوارثة بإستقلال عن الممارسة. لكن هذا التبرير لا يكفي واقعيا، لا بد من تقييد التفاوت دون الحد الذي يتسبب موضوعيا في نقض المساواة في المواطنة والكرامة.

الجماعة السائدة عادة تكون مقاييسها مرجعية ومهيمنة وبذلك يصطدم التنوع بالأحادية ويعيش المجتمع الكبير واقع الهويات المقهورة. عندما يكون نموذج الإنسان أبيض، غربي، متعلم، من الطبقة الوسطى ، وثري؛ من هذه المقدمات شرح فانون كيف تتغلغل العنصرية في وعي الإنسان المقهور، ضحية العنصرية، فيحرم من الصحة النفسية لأنه يستبطن الآخِرية. ومثالها إغتراب ذوي البشرة غير البيضاء لأن العالم مُعرّف بالبياض. وقياسا على هذا نستطيع تصور أفراد المجموعات الأثنية أو الدينية عندما تستبطن نموذج الجماعة الكبيرة، وهي مشكلة التنوع في مجتمعات لم تصل إلى التعددية بعد.

أضاف أكسل هونَث الانماط الثلاثة للإعتراف: العواطف والمودة مثلما بين افراد الأسرة والأقارب والأصدقاء ويغذي الثقة بالنفس؛ النمط الثاني يسمى الحقوق يتصل بتطور المسؤولية الأخلاقية من خلال علاقاتنا الأخلاقية بالآخرين، وهو تبادلي حيث يرى الفرد نفسه عبر تفاعله مع الآخر الحامل لنفس الحقوق، من خلال علاقته بالآخر، والتنكر للحقوق بالإقصاء والتهميش الاجتماعي والقانوني يهدد إحساس الفرد بالفاعلية والإعتبار بصفته عضوا في المجتمع؛ والنمط الثالث التضامن ويقصد به الإعتراف بصفات وقدرات الفرد، وهو ضروري للتقدير الذاتي والتفرد لأن الصفات والقابليات هي التي تُعرّف الفروقات الفردية.

عدم الإعتراف يولد دوافع ومبررات الكفاح الإجتماعي عند توفر الأطر والآليات، فالتجربة العاطفية مثل الخجل والغضب والإحباط نتيجة مواقف وتصرفات الآخرين نحو الفرد أو الجماعة تولد الشعور بالإنكار غير المشروع لحق الفرد او الجماعة بالإعتراف الإجتماعي. في سياق إجتماعي معين وعندما تتوفر تسهيلات الحركة الإجتماعية تؤدي تجربة عدم الإحترام إلى نضال سياسي. صيغة النضال الإجتماعي – السياسي ترتبط بنوع الإعتراف المطلوب وتعبرعن نزوع نحو التحقيق الذاتي للرغبات والخصائص والقدرات. ويمكن أن يفهم النضال سعيا نحو حياة طيبة أو جيدة، وهذه تختلف من سياق لآخر، لا تقبل توصيفا عاما بل تابعة للعناصر البنيوية للحياة الأخلاقيةEthical التي تمكّن من النزاهة الفردية.
ترى نانسي فريزر منظور الإعتراف يستهدف الظلم الثقافي ، التهميش والإقصاء الإجتماعي والسياسي للجماعة أو حرمانها حقوقها في مزاولة ثقافتها الأثنية أو حرية العبادة وطقوسها...، وبذا يتعلق بالتقييم الإيجابي أو السلبي للهويات. والأفراد أعضاء في جماعة تشترك بنفس الأفق، المتصل، من المعاني والمعايير والقيم، بينما يعالج منظور التوزيع الظلم الإقتصادي. ولا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر وكلاهما أساسي، وتواجه الكثير من الحركات الإجتماعية معضلة الموازنة بين طلب التكافؤ الإقتصادي والإعتراف بالخصوصية الثقافية، ومع إستقلال نوعي الظلم لكن بعض الحرمان الإقتصادي له جذور ثقافية أيضا.
ومن الواضح أن تدني الدخل المكتسب والوضع المعيشي لنطاق مكاني يرتبط بتعليم منخفض وبنى تحتية ناقصة أو معدومة وبطالة. وهذه بمرور الزمن تنتج تكوين إجتماعي ينظر إليه من الخارج وكأنه ثقافة مغايرة، ويوصم ويعامل بإعتراف ناقص أو عدم إعتراف. وبذلك تتجذر مشاعر الإحساس بالظلم والتهميش ثم النزوع نحو الثورة والتمرد رغم إنتماء السكان للمجموعة الأثنية والدينية الكبيرة.
التنوع الثقافي يستدعي مفهوم الإعتراف بالضرورة، حالما نتصور شروط الحد الأدنى لشراكة إيجابية شاملة أوالحياة الطبيعية وليس مجرد التعايش السلمي في مجتمع بأكثر من جماعة دينية او اثنية. التعددية Multi في مقابل الأحادية على أنها هي حقيقة المجتمع وليس الأقرار بوجود جماعات أخرى إلى جانب جماعة وحيدة تُعرّف هوية المجتمع الكبير، وهذه ليست سهلة في بيئات إعتادت على أحادية في فهم العدالة والحقوق السياسية.
الليبرالية الكلالسيكية في أساسها لا ترى للجماعات والمجتمع الوطني أساسا وجوديا مستقلا عن الأفراد وقوامها حقوق وحريات الأفراد كائنات مستقلة، والإعتراف الليبرالي الأصلي لا يتعدى المواطن المتساوي مع أي مواطن آخر في تلك الحقوق والحريات. وبعد بروز التنوع في هويات ثقافية ، جماعات دينية و اثنية، ظهرت أطروحات ترى الليبرالية ناقصة لا تكفي للإعتراف المطلوب من الجماعات أو فيما بينها. أو ان الفردانية تجعل الليبرالية متحيزة للجماعة الكبيرة، أو الحيادية الكاذبة.
راولز وآخرون يرون الإعتراف الليبرالي يتطلب مساواة الأفراد في المكانة، أي أن المفهوم الأخلاقي للأفراد أحرارا متساوون يؤدي منطقيا إلى عضويتهم التعاونية في المجتمع ويعاملون طبقا لمبادئ العدالة، فالإعتراف هنا ينصرف الى مساواتهم التامة بصفتهم مواطنين، وهو بلغة أخرى يعادل القول لعدم الحاجة إلى زج الهويات في السياسة، تقريبا بمعنى حياد الدولة عن الهويات لتصبح ضمن الشأن الخاص بالناس أنفسهم، وهذه لا أتفق معها، وتبدو وكأنها تسوية بين الليبرالية الكلاسيكية والجماعات.
جاءت فكرة التعددية الثقافية في الخطاب السياسي المعاصر لتواكب الجدل حول كيفية تفهّم التحديات المرتبطة بالتنوع الثقافي على اساس الإختلافات الأثنية، القومية او الدينية. بدء التعبير وصفيا ثم صار معياريا Multiculturalism في مجتمعات الديمقراطية الليبرالية. وبذا صار المجتمع الوطني الكبير بيئة لثقافات عدة مثالا بديلا عن بوتقة الإنصهار النمط المعروف عبر التاريخ حيث البشر هذا الزمن في أصولهم البايولوجية لغات وأديان أخرى قبل مئات السنين، أو حتى جيلين فقط. لكن الواقع ان أغلب دول العالم انتظمت حول لغة وثقافة المجموعة الكبيرة، وفي الممارسة الإجتماعية قد لا يتمتع أفراد المجموعات الصغيرة بنفس الفرص. التسامح مع المجموعات الصغيرة بمعنى التحمل Tolerance بأن تخلي الحكومة سبيلهم أحرارا وكذلك المجتمع لا يكفي ضمانا للحياة الطيبة، المطلوب ما يسمى " حق الجماعة في الإختلاف". سياسات الهوية، أو سياسات الفرق بمعنى ما يميز الجماعة، وسياسة الإعتراف هذه مترابطة، ويتصل بها معالجة الاساس السياسي للضعف الإقتصادي والتهميش.
في تجاوز الليبرالية الفردانية ثمة تصور للهويات الجماعية بأنها كلية Holist أنطولوجيا بمعنى الجماعة ذاتها لها وجود حقيقي أصيل مستقل عن أفرادها. ويرى تايلور، المذكور آنفا احد منظري الإعتراف للجماعات، مشيرا إلى روسو وهردر وهيغل أن الفاعل الإنساني لا يبلغ كماله ولا يستطيع تعريف هويته بمعزل عن الآخرين. نراهم فينا، نحاورهم وأحيانا نكافح ضدهم، ولذلك نحتاج لإعترافهم وهو وصف للإنسان العياني، كما أرى، اكثر من تنظيراً. غياب الإعتراف أو الإعتراف الناقص يسبب الآما ومعاناة وتشويه وجدان من يزدريه المحيط المجتمعي، ويقدم له صورة سيئة عن نفسه، وهو ظلم لا بد أن يُقاوَم من أجل الكرامة والإحترام الذاتي.

الليبرالية والإعتراف بالجماعات
في سياق النقد الجماعاتي للمنظور الليبرالي قدم كيمليكا Kymlicka أطروحة أخرى تجمع بين القيم الليبرالية في الإستقلال والمساواة مع قيمة العضوية الثقافية لأنها شرط ضروري للإستقلال الشخصي فهي خير أساسي يفترض بكل شخص عقلاني الرغبة فيها. ومن شروط الإستقلال ان يكون لدى الشخص مدى مناسب للإختيارات وتهيئ الثقافات سياقات للإختيارات يتابع الأفراد أهدافهم من خلالها. كما للعضوية الثقافية دور مهم في الهوية الذاتية، إذ تقدم للناس مثبتاً للتمييز الذاتي وتؤمّن إنتماءاً أمنا بلا جهد، ما يبيّن الإرتباط العميق والعام بين الإحترام الذاتي للشخص والإحترام الذي يُمنح للمجموعة الثقافية التي ينتمي إليها.
بما أن الأفراد لا يختارون وضع الإبتداء، يولد لاسرة غنية او فقيرة من جماعة كبيرة مهيمنة إجتماعيا او اقلية ضعيفة، لذا لا يتحملون المسؤولية عن خط الشروع، ولذا يستحق المتضرر منهم التعويض حسب مبدأ يسمى مساواتية الحظ، وهذا مما تبناه راولز في نظريته للعدالة الإجتماعية. ولذلك يستحق من يولد لأسرة فقيرة دعم ومساندة جماعية من خلال نظام إعادة التوزيع، بنفس المنطق لا بد من مساعدة المجتمع الكبير متمثلا بالدولة لأبناء الأقليات أو الجماعات الضعيفة كي لا يختلف الأفراد في حرية تمتعهم في مزاولة ثقافتهم، وهو سبب رعاية الحكومة للأقليات.
الرعاية الخاصة للأقليات تطلب لأن قوانين منع التمييز لا تكفي، إذ يلاحظ في مجتمعات التنوع الثقافي ورغم تحريم الدولة للتمييز العنصري والديني لكنها تعتمد لغة رسمية رئيسية ولها طابع ثقافي بحكم هيمنة الجماعة الكبرى، ما يستدعي فعلا إتخاذ تدابير لإنصاف الأقليات في مقابل هذا التحيز الذي يمليه الواقع دون تعمد الدولة. الرعاية الخاصة للأقليات تطلب لأن قوانين منع التمييز لا تكفي، إذ يلاحظ في مجتمعات التنوع الثقافي ورغم تحريم الدولة للتمييز العنصري والديني لكنها تعتمد لغة رسمية رئيسية ولها طابع ثقافي بحكم هيمنة الجماعة الكبرى، ما يستدعي فعلا إتخاذ تدابير لإنصاف الأقليات في مقابل هذا التحيز الذي يمليه الواقع دون تعمد الدولة.
الحرية تعني التحرر من الهيمنة بكافة أشكالها، ولا يكفي عدم التدخل الصريح دليلا على الحرية وهو التعريف السلبي لها، ولا يعوض هذا الحق في الحرية المعاملة اللطيفة من القوي للضعيف. وتتأكد الحاجة إلى التحرر من الهيمنة مع الإذلال التاريخي للجماعة إلى حد الشعور بالنقص تجاه موروثاتهم المعتقدية والثقافية. والتظاهر أمام الأقوياء بتمثل قيمهم وهذه من بشاعات الهيمنة عندما يظطر الإنسان التعود على شخصية خارجية بخلاف حقيقته في الداخل، والتي تدل على الحرمان من الإعتراف بصفة دائمة تعاقبتها الأجيال.
طلب الإعتراف ليس مشروعا دائما والمشروعية تعتمد على منظومة القيم المرجعية، ونضرب مثلا لهذا طلب مجموعة البيض في جنوب أفريقيا، سابقا، من العالم والأفارقة الإعتراف بحقهم في التميز على سواهم وحكم الآخرين، وان الفصل العنصري لا ضير فيه. ويتصل بهذا، ايضا، أن الإحتجاجات والحركات الإجتماعية ليست جميعها مشروعة، والإعتراف في هذا السياق لا يعني المصادقة على ما يريده الفرد أو تطلبه الجماعة بل إقرار ما لهم من حقوق. ويبقى هذا المبدأ صحيحا حتى مع الإختلاف في تعريف الحق، وبخلاف ذلك تتعذر إقامة الإجتماع الإنساني.
وبذا لا يصل الأمر بنظرية الإعتراف إضفاء الشرعية والترويج لقبول إجتماعي لحركات عنصرية أو قومية متطرفة على أساس انهم جماعات ثقافية لهم الحق في مزاولة ما يعتقدون. فقد يغضب المرء دون سبب وجيه، ولذا فما يشعر به الفرد وإن يبدو أخلاقيا في نظره قد لا يكون كذلك، ولهذا لا بد من معيارية مستقلة بقدر عن الفرد او الجماعة لتقييم مشروعية طلب الإعتراف. المجموعة الناشطة من أجل التغيير لا بد لها من تبرير طلبها، وبذا يزاوَل الكفاح من أجل الإعتراف عبر المصادقة المعيارية من ألاخرين، ويتوقف الأمر على إقرارهم بشرعية الطلب بغض النظر عما يُطلَب، ودون ممارسة العنف تجاه من يتجه إليهم الطلب.
لقد بينت الوقائع ودراسات تجريبية ان تأييد مطلب مجموعة ثقافية او حركة إجتماعية لا يعتمد على وجاهة أو مشروعية المطلب بل يستند في كثير من الأحيان إلى الموقف من تلك الجماعة أو الحركة فيما إذا كانت هي ذاتها مشروعة أم لا في نظر ألاخرين. وهي عقبة أخرى في طريق العدالة خاصة في بيئة مسكونة بالتحيز العنصري والديني. وهذه ظاهرة معروفة في شبكات التواصل الإجتماعي والمقالات السياسة وفي مواقف حكومية رسمية. فالموقف من الظلم الذي تتعرض له الجماعة يتأثر بالصورة المرسومة في أذهان أفراد الجماعات الأخرى عنها او توصيفها في الثقافة السائدة.
كلمة في البعد الدولي


الجغرافية البشرية في عالم الكرة الأرضية صارت متصلة عبر حدود الدول متفاعلة، حتى غدا العالم مكانا واحدا واصبح التنوع الثقافي للناس حاضرا بقوة بحكم التواصل الفوري، ونشأت حاجة حقيقية للإعتراف المتبادل ما بين الجماعات الدينية والأثنية على مستوى العالم، لا تقل أهميتها للسلام والإزدهار عن الإعتراف المتبادل بإستقلال الدول وتكافؤ السيادة فيما بينها. وقد بينت التجربة في المشرق وما حوله كيف أن الإعتراف المتبادل ما بين الطوائف الدينية والقومية في الدولة الواحدة لا يكفي إن لم يكن ذلك الإعتراف عابرا للحدود لأن الفضاءات الثقافية متصلة وكذلك التعبئة التناحرية والإحترام والإزدراء وموارد العنف.
ولا بأس في إيضاح المسألة بمثال من ثلاث دول وثلاث طوائف: في الأولى الطائفة س فقط ؛ وفي الثانية س و ص ؛ وفي الثالثة س وص و ع. الدولة الأولى لا يهمها سياسيا رعاية س لخطاب إزدراء وكراهية تجاه ص وع ؛ الدولة الثانية تتضرر من سياسة الدولة الأولى تجاه ص ولكنها تتسامح مع موقف س من ع ؛ والدولة الثالثة تتضرر من سياسة الدولتين. وعندما تمعن النظر في خارطة الجماعة الثقافية وتلاحظ إدامة تشويه الآخر او الآخرين والتحريض على معاداتهم تجد مركزاً في مكان ما هو الرافد الرئيس. وقس على ذلك يوميات العلاقة بين المسلمين وسواهم في مجتمعات اوربا؛ وفيما بين الغرب، الناس والثقافة، والمسلمين في كل مكان.
الدولة الممثلة للجماعة الوطنية ، للشعب صاحب السيادة، لها حق لا يجادل في إعتراف جميع الدول الأخرى بها على أساس التكافؤ. هذا المبدأ في صميم الأخلاق الضرورية لنظام سياسي دولي آدمي، وليس غابة وحوش تطورت قدراتها على الإفتراس بعقول أداتية . هذه الوحشية الذكية شعوب المشرق أولى الناس بإدانتها ورفضها، وسوف لن تخسر بل تحفظ حقها الطبيعي في الأمن والإستقلال والكرامة.
في الخنام
لاحظنا كم ان الوضعية الساذجة بمنهجية العقلانية الأداتية أساءت إلى الإنسان إذ جردته من الدوافع العليا ورهافة الحس الأخلاقي حتى أن اسمى مواقف الدفاع عن الحقوق الطبيعية توصف بالحماقة. وفق ذلك المنهج، بمختلف مدارسه، الإنسان حيوان عاقل يستخدم هذه الملكة للتنسيق بين غرائزه لإرضائها، ما يميزه عن الحيوانات أنها تحيا بغرائز طليقة بينما الإنسان لديه مركز يحاول التدخل في نشاطها يوصف بالعقلانية الأداتية. عرضت الورقة تصورات أخرى للإنسان بينت اصالة نبله وشغفه بالمثل العليا ودفاعه عن الحق والكرامة.
في النظرية السياسة، خاصة ما بعد الحرب الباردة، يستند مطلب الإعتراف نيابة عن الجماعات الثقافية بصفتها هويات إلى عدم كفاية النموذج الليبرالي التقليدي، الذي يقوم على أفراد متساوون في المواطنة والحقوق والحريات. لأن وعي الأفراد في الإنتماء إلى جماعة دينية أو اثنية مع الديمقراطية المعروفة بالشرعية العددية قد يجعل الليبرالية منحازة إلى الجماعة الأكبر، ما يؤدي إلى تمايز بين أفراد المجموعة الكبيرة والجماعات الأخرى بحيث لا تتحقق مبادئ المساواتية على أفضل وجه.
هذا الموقف على قدر من الإلتباس والوجاهة، فإن كان النظام السياسي يؤمّن في الدستور والتشريعات الحرية التامة للإفصاح عن الهوية الأثنية والدينية في اللغة والعبادات والطقوس وكافة صور التعبير عن الذات الجماعية فقد تحقق الإعتراف من طرف الدولة بما يكفي إحساس الفرد بالكرامة من جهة إنتمائه إلى جماعته الدينية أو القومية أو أيا كانت. مع مثل هذه الترتيبات وعندما تخضع التشريعات والإدارة العامة إلى مبدأ المواطنة المتساوية لا تبقى للخوف من التحيز حجة.

مصادر ذات علاقة
Busbridge, Rachel, Multicultural Politics of Recognition and Postcolonial Citizenship: Rethinking the Nation, Routledge, 2018.
Fukuyama, Francis, Identity: the Demand for Dignity and the politics of resentment, Farrar, Straus and Giroux , New York.
Ye, Shanhai, Psychological Exploration of Student Identity Recognition and Academic Adaptation in a Multicultural Context, SHS Web of Conferences 200, 02037 (2024).
Kaya, Ibrahim, Identity Politics: The Struggle for Recognition´-or-Hegemony?, East European Politics and Societies 2007 21 704.
Taylor, Charles, et al, Multiculturalism: Examining the Politics of Recognition, Princeton University Press, 1994.
Skorupka, Alfred, A Critical Look at at Francis Fukuyama’s Concept of thymos, Silesian University of Technology 2020,doi: 10.31648/hip.5549.
McQueen, Paddy , Social and Political recognition, Internet encyclopedia of Philosophy.
Smith, Nicholas H., Multiculturalism and Recognition, nicksmithphilosophy.com/wp-content/uploads/2021/05.
Multiculturalism, Stanford Encyclopedia of Philosophy, October, 2024.



#أحمد_إبريهي_علي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة العقد الإجتماعي وأفكار أخرى
- فلسفة الليبرالية السياسية في مراجعة موجزة
- إطلالة على فلسفة العدالة الإجتماعية
- نظرة إلى السياسة ونظام الإقتصاد في العراق
- كلمة حول النظام السياسي الدولي وعجزه عن حفظ السلام
- الإقتصاد الأمريكي والسياسة الدولية: حقائق وملاحظات موجزة
- إشارة إلى تفاوت الرفاه وإعادة التوزيع ومبدأ العدالة
- هل هذه المجتمعات دون الحداثة وليست مؤهلة للنظام المعاصر: مرا ...
- الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر: لمحة في بيانات إ ...
- المسلمون ونزاع الهويات: رأي على هامش الأحداث
- النفط ومستقبل الوقود الأحفوري
- المشاريع العامة والتجهيزات: خلل في التنظيم والإدارة
- الواجب الأول في السياسة تأكيد إستقلال وسيادة العراق
- إعادة تنظيم أجهزة الدولة في العراق
- التمويل الحكومي للقطاع الخاص: مصارف التنمية في ضوء التجربة ا ...
- الإ ئتمان والخدمات المصرفية للمالية العامة وإعادة تنظيم المص ...
- الإستثمار العام وفجوة البنى التحتية في العراق
- عود على بدء: الإحتياطي الفدرالي لم يُذكَر في قرار مجلس الأمن ...
- لا بد من تأكيد حق العراق في إدارة إحتياطياته الدولية بحرية ت ...
- إيضاح حول مقال إستلام إيرادات النفط


المزيد.....




- دينيس فيلنوف يقود أولى مغامرات جيمس بوند تحت راية أمازون
- لماذا فشلت إسرائيل في كسر إيران؟
- انقسام في الكونغرس بعد أول إفادة بشأن ضرب إيران
- البيت الأبيض لخامنئي: -عليك أن تحفظ ماء وجهك-
- اثنتا عشر قنبلة على فوردو : كيف أنقذت إيران 400 كغ من اليورا ...
- بعد -نصر- ترامب في الناتو: أي مكانة لأوروبا في ميزان القوى ا ...
- الاتحاد الأوروبي يدعو لـ-وقف فوري- لإطلاق النار في غزة وإسبا ...
- كريستيانو رونالدو يواصل اللعب في النصر حتى 2027
- -نرفض حصول إيران على سلاح نووي-.. القمة الأوروبية: ندعو لفرض ...
- البيت الأبيض يتّهم خامنئي بمحاولة -حفظ ماء الوجه-


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد إبريهي علي - الدوافع العليا، طلب الإعتراف والسياسة: أفكار وتداعيات