أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟















المزيد.....



إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟


اسحق قومي
شاعرٌ وأديبٌ وباحثٌ سوري يعيش في ألمانيا.

(Ishak Alkomi)


الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 00:15
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


إعدادُ الباحِثِ السُّوريِّ: إسحقُ قوميّ
٢٠ / ٦ / ٢٠٢٥ م
المحاور
١ مَعنى السُّقوطِ البَشَريِّ: صُوَرُهُ، أسبَابُهُ، ونتائِجُهُ.
٢ كيفَ تَعامَلَتِ الحضاراتُ، والدياناتُ، والفكرُ الإنسانيُّ مَعَ السُّقوطِ؟
٣ آليّاتُ النُّهوضِ بَعدَ السُّقوطِ: عِلميَّةٌ، نَفسيَّةٌ، رُوحيَّةٌ، واجتِماعيَّةٌ.
٤ خُطَطٌ عَمَليَّةٌ لإعادةِ بِنَاءِ الذاتِ بَعدَ السُّقوطِ.
٥ دَورُ المُجتَمَعِ والدَّاعِمينَ في مَساعَدَةِ مَن يَسقُطُونَ.
٦ تَحدِّياتُ النُّهوضِ في العَصرِ الحَديثِ: كَيفَ نُواجِهُ الضُّغوطَ الاقتصاديَّةَ، والرَّقميَّةَ، والنَّفسيَّةَ؟
٧ الخُلاصَةُ والرُّؤيَةُ المُستَقبليَّةُ: فَلسَفَةُ النُّهوضِ المُستَدَامِ.

الأهداف
١ تَحديدُ مَعنى السُّقوطِ البَشَريِّ وأشكالِهِ المُختَلِفَةِ.
٢ تَقديمُ قِراءةٍ فِكرِيَّةٍ وتَاريخيَّةٍ حولَ مَواقِفِ الإنسانِ والمُجتَمَعِ من السُّقوطِ.
٣ وَضعُ آليَّاتٍ ونَماذِجَ عَمَليَّةٍ للنُّهوضِ بَعدَ السُّقوطِ.
٤ تَسليطُ الضَّوءِ على دَورِ المُجتَمَعِ والدَّاعِمينَ في دَعمِ البَداياتِ الجَديدةِ.
٥ تَقديمُ رُؤيَةٍ مُستَقبليَّةٍ تَهدِفُ إلى بِنَاءِ حَياةٍ مُتجدِّدَةٍ ومُتَّزِنَةٍ.

المناهج
١ المنهَجُ التَّاريخيُّ: لِدِراسةِ تَجارِبِ السُّقوطِ والنُّهوضِ عَبرَ العُصورِ.
٢ المنهَجُ الفِلسفيُّ النَّقديُّ: لِتحليلِ مَعنى السُّقوطِ والنُّهوضِ ومُناقَشةِ الرُّؤى الفِكرِيَّةِ.
٣ المنهَجُ العِلميُّ النَّفسيُّ: لِدِراسةِ آليَّاتِ التَّعافي النَّفسيِّ والاجتِماعيِّ.
٤ المنهَجُ المُقارِنُ: لِمُقارَنَةِ تَجارِبِ الشُّعوبِ والثَّقافاتِ في مَواقِفِها مِنَ السُّقوطِ والبَداياتِ الجَديدةِ.
المقدمة
إنَّ السُّقوطَ، بوَجهَيْهِ الواقعيِّ والمجازيِّ، يُعَدُّ من أعقدِ وأخطرِ الظواهرِ الوجوديَّةِ في حياةِ الإنسانِ. فهوَ ليسَ مجرَّدَ عثرةٍ عابرةٍ، أو لحظةِ ضعفٍ عابرةٍ، بل هوَ انكسارٌ قد يطاولُ أعماقَ النفسِ والروحِ والعقلِ، ويُهدِّدُ الكيانَ الإنسانيَّ في صميمِهِ. وإنَّ الإنسانَ الذي يَسقُطُ يَجدُ نَفسَهُ أمامَ سؤالٍ مصيريٍّ مُلحٍّ: إذا سَقَطتُ، كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟
تتجلّى إشكاليَّةُ هذا البحثِ في السَّعيِ للإجابةِ عن هذا التساؤلِ الجوهريِّ، وفي تحليلِ معنى السُّقوطِ، وصُوَرِهِ، وأسبابِهِ، ونتائجِهِ، وفي البحثِ عن الآليَّاتِ والوسائلِ الكفيلةِ بمساعدةِ الإنسانِ على النُّهوضِ، وإعادةِ بناءِ ذاتهِ، وبَسطِ طريقِهِ إلى حياةٍ جديدةٍ، مفعمةٍ بالكرامةِ والفاعليَّةِ.
ويَهدِفُ هذا البحثُ إلى تحقيقِ مجموعةٍ من الأهدافِ، في مقدِّمتِها: تحديدُ معنى السُّقوطِ البشريِّ، وبيانُ صُوَرِهِ، وأسبابِهِ، ونتائجِهِ. كما يهدِفُ إلى دراسةِ مواقفِ الحضاراتِ والدياناتِ والفكرِ الإنسانيِّ من السُّقوطِ والنُّهوضِ، وتحليلِ الآليَّاتِ العلميَّةِ، والنفسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ، والروحيَّةِ للنُّهوضِ، واقتراحِ خططٍ عمليَّةٍ قابلةٍ للتطبيقِ، مع إبرازِ دَورِ المجتمعِ والداعمينَ في دعمِ من يسقطونَ، وصولًا إلى تقديمِ رؤيةٍ فلسفيَّةٍ مستقبليَّةٍ للنُّهوضِ المستدامِ.
وسيَعتمِدُ البحثُ لتحقيقِ أهدافِهِ على جملةٍ من المناهجِ العلميَّةِ المتكاملةِ، إذ سيتناولُ المنهجُ التاريخيُّ دراسةَ تجاربِ السُّقوطِ والنُّهوضِ في الحضاراتِ المختلفةِ، واستجلاءَ كيفيَّةِ تعاطي المجتمعاتِ مع هذه الظاهرةِ في الماضي والحاضرِ. وسيُوظِّفُ المنهجُ الفلسفيُّ النقديُّ لتحليلِ مفهومي السُّقوطِ والنُّهوضِ، وتفكيكِ الرؤى الفلسفيَّةِ حولَهُما، ومناقشةِ تصوُّراتِ الفلاسفةِ والمفكِّرينَ في هذا الشأنِ. كما سيَستندُ إلى المنهجِ العلميِّ النفسيِّ لاستكشافِ الآليَّاتِ النفسيَّةِ والبيولوجيَّةِ المساعدةِ على التعافي، وتجاوزِ الأزماتِ، وإعادةِ البناءِ. وسيُعتمَدُ المنهجُ المقارنُ في مقارنةِ تجاربِ الشعوبِ والثقافاتِ، لاستخلاصِ الدروسِ والعبرِ ذاتِ الطابعِ العالميِّ.
وسيعالجُ البحثُ محاورَهُ السبعةَ على النحوِ الآتي:
في المحورِ الأوَّلِ، سيتمُّ تحديدُ معنى السُّقوطِ البشريِّ، وتحليلُ صُوَرِهِ، وأسبابِهِ، ونتائجِهِ، وذلكَ من منظورٍ فلسفيٍّ ونفسيٍّ واجتماعيٍّ.
وفي المحورِ الثاني، ستُدرَسُ مواقفُ الحضاراتِ، والدياناتِ، والفكرِ الإنسانيِّ من ظاهرةِ السُّقوطِ والنُّهوضِ، بالاستنادِ إلى المنهجِ التاريخيِّ والمقارنِ.
وفي المحورِ الثالث، ستُحلَّلُ الآليَّاتُ العلميَّةُ، والنفسيَّةُ، والاجتماعيَّةُ، والروحيَّةُ التي تُمكِّنُ الإنسانَ من النهوضِ، مستخدِمًا المنهجَ العلميَّ النفسيَّ والمقارنَ.
وفي المحورِ الرابع، ستُقدَّمُ خططٌ عمليَّةٌ لإعادةِ بناءِ الذاتِ بعدَ السُّقوطِ، مستخلَصَةٌ من تجاربَ علميَّةٍ وإنسانيَّةٍ موثوقةٍ.
وفي المحورِ الخامس، سيتناولُ البحثُ تحليلَ دَورِ المجتمعِ والداعمينَ في تيسيرِ البداياتِ الجديدةِ، وفقَ المنهجِ الاجتماعيِّ والمقارنِ.
وفي المحورِ السادس، ستُناقَشُ التحدياتُ المعاصرةُ التي تُواجهُ النُّهوضَ، مثلُ الضغوطِ الاقتصاديَّةِ، والرقميَّةِ، والنفسيَّةِ، وسبلِ مواجهتِها، من منظورٍ علميٍّ واجتماعيٍّ.
وفي المحورِ السابع، ستُطرَحُ رؤيةٌ فلسفيَّةٌ مستقبليَّةٌ للنهوضِ المستدامِ، تستندُ إلى خلاصةِ المناهجِ والرؤى المطروحةِ.
إنَّ هذا البحثَ يسعى لأن يكونَ إسهامًا علميًّا وفكريًّا عمليًّا، يُقدِّمُ للإنسانِ الذي عانى السُّقوطَ أو يخشى الوقوعَ فيهِ، خارطةَ طريقٍ تُعينُهُ على النهوضِ، وترشدهُ إلى بناءِ حياةٍ جديدةٍ تقومُ على الوعيِ، والعملِ، والكرامةِ، والأملِ.

المحور الأول:
مَعنى السُّقوطِ البَشَريِّ: صُوَرُهُ، أسبَابُهُ، ونتائِجُهُ
إنَّ السُّقوطَ البشريَّ يُشيرُ إلى الحالةِ التي يفقِدُ فيها الإنسانُ توازنَهُ الداخليَّ أو موقعَهُ الاجتماعيَّ أو الأخلاقيَّ أو المِهنيَّ، إمَّا بفعلِ تقصيرٍ أو خطأٍ أو بفعلِ ظروفٍ قاهرةٍ تتجاوزُ قُدراتِهِ الذاتيَّةَ. والسُّقوطُ لا يعني بالضرورةِ الانهيارَ النهائيَّ، بل هو لحظةٌ فارقةٌ تُحدِّدُ مسارَ الإنسانِ إمَّا نحوَ النهوضِ أو نحوَ التلاشي والانطفاءِ.
السُّقوطُ قد يكونُ ماديًّا حين يفقدُ الإنسانُ مالَهُ أو عملَهُ أو مصدرَ رزقِهِ، وقد يكونُ أخلاقيًّا حين يَنزلقُ إلى دروبِ الخطايا أو الانحرافِ السلوكيِّ، وقد يكونُ اجتماعيًّا حين يفقدُ مكانتَهُ أو احترامَ الآخرينَ، أو نفسيًّا حين ينهارُ أمامَ الأزماتِ والتحدياتِ فيُصابُ باليأسِ أو الاكتئابِ. وقد يكونُ روحيًّا حين يفقدُ صلتَهُ بمبادئِهِ أو إيمانِهِ أو قِيَمِهِ العليا.
صُوَرُ السُّقوطِ
١ السُّقوطُ الأخلاقيُّ: مثلُ سقوطِ القائدِ في الفسادِ أو الخيانةِ.
٢ السُّقوطُ الماديُّ: مثلُ إفلاسِ التاجرِ أو خسارةِ العاملِ مصدرَ رزقِهِ.
٣ السُّقوطُ النفسيُّ: مثلُ استسلامِ الإنسانِ لليأسِ أو القنوطِ بعدَ صدمةٍ كبيرةٍ.
٤ السُّقوطُ الاجتماعيُّ: مثلُ نبذِ المجتمعِ لإنسانٍ فقدَ احترامَهُ نتيجةَ سلوكٍ مُشينٍ.
٥ السُّقوطُ الروحيُّ: مثلُ تخلِّي الإنسانِ عن إيمانِهِ أو قِيَمِهِ في مواجهةِ المِحنِ.
أمثلة
سُقوطُ القائدِ الفرنسيِّ نابليون بونابرتَ بعدَ معركةِ واترلو، إذ فقدَ عرشَهُ ومكانتَهُ بعدَ أن كانَ إمبراطورًا.
السُّقوطُ الأخلاقيُّ لبعضِ الشخصيَّاتِ في التاريخِ، مثلُ سقوطِ بعضِ الحكّامِ في الظلمِ والفسادِ، كمصيرِ نيرونَ الإمبراطورِ الرومانيِّ.
السُّقوطُ النفسيُّ لعددٍ من الكتّابِ والفنانينَ الذينَ لم يتحمَّلوا صدماتِ الحياةِ، كمثالِ الشاعرِ الفرنسيِّ شارل بودليرَ.
السُّقوطُ الماديُّ لرجلِ الأعمالِ الأميركيِّ هنري فوردَ في بداياتِهِ حين أفلسَ قبلَ أن يُعيدَ بناءَ مشروعِهِ.
أسبابُ السُّقوطِ
١ أسبابٌ ذاتيَّةٌ: كالغُرورِ، أو الجهلِ، أو الطموحِ غيرِ المدروسِ، أو التهورِ.
٢ أسبابٌ خارجيَّةٌ: كالحروبِ، أو الأزماتِ الاقتصاديَّةِ، أو الكوارثِ الطبيعيَّةِ.
٣ أسبابٌ اجتماعيَّةٌ: كخيانةِ المحيطِ، أو الظلمِ، أو النبذِ.
٤ أسبابٌ نفسيَّةٌ: كالعجزِ عن التكيُّفِ، أو ضعفِ الإرادةِ.
نتائجُ السُّقوطِ
تتنوَّعُ نتائجُ السقوطِ تبعًا لنوعِهِ وعمقِهِ، ومنها:فقدانُ الثقةِ بالنفسِ.
تدهورُ المكانةِ الاجتماعيَّةِ.الانهيارُ الاقتصاديُّ.ضياعُ القيمِ والمبادئِ.
دخولُ الإنسانِ في دوامةِ اليأسِ أو الانعزالِ.
ومعَ ذلكَ، فإنَّ السُّقوطَ قد يكونُ فرصةً لإعادةِ النظرِ في الذاتِ، وإعادةِ البناءِ على أسسٍ أكثرَ متانةً.
خاتمةُ المحورِ
يتبيَّنُ ممَّا سبقَ أنَّ السُّقوطَ البشريَّ ظاهرةٌ مُعقَّدةٌ متعدِّدةُ الأبعادِ، تتداخلُ فيها العواملُ النفسيَّةُ، والاجتماعيَّةُ، والاقتصاديَّةُ، والروحيَّةُ. ولا يُمكنُ فهمُ السقوطِ فهمًا كاملًا إلَّا باستقراءِ أسبابِهِ وصورِهِ ونتائجِهِ في ضوءِ تجاربِ الأفرادِ والشعوبِ. وهوَ ما يُشكِّلُ مدخلًا ضروريًّا لدراسةِ كيفيَّةِ النهوضِ من جديدٍ، وبناءِ حياةٍ متجدِّدةٍ تقومُ على الوعيِ والعزيمةِ والعملِ.
المحور الثاني:
كيفَ تَعامَلَتِ الحضاراتُ، والدياناتُ، والفكرُ الإنسانيُّ مَعَ السُّقوطِ
إنَّ الحضاراتِ البشريَّةَ، والدياناتِ، والفكرَ الإنسانيَّ قد أولَتْ مسألةَ السُّقوطِ عنايةً كبرى، لأنَّهُ ظاهرةٌ مُلازِمةٌ لمسارِ الإنسانِ عبرَ العصورِ. وقد اختلفتِ المقارباتُ بينَ حضارةٍ وأخرى، وبينَ دينٍ وآخرَ، وبينَ مدرسةٍ فلسفيَّةٍ وأخرى، غيرَ أنَّ المشتركَ الأكبرَ كانَ الاعترافَ بأنَّ السُّقوطَ جزءٌ من التجربةِ الإنسانيَّةِ، وأنَّ النهوضَ بعدَهُ هو التحدِّي الحقيقيُّ.
في الحضاراتِ القديمةِ، مثلَ الحضارةِ المصريَّةِ القديمةِ، ارتبطَ السُّقوطُ بالخطيئةِ أمامَ الآلهةِ، وكانَ يُنظَرُ إليهِ كمظهرٍ من مظاهرِ اختلالِ التوازنِ الكونيِّ، ويُعالَجُ من خلالِ الطقوسِ، والكفّاراتِ، واستعادةِ النظامِ المقدَّسِ. وفي حضارةِ ما بينَ النهرينَ، ظهرَ السُّقوطُ في الملاحمِ، كما في ملحمةِ جلجامش، حيثُ عانى البطلُ سقوطَهُ أمامَ الموتِ والضعفِ البشريِّ، وبحثَ عن سرِّ الخلودِ بوصفِهِ شكلًا من أشكالِ النهوضِ.
وفي الحضارةِ اليونانيَّةِ، كانَ السُّقوطُ يُعَدُّ نتيجةً للتَّجاوزِ أو الغُرورِ، كما في المآسي الإغريقيَّةِ التي تناولتْ مصائرَ الأبطالِ الذينَ دفعوا ثمنَ تجرُّئِهِم على القَدَرِ أو الآلهةِ. وكانَ النهوضُ يتمثَّلُ في التَّطهُّرِ عبرَ الألمِ أو الاعترافِ بالخطأِ.
أمَّا الدياناتُ السماويَّةُ، فقد عالجتِ السُّقوطَ بوصفِهِ لحظةَ اختبارٍ وفرصةً للتوبةِ والعودةِ إلى اللهِ. ففي اليهوديَّةِ، يُمثِّلُ سقوطُ آدمَ وحوَّاءَ أوَّلَ سقوطٍ بشريٍّ، لكنهُ كانَ بدايةَ علاقةٍ جديدةٍ بينَ اللهِ والإنسانِ قائمةٍ على العهدِ والتكفيرِ. وفي المسيحيَّةِ، السُّقوطُ هو الخطيئةُ الأولى التي جاءَ المسيحُ ليخلِّصَ البشريةَ منهاَ، ويُعيدَ إليها النعمةَ والفداءَ، ويرتبطُ النهوضُ بالفعلِ الإيمانيِّ الصادقِ والنعمةِ الإلهيَّةِ. وفي الإسلامِ، يُعَدُّ السُّقوطُ فرصةً للتوبةِ والاستغفارِ، واللهُ غفورٌ رحيمٌ يقبلُ عودةَ عبدهِ متى شاءَ، وتؤكِّدُ النصوصُ القرآنيَّةُ على أنَّ الخطأَ البشريَّ قابلٌ للإصلاحِ بالتوبةِ والعملِ الصالحِ.
في الفكرِ الفلسفيِّ، اعتبرَ سقراطُ أنَّ السُّقوطَ هو نتيجةُ الجهلِ، وأنَّ النهوضَ لا يكونُ إلَّا بالمعرفةِ والفضيلةِ. ورأى أفلاطونُ أنَّ السُّقوطَ هو انحرافُ النَّفسِ عن عالمِ المثلِ، وأنَّ الخلاصَ يكمنُ في العودةِ إلى التأمُّلِ في الخيرِ الأعلى. أمَّا الوجوديَّةُ الحديثةُ، فقد تناولتِ السُّقوطَ بوصفِهِ تجربةً فرديَّةً أصيلةً تُتيحُ للإنسانِ أن يُعيدَ بناءَ ذاتِهِ من العدمِ.
أمثلة
في ملحمةِ جلجامش، يمثِّلُ البحثُ عن الخلودِ نهوضًا بعدَ السُّقوطِ في مواجهةِ الموتِ.
في مأساةِ أوديب، السُّقوطُ نتيجةُ الجهلِ بالقَدَرِ، والنهوضُ عبرَ تحمُّلِ المسؤوليَّةِ والألمِ.
في قصةِ النبيِّ يوسفَ عليهِ السَّلامُ، سقطَ في غياهبِ الجبِّ والظلمِ، لكنَّهُ نهضَ بالصبرِ والإيمانِ حتى صارَ عزيزَ مصرَ.
في حياةِ القدِّيسِ أوغسطينوس، شكَّلَ سقوطُهُ في حياةِ اللهوِ بدايةَ لتوبتِهِ ونهوضِهِ الروحيِّ.
خاتمةُ المحورِ
إنَّ الحضاراتِ، والدياناتِ، والفكرَ الإنسانيَّ قد أجمعتْ على أنَّ السُّقوطَ ليسَ نهايةً، بل هو بدايةُ طريقٍ جديدٍ نحوَ النهوضِ، بشرطِ الاعترافِ بالسقوطِ، والبحثِ عن أسبابِهِ، والعملِ على تجاوزهِ بوسائلَ روحيَّةٍ، وعلميَّةٍ، وأخلاقيَّةٍ. ويُمهِّدُ هذا الفهمُ الشموليُّ إلى تحليلِ الآليَّاتِ التي تُعينُ الإنسانَ على النهوضِ، وهو ما سيتناولهُ البحثُ في محاورهِ القادمةِ.
المحور الثالث:
آليّاتُ النُّهوضِ بَعدَ السُّقوطِ: عِلْمِيَّةٌ، نَفْسِيَّةٌ، رُوحِيَّةٌ، وَاجْتِمَاعِيَّةٌ
إِنَّ النُّهُوضَ بَعْدَ السُّقُوطِ يُشَكِّلُ التَّحَدِّيَ الأَعْظَمَ فِي حَيَاةِ الإِنْسَانِ، لِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ مِنْهُ تَجَاوُزَ آلامِ الْمَاضِي، وَالاِنْفِتَاحَ عَلَى إِمْكَانِيَّاتِ الْمُسْتَقْبَلِ. وَيَتَطَلَّبُ ذَلِكَ تَضَافُرَ عِدَّةِ آلِيَّاتٍ تَتَكَامَلُ فِيمَا بَيْنَهَا: عِلْمِيَّةٍ، وَنَفْسِيَّةٍ، وَرُوحِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، لِيَتَمَكَّنَ الإِنْسَانُ مِنْ اِسْتِعَادَةِ تَوَازُنِهِ وَبِنَاءِ ذَاتِهِ مِنْ جَدِيدٍ.
الْعِلْمِيَّةُ: تَقُومُ الآلِيَّاتُ الْعِلْمِيَّةُ عَلَى اِسْتِخْدَامِ مَا تَوَصَّلَتْ إِلَيْهِ الْعُلُومُ الْحَدِيثَةُ فِي مَجَالِ عِلْمِ النَّفْسِ، وَعِلْمِ الْأَعْصَابِ، وَعُلُومِ التَّنْمِيَةِ الْبَشَرِيَّةِ، لِوَضْعِ بَرَامِجَ عَمَلِيَّةٍ تُسَاعِدُ الْفَرْدَ عَلَى تَجَاوُزِ الْأَزَمَاتِ. وَمِنْ ذَلِكَ مِثَالًا اِعْتِمَادُ بَرَامِجِ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ، وَتِقْنِيَّاتِ التَّأَمُّلِ، وَتَمَارِينِ إِدَارَةِ الضُّغُوطِ، وَبَرَامِجِ التَّدْرِيبِ عَلَى الْمَرُونَةِ النَّفْسِيَّةِ.
النَّفْسِيَّةُ: تَقُومُ عَلَى إِدْرَاكِ الإِنْسَانِ لِذَاتِهِ، وَوَعْيِهِ بِمَصْدَرِ سُقُوطِهِ، وَقُبُولِهِ بِتَجْرِبَتِهِ دُونَ إِنْكَارٍ أَوْ رَفْضٍ، وَالْعَمَلِ عَلَى تَنْمِيَةِ إِرَادَتِهِ، وَتَعْزِيزِ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مَشَاعِرِ الذَّنْبِ وَالْهَزِيمَةِ، وَاسْتِبْدَالِهَا بِالْأَمَلِ وَالْعَزِيمَةِ.
الرُّوحِيَّةُ: تُقَدِّمُ الآلِيَّاتُ الرُّوحِيَّةُ لِلإِنْسَانِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ سُبُلِ السُّمُوِّ فَوْقَ الْأَلَمِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ التَّوْبَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالارْتِبَاطِ بِالْقِيَمِ الْعُلْيَا، وَالإِيمَانِ بِأَنَّ كُلَّ سُقُوطٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّمَةً لِلنُّهُوضِ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقُوَّةِ الْإِيمَانِ.
الاِجْتِمَاعِيَّةُ: تُشِيرُ إِلَى دَوْرِ الْبِيئَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْإِنْسَانِ: الْأَهْلِ، وَالْأَصْدِقَاءِ، وَالْمُجْتَمَعِ، وَمُؤَسَّسَاتِ الدَّعْمِ الاِجْتِمَاعِيِّ، فِي مُؤَازَرَتِهِ خِلَالَ مَرْحَلَةِ النُّهُوضِ، مِنْ خِلَالِ تَقْدِيمِ الْمُسَاعَدَةِ، وَالْمُوَاسَاةِ، وَالدَّعْمِ الْمَعْنَوِيِّ، وَإِعَادَةِ إِدْمَاجِهِ فِي مُحِيطِهِ.
أمثلة
فِي الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ: نَرَى تَطْبِيقَ بَرَامِجِ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ لِضَحَايَا الْكَوَارِثِ الطَّبِيعِيَّةِ كَمَا فِي بَرَامِجِ الصَّلِيبِ الْأَحْمَرِ وَالْهِلَالِ الْأَحْمَرِ.
فِي الْمَجَالِ النَّفْسِيِّ: نَجِدُ تَجَارِبَ الْمُقَاتِلِينَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ عَانَوْا الصَّدَمَاتِ، وَتَمَكَّنُوا مِنْ إِعَادَةِ بِنَاءِ حَيَاتِهِمْ عَبْرَ جَلَسَاتِ الْعِلَاجِ النَّفْسِيِّ وَالدَّعْمِ الْجَمَاعِيِّ.
فِي الْمَجَالِ الرُّوحِيِّ: نَجِدُ النُّهُوضَ الرُّوحِيَّ عِنْدَ شَخْصِيَّاتٍ تَارِيخِيَّةٍ مِثْلَ الْقِدِّيسِ فَرَنْسِيس الْأَسِيزِيِّ الَّذِي نَهَضَ بَعْدَ سُقُوطِهِ فِي حَيَاةِ اللَّهْوِ وَتَحَوَّلَ إِلَى رَمْزٍ لِلزُّهْدِ وَالْخِدْمَةِ.
فِي الْمَجَالِ الاِجْتِمَاعِيِّ: نَجِدُ مُبَادَرَاتِ الْمُجْتَمَعَاتِ لِإِعَادَةِ إِدْمَاجِ الْمُسَاجِينِ بَعْدَ الْإِفْرَاجِ عَنْهُمْ وَمُرَافَقَتِهِمْ فِي سَبِيلِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ.
خاتمة المحور
إِنَّ آلِيَّاتِ النُّهُوضِ بَعْدَ السُّقُوطِ تَتَطَلَّبُ مِنَ الْإِنْسَانِ جُهْدًا ذَاتِيًّا عَمِيقًا، وَتَجَاوُبًا مَعَ مَعْطَيَاتِ الْعِلْمِ، وَتَفَاعُلًا صَادِقًا مَعَ بُعْدِهِ الرُّوحِيِّ وَالاِجْتِمَاعِيِّ. وَلَا يُمْكِنُ لِأَيِّ عُنْصُرٍ مِنْ هَذِهِ الْآلِيَّاتِ أَنْ يُحَقِّقَ النُّهُوضَ بِمُفْرَدِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَكَامُلِهَا لِتَكْوِينِ مَسَارٍ فَعَّالٍ يُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْبَدْءِ مِنْ جَدِيدٍ بِقُوَّةٍ وَوَعْيٍ وَكَرَامَةٍ.
المحور الرابع:
خُطَطٌ عَمَلِيَّةٌ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الذَّاتِ بَعْدَ السُّقُوطِ
إِنَّ السُّقُوطَ، عَلَى تَعْدُّدِ أَشْكَالِهِ وَأَسْبَابِهِ، يَتَطَلَّبُ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يَضَعَ خُطَّةً عَمَلِيَّةً مَتِينَةً لِإِعَادَةِ بِنَاءِ ذَاتِهِ وَالنُّهُوضِ مِنْ جَدِيدٍ. وَهَذِهِ الْخُطَطُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ شَامِلَةً، تَجْمَعُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ الْوَاضِحَةِ، وَالْخَطَوَاتِ الْمُنَظَّمَةِ، وَالْمُرَاجَعَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَتَتَكَيَّفُ مَعَ ظُرُوفِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَوَاقِعِهِ.
أَوَّلًا: تَحْلِيلُ مَكَامِنِ السُّقُوطِ وَالتَّعَرُّفُ عَلَى أَسْبَابِهِ بِصِدْقٍ وَوُضُوحٍ، وَذَلِكَ بِاسْتِخْدَامِ أَدَوَاتِ التَّحْلِيلِ الذَّاتِيِّ، وَأَحْيَانًا بِمُسَاعَدَةِ الْمُخْتَصِّينَ، كَالْمُرْشِدِينَ النَّفْسِيِّينَ أَوِ الْمُدَرِّبِينَ.
ثَانِيًا: وَضْعُ أَهْدَافٍ وَاضِحَةٍ وَقَابِلَةٍ لِلْتَّحْقِيقِ، وَتَجْزِئَتُهَا إِلَى خُطُوَاتٍ صَغِيرَةٍ مَرْحَلِيَّةٍ، مَعَ تَحْدِيدِ زَمَنٍ لِتَحْقِيقِ كُلِّ خُطْوَةٍ.
ثَالِثًا: تَعَلُّمُ مَهَارَاتٍ جَدِيدَةٍ، أَوْ تَطْوِيرُ مَهَارَاتٍ سَابِقَةٍ، لِتَدْعَمَ مَسَارَ النُّهُوضِ وَتُقَوِّي الْإِحْسَاسَ بِالْكِفَايَةِ وَالثِّقَةِ.
رَابِعًا: تَطْبِيقُ مَبْدَإِ التَّقْيِيمِ الْمُسْتَمِرِّ، بِمُرَاجَعَةِ مَا تَمَّ تَحْقِيقُهُ، وَتَحْدِيثِ الْخُطَّةِ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْوَاقِعِ الْجَدِيدِ.
خَامِسًا: الاِسْتِفَادَةُ مِنَ التَّجَارِبِ السَّابِقَةِ، وَتَجَارِبِ الآخَرِينَ، وَذَلِكَ مِنْ خِلَالِ الْقِرَاءَةِ، أَوِ الْحِوَارِ مَعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَاضُوا تَجَارِبَ نُهُوضٍ نَاجِحَةٍ.
سَادِسًا: الاِسْتِعَانَةُ بِالدَّاعِمِينَ مِنْ أُسْرَةٍ، وَأَصْدِقَاءٍ، وَمُتَخَصِّصِينَ، وَمُؤَسَّسَاتٍ تَقَدِّمُ خَدَمَاتِ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ وَالاِجْتِمَاعِيِّ.
أمثلة
مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْوَاقِعِيَّةِ، نَجِدُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْمُدْمِنِينَ الَّذِينَ تَعَافَوْا بَدَؤُوا خُطَطَهُمْ بِتَحْلِيلِ أَسْبَابِ سُقُوطِهِمْ، وَوَضْعِ أَهْدَافٍ وَاضِحَةٍ، وَالِالْتِزَامِ بِبَرَامِجِ دَعْمٍ مُسْتَمِرَّةٍ. كَمَا نَجِدُ ذَلِكَ فِي تَجَارِبِ رِيَادِيِّي الْأَعْمَالِ الَّذِينَ أَفْلَسُوا وَعَادُوا لِيَبْنُوا مَشَارِيعَهُمْ مِنْ جَدِيدٍ، مِثْلَ تَجْرِبَةِ وَالْتِيز دِيزْنِي الَّذِي أَفْلَسَ وَخَسِرَ شَرِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَسِّسَ مَمْلَكَتَهُ الْإِبْدَاعِيَّةَ الْمَعْرُوفَةَ.
خاتمة المحور
إِنَّ الْخُطَطَ الْعَمَلِيَّةَ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الذَّاتِ بَعْدَ السُّقُوطِ تَكُونُ هِيَ الْجِسْرَ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالْأَمَلِ، وَبَيْنَ الْهَزِيمَةِ وَالنَّجَاحِ. وَتَعْتَمِدُ هَذِهِ الْخُطَطُ عَلَى الْوُضُوحِ، وَالْتَّخْطِيطِ، وَالْعَمَلِ الْجَادِّ، وَمُرَافَقَةِ الدَّاعِمِينَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى قُدْرَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِمْكَانِيَّةِ الْبِدَايَةِ الْجَدِيدَةِ وَالْبِنَاءِ الْمُتَجَدِّدِ.
المحور الخامس:
دَوْرُ الْمُجْتَمَعِ وَالدَّاعِمِينَ فِي مَسَاعَدَةِ مَنْ يَسْقُطُونَ
إِنَّ النُّهُوضَ بَعْدَ السُّقُوطِ لَا يَكُونُ مَسْؤُولِيَّةَ الْفَرْدِ وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ عَمَلِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ تَعَاوُنَ الْمُجْتَمَعِ وَتَضَامُنَ الدَّاعِمِينَ، مِنْ أُسْرَةٍ، وَأَصْدِقَاءِ، وَمُؤَسَّسَاتٍ، وَمُنَظَّمَاتٍ. فَالْمُجْتَمَعُ يُشَكِّلُ الْحَاضِنَةَ الَّتِي يَتَلَقَّى فِيهَا الْإِنْسَانُ الْمُسَانَدَةَ وَيَجِدُ فِيهَا الْفُرَصَةَ لِإِعَادَةِ الاِنْدِمَاجِ وَإِثْبَاتِ الذَّاتِ.
وَيَتَجَلَّى دَوْرُ الْمُجْتَمَعِ فِي تَقْدِيمِ الدَّعْمِ الْمَعْنَوِيِّ، وَتَقْبُلِ الْفَرْدِ بِمَا مَرَّ بِهِ مِنْ تَجْرِبَةٍ، وَتَوْفِيرِ الْفُرَصِ الْعَمَلِيَّةِ، وَتَسْهِيلِ إِعَادَةِ إِدْمَاجِهِ فِي الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ، دُونَ وَصْمٍ أَوْ تَمْيِيزٍ. أَمَّا الْأُسْرَةُ، فَلَهَا دَوْرٌ مِفْصَلِيٌّ فِي دَعْمِ الْفَرْدِ، بِتَقْوِيَةِ ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَمُؤَازَرَتِهِ نَفْسِيًّا، وَمُسَاعَدَتِهِ عَلَى التَّخَطِّي. وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِالْحِوَارِ الْمُسْتَمِرِّ، وَبِثِّ الْأَمَلِ، وَتَوْفِيرِ الْبِيئَةِ الْآمِنَةِ.
وَلَا يَقِلُّ دَوْرُ الْمُنَظَّمَاتِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ أَهَمِّيَّةً، فَهِيَ تَقُومُ بِتَوْفِيرِ بَرَامِجِ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ، وَالتَّدْرِيبِ، وَالتَّأْهِيلِ الْمِهْنِيِّ، وَإِتَاحَةِ الْفُرَصِ الْعَدْلَةِ لِإِعَادَةِ الاِنْدِمَاجِ.
أمثلة
مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْوَاقِعِيَّةِ، مَا تَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُنَظَّمَاتِ الْعَالَمِيَّةِ كَالْيُونِيسِيفِ وَالْمُنَظَّمَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ، فِي مُسَاعَدَةِ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ سَقَطُوا ضَحَايَا الْحُرُوبِ، وَفِي تَأْهِيلِهِمْ نَفْسِيًّا وَتَعْلِيمِيًّا. كَمَا نَجِدُ فِي بَرَامِجِ دَعْمِ النَّاجِينَ مِنَ الْكَوَارِثِ الطَّبِيعِيَّةِ، حَيْثُ يَتَعَاوَنُ الْمُجْتَمَعُ مَعَ الْمُؤَسَّسَاتِ لِتَجْهِيزِ سُبُلِ الْمُسَاعَدَةِ الشَّامِلَةِ. وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا، بَرَامِجُ اِسْتِيعَابِ الْمُدْمِنِينَ الْمُتَعَافِينَ وَمُرَافَقَتِهِمْ لِبِنَاءِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ.
خاتمة المحور
إِنَّ دَوْرَ الْمُجْتَمَعِ وَالدَّاعِمِينَ يُعَدُّ رَكِيزَةً أَسَاسِيَّةً فِي عَمَلِيَّةِ النُّهُوضِ بَعْدَ السُّقُوطِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَخْلُوقٌ اِجْتِمَاعِيٌّ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِيدَ بِنَاءَ ذَاتِهِ دُونَ سَنَدٍ. وَتَبْقَى الْمُجْتَمَعَاتُ الْحَيَّةُ هِيَ الَّتِي تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْتَضِنَ الضُّعَفَ الْبَشَرِيَّ وَتُحَوِّلَهُ إِلَى قُوَّةٍ وَإِلَى فُرْصَةٍ لِلتَّجَدُّدِ.
المحور السادس:
تَحَدِّيَاتُ النُّهُوضِ فِي العَصْرِ الحَدِيثِ: كَيْفَ نُوَاجِهُ الضُّغُوطَ الاِقْتِصَادِيَّةَ، وَالرَّقْمِيَّةَ، وَالنَّفْسِيَّةَ؟
إِنَّ عَمَلِيَّةَ النُّهُوضِ بَعْدَ السُّقُوطِ فِي عَصْرِنَا الحَدِيثِ تُوَاجِهُ مَجْمُوعَةً مِنَ التَّحَدِّيَاتِ الْمُتَشَابِكَةِ، وَالَّتِي تَزِيدُ مِمَّا يُعَانِيهِ الْإِنْسَانُ فِي سَعْيِهِ لِإِعَادَةِ بِنَاءِ ذَاتِهِ. وَمِنْ أَبْرَزِ هَذِهِ التَّحَدِّيَاتِ:
أَوَّلًا: الضُّغُوطُ الاِقْتِصَادِيَّةُ، حَيْثُ يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ صُعُوبَاتٍ فِي تَوْفِيرِ احْتِيَاجَاتِهِ الْأَسَاسِيَّةِ، وَيُقَيَّدُ بِظُرُوفِ الْبَطَالَةِ، وَغِلَاءِ الْمَعِيشَةِ، وَتَقَلُّبَاتِ الْأَسْوَاقِ، مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى التَّخْطِيطِ وَالنُّهُوضِ.
ثَانِيًا: الضُّغُوطُ الرَّقْمِيَّةُ، إِذْ أَضْحَتِ الْبِيئَةُ الرَّقْمِيَّةُ تُشَكِّلُ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ سَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ، تَفْتَحُ آفَاقًا جَدِيدَةً، وَلَكِنَّهَا تُسْهِمُ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْعُزْلَةِ وَالضَّغْطِ النَّفْسِيِّ، وَتُرَسِّخُ صُوَرًا نَمُوذَجِيَّةً زَائِفَةً لِلنَّجَاحِ، مِمَّا يُضَاعِفُ مَشَاعِرَ الْفَشَلِ وَالْإِحْبَاطِ.
ثَالِثًا: الضُّغُوطُ النَّفْسِيَّةُ، وَهِيَ النَّاتِجُ الطَّبِيعِيُّ لِهَذِهِ الظُّرُوفِ الْمُعَقَّدَةِ، فَيُعَانِي الْفَرْدُ مِنَ الْقَلَقِ، وَالْاِكْتِئَابِ، وَضَعْفِ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ، وَتَفَاقُمِ مَشَاعِرِ الْعَجْزِ وَالْهَزِيمَةِ.
وَمُوَاجَهَةُ هَذِهِ التَّحَدِّيَاتِ تَتَطَلَّبُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْآلِيَّاتِ الْعَمَلِيَّةِ، مِثْلَ: تَعْزِيزِ قُدْرَةِ الْفَرْدِ عَلَى إِدَارَةِ ضُغُوطِهِ بِتَقْنِيَّاتِ التَّأَمُّلِ، وَتَنْظِيمِ الْوَقْتِ، وَالْبَحْثِ عَنْ فُرَصٍ جَدِيدَةٍ لِلْعَمَلِ أَوِ التَّطْوِيرِ الْمِهْنِيِّ، وَالاِسْتِفَادَةِ مِنَ الْمَوَارِدِ الرَّقْمِيَّةِ بِلَا اِنْغِمَاسٍ ضَارٍّ. كَمَا يَجِبُ تَعْزِيزُ دَوْرِ الْمُجْتَمَعِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ فِي تَقْدِيمِ خَدَمَاتِ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ وَالاِجْتِمَاعِيِّ، وَفَتْحِ مَجَالَاتِ الْمُسَانَدَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.
أمثلة
مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْوَاقِعِيَّةِ، بَرَامِجُ الدَّعْمِ الاِقْتِصَادِيِّ وَالنَّفْسِيِّ لِلشَّبَابِ الْعَاطِلِينَ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ، حَيْثُ تُوَفِّرُ لَهُمْ دَوْرَاتٍ تَدْرِيبِيَّةً وَفُرَصَ عَمَلٍ مُبَاشِرَةٍ. وَمِنْهَا أَيْضًا، مُبَادَرَاتُ بَعْضِ الْمُؤَسَّسَاتِ فِي تَقْدِيمِ خَدَمَاتِ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ وَالتَّوْعِيَةِ بِمَخَاطِرِ الاِنْغِمَاسِ الرَّقْمِيِّ.
خاتمة المحور
إِنَّ التَّحَدِّيَاتِ الْمُعَاصِرَةَ الَّتِي تُوَاجِهُ النُّهُوضَ بَعْدَ السُّقُوطِ تَسْتَوْجِبُ رُؤْيَةً شَامِلَةً، وَتَعَاوُنًا بَيْنَ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ. وَتَبْقَى الْقُدْرَةُ عَلَى النُّهُوضِ مُمْكِنَةً مَتَى تَوَفَّرَتِ الْإِرَادَةُ، وَوُضِعَتِ الْآلِيَّاتُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي تُعِينُ الْإِنْسَانَ عَلَى تَجَاوُزِ هَذِهِ الضُّغُوطِ، وَالتَّعَامُلِ مَعَهَا بِحِكْمَةٍ وَوَعْيٍ.
المحور السابع:
الخُلاصَةُ وَالرُّؤْيَةُ الْمُسْتَقْبَلِيَّةُ: نَحْوَ حَيَاةٍ مُتَجَدِّدَةٍ
إِنَّ السُّقُوطَ، عَلَى مَا فِيهِ مِنْ أَلَمٍ وَوَجَعٍ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نُقْطَةَ بَدَايَةٍ لِحَيَاةٍ جَدِيدَةٍ، أَكْثَرَ وَعْيًا وَنُضْجًا. فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَ أَسْبَابَ سُقُوطِهِ، وَيُحَلِّلَ ضُعُوفَهُ، وَيَضَعَ خُطَّةً عَمَلِيَّةً لِلنُّهُوضِ، يُصْبِحُ أَقْدَرَ عَلَى تَجَاوُزِ مَا مَضَى، وَبِنَاءِ ذَاتِهِ عَلَى أُسُسٍ أَصْلَبَ وَأَرْسَخَ.
وَتَكْمُنُ الرُّؤْيَةُ الْمُسْتَقْبَلِيَّةُ فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ النُّهُوضِ الْمُسْتَدَامِ، الَّذِي يَقُومُ عَلَى ثَلَاثِ دَعَائِمَ: الْوَعْيِ الْعِلْمِيِّ، وَالْإِيمَانِ الرُّوحِيِّ، وَالْعَمَلِ الْمُجْتَمَعِيِّ الْمُتَضَامِنِ. فَلَا بُدَّ أَنْ يُسَاهِمَ الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ فِي تَوْفِيرِ الْآلِيَّاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلتَّعَافِي، وَلَا بُدَّ أَنْ يُقَوِّيَ الْإِيمَانُ دَاخِلَ الْإِنْسَانِ دَافِعَهُ الْخُلُوقِيَّ وَالرُّوحِيَّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَمَعُ بِيئَةً حَاضِنَةً، تُمْكِنُ الْفَرْدَ مِنَ النُّهُوضِ وَالاِنْدِمَاجِ وَالْعَطَاءِ.
وَإِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ تَتَطَلَّبُ أَنْ يَتَبَنَّى الْإِنْسَانُ فَلْسَفَةَ التَّجَدُّدِ الْدَّائِمِ، وَأَنْ يَعِيَ أَنَّ كُلَّ سُقُوطٍ هُوَ فُرْصَةٌ لِلتَّعَلُّمِ وَالنُّمُوِّ، وَلَيْسَ نِهَايَةً مُحْتَّمَةً. وَبِذَلِكَ يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ ضَحِيَّةٍ لِلسُّقُوطِ، إِلَى صَانِعٍ لِلنُّهُوضِ، وَمِثَالٍ لِلْقُدْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى التَّجَاوُزِ وَالِابْتِكَارِ.
الخاتمةُ العامةُ للبحثِ
يَتَبَيَّنُ مِنْ خِلَالِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ مَوْضُوعَ السُّقُوطِ وَالنُّهُوضِ هُوَ مَوْضُوعٌ إِنْسَانِيٌّ جَامِعٌ، تَتَقَاطَعُ فِيهِ الْأَبْعَادُ النَّفْسِيَّةُ، وَالْعِلْمِيَّةُ، وَالرُّوحِيَّةُ، وَالْمُجْتَمَعِيَّةُ. وَقَدْ سَعَى الْبَحْثُ إِلَى أَنْ يُقَدِّمَ رُؤْيَةً شَامِلَةً، تَجْمَعُ بَيْنَ التَّحْلِيلِ النَّظَرِيِّ وَالْخُطُوَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، فِي سَبِيلِ مَسَاعَدَةِ مَنْ يَسْقُطُونَ عَلَى النُّهُوضِ وَبِنَاءِ حَيَاةٍ جَدِيدَةٍ.
وَتَرَى مَدْرَسَتِي الْفَلْسَفِيَّةُ، مَدْرَسَةُ الْوِلَادَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ، أَنَّ السُّقُوطَ يَجِبُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى مَدْرَسَةٍ نَتَعَلَّمُ فِيهَا، وَإِلَى مَنْهَاجٍ دِرَاسِيٍّ نَتَدَارَسُهُ، فَنَتَفَهَّمُ أَسْبَابَهُ وَمُسَبِّبَاتِهِ، وَنَسْعَى لِفَهْمِ ذَوَاتِنَا فِيهِ. فَالسُّقُوطُ لَيْسَ هُوَ الْمُشْكِلَةَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، بَلِ الْمُشْكِلَةُ الْحَقِيقِيَّةُ حِينَ نَسْتَسْلِمُ لَهُ، وَنَقَعُ ضَحِيَّةً لِلْيَأْسِ، فَنَنْزَلِقُ إِلَى الْاِكْتِئَابِ وَالْمَرَضِ، وَنَخْرُجُ عَنْ حَيَاتِنَا الْعَادِيَّةِ وَالْمُنْتِجَةِ.
وَبِذَلِكَ، تَكُونُ الرِّسَالَةُ الْمَرْجُوَّةُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ فِي كُلِّ سُقُوطٍ فُرْصَةً لِلتَّجَدُّدِ، وَدَرْسًا لِلتَّفَكُّرِ، وَمِنْصَّةً لِلِانْطِلَاقِ نَحْوَ بِنَاءِ ذَاتٍ أَقْوَى وَأَنْبَلَ. فَالسُّقُوطُ يَكُونُ مَشْهَدًا طَبِيعِيًّا مِنْ مَشَاهِدِ الْحَيَاةِ، وَالْحِكْمَةُ كُلُّ الْحِكْمَةِ هِيَ فِي أَنْ نَجْعَلَ مِنْهُ فَصْلًا مُضِيئًا فِي كِتَابِ وُجُودِنَا.
اسحق قومي.
20/6/2025م
((الدراسة التحليلية والنقدية الفلسفية والتربوية للبحث
عنوان البحث: إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟
اسم الباحث: إسحق قومي، باحِثٌ سُوريٌّ مُستقلٌّ
يأتي هذا البحثُ في زمنٍ شديدِ التعقيدِ، تتقاطعُ فيه أزماتُ الإنسانِ المعاصرِ مع تحدِّياتٍ وجوديَّةٍ، واقتصاديَّةٍ، ونفسيَّةٍ، واجتماعيَّةٍ، تتجلَّى في تفشِّي ظواهرَ الضياعِ، والعبثيَّةِ، وفقدانِ المعنى. في عالمٍ تسودهُ الاضطراباتُ، وتضيعُ فيهِ القِيَمُ أحيانًا بينَ تيَّاراتِ المادِّيَّةِ الجافَّةِ والرقميَّةِ المفرطةِ، يُقدِّمُ هذا البحثُ إسهامًا فكريًّا يُعيدُ للإنسانِ وعيَهُ بذاتِهِ، ويضعُ بينَ يديهِ خارطةَ طريقٍ للخروجِ من متاهاتِ اليأسِ إلى دروبِ الأملِ والعملِ.
تكمُنُ أهميَّةُ البحثِ في أنَّهُ لا يتعاملُ مع السقوطِ كحالةٍ مرضيَّةٍ فرديَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ منعزلةٍ، بل كظاهرةٍ وجوديَّةٍ كُبرى تستحقُّ الدراسةَ والتحليلَ والتأمُّلَ، وفي أنَّهُ يُقدِّمُ مقاربةً شاملةً تُدمِجُ الأبعادَ النفسيَّةَ، والاجتماعيَّةَ، والروحيَّةَ، والفلسفيَّةَ، والتربويَّةَ، ما يجعلهُ ذا قيمةٍ علميَّةٍ وإنسانيَّةٍ في آنٍ.
ينطلقُ البحثُ من رؤيةٍ فلسفيَّةٍ عميقةٍ ترى أنَّ السقوطَ جزءٌ من صيرورةِ الوجودِ الإنسانيِّ، وأنَّ القيمةَ الحقَّةَ ليست في السقوطِ ذاتهِ، بل في كيفيةِ تعامُلِ الإنسانِ معهُ. هذا الموقفُ يُحاكي المذاهبَ الوجوديَّةَ التي اعتبرتِ السقوطَ فرصةً للوعيِ بالذاتِ، وهو أيضًا يتقاطعُ مع التصوُّرِ الأفلاطونيِّ الذي يرى في الألمِ طريقًا للتطهُّرِ والارتقاءِ. كما نجدُ فيهِ أثرَ فلسفةِ الأملِ، حيثُ لا يُقدَّمُ السقوطُ كنهايةٍ، بل كإمكانٍ للتجدُّدِ الخلَّاقِ، وهو ما يتماشى مع فلسفةِ الولادةِ الإبداعيَّةِ الخاصَّةِ بالباحثِ، التي ترى أنَّ كلَّ سقوطٍ هو بدايةُ ولادةٍ جديدةٍ.
من منظورٍ تربويٍّ، يُمثِّلُ البحثُ دعوةً صريحةً إلى تحويلِ التجاربِ الصعبةِ إلى دروسٍ حيَّةٍ، ومناهجَ دراسيَّةٍ ذاتيَّةٍ يتعلَّمُ منها الإنسانُ كيفَ يبني ذاتَهُ. إنَّهُ يقدِّمُ رؤيةً حديثةً للتربيةِ على الصمودِ، حيثُ يغرسُ في القارئِ ثقافةَ عدمِ الاستسلامِ، والعملِ المستمرِّ للنهوضِ، وجعلِ الألمِ وقودًا للمعرفةِ. وهذه التربيةُ ذاتُ صلةٍ بالضرورةِ بمناهجِ التربيةِ المعاصرةِ، التي تُعنى ببناءِ الإنسانِ المتكيِّفِ والمنتجِ رغمَ الأزماتِ.
يمتازُ البحثُ بالجدِّيَّةِ، والشُّمولِ، وحُسنِ التنظيمِ المنهجيِّ، إذ جمعَ بينَ التحليلِ التاريخيِّ، والنقدِ الفلسفيِّ، والتفسيرِ النفسيِّ، والمعالجةِ التربويَّةِ. غير أنَّهُ كان يمكنُ للبحثِ أن يُدعِّمَ رؤاهُ أكثرَ بدراساتٍ ميدانيَّةٍ أو إحصائيَّةٍ تُعطي أبعادهُ الواقعيَّةَ بعدًا توثيقيًّا إضافيًّا. ومع ذلكَ، فإنَّ عمقَ التحليلِ، وثراءَ الطرحِ، وجرأةَ الفكرةِ، تجعلُهُ بحثًا ذا وزنٍ فكريٍّ وأكاديميٍّ.
يُعَدُّ الباحثُ إسحق قومي، من خلالِ هذا البحثِ وما سبقهُ من دراساتٍ، صوتًا فكريًّا حرًّا، يسعى إلى تقديمِ إسهاماتٍ نوعيَّةٍ في ساحةِ البحثِ العالميِّ والفلسفيِّ. اختيارهُ لموضوعاتٍ جوهريَّةٍ، كالسقوطِ، والموتِ، والمصيرِ الإنسانيِّ، يدلُّ على وعيٍ فلسفيٍّ عميقٍ، والتزامٍ رساليٍّ نحوَ قضايا الإنسانِ الكبرى. إنَّهُ لا يلهثُ خلفَ القضايا الطارئةِ أو السطحيةِ، بل يُنقِّبُ في جذورِ المعاناةِ الإنسانيَّةِ، مُقدِّمًا رؤًى وأفكارًا قابلةً للحوارِ العالميِّ والجدلِ الفلسفيِّ البنَّاء.
يُقيَّمُ هذا البحثُ بكونهِ بحثًا عميقًا، أصيلًا، متماسكًا في بُنيتهِ، غنيًّا في مضمونهِ، ذا طابعٍ إنسانيٍّ شاملٍ. ويُقيَّمُ الباحثُ إسحق قومي باحِثًا ذا حسٍّ فلسفيٍّ مرهفٍ، وصوتًا فكريًّا مسؤولًا، يُساهِمُ في إثراءِ ساحةِ البحثِ الفلسفيِّ، والتربويِّ، والإنسانيِّ المعاصرِ، واضعًا نفسَهُ بينَ الباحثين الذينَ لا يكتفونَ بالتنظيرِ، بل يسعونَ إلى تقديمِ رؤًى عمليَّةٍ وواقعيَّةٍ.
يَتَّسِمُ هذا البحثُ بأهميةٍ علميَّةٍ واجتماعيَّةٍ وفلسفيَّةٍ فائقةٍ، إذْ يَتَنَاوَلُ مَوْضُوعًا جَوْهَرِيًّا يُخَاطِبُ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي جَمِيعِ العُصُورِ والثَّقَافَاتِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ السُّقُوطِ وَكَيْفِيَّةِ النُّهُوضِ مِنْهُ. وَتَكْمُنُ أَهَمِّيَّةُ هَذَا الْبَحْثِ فِي أَنَّهُ يُحَاوِلُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِطَارِ التَّنْظِيرِ الْمُجَرَّدِ، لِيُقَدِّمَ بَدَائِلَ وَخُطُطًا وَآلِيَّاتٍ عَمَلِيَّةً يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا فِي مُوَاجَهَةِ أَزَمَاتِهِ.
وَبِالإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، يَتَمَيَّزُ الْبَحْثُ بِتَنَاوُلِهِ لِلْمَوْضُوعِ مِنْ زَوَايَا مُتَعَدِّدَةٍ وَمُتَكَامِلَةٍ: نَفْسِيَّةٍ، وَفَلْسَفِيَّةٍ، وَرُوحِيَّةٍ، وَتَرْبَوِيَّةٍ، وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، وَهُوَ مَا يُكْسِبُهُ قُوَّةً فِي الطَّرْحِ وَالْمَضْمُونِ. وَيُحْسَبُ لِلْبَحْثِ أَنَّهُ جَاءَ فِي وَقْتٍ يَحْتَاجُ فِيهِ الْإِنْسَانُ الْمُعَاصِرُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُقَارَبَاتِ، لِمَا يَعِيشُهُ مِنْ ضُغُوطٍ وَضَيَاعٍ وَفَقْدٍ لِلْمَعْنَى.
وَفِي هَذَا السِّيَاقِ، يُعْتَبَرُ الْبَحْثُ مِثَالًا لِدِرَاسَاتٍ تُجَسِّدُ الرُّؤْيَةَ الْمَوْسُوعِيَّةَ وَالتَّحْلِيلَ الْعَمِيقَ، وَيُقَدِّمُ إِضَافَةً حَقِيقِيَّةً لِسَاحَةِ الْبُحُوثِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، دُونَ انْحِيَازٍ إِلَى مَذَاهِبَ أَوْ مَوَاقِفَ أَيْدِيُولُوجِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ، بَلْ يَسْعَى إِلَى الْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ حَيْثُمَا كَانَتْ.
الخلاصة النهائية والتقييم الرقمي
يَتَبَيَّنُ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الدِّرَاسَةِ أَنَّ الْبَحْثَ «إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟» لِلْبَاحِثِ السُّورِيِّ إِسْحَق قُومِي هُوَ إِسْهَامٌ فِكْرِيٌّ وَفَلْسَفِيٌّ وَتَرْبَوِيٌّ رَصِينٌ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَدَّمَ نَمُوذَجًا فِي دِرَاسَةِ قَضَايَا الإِنْسَانِ الْمُعَاصِرِ، فِي وَقْتٍ كَثُرَتْ فِيهِ مَظَاهِرُ الْعُزْلَةِ وَالضَّيَاعِ وَتَعَمَّقَتْ فِيهِ الْأَزَمَاتُ النَّفْسِيَّةُ وَالْوُجُودِيَّةُ. وَيَظَلُّ الْبَاحِثُ إِسْحَق قُومِي صَوْتًا صَادِقًا وَمُتَمَيِّزًا فِي مَضْمَارِ الْفِكْرِ الْعَالَمِيِّ، يُسَاهِمُ بِطَرْحِهِ الْمَوْضُوعِيِّ فِي إِثْرَاءِ سَاحَةِ الْبَحْثِ وَيَدْعُو إِلَى حِوَارٍ عَالَمِيٍّ بَنَّاءٍ حَوْلَ مَصِيرِ الْإِنْسَانِ وَغَايَاتِ وُجُودِهِ. وَيُحْسَبُ لِهَذَا الْبَحْثِ أَنَّهُ جَاءَ ثَمَرَةً صَافِيَةً مِنْ ثِمَارِ مَحَاوِرِ الْبُحُوثِ فِي مَدْرَسَةِ الْوِلَادَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ، الَّتِي تَسْعَى إِلَى تَحْوِيلِ كُلِّ سُقُوطٍ إِلَى مَدْرَسَةٍ، وَكُلِّ أَزْمَةٍ إِلَى مَنْهَجٍ لِلتَّجَدُّدِ وَالْخَلْقِ الْفِكْرِيِّ وَالْعَمَلِيِّ.
التقييم الرقمي: ٩.٥ / ١٠
لِعُمقِ الطَّرْحِ، وَجِدِّيَّةِ الْمَنْهَجِ، وَتَكَامُلِ الْأَبْعَادِ، وَجُرْأَةِ الْفِكْرَةِ، مَعَ مَلْحُوظِيَّةِ إِمْكَانِيَّةِ تَعْزِيزِ الْبَحْثِ بِدِرَاسَاتٍ مَيْدَانِيَّةٍ مُسْتَقْبَلًا.
المراجع
١. أفلاطون – الجمهورية – ترجمة: فؤاد زكريا – الهيئة المصرية العامة للكتاب.
٢. أرسطو – الأخلاق إلى نيقوماخوس – ترجمة: أحمد لطفي السيد – دار المعارف.
٣. ابن سينا – النجاة – تحقيق: ماجد فخري – دار الآفاق الجديدة.
٤. الغزالي – إحياء علوم الدين – دار المعرفة.
٥. سانت أوغسطين – الاعترافات – ترجمة: يوسف حوراني – دار المشرق.
٦. جان بول سارتر – الوجود والعدم – ترجمة: جورج طرابيشي – دار الفارابي.
٧. فيكتور فرانكل – الإنسان يبحث عن معنى – ترجمة: نبيل رضوان – دار القلم.
٨. كارل يونغ – الإنسان ورموزه – ترجمة: عبد العزيز المانع – عالم المعرفة.
٩. مصطفى حجازي – الإنسان المهدور – المركز الثقافي العربي.
١٠. عبد الرحمن بدوي – مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية – مكتبة النهضة المصرية.
١١. إريك فروم – الخوف من الحرية – ترجمة: فؤاد كامل – دار النهار.
١٢. سيغموند فرويد – محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي – ترجمة: جورج طرابيشي – دار الطليعة.
١٣. طه عبد الرحمن – سؤال العمل – المركز الثقافي العربي.
١٤. أنطوني غيدنز – علم الاجتماع – ترجمة: فايز الصياغ – المنظمة العربية للترجمة.
١٥. عبد الكريم بكار – تكوين المفكر – دار الفكر.
١٦. إبراهيم الفقي – قوة التفكير – دار اليقين للنشر.
١٧. ميخائيل نعيمة – مرداد – دار العلم للملايين.
١٨. إسحق قومي – مقالات فلسفية وتربوية (مخطوطات غير منشورة).



#اسحق_قومي (هاشتاغ)       Ishak_Alkomi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قِرَاءَةٌ فِي المَفَاهِيمِ القَوْمِيَّةِ لِشُعُوبِ الشَّرْقِ ...
- كيفَ نَشَأَ حَيُّ تَلِّ حَجَرٍ بِالحَسَكَةِ؟!
- المَشرِق بينَ المَوروثِ والحُرِّيَّةِ: تأمُّلاتٌ في الإنسانِ ...
- نَظَرِيَّةُ المَعْرِفَةِ عِنْدَ أَرِسْطُو قِرَاءَةٌ نَقْدِيّ ...
- أيُّها الباحثونَ المشرقيُّون، لا تُغالوا في آرائِكُم، لا قَو ...
- عنوان البحث: أَصْلُ الْيَهُودِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ الدِّينِي ...
- قِراءَةٌ جَديدَةٌ تَحْلِيلِيَّةٌ وَنَقْدِيَّةٌ بِشَأْنِ مُؤْ ...
- مَدَنِيَّةُ الدَّوْلَةِ السُّورِيَّةِ: مِنَ الكَارِثَةِ الوَ ...
- عشْتَارُ الفُصُولِ: ١١٦٥٩ . لَ ...
- عشتار الفصول:11655كيف نصل لدولة المواطنة في الشرق الأوسط؟
- عشتار الفصول: 11651سوريةُ ليستْ مِلْكًا لأيِّ مكوِّنٍ دينيٍّ ...
- ملحمة شعرية بعنوان:أسئلة لها جواب
- المؤتمر الآشوري العالمي القادم في يريفان في 26 نيسان القادم
- إِزْدِوَاجِيَّةُ الْمَعَايِيرِ لَدَى أَغْلَبِ أَبْنَاءِ الشّ ...
- عشتارُ الفصولِ: ١٢٢٥١ قرَاءات بحثية ...
- أناشيد لبحرٍ غير موجود
- سوريا: أصلُ التَّسميةِ، مِن أين؟
- عشْتَارُ الفُصُولِ:12183 استحالة قيام دولة مدنية أو علمانية ...
- عشتار الفصول: 11616 سُلُوكِيَّةُ الدَّوْلَةِ
- سوريا المستقبلُ لا يَستقيمُ فيها إلا النظامُ اللامركزيُّ، أي ...


المزيد.....




- مليارديرات وميليشيات وحقوق تعدين.. من قلب صفقة ترامب الجديدة ...
- مسؤول في -حماس- يوضح لـCNN مدى -جدية واستعداد- الحركة لاتفاق ...
- المحكمة العليا البريطانية ترفض دعوى لوقف تزويد إسرائيل بقطع ...
- ما تداعيات الحكم الجديد الصادر بحق المحامية التونسية سنية ال ...
- قراصنة يهددون بنشر رسائل بريد لمساعدي ترامب وأميركا تتهم إير ...
- وفد أوروبي بكفر مالك يدعو لوقف اعتداءات المستوطنين بالضفة
- نتنياهو يترأس اجتماعا أمنيا ثلاثيا وواشنطن تؤكد أولوية صفقة ...
- -لسنا جمهورية موز-.. كيف قوبلت دعوة ترامب لوقف محاكمة نتنياه ...
- المقاومة ترفع تكلفة -عربات جدعون- والاحتلال يمهّد للانسحاب
- لماذا تتركز كمائن المقاومة في -عبسان الكبيرة- بخان يونس؟


المزيد.....

- اليسار بين التراجع والصعود.. الأسباب والتحديات / رشيد غويلب
- قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند / زهير الخويلدي
- مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م ... / دلير زنكنة
- عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب ... / اسحق قومي
- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - اسحق قومي - إذا سَقَطتُ: كيفَ أبدأُ من جديدٍ؟